أحمد حسن محمد صالح: أوقات جاز شاردة بين الفواصل والنقاط

 


 

 


عفو الخاطر:

 

أهكذا أبداً تمضي أمانينا

نطوي الحياة وليل الموت يطوينا

"الفونس دو لامارتين"


دأب زميلنا الصحافي والاديب الراحل محمود محمد مدني على إطلاق أسماء بديلة لأشخاص بعينهم، أكانوا ممن يحبهم أو يبغضهم، يستسيغ مجلسهم أو لا يأنس لهم، من أصدقائه الخُلص أو من الابعدين. أضحت تلك الأسماء متداولة بين الدائرة القريبة منه وزملاء المهنة، كما غلب بعضها اسم الميلاد، بل نادى الزملاء بعضهم بعضاً بتلك الأسماء التي صرفها محمود لهم، وتقبلوها. فلم يكن زميلنا الصحافي الجهبذ يضيق ذرعاً بمناداته باسم "لوش" كناية عن المخرج السينمائي الفرنسي "لولوش"، ولذلك الاسم قصة ورواية، أما "المدير المزيف" فهو صفة واسم تداوله الأصدقاء والزملاء عن زميل صحافي عتيق انتهز تأميم العقيد جعفر نميري لمصالح كثيرة، صغيرة في حجم حانة، أو كبيرة كالفنادق والمصارف لينصًب نفسه مديراً لفندق السودان، ثم أخذ يماطل في ابراز المؤهلات التي ادعاها حتى انكشف المستور، ليخرج من الفندق بلا عودة ويتجنب المرور بشارع النيل لفترة طويلة، وليلصق محمود به نعت المدير المزيف؛ الذي طغى على اسمه الأصلي، وصار دلالة عليه يميز به الزملاء بينه وبين صحافي آخر يحمل ذات الاسم الثنائي لكن له أيضاً كنية اكتسبها من عمود يومي كان ينشره في صحيفة سيارة يومئذٍ.

كان اسم الرئيس العراقي الأسبق، أحمد حسن البكر، وما جرى وما يجري في العراق، منتشراً في الاعلام المقروء والمسموع والمرئي عند السنوات الأخيرة من ستينيات القرن الماضي، بل قبل ذلك بقليل، فاهتبل محمود مدني تردد اسم الرئيس العراقي المتكرر على أوراق المبرقة التي تأتي اليه لصياغة اخبار منها حينما كان محرراً في جريدة الصحافة، أو تلك التي تنبعث عبر موجات الاثير من المذياع الضخم، فأطلق على "أحميد" اسمه الجديد الذي عرف به في اوساطنا: "أحمد حسن البكر"، ثم تقلص الاسم الثلاثي الى "البكر". كان أبو حنفي ينطق ذلك الاسم كما درج على نطقه المذيع السوداني، سعد رياض، الذي هجر الإذاعة والعاصمة التي هجاها الشاعر المجيد، مأمون زروق، ووصفها بالمترامية النائمة على ضفاف النهرين " المدائن التي تنام في دعة، على شواطئ النهرين ترتمي". غادر سعد رياض أضواء الخرطوم باكراً الى القضارف، التي أسسها جده سعد بيشاي وحملت اسمه حتى اليوم "قضروف سعد". لكنه قبل أن يغادر همس في أذن جاره في حي العرب بأمدرمان، عزيز دنيانا، الفنان إبراهيم عوض، أن يضم عازف بوق الى فرقته وأن يعيد توزيع أغانيه ليترك للعازف الجديد حيزاً زمنياً يطلق فيه العنان لبوقه. وقد جرى، وكان له قصب السبق. كان سعد رياض يلثغ بالراء فيأتي اسم البكر بصوته الرخيم مفرحاً ومريحاً، لا منفّراً عند سماعه ولا ثقيلاً على طبلة الاذن. جاء البكر، ذهب البكر، كتب البكر، قرأ البكر "قام، سافر، تاه"، يرددها محمود أحياناً عندما يفتقده وذلك من غير أن يبتسم، بينما يضج الباقون ضحكاً. هكذا كان أحميد؛ يشرد أياماً طوالاَ ثم يؤوب الى رهطه، كأنه تركهم منذ لحظات، فيوزع المِلَح والطرائف مثلما توزع أم العروس الحلوى ليلة "الصُفاح".

بعد الظهيرة، بين حين وآخر، في أيام الشتاء الدافئة، كنا نتجمع في ساحة فسيحة مترامية الاطراف أمام منزل استأجره هو وجمع من أصدقائه بالخرطوم ثلاثة. كانت وقفتنا تلك تطول، لا سيما حينما تأتي التشكيلية المبدعة، كمالا إبراهيم اسحق بسيارتها التي يغلب على طلائها اللونان الارجواني والأسود؛ لونان طَبَعَا أعمالها، إن اسعفتني الذاكرة.


