أحزان فاشر السلطان.. طوبي لنساءٍ شموس يغبن من سماوات بنت أبو زكريا
د. سعاد مصطفى
21 May, 2024
21 May, 2024
20/05/ 2024
بقلم: د. سعاد مصطفى
كانت كل منهما منارة وموكبا نابضا بالحياة، عالية السقوف عطاء، سامقة القيمة والمكانة، تزهو في مجد أثيل من حراك دؤوب لتوطيد قيم الحياة الفاضلة واثراء أجوائها بنبل الخصال والفعال. لقد كن معلمات وامهات واخوات وصديقات ناصحات ورائدات في صناعة القرار الاجتماعي والتنفيذي والسياسي على امتداد سفوح، وسهول دارفور، وفيافيها الخضر واليباب. كانت الاستاذة فاطمة عثمان اسحق زوجة الباشمهندس محمد محمدين وستنا علي عبد الرسول زوجة الأمير فاروق سليمان علي دينار، رفيقات الدرب المستنير المزين بإنجازات غزيرة الدفق فسيحة المدي برعن فيها فكرا وتطبيقا في وقت يعد فيه انجاز النساء اعجازا واعجوبة، تجابه أكثرها بالرفض والمقاومة! رحلت اختانا دون اعلان أو تلويح بالوداع الأخير للعشيرة وللأرض الام موطن النشأة والانطلاقة ومنارة الثقافة وينبوع المعرفة في دارفور: إذ "... لا تدري نفس بأي أرض تموت." فقد كانتا أسماء ونجوما توشح سماء الفاشر أزرق الضياء، وقصورها ألفية التاريخ والانطلاقة الحضرية. ولكن انطفأت شموع للفرح كانت تنتظر لقائهما بعد ان كنا نظن ويحدونا أمل واهن بأن الحرب ستطوي صفحاتها البائسة الدامية قريبا وستلقي أوزارها بعيدا، وأننا سنلتقي في الخريف المقبل على ضفاف حجر قدو والنقعة لنعيد ذكريات الماضي في موسم جريان وادي حلوف وسيلي واخريات مشاغبات، وسيولهم الفياضة وسط المدينة. ولكن جاء حصادنا من الانتظار وجعا وأنينا وسيلا من الدموع شق طريقه بحزن كئيب ليصب في رهد/وادي الفاشر، قبالة قصور السلاطين، يمد يدا للعزاء ويعلن حداداً وحزنا نبيلا مقيماً للفقد الجلل من بنات الفاشر السلطان!
في يوم السبت 18 من مايو 2024 تقدم موكب الحزن النبيل في عجالة غير ممهلة بالمدينة حدادا على فراق استاذتنا فاطمة عثمان اسحق واحدة من رائدات الانطلاقة الاجتماعية والسياسية النسوية في دارفور، وتبعتها بقاهرة المعز نوارة الميارم والمعزة الاستاذة ستنا علي عبد الرسول بعد هنيهة يوم قاتم فتعمق الحزن واغتمت النفوس والقلوب وصار اليومان أياما من الأحزان تمددت، وغيّمت سماء الفاشر فأرعدت نواحا وانهمرت دموعا حري. فاطمة الحبيبة معالي الوزير الفريدة التي تبوأت موقع الاستوزار رائدة في تاريخ المرأة السودانية وزادت علي الشعر بيتا بموقع وزارة الرعاية الاجتماعية والثقافة والرياضة لم تسبقها اليه وقتها امرأة، في الشمال أو الجنوب، وقتها كان السودان مكتمل الحواشي عزيز بأفريقية! جاء ذلك التعيين في عهد حاكم الإقليم حينها اللواء طبيب الطيب محمد خير (سيخة) الذي أسرته فاشر السلطان بكل ما حوت من إيقاع مفاتن المدينة واصالة رموزها التاريخية البهية، وايمانا منه بتميز نسائها بقدرات الحكمة ورجاحة العقل والبراعة الإدارية والثقافية والعلمية والرياضية نوعا وقدرا، ومهارة الفنجرية الحصرية، وبأنهن أهل للقيادة والريادة مستحقات المكانة بجدارة - فنجريات بالإرث والميلاد..
