أطولُ ذاكِرَةٍ: الروايةُ الفائزةُ بجائزة وتبريد وديفيد هايام للأعمال الروائيّة الأولى

 


 

 

أطولُ ذاكِرَةٍ:
الروايةُ الفائزةُ بجائزة وتبريد وديفيد هايام للأعمال الروائيّة الأولى
في الأصل الإنجليزيّ: The Longest Memory).
فِريد داقْوَيَار
Fred D`Aguir
ترجمة إبراهيم جعفر
صدرت الرواية عن دار نشر فينتيج في العام 1995م
"صورة الغلاف الأصليّ من أعمال الفنّانة هارييت ف. س. ثورن"
عن المُؤَلِّف
فريد داقْويار في غيانا. له ثلاثة كتب شعريّة هي ماما النّقطة، قاعةٌ ذاتُ هواء و رعايا بريطانيّين، ثم مسرحيّة واحدة هي رجل طيران جامايكي يتنبأ بموتِهِ. حازت أطولُ ذاكرةٍ على جائزتي وتبريد وديفيد هايام للأعمال الروائيّة الأولى. يعيش فريد داقويار، حاليّاً، في لندن.
أعمال أخرى للمؤلّف:-
• شعر:-
ماما النّقطة
صالةٌ ذاتُ هواء
رعايا بريطانيّون
• مسرحيّة:-
رجل طيران جامايكي يتنبّأ بموتِهِ.
• رواية:-
أطولُ ذاكرةٍ.
الإهداء:-
إلى:- ديبي.

"قد قطنتُ في مطبخِ الأسى ولعقْتُ كُلّ القِدُور".

زورا نيل هيرستون.
"إن لم تصيروا، منذُ الآن، على بصيرةٍ من كلّ لاجئٍ يُحاولُ يُزيّفَ أطلانطس، فكيفَ إذاً ستتعرّفُونَ على الحقيقيِّ منهم؟"
و.هـ. أودن.
المُحتَوَيَات
تذكّر.
1. وايتجابيل.
2. السيّد وايتجابيل.
3. ساندرز الأب.
4. الطّبّاخة.
5. جابيل.
6. مُلاكُ المُستعمرات الزّراعيّة.
7. ليديا.
8. الطّبّاخة.
9. ليديا.
10. ليديا.
11. الفيْرْجِيْنْيَنْ.
12. إبنة الحفيد.
13. ساندرز الإبن.
14. نَسَيَان.

هذه التّرجمةُ مُهداةٌ إلى أفريقيّتِي؛ إلى جَذْرِي، عسى المعاناةُ-العبوديَّةُ، العريقةُ والحاليّةُ، تُثْمِر عنها- بفعل التّجذُرِ الجّديدِ لوعيٍ وهمِّ أهلٍ وأصدقاءٍ أحرارَ الرّوحِ والوجدِ في تُربةِ بلديَ (السّودانَ) وقارّتِي تلكَ- فاكهةً عميمةْ.

إبراهيم جعفرْ [خريف 2004].

