أدفنوا موتاكم وأنهضوا!

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
قمت بإستلاف عنوان هذا المقال "أدفنوا موتاكم و أنهضوا", من إسم ديوان للشاعر الفلسطيني توفيق زياد. سأورد في هذا المقال رؤيتي الخاصة بما أتمني حدوثه في سودان مابعد الحرب . هذه الحرب التي خربت فيها عاصمة بلادنا كما لم يحدث منذ حملات الدفتردار الأنتقامية و منذ إستباحة أمدرمان بواسطة جيش كتشنر الغازي. رغم الموت والدمار و الخراب الا أنني سأحاول إستشراف المستقبل.

الدارس لتاريخ بعض الدول يجد أنها لم تنهض نهوضا متسارعا إلا بعد خروجها من حرب أهلية طاحنة. فمثلا الولايات المتحدة الامريكية لم تتشكل كما نعرفها اليوم الا بعد إنتهاء الحرب الأهلية الأمريكية في عام 1865 والتي قتل فيها أكثر من ستمائة الف مواطن أمريكي. انتهت الحرب بفرض ولايات الشمال و الشرق الامريكية رؤيتها حول شكل الدولة الأمريكية علي ولايات الجنوب المنهزمة. أيضا فأن دولة رواندا أحرزت تقدما كبيرا في كل المجالات بعد حربها الاهلية الطاحنة في التسعينات والتي أدت لمقتل أكثر من تسعمائة الف من مواطنيها بسبب المذابح التي أرتكبها التوتسي ضد الهوتو . بل يمكن القول بأن الصين لم تحرز تقدمها الاقتصادي الذي يشبه المعجزة الا بعد قمعها لثورة الطلاب في تينمان اسكوير و قتلها للألوف منهم. لا أعني أبدا بأن الحرب الاهلية و الموت و الدمار هو شرط لحدوث نهضة للدول ولكن هذا التقدم حدث لبعضها التي شهدت دمار يفوق مالحق ببلادنا الحبيبة.

هنالك سؤالين أود التطرق لهما هنا أولهما: ماهو السودان الذي أتمني إنبثاقه بعد الحرب؟ والسؤال الثاني هو: و من سيحق له تحديد ملامح الدولة السودانية/الجمهورية الثانية القادمة؟

حيث أن الأجابة علي السؤال الثاني هي أسهل عندي من الأجابة علي الأول فسابدأ به. كمواطن سوداني فقد سئمت من أن الآخرين قد تحدثوا باسمي لعشرات السنين دون أي تفويض إنتخابي مني, إتخذوا قرارت مصيرية بأسمي. قراراتهم دمرت البلاد و فصلت جزء عزيز منها, و أفلست بلد غني كالسودان و جعلت كثير منا لأجئين في بلاد الآخرين أو مقيمين فيها أقامة مؤقتة لعشرات السنين علي ذمة كفلاء يستطيعون طردنا في أي وقت. و من عاش منا في و طنه كان يلهث يوميا لتوفير أبسط متطلبات الحياة الكريمة. لكل ذلك فانا لا أؤيد أي فترة انتقالية , ذات حكومة غير منتخبة بعد الحرب تزيد عن العامين . مهام الحكومة الانتقالية تكون في الأساس البدء بتعمير بعض ما خربته الحرب , اجراء إحصاء سكاني يتم موجبه توزيع الدوائر الانتخابية و تشكيل مفوضية للانتخابات . ملامح الدولة السودانية القادمة يجب الا يحددها أي من القوي السياسية الحالية في مؤتمر دستوري او خلافه (من له الحق في تحديد من سيشارك في هذا المؤتمر الدستوري؟), فلا أحد منا يعرف وزن هذه القوي! لذا فمن الأفضل أن تكون الانتخابات بعد الفترة الانتقالية ذات جزئين , الجزء الأول يكون بغرض انتخاب برلمان ينتخب رئيس وزرء يقوم بتشكيل حكومة يراقبها البرلمان . الجزء الثاني تنتخب فيه كل ولاية من ولايات السودان مندوبين أو ثلاثة (بشروط معينة تشمل مستوي التعليم لهم ) تكون مهمتهم كتابة دستور دائم للبلاد في فترة محددة, و يمكن توفير طاقم قانوني متكامل لمناديب كل ولاية لمعاونتهم في عملهم . الدستور بعد كتابته بواسطة مناديب الولايات المنتخبين و أجازته أما بأستفتاء شعبي أو بواسطة البرلمان سيحدد شكل النظام السياسي الدائم للبلاد (جمهورية رئاسة أم برلمانية). و بموجب ذلك سيتم حل البرلمان و اجراء انتخابات ثانية بموجب الدستور الدائم المجاز. ربما يقول قائل بأن الأحزاب السودانية لن تكن جاهزة لانتخابات تجري بعد عامين من انتهاء الحرب ولهؤلاء أقول أنه بسبب ضعف و تشرذم احزابنا حاليا، فأنني أتوقع أن تخوض الأحزاب الانتخابات في شكل كتل أو ربما تتشكل هذه الكتل كتحالفات بعد الانتخابات (مثلا كتلة قحت، كتلة مناوئة لقحت، كتلة شبابية ...الخ ) . استدامة الديمقراطية سيجبر الأحزاب علي تطوير نفسها والا ستندثر و ستحل محلها أحزاب جديدة ستنبثق من رحم الغيب. كنت قبل الحرب اعتقد بان لجان المقاومة لديها فرصة تاريخية لوراثة كل الأحزاب القديمة, ذلك ان هي اهتمت بتشكيل تنظيما سياسيا قوميا هرميا واحدا بدلا من تضييع زمنها في تدبيج المواثيق السياسية الا أنني لم أعد متأكدا من اعتقادي ذاك فقد غيرت الحرب أمزجة كثير السودانيين .