لم يخب ظن الحاكم القادم من خلف تخوم الاقليم، فقد ملأت بنات الفاشر المكانة، ساحة ومساحة، حتي نضحت فيضا ونفحت عطرا معلنا تقدم ركب الميارم وقدامي المعلمات والموظفات والعاملات في السلكين العام والخاص، ومؤكدا علي أن الأمر ما هو الا تراكم جهود لأجيال نساء المدينة وامهاتها سبقت في البناء وتوالت وتواثبت لصيانة الرصيف ورصف الطريق للمجد النسائي الدارفوري الألِق والوريف، فاكتسحن عالم الرياضة والثقافة والعلم بقيادة ستنا علي، احتذاء بميارم السلطنة وعلي رأسهن إيا باسي زمزم ام النصر اخت السلطان محمد الحسين (1839-1874) وعطفا علي الميرم تاجة، إيا باسي السلطان علي دينار (١٨٨٩ - ١٩١٦) التي اشتهرت بمقولتها وهي تخاطب اخيها السلطان عند اقتراب الغزاة البريطانيين والمصريين من الفاشر: "«إذا لم تقاتل فأعطني لباسك وخذ كنفوسي. فأنت لست برجل!" انه تاريخ قريب على مد الايد لتتوالى من بعدهن ميارم الفاشر علي مد العين والبصر والأثر، ومن كل الاسر. برهنت فاطمة وستنا واخواتهما بأنهن القويات الامينات وكن للحاكم نعم الاخوات والرفيقات والناصحات فقضي فترة حكمه وقد صار فردا من المجتمع الفاشري المضياف، وعائلاتها. ولأخوات الراحلات المقيمات فاطمة وستنا، ممن قضت نحبها ومن ندعو الله ان يجزل لهن في العافية والعمر، لهن دور أصيل في تقديم ذلك الثوب الحريري القشيب فواح الطيوب، عن مجتمع الفاشر ونسائه الفنجريات حفيدات السلاطين والمدرسين والأعيان ومعمرات البيوت. كلاهما حملت حبا ووعدا وتمنيات لبنت السلطان أرضا ومجتمعا ومستقبلا، ونثرن الحب والود لتدفئ دهاليز البيوت وشوارع المدينة.
ولكن يأتي القدر بما لا تشتهي المراكب والأنفس، وفي زمن قاهر للروح والعقل والوجدان، فتفترق الرفيقتان عند نقطة الوداع الأبدي - تتوسد الميرم ستنا على مرقد في أرض وتحت سماء أخريات. فقد جاءت الحرب المقيتة فسلبت الناس رغبتهم العفوية بالموت في الوطن والديار الأليفة بين الأهل والعشيرة والأحباب، ان جاز أن يكون للموت رجاء وحلم أو قرار. ولكن يقيننا ان المصلين والمودعين أينما كانوا هم أحباب آخرين، أحباب في الله، يدعون الله مخلصين له الدين أن يغفر لغرباء الأرض والوطن والعشيرة، والنازحين واللاجئين قسرا، وجلهم لا يعرف للميت أو الميتة تاريخا أو مكانة، ولا يدرك عمق تلك المعزة ملء القلب والروح التي يكتنزها له الأقربون من الأهل والعشيرة. وهكذا تقرح واقعنا بالجروح وأدمت التعاسة قلوبنا، ونصبت لنا الحرب خيمة للعزاء ترافقنا أينما ذهبنا حتى أصبحت مركزا لجحيم يرعد ويزبد زبانيته ويصرخون في وجوهنا صباح مساء، "هل من مزيد!؟ "
منذ التسعينيات اصبحت فاطمة عثمان استاذتي وصديقة عزيزة، وكانت من أوائل من بادر، تناغما مع صديقتها الراحلة المقيمة الأستاذة عازة الحاج، الي انشاء منظمات نسوية في شمال دارفور من قلب مدينة الفاشر فيما يعرف الآن بمنظمات المجتمع المدني. قامت الراحلة المقيمة عازة الحاج بتأسيس جمعية ام جمعة الخيرية تخليدا لذكري والدتها، فحذت حذوها سراعا الصديقة الراحلة فاطمة عثمان بتشكيل جمعية ام الكرام الخيرية لنفس الهدف وهو الاحتفاء بذكري الامهات وعطائهن الذي لا ينضب. وقتها كنت في بداية عملي مع منظمة أوكسفام، وكنت أقوم بتنظيم دورات تدريبية ودعم لوجيستي لهاتين المنظمتين الوليدتين؛ مما أتاح لي التتلمذ على يدي هاتين الرائدتين في المجال العام.
كانت فاطمة وستنا متل رفيقتهما عازة، وبقية العقد النضيد من المعلمات شامخات القامة، قويات الشخصية في بساطة، واثقات من أنفسهن في اناقة، مفعمات بالحيوية في رشاقة. لقد تربين علي الحرية واحترام الذات والاعتداد بجنس الأنثى، فنجريات الطبع في كل ما يميز نساء الفاشر مظهرا وخلقا وشخصية - في المنزل والمطبخ والمدرسة والمكتب، في ساحات العمل التنفيذي والوطني، محليا، وفي جميع أصقاع دارفور ومنابر السودان الثقافية والسياسية، في عمق العاصمة القومية وخارجها. كل من يأتي الي الفاشر لابد قد التقي بهاتين الشخصيتين واستمتع بدفء الفهما وجميل حفاوتهما وكرمهما أصيل الفيض، ابتداء من تحت اشجار مباني محلية الفاشر التي تظلل مكاتب حسين وحسن التجاني وتحتضن ضحكات حنونة ووجوه باسمة مشرقة، لإخوة وأخوات يحلو لهم الالتقاء تحتها فتعكس بعضا من تمظهرات الأخاء والمحبة والود، ووداعة خلق غالبا ما تأسر الزائرين وتدفعهم للعودة مرة اخري الي الفاشر أبو زكريا، ليس بسبب شربهم من مياه حجر قدو، كما يختلق البعض، ولكن بسبب الحنين لتلك الفضائل والأفضال التي تنعموا بها حينا فاختاروا العيش والحياة بين هذا المجتمع المسالم الذي لا يعرف السحنات ولا الانتماءات، عرقية كانت ام اثنية ام قبلية، الي قلبه سبيلا! فالفاشر مدينة تحمل نساؤها علامة الجودة بتميزهن الإنساني الرفيع والراقي، وعشرتهن الأصيلة النبيلة. ستنا وفاطمة كانتا غيض من فيض المدينة الشاعرية، حملن شعلة الجمال والقيافة والوجاهة، وهيبة الانوثة فاشرية الرائحة والديكور والعلامة. لقد كانتا جيلا ومن تقدمهن أو جاء من بعدهن رموزا لثورة التعليم في المدينة، وحيثما ذهبن، ذهبن في رحلة عطاء طويلة السفر ثمارها ناضجة ودانية القطوف، فساهمن في تعليم البنات والأولاد في المدن والقري، ودعمن ابداعاتهم الأدبية والرياضية وساهمن في تنمية المجتمعات المحلية وانتقالها الي رحاب التقدم والازدهار والحقوق المدنية، وترسيخ قيم وأخلاق مجتمع الفاشر الاجتماعية والثقافية وتعزيز الممارسة السياسية الحرة للنساء، وتعليم البنات وغرس قيم الحرية والتحرر من قيود قد تكبل نموهن التربوي، والعلمي والاجتماعي والسياسي.
تكثر الشجون يا رفيقات ويا رفاق، وتتوه الكلمات في أرجاء قلب مثقل بالحزن القديم وتوالي الأحزان الجديدة والمآسي التي تطحن الروح، ولا نستطيع ان نوفي كل من فقدناهم حقا علينا مستحقا، ولو بذكر اسمائهم. ولكننا نقول على استحياء كلمات نحسب صدقا انها أمانة ووفاء وعرفانا بشذرات قليلة مما نعرف عن الثراء الإنساني لبعض أخواتنا، واحتفاء بمنتوجهن الأدبي وأمجاد ارثهن المدرار. ولا يسعنا الا ان ندعو لهن، ولكل من فقدناهم، قريبين وبعيدين، في الزمان والمكان، بأن يتغمدهم الله برحمته، ويدخلهم الجنة، ويبارك في ذريتهم، ويلهم آلهم وذويهم ورفاقهم الصبر وحسن العزاء، ويغفر لنا ولوالدينا، وانا لله واليه راجعون.
حفظكم الله من كل سوء وأمد ايامكم بالعافية والصحة. وآخر دعوانا الابتهال الي الله أن تتوقف الحرب وأن نعود جميعا الي بيوتنا وأحبتنا سالمين معافين.