تذكّر

المستقبلُ ما هو إلا مزيدٌ من الماضي منتظراً أن يحدُث. أنتُم لا تريدُونَ أن تعرفُوا ماضيَّ، كما ولا تبغُونَ، كذلكَ، أن تعرفُوا اسمي، للسبب البسيط الذي هو أنّني لا أملُكُ اسماً وسيتعيّنُ عليّ أن أُنشِئَ- من لا شيء- واحداً حتّى أُرضِيكُم. ما تقولُهُ عيناي ما كان أبداً صحيحاً. كُلّ سنين حياتي هاتيكَ هُنَّ في يديَّ وليسَ في هاتين العينين أو حتّى هذا الرّأس. استيقظتُ ذاتَ صباحٍ، قبل أن تُجيشَ المؤسّسةُ بالحركةِ، انسرقْتُ على أطرافِ أصابعي فيما بين رفاقي في العمل اللذين كانوا سابقاً صِحابي في اللّعبِ وفي النّومِ وفي أيّ شيءٍ آخرٍ على علاقةٍ بالحميميّةِ المُنتَبِهَة، سحبتُ مِزلاجَ الباب، ثُمّ واجهتُ صباحاً رطباً مُضاءً بالنّجومِ فقرّرتُ أنّني، منذُ يومذاكَ، ما ملكتُ اسماً. كنتُ فقط صبيّاً، بغلاً زِنجيّاً، عبداً أو أيّ شيءٍ آخرٍ اختارَ أيُّ مخلوقٍ أن يدعوني به. لقد وُصِمْتُ، بجانبِ هاتيكَ، بأشياءٍ أخرى كثيرة. عيناي محتقنتان بالدّمِ ونيئتان. لم أكنْ باكياً- ما عُدتُ أفعلُ ذلك. آخرُ وقتٍ بكيتُ فيهِ كان بُكائي على الموتِ المَجّانيِّ ("السَّمْبَلَةِ") لصبيٍّ أحببتُهُ كابني. أقسمتُ بأنّ ذلك سيكونُ خَاتَمَ وقتٍ لبُكائي، فالأمرُ قد آذاني أكثرَ من أيّ ألمٍ شعرتُ به من قبله أو مُنذُ آنِهِ. ما عرفتُ أبداً أنّ البُكاءَ يستطيعُ أن يأخُذَ الجّسَدَ على صورةٍ كتلك، يخُضّهُ، يرُجُّهُ، يدُقُّهُ على نحوٍ يشعرُ معهُ الجّسدُ أنّهُ مُحطّمٌ ويصيحُ دونَ دِمُوعٍ أو حركةٍ من أيّ نوعٍ، مأخُوذَاً بالضّنَكِ الخَلُوصِ في كُلّيّتِهِ بحيثُ لا يبقى منهُ سوى ذاك النّواح "البيز" [كما في الصوتِ "البيز bass" في الموسيقى-المترجم] الشّاكي، الأنِيْنِيُّ والأجشُّ. كان ذلك الحاكِي هو أنا المُتأثّرُ بجلدِ صبيٍّ كان لهُ أن يعرفَ، بكيفيّةٍ ما، "الشّؤُونَ" على هيئةٍ أفضلَ ولربّما كفاهُ آنذاكَ، لكي يتعلّمَ حديثاً حَسَنَاً أو فلنَقُلْ ضرباً حتّى- لكن ليسَ ذاكَ، ليسَ ذاكْ. لا أُريدُ أن أتذكّرَ. الذّاكرةُ تُؤذي. مثل البكاء، لكن ساكناً وعميقاً. الذّاكرةُ تصعُدُ إلى الجّلدِ وآنذاكَ لا أستطيعُ أن أُمَسَّ. أنا أتأذّى في جِمَاعِ أنحائي، عظامي تتوجّعُ، تتراخى أسناني في لِثَاثِها (لِغَابِها)، ينزفُ أنفي. لا تجعلُونِي أتذكّر. أنا أُكافِحُ، بأعظمِ قُدرَتِي، لكي أنسى.

1

وايتْجَابِيلْ

في ذلك الصّباح واجهتُ العالم، لأوّلِ مرّة، كلا أَحد، لا مُسمّىً. ولأنّني ما ملكتُ اسماً كنتُ قادراً على أن أعودَ إلى فراغِي المُتهيئِ على شكلِ جسدٍ على حصيرةِ القَشِّ على البِلاط، أُزيحُ أعضاءَ قليلةً عن سبيلي وأنامُ نوماً عميقاً بحيثُ أكونُ آخرَ من ينهضُ عن رُقادِهِ فيما كنتُ، قبلاً، قد استلقي هناك وأُصْغِي إلى الآخرين يتنفّسون، يشخُرون، يتحدّثُونَ في نومهم، يصيحُونَ عالياً، يُنهنِهُون، يحجبُونَ رؤوسهم عن لكماتٍ ما، يُقَلّصُونَ أجسادهُم كي يتلقّونَ ضربةَ سوطٍ، يتراكلُونَ ويلكمُونَ الهواءَ كأنّما كانت هنالكَ كلابُ صيدٍ شرسةٍ مُنكبّةً عليه، يضرسُونَ أسنانهُم بأصواتٍ عاليةٍ كأنّها أجوازُ حجارةٍ ضخمةٍ صُكّتْ معاً، يصهلُونَ كخيُولٍ وينهقُونَ كبغالٍ، ينخُرُونَ كقنافذٍ، يعوون كذئابٍ أو فقط هم يموتُونَ بشهقةٍ.

