أصداء كتاب وكلمات وأنشطة -1-
لما وصل سعر كيلو اللحم عشرة قروش في الستينيات قال السودانيون حليل أيام الانجليز
الحركة الطلابية الإسلامية في مصر قدمت نجوماً متلالئة هؤلاء بعضهم
سيجد أهل السجل المدني والقائمون على أمره أن كثيراً من أهل السودان يحملون تاريخاً واحداً للميلاد ، هو الأول من يناير عام 1956م، وهو ذات يوم إعلان ميلاد دولة السودان القديمة الحرة المستقلة، قبل الانفصال والتقسيم والتي كانت مساحتها مليون ميل مربع تبدأ من نمولي في أدنى الجنوب وتنتهي ـ مجازاً ـ عند حلفا أقصى الشمال.
هذا التاريخ 1 / 1 / 1956م ليس هو بالطبع تاريخ ميلاد كل الذين يحملونه، ولكنه تاريخ اخترناه نحن جيل الخمسينيات ليكون تاريخاً لميلادنا، وهو يضيف لبعضنا عمراً، ويخصم من البعض الآخر، ولكنه يضيف لنا جميعاً شرف تزامن الميلاد مع ميلاد الوطن.
وبرغم أنه لم تمر سنوات طوال على تاريخ الميلاد والاستقلال حتى وجدنا كثيرين من السابقين في العمر يقولون «حليل أيام الانجليز» لكننا لم نفقد الاعتزاز بالميلاد والاستقلال، وكان هؤلاء يتحسرون على أيام الانجليز عندما يقارنون الأسعار في عهدهم على أسعار السلع والخدمات والعملات في ستينيات القرن الماضى، ومن أمثال الأسعار التي كفرتهم بالاستقلال أن كيلو اللحم الضان قد وصل إلى عشرة قروش بالقديم جداً، وكان اللحم يباع في زمن الانجليز بـ «الأُقة» ولا أدري كيف يتم شرح «الأُقة» لشباب هذا الزمن، وكانت حبوبة غنية بت تاور تقول لها «الوقة»، وكان رطل السكر قد صار بسبعة قروش كاملات، وكان السكر يباع في عهد الانجليز بـ «الرأس»، وكان جنيهنا السوداني يساوي عشرة ريالات سعودية، وثلاثة دولارات امريكية، وهذا الجنيه الذي اتحدث عنه هو الجنيه القديم الذي يساوي بحساب اليوم ألف جنيه، وذات الدولار الامريكي الذي كان يساوي في ذاك الزمان ثلاثين قرشاً فقط هو اليوم يساوي أربعه آلاف من الجنيهات ويزيد قليلاً، أي أن سعره تضاعف اثني عشرة الف مرة عن سعره على الأيام التي كان يقول فيها السودانيون «حليل أيام الانجليز»، ولقد أدمن بعد ذلك السودانيون «حليل»، فقالوا «حليل أيام عبود»، و«حليل أيام نميري»، و«حليل» أيام صلاح كرار التي كان يخشى فيها أن يصير الدولار بعشرين جنيهاً، ولا نجد إلا أن نقول «حليل الكان بيهدي الناس، صبح محتار يكوس هداي» و«حليل أيام صفانا».
ونعود للتاريخ 1 / 1 / 1956م الذي اخترناه تاريخاً للميلاد، فلما جاءت فاتحة العام 2006م بلغنا وبلغ السودان الحر المستقل خمسين عاماً، وبلغت أحلامنا ذروتها، إذْ مضى عام كامل على توقيع إتفاق السلام الشامل بين الحكومة والحركة الشعبية، وهو الإتفاق الذي بنينا حوله قصوراً من الأحلام، بأن يؤسس لسلام مستدام لبلدنا، ثم يقودنا لتأكيد وحدتنا أرضاً وشعباً وتعزيزها من خلال الإستفتاء الذي أقره لتقرير مصير جنوب السودان، والذي دعانا الإتفاق ودعا الشريكين قبلنا للعمل لجعل خيار الوحدة جاذباً، فبدأت في ذاك العام تسجيل وتدوين وقراءة أحداث مرت خلال هذه الأعوام الخمسين، شهدتها أو كنت شاهداً عليها، أو فاعلاً فيها.