لم يكن عدد من يقدن السيارات في ذلك الزمان الا ما يساوي أصابع اليدين؛ وكانت العاصمة كلها تعرفهن بالاسم ونوع السيارة التي يمتلكن ولونها أو الوانها. كانت سيارة كمالا احداهن، وسيارة الكاتبة الصحافية، امنة أحمد يونس "بنت وهب" أشهرهن. حينها توزع سكان العاصمة بين مستهجن بلغة الجسد واليدين والوجه، أو مستنكر بطرف اللسان، أو معجب بصمت، أو متعجب بكلمتين تعبران عن الحيرة والعجز معاً: "آخر زمن!" لم يكن كذلك، بل كان المبتدأ والمنطلق ذلك الزمان. أيضاً لم يكن مألوفاً أن تقف امرأة سودانية أو غير سودانية مع رجال في ساحة مفتوحة تتبادل معهم الأحاديث في كل شيء، من ساس يسوس الى معارج الفن ومروج الادب والطرائف والنوادر، وآخر الاخبار وحواشيها وبهاراتها التي يتقن خلطها ورشها الواقفون أمامها. دنيا! كان البكر ينثر بين الفينة والأخرى تعليقات ساخرة، فإما ان ينفجر الجمع قهقهة، أو يرمقونه بنظرات باسمة مواصلين ما كانوا فيه من حديث


حينما ينفض السامر يؤب البكر الى الغرفة الواسعة التي تتوزع فيها الأسّرة على جانبيها. يعود اليها مع رفاق المسكن وبعض زملاء المهنة المتسكعين، الذين فاتهم اللحاق بسيارة "لوش". كان يقفز الى سريره، فور دخوله، كما يقفز لاعبو الوثب العالي، ثم يطول من تحت الوسادة كتاباً باللغة الإنجليزية عن الجاز ويشرع في القراءة دون أن يصم أذنيه عما يدور في ارجاء الغرفة. يقرأ ويسمع. امتلك تلك القدرة الباهرة على استيعاب ما يقرأ ومتابعة ما يسمع في آن معاً. لم أر مثيلاً له الا الفقيه القانوني، مولانا عبد الرحمن عبده، الذي لم يترك كتاباً يحدث عن الحرب العالمية الثانية يفلت من بين يديه.


كانت جل كتب البكر عن موسيقى الجاز ومشاهيرها، إذ كان مولعاً بها، يتابع شواردها من أي مصدر وجده. وفي يوم من الأيام استطاع أن يقتني حاكياً (فونوغراف) قديماً، ويجمع أسطوانات جاز، وبلوز، وفليل من أغاني الايقاع والشجن (R&B) ما استطاع اليه سبيلا. لكن معرفته بتلك الموسيقى جاءت من اطلاعه الواسع على عالم موسيقى الجاز بكل اشكالها وضروبها، ومن مصادر شتى. اضحى البكر ملماً بهذا الفن ودقائقه، في وقت كان معظم من يدعون المعرفة بالجاز، إضافة الى ما شاع بين الناس حينذاك عنه الا شذرات من الروك اند رول والفيس بريسلي وبقايا ذكريات من زيارتي لويس ارمسترونق للخرطوم فجر الستينيات.

لكن البكر لم يشع تلك المعرفة بين الناس أو بين معارفه، حتى اجاباته كانت مقتضبة إذا ما سأله أحدهم عما يقرأ. هل كان ضنيناً بما امتلك من علم؟ حاشاه، لم يكن بضنين. لكنه أدرك ان الجاز عند الناس يقتصر على القيثارة - بديلا عن العود والكمان - والطبول المتعددة والساكسفون. هذا جاز السودان، يا صديقي، قال لي ذات مرة. تلك موسيقى راقصة لا غير! ويردف، محقاً، الجاز – في الأساس - هو البيانو والبوق والمزمار وآلات التناغم (الهرموني) الوترية والنحاسية. هنا نذكر أبياتاً من "الشرف الجديدة"، رائعة شاعر "أمتي" محمد المكي إبراهيم:

