هل مساومة قحت والعسكريين خطيئة أولي؟ 

 


 

 

المساومة التي انعقدت بين قيادة الثورة واللجنة الأمنية، في عبارة للشيوعيين، في أغسطس 2019  من فصول الخلاف الضرير الفادح بين قحت والحزب الشيوعي وأخرين.   فكانت قيادة الثورة قبلت بالمساومة وفيها الحزب الشيوعي. ثم تراجع الشيوعي عنها بصورة ما تزال عصية على شرحه وفهمنا لشرحه معاً. وكُتبت قحت عنده من يومها ليست هابطة ناعمة فحسب بل مستحقة للرجم وهدم بيتها. ناهيك من جماعة كانت ترى أنه كان بوسع الثورة أن تحتل الدولة بلا حاجة حتى للالتفات للجنة الأمنية. وربما كان هذه الاحتلال هو أبلغ صور الهبوط الخشن في تصور الشيوعيين.

هذا مقال كتبته في ملابسات ذلك الخلاف آمل، ما يزال، أن يعين على فهم لتلك المساومة في علم التكتيك في السياسة. وهو علم مهجور. ونريد بهذا العلم إماطة أذى تلك المساومة عن طريق الثورة. وهو أذي اخلانا من كسب الثورة الانتقالي مرة واحدة وإلى حين أن شاء الله.


شاهدت طرفاً من لقاء الأستاذ لقمان أحمد مع قيادات من قحت وياسر عرمان على تلفزيون السودان. ومتى نظرت في خلافهم في البرنامج رجع بك إلى التسوية بين الثورة والمجلس العسكري التي رتبت لأوضاع الحكم الانتقالي الحالي (يا حليلو!). فبينما يرى الحزب الشيوعي في تلك التسوية "خطيئة أولي" عُقدت بين الثورة والعسكريين في غير حلال تجد المؤتمر السوداني وياسر عرمان قبلوا عن طيب خاطر بها، بل نسب عرمان الفضل للعسكريين في انتزاع السلطة في طور من الثورة لم يكن بوسع قحت القيام بذلك. ناهيك من عقيدة المؤتمر السوداني بنقص التسوية نفسها لغيبة الحركات المسلحة من تركيبتها السياسية والحوكمية.

ولا أعرف ممارسة سياسية خضنا فيها بغير علم السياسة مثل الصفقة التي عقدتها قحت مع العسكريين. فمثل هذه الصفقة تنتمي إلى فصل المساومة في علم التكتيك السياسي. وهو فصل طوت صفحته معارضة الإنقاذ بوجهين. فالوجه الأول أن الإنقاذ كان نظاماً "سِدة" المساومة عنده بيعة له مدفوعة الثمن مهما كلف. والعاقل من تجنب شهود مجالس وثباتها العقيم. أما الوجه الثاني فهو مغادرة  المعارضين لساحة المقاومة المدنية وهي مدرسة التكتيك السياسي إلى حرابة النظام. وهي الرحلة التي سماها الواثق كمير من "النقابة"، ميدان السياسة، إلى "الغابة"، ميدان الحرب.  فلم تَعد المعارضة المدنية مثلاً لانتخابات اتحاد جامعة الخرطوم بعد فوزها في نحو ٢٠٠٩ وتخريبها لانتصارها فيه بيدها لا بيد عمرو. ولما أنهت المعارضة السياسة بيدها تعاورها هبوبان: حوارات الصلح الوطني اللامجدية مع الإنقاذ مثل حوار الوثبة ، أو منبر ثيبو مبيكي بأديس أبابا، أو التكالب على توقيع الميثاق الغليظ بعد الميثاق الغليظ مع الحركات لمسلحة طمعاً في "الانتفاضة المحمية".

واستبدلت جماعات المعارضة المستميتة علم المساومة ببيت من الشعر. فذاع عنها بيت الشاعر المصري أمل دنقل: لا تصالح ولو منحوك الذهب. ومعلوم أنها استبدلت علم التحليل السياسي والاجتماعي كله ببيت آخر من الشعر، أو من جنسه، وهو سؤال الطيب صالح: من أين جاء هؤلاء؟

وتخلص الحزب الشيوعي من خبرته في المساومة التي دخل بموجبها المجلس المركزي في عهد الفريق عبود (١٩٥٨-١٩٦٤) على بينة ماركسية لينينية. واعتذر المرحوم التجاني الطيب عن تلك الخبرة بقوله إنها عثرة في ندوة بالقاهرة جر عليه نقدي في كتابي "بئر معطلة وقصر مشيد: صدأ الفكر السياسي السوداني". واشتهرت من جديد عبارة الأزهري: لن ندخلها (الجمعية التشريعية) ولو جاءت مبرأة من كل عيب" في دلالة الاستماتة ولا تصالح ولو منحوك الذهب.

المساومة فعل سياسي راشد طالما كانت من إملاء ميزان القوى في تدافع الكيانات الاجتماعية زوداً عن مصالحها وأعرافها. وانعقدت المساومة مع العسكريين على بينة من هذا التوازن. فأرتكب العسكريون ذميمة فض الاعتصام لترجيح الكفة لصالحهم بصورة تامة ليبحثوا عن قاعدة اجتماعية لمجلسهم بديلة لقحت. وكانت مباراة الرد هي الموكب الشعبي في يونيو ٢٠١٩ الذي ثبت قحت من جديد في الميدان وبقوة. ووضح أنه لا غني لأحد من الآخر وأن التسوية كانت قدراً.

ربما كانت جاءت التسوية بشروط أفضل لقحت مثلاً. ربما. ولكنها تسوية لا مهرب منها مع ذلك. ولذا يبطل كل نظر لها ك"خيانة للثورة" كما يفعل الشيوعي. فهذه نزوة أخلاقية منه غير خائلة على ماركسي. وجعلت منه حزباً كثير الشكوى مريرها لا غير. أما من قبلها كمساهمة بيضاء من غير سوء من العسكريين في الثورة فهو مجرد مذعن لحقيقة من حقائق القوة وتزيين لها: وهي حقيقة إرادة العسكريين ألا يفلت زمام الدولة الموازية من أيديهم القابضة بالانقلاب. والإذعان ثم التزيين سمة في الانتهازية.

الرك في المساومة هو الشغل المر في ما بعدها. فأنت لا ترفع يدك بعدها لتدخل في نوبات التبخيس أو التزيين والتلاوم. وأنت لا تكف بعدها عن التعبئة السياسية لتحرك سنة الميزان لصالحك. وهذا ما تنهض به لجان المقاومة بالفطرة كسيرة الجناح. ففشل قحت الملاحظ ليس في "ارتكابها" المساومة مع العسكريين بل في الانصراف بعدها عن تحريك ميزان القوة لصالحها بطرق لا يسع المقام ذكرها. ووقعت بالنتيجة قواها في الخلاف الذي يعقب كل مساومة لا موالاة بعدها ولا دلك. وهو الخلاف بين من يسوقهم تعاليهم عليها في طريق الثورة المضادة ومن يسوقهم الإذعان في طريق الانتهازية.


IbrahimA@missouri.edu

 

آراء