ولما جاء العام 2007م ضاق صبري على الأذى في بلدي، ولم أعد قادراً على احتمال ظلم ذوي القربى فشددت الرحال الى جارة الوادي مصر، وكان الظن عندي أن أطلب حقوقي المسلوبة بقوة وعنف، بعد أن أتحلل من قيود بعض الذين صادروا الحريات والحقوق، ولكن قبل أن أشرع في ذلك تذكرت الوطن الذي تجاوز الخمسين من العمر ولم يزل يحبو ويتعثر، فتركت قضيتي الشخصية وانصرفت لقضايا بلدي، وظللت على هذا الحال لثلاث سنوات كاملات الى أن عدت ثانية في العام 2010م، وحتى العودة كانت من أجل الوطن، عندما اشترط بعض أبنائنا من كردفان الذين انضموا لحركة العدل والمساواة أن أعود معهم داعماً لإتفاقهم مع الحكومة وحافظاً له كي يعودوا، ولم يكن أمامي خيار سوى الاستجابة، لأن وجودهم أكثر من ذلك في الخارج كان من الممكن أن يعرض كردفاننا لمخاطر جسيمة، ورغم أن عودتهم تم اختزالها من البعض، وتآمر عليها بعض آخر من ذوي القربى، لكنني لست بنادمٍ، ويكفيني أني كنت - بفضل الله تعالى - طرفاً في قطع حبل فتنة كان من الممكن أن يطوِّق رقاب كثيرة.
ولما قررت الإقامة في مصر عام 2007م بدأت أكيف معاشي وفق ما أمتهن، فاتفقت مع صحيفة (أخبار اليوم) السودانية على مراسلة وكتابة راتبة، ثم عقدت إتفاقاً آخر مع صحيفة (الأخبار المصرية) على كتابة راتبة أيضاً، هي مقال اسبوعي متخصص في الشأن السوداني، وكان المقال ينشر كل يوم ثلاثاء تحت عنوان «تأملات في الشأن السوداني»، وكنت أبعث بما ينشر في الصحيفتين السودانية والمصرية إلى المواقع الالكترونية السودانية «sudaneseonline» و «sudanile» وعبرهما فتحت نافذة للتواصل مع السودانيين في الخارج .
وعند وصولي مصر كان الأخ الصديق السفير إدريس سليمان يشغل منصب نائب رئيس البعثة الدبلوماسية في السفارة السودانية في القاهرة، وتجمعني معه صلات وثيقة، ولقد تعارفنا في سبعينيات القرن الماضي عندما كان هو طالباً في جامعة الخرطوم، وكنا نحن طلاباً في الجامعات المصرية، وكنا معاً ناشطين في العمل الطلابي الإسلامي، وكان لقاؤنا الأول في دار إتحاد طلاب جامعة الخرطوم التي نتخذ منها مقراً لانطلاق عملنا التنظيمي، بينما ندير عمل الاتحاد العام للطلاب السودانيين في مصر مقر إتحاد طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وكان الله تعالى قد وفقنا أن نؤسس لعمل طلابي نقابي وتنظيمي راقٍ في مصر في ذاك العهد، ومن رفقاء ذاك الزمان من الطلاب الإسلاميين ونجومه المتلألئة الذين درسوا في مصر، نذكر للمثال لا الحصر، المرحوم عبد السلام محمد علي، وأحمد البشير عبد الله، عثمان ميرغني، كمال حنفي، معتصم عبد الرحيم المنصوري، آدم السيد التقلاوي، المرحوم أحمد عبد اللطيف كدو، راشد عبد الرحيم، السموأل خلف الله القريش، نادر السيوفي، الشهيد كرار محمد أري، المرحوم كمال محمد آدم، أحمد عثمان رزق، محمد محمد أحمد كرار، أحمد آدم بخيت وعبد المنعم حمدتو وغيرهم، وكانت من أشهر إنجازاتنا الأسابيع الثقافية التي نقيمها كل عام، وندعو لها رموز الفكر والسياسة والثقافية في السودان، ومجلة الثقافي التي كان يصدرها الإتحاد شهرياً ويشرف عليها المستشار الثقافي المرحوم الأستاذ محمد سعيد معروف، وكذلك الرحلات الجماعية التي كنا ننظمها لسفر وعودة الطلاب عبر ميناء وادي حلفا.
فتحدث معي الأخ إدريس سليمان لإحياء تجاربنا الثقافية السابقة في مصر تحت مظلة السفارة، فصادف ذلك الإقتراح في نفسي هوى عظيماً، وأنا مهموم بالمناشط العامة عموماً والمناشط الثقافية منذ الصغر، ففي المرحلة الأولية في مدرسة أُم روابة الغربية كنت مهموماً بالتمثيل، وكنت ممثلاً بارعاً، وقمت بأداء دور البطولة في مسرحية «العفو عند المقدرة» التي أديناها باللغة العربية الفصحى، وكنا وقتها في الصف الرابع الإبتدائي وعرضناها في دار الرياضة بأُم روابة «دار الخيش» التي كانت بجوار المجلس، كان الدخول لها بالتذاكر، ووجدت رواجاً كبيراً، ثم انتقلت بها بعد ذلك إلى قرية «تفنتارة» ثم إلى مدينة العباسية تقلي، وفي كل كانت تجد إقبالاً كبيراً، وكان من زملاء التمثيل عبد الناصر أحمد مهران، أحمد سليمان عبد الله، محمد خير عبد الكريم، أبو القاسم علي حسين، ومحمد أحمد الركزة ومحمد شربشة، أما فيصل أحمد سعد الذي هو الآن الدكتور فيصل أحمد سعد المسرحي المعروف، فكان احتياطياً لي في دور «عدلان»، وظل احتياطياً لم يصعد على خشبة المسرح طوال موسم العرض، وهو الآن رقم مسرحي ملء السمع والبصر، وفي مدرسة عاصمة كردفان المتوسطة تواصلت اهتماماتي الثقافية وكنت رئيساً للجمعية الأدبية، أما في مدرسة الأبيض الثانوية فتركز نشاطنا في جمعية الجغرافيا التي احتكرت كأس بطولة الجمعيات الثقافية طوال سنين دراستنا الثانوية الثلاث.