محبتي..
سعاد مصطفي
khairkhanaga16@gmail.com
بقلم: د. سعاد مصطفى
كانت كل منهما منارة وموكبا نابضا بالحياة، عالية السقوف عطاء، سامقة القيمة والمكانة، تزهو في مجد أثيل من حراك دؤوب لتوطيد قيم الحياة الفاضلة واثراء أجوائها بنبل الخصال والفعال. لقد كن معلمات وامهات واخوات وصديقات ناصحات ورائدات في صناعة القرار الاجتماعي والتنفيذي والسياسي على امتداد سفوح، وسهول دارفور، وفيافيها الخضر واليباب. كانت الاستاذة فاطمة عثمان اسحق زوجة الباشمهندس محمد محمدين وستنا علي عبد الرسول زوجة الأمير فاروق سليمان علي دينار، رفيقات الدرب المستنير المزين بإنجازات غزيرة الدفق فسيحة المدي برعن فيها فكرا وتطبيقا في وقت يعد فيه انجاز النساء اعجازا واعجوبة، تجابه أكثرها بالرفض والمقاومة! رحلت اختانا دون اعلان أو تلويح بالوداع الأخير للعشيرة وللأرض الام موطن النشأة والانطلاقة ومنارة الثقافة وينبوع المعرفة في دارفور: إذ "... لا تدري نفس بأي أرض تموت." فقد كانتا أسماء ونجوما توشح سماء الفاشر أزرق الضياء، وقصورها ألفية التاريخ والانطلاقة الحضرية. ولكن انطفأت شموع للفرح كانت تنتظر لقائهما بعد ان كنا نظن ويحدونا أمل واهن بأن الحرب ستطوي صفحاتها البائسة الدامية قريبا وستلقي أوزارها بعيدا، وأننا سنلتقي في الخريف المقبل على ضفاف حجر قدو والنقعة لنعيد ذكريات الماضي في موسم جريان وادي حلوف وسيلي واخريات مشاغبات، وسيولهم الفياضة وسط المدينة. ولكن جاء حصادنا من الانتظار وجعا وأنينا وسيلا من الدموع شق طريقه بحزن كئيب ليصب في رهد/وادي الفاشر، قبالة قصور السلاطين، يمد يدا للعزاء ويعلن حداداً وحزنا نبيلا مقيماً للفقد الجلل من بنات الفاشر السلطان!
في يوم السبت 18 من مايو 2024 تقدم موكب الحزن النبيل في عجالة غير ممهلة بالمدينة حدادا على فراق استاذتنا فاطمة عثمان اسحق واحدة من رائدات الانطلاقة الاجتماعية والسياسية النسوية في دارفور، وتبعتها بقاهرة المعز نوارة الميارم والمعزة الاستاذة ستنا علي عبد الرسول بعد هنيهة يوم قاتم فتعمق الحزن واغتمت النفوس والقلوب وصار اليومان أياما من الأحزان تمددت، وغيّمت سماء الفاشر فأرعدت نواحا وانهمرت دموعا حري. فاطمة الحبيبة معالي الوزير الفريدة التي تبوأت موقع الاستوزار رائدة في تاريخ المرأة السودانية وزادت علي الشعر بيتا بموقع وزارة الرعاية الاجتماعية والثقافة والرياضة لم تسبقها اليه وقتها امرأة، في الشمال أو الجنوب، وقتها كان السودان مكتمل الحواشي عزيز بأفريقية! جاء ذلك التعيين في عهد حاكم الإقليم حينها اللواء طبيب الطيب محمد خير (سيخة) الذي أسرته فاشر السلطان بكل ما حوت من إيقاع مفاتن المدينة واصالة رموزها التاريخية البهية، وايمانا منه بتميز نسائها بقدرات الحكمة ورجاحة العقل والبراعة الإدارية والثقافية والعلمية والرياضية نوعا وقدرا، ومهارة الفنجرية الحصرية، وبأنهن أهل للقيادة والريادة مستحقات المكانة بجدارة - فنجريات بالإرث والميلاد..
