مُفاكرةٌ عَنْ السّودان وَكارلوْس
أقرب إلى القلب:
Jamalim1@hotmail.com
(1)
في سنوات التسعينات من القرن الماضي، لوّنت الحركة الإسلامية الحاكمة في السودان جهازها الدبلوماسي بطابعها "الرسالي"، فكانت تلك السنوات هي سنوات "الدبلوماسية الرّسالية"، كما سمّاها أصحابها. شهدتْ تلك الفترة التمدّد الإسلاموي خارج حدود السودان، وأنشأ "أهل البيت" في السودان، مؤتمراً عربياً شعبياً إسلامياً جامعاً أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي، أرادوه أن يكون إطاراً لتنسيق نشاط الحركات الإسلاموية في محيط السودان الجغرافي الأقرب والعقائدي الأبعد. فتح السودان أبوابه وحدوده جميعاً لكل المجاهدين الإسلامويين، الحقيقيين والمزيفين. فيما برعت "الدبلوماسية الرسالية" في تنفيذ تلك السياسة، تجد السودان يستقبل ضيوفاً "مُميّزين" ، بينهم أسامة بن لادن ، و"إليتش راميرز سانشيز"، المعروف بـ كارلوس "ابن آوى" ، القابع في السجون الفرنسية حتى تاريخ كتابتي هذه. كثيرون آخرون لاذوا بالسودان لواذ من تتعقبه الكواسر، لا يعرف عنهم إلا من استقدمهم، إن كان بينهم بعض أبناء آوى أو أبناء عُرس..!
(2)
كتب خبير الدراسات الإستراتيجية المصري، الأستاذ عبد المنعم سعيد مقالاً قديماً عميق المغازي بعنوان "عاصفة السودان القادمة"، في صحيفة "الشــرق الأوسط" اللندنية بتاريخ 27 أكتوبر2010 : (. . حاولتْ الخرطوم ذات وقت أن تكون عاصمة الثورة في العالم، وباتت المقصد والمكان الذي يذهب اليه ثوّار إسلاميون متطرفون من نوعية أسامة بن لادن، ومعهم ثوار ماركسيون شيوعيون فوضويون إرهابيون من عينة "إليتش راميرز كارلوس" المعروف بابن آوى. ولمن يعرف الحياة والتاريخ، فإن لكلّ أمرٍ قيمة، ولكل فعل ثمن ، وقد يطول الوقت والزمن، ولكن القيمة ترد، والثمن يُدفع. وقد دفع السودان الثمن غالياً) . .
من بين هؤلاء الغرباء الذين وفدوا في زيارات خاطفة للسودان، صديقنا "أنيس النقاش"، الذي التقيته في تهران في سنوات التسعينات الأولى، وهي قصة لا أجد حرجاً في إيرادها، وقد وقعت قبل أكثر من عقدين من الزمان. .
(3)
إلتقيته عام 1992، وأنا نائب للسفير السوداني في تهران، في حفل دبلوماسي مفتوح، دعانا إليه صديقنا الدبلوماسي الفلسطيني في تهران. رأيته رجلاً قصير القامة، له عينان دقيقتان تخفيهما نظارة طبية سميكة. الرأس أصلع لامع، بشعرٍ خفيف على الفودين. . للرجل ملامح محايدة ولربما تحسبه طبيب أسنان أو أستاذ جامعي أو صيرفي في بنك متواضع. حين قدمني إليه صديقي الدبلوماسي الفلسطيني، كان تقديمه محض سؤال يستبطن استنكاراً لجهلي بالرّجل النجم. . !!
- "أنيس". . ألا تعرف "أنيس نقاش". .؟
طرق الإسم ذاكرتي طرقاً قوياً، فقد شغل الصحافة الغربية والعربية . أنيس نقاش، لبناني من المقاتلين الأشداء في صفوف الثورة الفلسطينية، كان متورطاً في محاولة اغتيال آخر رئيس وزراء عمل مع شــــاه إيــران:"شـهبور بختيــار" عام 1980. فشلت محاولة الاغتيــال التي قادها "أنيس نقاش" في باريس، وســـقط الرجل جريحاً فألقي عليه القبض، وحكم عليه بالسجن المؤبّد في فرنسا. دخل ملف الرّجل في المفاوضات التي جرت لاطلاق سراح الرهائن الغربيين في لبنان، إبان الحرب الأهلية هناك (1975-1990)، فكسب تخفيضا في محكوميته، وأفرج عنه عام 1990 . .
فات على المخابرات الفرنسية وقتها أن تدرك أن "أنيس نقاش" كان المعاون الرئيسي لـ"كارلوس" في عملية اختطاف وزراء نفط منظمة "أوبيك" في فيينا عاصمة النمسا عام 1972. . !