وأثناء حوارنا مع الأخ إدريس حول الأنشطة الثقافية التي يمكن أن نقيمها في مصر عبر السفارة، نقل لي إدريس بشارة وصول مستشار ثقافي شاب إلى السفارة، وهو من خريجي جامعة جوبا، ويعمل بالتدريس فيها في كلية العلوم السياسية، هو الدكتور إبراهيم محمد آدم، فقفزت إلى ذهني تلقاء تجربتي مع اتحاد طلاب جامعة جوبا عام 3891م، عندما كنت مسؤولاً عن المناشط الصيفية والمناشط العامة في أمانة الطلاب بالحركة الإسلامية، وكنت أول من أُختير لتأسيس هذا المكتب، وأختاروني من خريجي الجامعات المصرية لنقل تجربتنا إلى السودان، وكان يقود أمانة الطلاب وقتها الدكتور إبراهيم أحمد عمر وينوب عنه الأخ إبراهيم عبد الحفيظ، ومن أعضاء الأمانة الشهيد موسى سيد أحمد والأخ محمد حامد البلة، والإخوة صلاح قوش، وعبد القادر محمد زين وعطا المنان بخيت وبابكر أحمد المصطفى. ففي العام 3891م فاز طلابنا الإسلاميون بإتحاد طلاب جامعة جوبا وكان رئيس الإتحاد الأخ عبد القادر من الشمالية والسكرتير الثقافي الأخ حسين أركو مناوي من دارفور، وهو الشقيق الأكبر لمني أركو مناوي، فنظمت عبر هذا الإتحاد اسبوعاً للوحدة الوطنية كان الحدث الأكبر في وقته، وإشترك فيه الدكتور حسن الترابي والفريق جوزيف لاقو والفريق جيمس طمبرة والدكتور علي الحاج محمد والسيد محمد داؤود الخليفة، والبروفيسور محمد عمر بشير، فلما ذكر لي إدريس اسم الأخ إبراهيم وجامعة جوبا تداعت كل هذه الذكريات، ونحن نفكر في رسم خارطة للعمل الثقافي في مصر، فأجتمعنا مع الأخوين إدريس وإبراهيم ورسمنا الطريق وبدأ المشوار.
ولما جئت مصر قبل أكثر من شهر، وبالتحديد في منتصف شهر رمضان الماضي لأنظم مهرجان الفنون السودانية الأول باسم «مستقبل وادينا للأنشطة المتعددة»، وهو المهرجان الذي رعاه سفير السودان في مصر كمال حسن علي والخطوط الجوية السودانية، أهداني الأخ الدكتور إبراهيم كتابه الذي اسماه «صدى الكلمات ـ من وحي الأنشطة الثقافية السودانية في القاهرة» وجاء في إهدائه «إلى أخي جمال .. وأنت أصلاً بداخله» وبالفعل وجدت اسمي قد ورد كثيراً في الكتاب، ولكنه ورود جاء حسبما أُصدر من أجله الكتاب وخصص له، وهي مقدمات الأنشطة والكلمات التي القاها الدكتور إبراهيم في تلك المناشط، ومعها ذكر تعريفي مختصر لضرورة ربط القارىء بالأحداث، ولأن الكتاب شكل محطة توثيقية مهمة لتلك الفترة، وهي فترة أيضاً تستحق التوثيق ضمن ما أكتب في «حصاد السنين» الذي بدأت تسجيله منذ العام 6002م وهو العام الذي بلغنا فيه مع سوداننا الحبيب خمسين عاماً، رأيت أن أذكر قصة بعض هذه الأنشطة وحواشيها ومتونها، لعل في ذلك ما يضيف لما سجله قلم الدكتور إبراهيم، ولعله يعينني على التوثيق الأكبر لمسيرة الأحداث والرجال في بلادي بإذن الله الكريم المعين.
Gamal Angara [gamalangara@hotmail.com]