لم يخب ظن الحاكم القادم من خلف تخوم الاقليم، فقد ملأت بنات الفاشر المكانة، ساحة ومساحة، حتي نضحت فيضا ونفحت عطرا معلنا تقدم ركب الميارم وقدامي المعلمات والموظفات والعاملات في السلكين العام والخاص، ومؤكدا علي أن الأمر ما هو الا تراكم جهود لأجيال نساء المدينة وامهاتها سبقت في البناء وتوالت وتواثبت لصيانة الرصيف ورصف الطريق للمجد النسائي الدارفوري الألِق والوريف، فاكتسحن عالم الرياضة والثقافة والعلم بقيادة ستنا علي، احتذاء بميارم السلطنة وعلي رأسهن إيا باسي زمزم ام النصر اخت السلطان محمد الحسين (1839-1874) وعطفا علي الميرم تاجة، إيا باسي السلطان علي دينار (١٨٨٩ - ١٩١٦) التي اشتهرت بمقولتها وهي تخاطب اخيها السلطان عند اقتراب الغزاة البريطانيين والمصريين من الفاشر: "«إذا لم تقاتل فأعطني لباسك وخذ كنفوسي. فأنت لست برجل!" انه تاريخ قريب على مد الايد لتتوالى من بعدهن ميارم الفاشر علي مد العين والبصر والأثر، ومن كل الاسر. برهنت فاطمة وستنا واخواتهما بأنهن القويات الامينات وكن للحاكم نعم الاخوات والرفيقات والناصحات فقضي فترة حكمه وقد صار فردا من المجتمع الفاشري المضياف، وعائلاتها. ولأخوات الراحلات المقيمات فاطمة وستنا، ممن قضت نحبها ومن ندعو الله ان يجزل لهن في العافية والعمر، لهن دور أصيل في تقديم ذلك الثوب الحريري القشيب فواح الطيوب، عن مجتمع الفاشر ونسائه الفنجريات حفيدات السلاطين والمدرسين والأعيان ومعمرات البيوت. كلاهما حملت حبا ووعدا وتمنيات لبنت السلطان أرضا ومجتمعا ومستقبلا، ونثرن الحب والود لتدفئ دهاليز البيوت وشوارع المدينة.
ولكن يأتي القدر بما لا تشتهي المراكب والأنفس، وفي زمن قاهر للروح والعقل والوجدان، فتفترق الرفيقتان عند نقطة الوداع الأبدي - تتوسد الميرم ستنا على مرقد في أرض وتحت سماء أخريات. فقد جاءت الحرب المقيتة فسلبت الناس رغبتهم العفوية بالموت في الوطن والديار الأليفة بين الأهل والعشيرة والأحباب، ان جاز أن يكون للموت رجاء وحلم أو قرار. ولكن يقيننا ان المصلين والمودعين أينما كانوا هم أحباب آخرين، أحباب في الله، يدعون الله مخلصين له الدين أن يغفر لغرباء الأرض والوطن والعشيرة، والنازحين واللاجئين قسرا، وجلهم لا يعرف للميت أو الميتة تاريخا أو مكانة، ولا يدرك عمق تلك المعزة ملء القلب والروح التي يكتنزها له الأقربون من الأهل والعشيرة. وهكذا تقرح واقعنا بالجروح وأدمت التعاسة قلوبنا، ونصبت لنا الحرب خيمة للعزاء ترافقنا أينما ذهبنا حتى أصبحت مركزا لجحيم يرعد ويزبد زبانيته ويصرخون في وجوهنا صباح مساء، "هل من مزيد!؟ "
منذ التسعينيات اصبحت فاطمة عثمان استاذتي وصديقة عزيزة، وكانت من أوائل من بادر، تناغما مع صديقتها الراحلة المقيمة الأستاذة عازة الحاج، الي انشاء منظمات نسوية في شمال دارفور من قلب مدينة الفاشر فيما يعرف الآن بمنظمات المجتمع المدني. قامت الراحلة المقيمة عازة الحاج بتأسيس جمعية ام جمعة الخيرية تخليدا لذكري والدتها، فحذت حذوها سراعا الصديقة الراحلة فاطمة عثمان بتشكيل جمعية ام الكرام الخيرية لنفس الهدف وهو الاحتفاء بذكري الامهات وعطائهن الذي لا ينضب. وقتها كنت في بداية عملي مع منظمة أوكسفام، وكنت أقوم بتنظيم دورات تدريبية ودعم لوجيستي لهاتين المنظمتين الوليدتين؛ مما أتاح لي التتلمذ على يدي هاتين الرائدتين في المجال العام.