كانت ليالينا بلون الثلج

كنا نرقص الشاشا ويفضحنا النهار

خرست تعاويذ الجدود، تساقطت شعل الحنين

كسا ذوائبها غبار

في ظلمة التابو تسلقنا نحاس البوق

وانفتحت مسالكنا الى رحم الحياة وطيبات عطائها


قد نجافي الحقيقة إن قلنا بان جاز السودان لم يكن الا على تلك الشاكلة منذ البداية. كانت الاطلالة الاولى واعدة مع عثمان ألمو في نهاية الخمسينيات حينما عزف على آلات النفخ النحاسية ووتريات الهرموني مع فرقة البوليس. ولج أبواب الفرقة من خلال ابيه الذي عمل في سلك الشرطة، وهو من أصول تعود الى المرتفعات الارترية لكنه استقر في السودان. عجم عثمان أعواد جازه حينما أمضى في ارتريا بضع سنين قبيل عودته الى مسقط رأسه. لكن عثمان عاف آلات الجاز تلك فيما بعد وتبنى القيثارة في اغنياته فنحى الاخرون منحاه وساروا على نهجه. ثم دخل الحلبة آخرون، أشهرهم الفنان الشامل شرحبيل أحمد، كما كان من بينهم صلاح براون مع فرقة أضواء بحري، ووليم اندريا مع فرقة بلو استارز، وفرق مغمورة أخرى لم تخرج عن حلبات نوادي الجاليات الأجنبية أو الملاعب الليلية، أو سهرات الفنادق الموسمية الى حيث الجمهور العريض.

الى البكر كانت هنالك قلة قليلة في تلك الفترة تدري ماهية الجاز وصنوفه وأنواعه، بينهم المذيع فيصل النور التيجاني، والمذيع الآخر الذي التحق بإذاعة صوت أميركا، عبد الرحمن زياد، فقدم من خلالها برنامجين انتظرهما بفارغ الصبر من كان يملك مذياعاُ، اذ لم يكن في متناول الجميع. البرنامجان اللذان أعدهما وقدمهما عبد الرحمن زياد كانا "أغنيات في السباق" و"نادي الجاز". ولكل من فيصل وعبد الرحمن حكايات تستحق الوقوف عندها.


توطدت الصلة بيني وبين البكر حينما حدثته عن ديزي قلبسي وديوك الينقتون ومايلز ديفز وايلا فتزجيرالد وبيلي هوليداي ورائد الموسيقى الشعبية للاميركيين-الافارقة "نات –كنق- كول". ذكرت له في البداية ديوك الينقتون وديزي قلبسي وراي شارلز، فأنتبه وتعجب. ثم تناولنا بقية النجوم والنجمات في لقاءات لاحقة، من اسطورة بيانو الجاز سيسل تايلور الى جون هندركس وحتى جوني هارتمان وفلتشر هندرسون. هنا سمح لي بأن استعير بعض ما لديه من كتب عن الجاز، ورفدته بما كنت احصل عليه من مجلات متخصصة.


حينما تحدثنا عن سيسل تايلور، جال في مخيلتينا ما الذي كان سيحدث لو تكررت تجربة كروان السودان كرومه حينما غنى، بمصاحبة البيانو، "دمعة الشوق"، خريدة مصطفى بطران التي قيل إن لحنها من وضع الحاج محمد احمد سرور. الى أي مدى كانت ستتغير ألوان وسلم الغناء شمالي السودان ووسطه. لكننا وصلنا الى أن أهل الغناء والموسيقى لن يقدروا على تكاليف البيانو المادية والدراسية، فالدف والطبل والعود والكمان مقدور عليها، ولذلك انتشر "المكوجية والمنجدين"، قبل تأسيس معهد الموسيقى والمسرح.


كان أحميد-البكر خفيف الروح، كريم النفس سخيا، له جلد على المكاره والصعاب، قنوعاً بشكل مؤذٍ لذاته، وأحياناً لأصدقائه، حسبه كتاب وحاكي واسطوانة وحقيبة. إذ ظل على سفر وهو مقيم. حينما شاهدت فيلم "صالة الركاب The Terminal" لم يكن توم هانكس في ذلك الشريط بل البكر. رجل لا يبغي من رحلته الا أن تكتمل صور عظماء الجاز التي لم يجمعها أبوه كلها فآل على نفسه أن يتم ما نقص، فتكبد مشاق السفر الى نيو يورك حيث لم يسمح له بمغادرة صالة الركاب. لكنه تغلب في نهاية الامر على مدير المطار ودخل المدينة ليحصل على ما جاء يسعى اليه، ثم رجع الى المطار فوراً عائداً الى دياره.


تحضرني كلمات خالدة لحكيم العرب، قس بن ساعدة الايادي: "أيها الأشهاد أين ثمود وعاد؟
أيها الناس أسمعوا واعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا أنه من عاش مات، ومن مات فات ، وكل ما هو آتٍ آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، وجمع وشتات، وآيات بعد آيات، ليل موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تفور، وأرض تمور، وبحور تموج، وتجارة تروج، وضوء وظلام، وبر وأثام، ومطعم ومشرب، وملبس ومركب، ألا أن أبلغ العظات، هو السير في الفلوات، والنظر إلي محل الأموات، إن في السماء لخبر، وإن من الأرض لعبر، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات رتاج، وبحار ذات أمواج، مالي أري الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا هناك فناموا؟ أن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم."


elsouri1@yahoo.com

 

آراء