مضيتُ على روتينَ ذاكَ الذّهابِ للنّومِ آخرَ شخصٍ والاستيقاظِ أوّلَ شخصٍ. الاحتقاناتُ تحتَ عينيّ كانت جوّالاتَ همومٍ، شواهدَ على أحلامٍ، كوابيسَ ونومَ لا ينبغي أن يُسمحَ للإنسانِ بالاستيقاظِ منهُ. النَّفَسُ الأخيرُ لا يزفرُ، آنذاكَ، فيما الجّسدُ يفُكُّ استمساكَهُ بالحياةِ وتسترخي العِظامُ على هيئةِ النّومِ. ذاك خطأ. فالنّفَسُ الأخيرُ يُقَاتَلُ في سبيلِهِ. الهواءُ يُمَصُّ داخلاً. يعلو الصّدرُ وينتفخُ مُتنفّساً ومُثْقَلاً بالجّهد. العيونُ تنفلقُ مُنفتِحَةً إذ يتحقّقُ الحالمُ من أنّ حُلُمَ الموتِ ذاكَ حقيقيٌّ وأخيرٌ. إنّهُ، حرفيّاً، يستيقظُ من النّومِ مُجفِلاً من أنَّ ذاكَ النّفَسَ نهائيٌّ، وبدلاً عن الارتِياحِ يُسَجَّلُ، في ذاتِهِ، خوفٌ هو أقربَ تَمَاثُلاً بالدّهشة. ولئن كان قد أُعِدَّ لذاكَ، بِواسطَةِ استشارةٍ ما، لكانَ قد رَحَّبَ بذلك النّفَسِ الأخيرِ كما ولو أنّهُ كان قد أُطْعِمَ عسلاً، ومن ثَمَّ ماتَ بعينين مُغمضتين وشفتين عليهما ابتسامة. لكن القتالَ في سبيلِ الهواءِ يُوغِرُ، في القلبِ، الهلعْ. إنّ الشّيءَ الذي لُكْنَا الحديثَ عنهُ، لمرّاتٍ لا تُحصى، على أنّه خلاصُنا الوحيدُ يزحفُ صاعداً علينا ويُمسكُ بنا فجأةً. وكلُّ الضّحك الذي أطلقناهُ بخُصُوصِهِ يصيرُ الضّحكَ الأخيرَ- الضَّحِكَ الأخيرَ للموتْ. مشاعري مختلطة. لا بُدَّ أنّ النّفَسَ قد كانَ لي. لماذا يجبُ عليَّ أن أكونَ الشّاهدَ على شيءٍ أستأهَلَهُ أكثرَ من أيِّ واحدٍ آخرٍ في هذه المستعمرةِ الزّراعيّة. قد رأيتُ ما يُكفي حياةً واحدةً، حيَواتٍ عديدةً. أنسى إن كُنتُ قد حلُمتُ تجربَةً أو تذكّرتُها حقّاً. أعزي معظم استرجاعاتي إلى فانتازيا خالصة. إبني ذاكَ ما كانَ قد جُلِدَ حتّى الموت لهروبه بعيداً، لبلُوغِهِ لا مكان، حتّى ولو كان ذلك المكان البلدة التّالية. إنّه قد قفزَ إلى رأسي في مشهدِ جلدٍ بالسّوطِ لأنني قد قبعتُ رائياً لكثيرٍ من أمثالِ هاتيكَ المشاهدِ ومن ثَمَّ التبسَ عليَّ استدعاؤُها بتسلسُلٍ نظاميٍّ دقيق. قد جلستُ، آنذاكَ، لأنَّ كلّ ضربةٍ من السّوطِ رجرجتْ ساقيَّ من تحتي ونشّفتْنِي من كلِّ أوقيةٍ من طاقتي لمجرّدِ مشاهدتي إيّاها دون صوتٍ وبيديَّ فوقَ عينيَّ. إن نظرتُ بعيداً أُخاطِرُ باستدعاءِ الضّربِ إليَّ. عليهِ قد نظرتُ إلى المشهد- بهاتين العينين المحتقنتين بالدّماءِ اللّتينَ تريانَ دونَ أن تَرَيان، تشهدان دون أن تُسجّلا ذاكرةً أو احساسا. لم تَسْتَغْرَقُ جلداتُ الصبيِّ المائتين أكثرَ من عشرينَ دقيقةٍ، بيدَ أنّهُ كان، آنذاكَ، قد ذهبَ نِصفَ سبيلِهِ إلى مُنتَهَى الأمرِ كُلِّهِ. رأيتُهُ آن ما كان ينسحبُ عن الصّراخِ عندَ كلّ ضربةٍ، يُوفّزُ جسدَهُ للتّالية، يصرخُ ثانيةً في آنِ التّرقّبِ، يُرخي جسدهُ للحظةٍ حتّى يلتقطُ نَفَسَهُ، ثُمَّ يئنُّ ويتوفّزُ مرّةً أخرى. أحياناً كان يتوفّزُ بعدَ فواتِ الأوان. بدا السّوطُ عِلّةً لانشدادِ الأعصابِ وكأنّهُ قد خَضَّ الجّسدَ بالحياةِ بدلاً عن أن يُجفّفَ منابِعَ تلكَ الحياةِ فيه. صرخاتُهُ آنذاكَ كانتْ أعلى، بيدَ أنّها، في ذاتِ الوقتِ، أضعفَ قليلاً عمّا كانتهُ قبلاً. ذاكَ كان الآن الذي تعلّمتُ فيهِ كيف أحيا دونَ أن أُؤْذَى بالحياةِ، بالإحساسِ، بهذا الشِّهُودِ لأشياءٍ فادحةْ. رأيتُ، عِيَاناً بيانَاً، الصبيَّ يستسلمُ لذاكَ الصّوتِ، لهاتيكَ الجّلداتِ، ثمّ كُلَّ إيقاعِ الصّفقَةِ، السّكونِ، الصّفقَةِ والتوتُّرِ، التّنفُّسِ، التّوتّرِ. رأيتُ ذلكَ في عينيه اللذين نظرتا إليّ، إلينا جميعاً، لمرّةٍ واحدةٍ أخيرةٍ، ثم غامتا، غِشاهُما ضبابٌ، ثم أَومَضَتَا نفسيهُما. آناءَ كلّ ما تبقّى من زمانِ الضّربِ توسّلنا، بشدّةٍ عظيمةٍ ومخاطرةٍ بأنفسنا في سبيله، أن يُعفى من العذابْ. فكلّنا قد رأيناهُ يعبرُ من عالمنا إلى العالمِ الأخير، لكنّه كان، حين يُنادى اسمُهُ، يجيبُ دوماً بوضوحٍ ويُومئُ، الشيءُ الذي اتُّخِذَ علَّةٌ حسنةٌ لاستئنافِ العقوبةْ. أكل الصّوتُ عميقاً فيه. لكن، ككلّ النّهمين اللذينَ حشُوا أنفُسهُم إلى حدّ التّخمةِ، عضَّ السّوطَ ومضغَ فيهِ دونَ يبلع، ثمّ عضَّ ومضغَ مزيداً من الصّبيّ حتّى غدا فمهُ ملآناً جداً بحيثُ أنّ الطّعامَ سال لُعاباً على أركانهِ كي يُخلي، في جوفه، محلاً للمزيد. طَعُمَ السّوطُ عليهِ حتى وصل العدُّ مائتين. أرقدناهُ على البسيطةِ ونادينا باسمهِ جليّاً وكاملاً فوجد شيئاً ما، في جهةٍ ما من نفسِهِ، يُومئُ به ويُجيبُنا، تماماً