كانت فاطمة وستنا متل رفيقتهما عازة، وبقية العقد النضيد من المعلمات شامخات القامة، قويات الشخصية في بساطة، واثقات من أنفسهن في اناقة، مفعمات بالحيوية في رشاقة. لقد تربين علي الحرية واحترام الذات والاعتداد بجنس الأنثى، فنجريات الطبع في كل ما يميز نساء الفاشر مظهرا وخلقا وشخصية - في المنزل والمطبخ والمدرسة والمكتب، في ساحات العمل التنفيذي والوطني، محليا، وفي جميع أصقاع دارفور ومنابر السودان الثقافية والسياسية، في عمق العاصمة القومية وخارجها. كل من يأتي الي الفاشر لابد قد التقي بهاتين الشخصيتين واستمتع بدفء الفهما وجميل حفاوتهما وكرمهما أصيل الفيض، ابتداء من تحت اشجار مباني محلية الفاشر التي تظلل مكاتب حسين وحسن التجاني وتحتضن ضحكات حنونة ووجوه باسمة مشرقة، لإخوة وأخوات يحلو لهم الالتقاء تحتها فتعكس بعضا من تمظهرات الأخاء والمحبة والود، ووداعة خلق غالبا ما تأسر الزائرين وتدفعهم للعودة مرة اخري الي الفاشر أبو زكريا، ليس بسبب شربهم من مياه حجر قدو، كما يختلق البعض، ولكن بسبب الحنين لتلك الفضائل والأفضال التي تنعموا بها حينا فاختاروا العيش والحياة بين هذا المجتمع المسالم الذي لا يعرف السحنات ولا الانتماءات، عرقية كانت ام اثنية ام قبلية، الي قلبه سبيلا! فالفاشر مدينة تحمل نساؤها علامة الجودة بتميزهن الإنساني الرفيع والراقي، وعشرتهن الأصيلة النبيلة. ستنا وفاطمة كانتا غيض من فيض المدينة الشاعرية، حملن شعلة الجمال والقيافة والوجاهة، وهيبة الانوثة فاشرية الرائحة والديكور والعلامة. لقد كانتا جيلا ومن تقدمهن أو جاء من بعدهن رموزا لثورة التعليم في المدينة، وحيثما ذهبن، ذهبن في رحلة عطاء طويلة السفر ثمارها ناضجة ودانية القطوف، فساهمن في تعليم البنات والأولاد في المدن والقري، ودعمن ابداعاتهم الأدبية والرياضية وساهمن في تنمية المجتمعات المحلية وانتقالها الي رحاب التقدم والازدهار والحقوق المدنية، وترسيخ قيم وأخلاق مجتمع الفاشر الاجتماعية والثقافية وتعزيز الممارسة السياسية الحرة للنساء، وتعليم البنات وغرس قيم الحرية والتحرر من قيود قد تكبل نموهن التربوي، والعلمي والاجتماعي والسياسي.
تكثر الشجون يا رفيقات ويا رفاق، وتتوه الكلمات في أرجاء قلب مثقل بالحزن القديم وتوالي الأحزان الجديدة والمآسي التي تطحن الروح، ولا نستطيع ان نوفي كل من فقدناهم حقا علينا مستحقا، ولو بذكر اسمائهم. ولكننا نقول على استحياء كلمات نحسب صدقا انها أمانة ووفاء وعرفانا بشذرات قليلة مما نعرف عن الثراء الإنساني لبعض أخواتنا، واحتفاء بمنتوجهن الأدبي وأمجاد ارثهن المدرار. ولا يسعنا الا ان ندعو لهن، ولكل من فقدناهم، قريبين وبعيدين، في الزمان والمكان، بأن يتغمدهم الله برحمته، ويدخلهم الجنة، ويبارك في ذريتهم، ويلهم آلهم وذويهم ورفاقهم الصبر وحسن العزاء، ويغفر لنا ولوالدينا، وانا لله واليه راجعون.
حفظكم الله من كل سوء وأمد ايامكم بالعافية والصحة. وآخر دعوانا الابتهال الي الله أن تتوقف الحرب وأن نعود جميعا الي بيوتنا وأحبتنا سالمين معافين.
محبتي..
سعاد مصطفي
khairkhanaga16@gmail.com