(4)
لم يكن سفير الدبلوماسية الرّسالية الذي عينته الخرطـــوم في تهـــــران، يتصور أن تكون لنائبه معرفة بالرجل الغامض "أنيس نقاش"، صديق "كارلوس" . ولأنـــي كنــت دبلوماسياً مهنياً، فإنّ ذلك السفير لم يكن يثق في نائبه إلا في حدود محسوبة. في حقيقــة الأمر لم أشأ أن أخيّب ظنّ الرّجل، فقد أبديتُ تغافلاً مطمئناً، أقنعه أنّي بعيد كل البعد عن " الملفات الرّسالية" التي كان يعكف منفرداً على معالجتها.
أصدرتْ سفارة السودان في تهران جواز سفر سوداني للسيد "أنيس نقاش" ليستغله في السفر إلى السودان، جاء فيه أنه من مواليد مدينة القضارف، ( وهي مسقط رأس ذلك السفير السوداني المعين)، واختاروا له إسما جديداً، هو "جمالي". من بين كل الأسماء المتاحة، ما اختار السفير الرسالي إلا إسماً يطابق الإسم الأول لنائبه في السفارة: جمال.. وعادة ما يلحق الايرانيون ياء النسبة لأيّ إسم كإسمي..!
(5)
ذهب الرجل إلى الخرطوم في بحر عام 1993 ، بصفته مستثمراً من إيران. وبعد مرور كلّ هذه السنوات الطويلة، طاف بذهني سؤال عن مقاصد زيارة الرجل للخرطوم، وهو قطعاً ليس رجل أعمال، ولا نية له في الاستثمار في السودان. في تلكم الأيام كان "أسامة بن لادن" من ضيوف الخرطوم المقيمين، والمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي ينعقد بمشاركة نجوم الحركات الإسلاموية من افغانستان إلى المغرب. قليل من بين هؤلاء المشاركين، من لم يكن مطروداً من بلده الأم، أو مطلوبا لجرمٍ إرهابي تورط فيه.
طاف سؤال بذهني بعد أن دخل "كارلوس" إلى الخرطوم وأقام فيها شهورعددا بعد ذلك : أيكون لصديقنا "أنيس نقاش"، وقد زار الخرطوم قبيل قدوم "كارلوس"، دوراً في تيسير دخوله إلى الخرطوم، بعد أن ضُيّق عليه في اليمن وفي الشام ؟
(6)
في كتاب للصحفي اللبناني غسان شربل ، عنوانه "أسرار الصندوق الأسود"- (بيروت، 2009)، يورد في حوار أجراه مع الفنزويلي الشهير "كارلوس" في محبسه الفرنسي، أن الأخير وصل إلى الخرطوم بعلم وبموافقة السلطات السودانية . تظلّ الشكوك قائمة أن وسيطاً مقرّباً من "كارلوس" ربما سعى لدى الخرطوم لاستضافته بعد أن أنكره أصدقاؤه في اليمن وفي الشام، إذ ضعفت فعاليته بعد انطواء صفحة الحرب الباردة، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي القديم. ويبرز سؤال آخر : مع من التقى "أنيس نقاش" حين زار الخرطوم في سنوات التسعينات تلك. . ؟
(7)
من تداعيات دبلوماسية السودان "الرسالية" السالبة في سنوات التسعينات ، أنها حوّرت في طبيعة الدبلوماسية المهنية التي عرفتها وزارة الخارجية السودانية منذ تأسيسها عام1956، عام استقلال البلاد ، وشوّهت أداءها أيّما تشويه. أضاعت تلك الممارسات ، الكثير ممّا أنجزته الدبلوماسية السودانية خلال ثلاثين عاماً منذ استقلال البلاد ، إذ كانت مضرب مثلٍ لحسن الأداء وجودة الصيت ونقاء السمعة، على المستويين العربي والأفريقي. يحفظ التاريخ للسودان دوره في حل أزمة الكونغو أوائل ستينات القرن الماضي، وتحقيق تسوية لمشاكل الحدود بين الكويت والعراق في ذات الفترة، وإنجازه المصالحة التاريخية بين الملك الراحل فيصل والزعيم الراحل جمال عبدالناصر، خلال قمة "لاءات الخرطوم" الشهيرة عام 1967. تلك علامات بارزة تشهد بذلك الأداء المميز. كان السودان هو السبّاق لحل النزاعات، فإذا هو الآن الساقط في هاوية النزاعات، يتهدده التشظي ويترصده الإنقسام. .!
هذا التجريب الخاسر في سنوات التسعينات من القرن الماضي، لم يكسب "أهل البيت" في الخرطوم مآثر تذكر ، وما كسب السودان إلا عزلة منفرة، وإقصاءاً مضاعفا، أسكنته الولايات المتحدة بعده في زمرة عتاة الضالعين في رعاية الإرهاب الدولي.
على السودان الآن، أن يجتهد جهد المُكثرِ لا جهد المُقل، ليعيد ما قد ضاع، إن كان للعنقاء أن تنهض من رمادها، فتصفو مياه السودان التي تعكّرت لسنوات وسنوات، فنرى رئيساً سودانياً ذات يوم، يصافح رئيساً أمريكياً، بمثلما فعل "أوباما" مع الرئيس الكوبي "راؤول كاسترو". . !
نقلا عن صحيفة "الوطن" القطرية
14 مايو 2015