في سودان ما بعد الحرب اتمني أن تحتكر الدولة تعدين الذهب و كل أنواع المعادن و الا تسمح لاي شخص بالتعدين و هي ان فعلت ذلك لتمكنت بما تدره عائدات الذهب في أقل تقدير من توفير التعليم المجاني والعلاج المجاني لمواطنيها, فما يحدث حاليا بخصوص تعدين الذهب بالسودان يمكننا تخيل عبثيته لو افترضنا عدم وجود شركة أرامكو الحكومية السعودية وبدلا عنها كان يسمح لاي مواطن سعودي بحفر بئر في أي مكان يشاء و امتلاك وبيع ما ينتجه من بترول ذلك البئر.

أيضا فقد علمتنا الحرب أن من لا يستطيع القتال دفاعا عن نفسه و ماله تستباح حرماته و حماية الوطن ضد الغزو لا يكون بالجيش فقط لذا فما أتمناه هو أن يكون لنا نظام تجنيد أجباري متقدم يشابه نظام التجنيد الاجباري في إسرائيل التي يتدرب كل رجالها ونساءها علي حمل السلاح, و تتم إعادة تدريبهم دوريا و يخدم كل منهم و يتخصص في أحد أسلحة القوت المسلحة(سلاح المدرعات , المظلات, ألاستخبارات العسكرية ...الخ) وبذلك تستطيع الدولة استدعائهم عند الحوجة في ظرف ساعات قليلة لدعم جيشها. ولا شك عندي ان كثير من الشباب السودانيين الذين كانوا يتهربون من أداء الخدمة الوطنية الإلزامية سيتدافعون للتجنيد الاجباري بعد الحرب لو تم تطبيقه بطريقة التجنيد الإسرائيلي. تركيزي علي دراسة نظام التجنيد الاجباري الإسرائيلي و تطبيقه بحذافيره (علي الشباب فقط دون الشابات كما هو الحال في إسرائيل) ذلك لكونه اكثر نظم التجنيد و الحشد فعالية في العالم و بواسطته استطاعت إسرائيل ذات العدد القليل من السكان هزيمة عدة دول عربية مجتمعة في اكثر من حرب .

أتمني أن تنشي حكومتنا “صندوق سياديا للدولة السودانية تؤول اليه ملكية و أدارة كل الشركات, العقارات , المزارع …الخ , التي انتزعتها لجنة ازالة التمكين من نظام الكيزان والتي نزعت من الدعم السريع و من ال دقلو, علي أن يدار هذا الصندوق بواسطة أناس مؤهلين جدا في علم “أدارة الاعمال” حتي و لو تطلب ذلك الاستعانة ببعض بيوت الخبرة المالية العالمية . الصندوق السيادي هو بدعة جميلة تعمل بها بعض الدول الغنية مثل الكويت و السعودية و النرويج وذلك للادارة الرشيدة لبعض موارد الدولة بموجب قوانين السوق الحر، و دون بيروقراطية تقيد العمل تحت روتين وزارة المالية .

لن تقوم اي نهضة في اي بلد مالم يتم القضاء علي او تقليص نسبة الامية فيه بنسبة عالية. لذا فاني اتمني ان تتبني الجمهورية السودانية القادمة مشروعا قوميا لمدة محددة لمحو الامية ينفذه شباب الوطن. هذا المشروع القومي يمكن ان يلتف حوله كل المواطنين بغض النظر عن توجهاتهم السياسية، وستكون الفائدة المصاحبة للمشروع القومي لمحو الامية هي انغماس الشابات و الشباب في عمل وطني نبيل، و به ربما يفهم الشباب عكس جيل آبائهم و أمهاتهم، ان الوطنية تعني خدمة المواطن البسيط الفقير، نكران الذات، قلة الكلام عن حب السودان و كثرة الفعل لإثبات ذلك. وتلك لعمري تربية وطنية افتقدتها كل الاجيال منذ الاستقلال و هي التي أوردتنا مورد الهلاك الذي نعاني منه حتي الآن. فرضية نجاح هذا المشروع في زمن الانترنت وسائل التواصل الاجتماعي ليس بأمنية خيالية فان انجح مشروع محو امية في العالم نفذه فيدل كاسترو في الستينات بعد نجاح الثورة الكوبية و بموجبه فان نسبة من يجيد القراءة و الكتابة في كوبا حاليا هي اعلي من أمريكا و من معظم الدول الاوربية.

كما ذكرت أعلاه فان احتكار الدولة لتعدين و تصدير ذهب البلاد سيمكنها من تمويل التعليم و جعله مجانبا و لكن قبل ذلك لابد للمختصين من تحديد نوع التعليم العالي الذي تحتاجه بلادنا بدلا من الفوضى الحالبة التي نتجت عن خصخصة نظام الإنقاذ البائد للتعليم . في ذهني تجربة أمريكية لتعليم عالي وسيط يسمي نظام كليات المجتمع التي تمولها الولايات و يوجد فرعا منها في كل محلية بالولاية. مدة الدراسة في كليات المجتمع سنتين و توجد بها تخصصات تقنية و مهنية عدة تؤهل من يتحصل علي دبلومها في دخول سوق العمل مباشرة.

هذه بعض الأفكار التي خطرت بذهني لبناء وطني عاتي قادم . و طن خَيٍّرْ و ديمقراطي . وفقنا الله لفعل ذلك.

husseinabdelgalil@gmail.com

 

آراء