كما في السابق، بيدَ أنّ نظرته كانت بعيدةً، منتزعةً عن الأحداثِ الجاريةِ على جسدهِ وليست حافلةً، ولو نزراً يسيراً، بصخبنا وانزعاجنا وأسانا الصّريحِ عليهِ. كسونا ظهره بمرهمٍ (بريحانٍ) أخذ عنهُ بعيداً الإحساسَ وأوقفَ الدّمَ في مجاريه. تحدّثنا إليهِ فأومأَ، لكنّهُ كفّ عن الاستجابة لنداءِ إِسمِهِ. ثم تحرّك رأسُهُ بالكادِ، ثم كفّ مطلقاً عن الحركة وما حدّثَتنا عيناهُ، اللتان بقيتا كما هما، بأيّ شيءٍ. ذلكم كيف استطعتُ أن أُدرِكَ أنّهُ قد مضى، على سبيلِ الضّربِ، إلى منتصفهِ حين كفّ عن الصّراخِ بكلمةِ "أبي" لأنّهُ كان قادراً على أن يرى أنّني كنتُ مقهوراً إلى الأسفلِ ولا فائدةَ لهُ فيَّ. صارتْ العينان أقلَّ وُسعاً وساكنتين. أمّا الدموع، التي داومتْ على الهطُولِ منهما، فقد فعلت ذلكَ في فيضٍ راسخٍ فيما بدتْ، من قبل، وكأنّها على طوفاناتٍ بينما كان السّوطُ مُمَزِّقَاً كيانهُ بعمق. أغلقتُ تلكما العينين بعد نظرةٍ واحدةٍ أخيرةٍ إليهُما. قُلتُ "آسف" وأغلقتهما واستدرتُ بعيداً عنهما وفي عينِ نظرتهما الكائنة في ذاتِ عينيَّ. كُنتُ باكياً بجلاءٍ حتى حينذاك إذ ما كُنتُ قادراً على أن أُسيطرُ على نفسي آناءَ انهيالِ السّوطِ، ثمّ من بعدِ ذلكَ، حين كنتُ مُمسّداً ظهره، دون صوتٍ تقريباً، حتّى أُقِيْمُ يدي التي جعلت لمستُها جلدَهُ ينكمش. "يدي ليست هي السّوط، يا بُنيَّ"، قلتُ أو تخيّلتُ أنني قُلتُ له. أومأَ لكلّ شيء، ثم للا شيء بعد. كان عليَّ ألا أملُكَ اسماً كي أتواءمَ مع تلكَ النّظرةِ وبقيّةِ هذي الحياة.

ذو الوجه المتخثّر، هم يدعونني. ثمةُ خطوطٍ على وجهي. اثنان منهم على جانبيّ فمي. خطوطٌ أخَرٌ مقلوبةً أسفلا. حزّتان قصيرتان جاريتان من ركن شفتيَّ إلى أسافلِ ذقني، غائرتان كأيّ ندبةٍ، بيد أنّهما اكتُسِبَتَا من مبيتِ ليالٍ من الرّقادِ السّاهدِ المُحدّقِ في الظّلمةِ والظّلمةِ المُحدِّقَةِ فيه، دون طرفةِ عينٍ، ثم من ذاك الإصغاء إلى الكوخِ إذ يتقلّبُ في نومه وسماع تقلباته بلا خاطر- "تقلّباتٌ" تلك لأنّ النّظرَ والإصغاءَ قد صارا خَدِرَينَ واليافوخُ قد أخلى نفسه، مضى، كذلكَ، في الخَدَرِ كخاتمةٍ لكثيرٍ جداً من الانتباه القاسي للا شيء وأيّ شيء. أشعرُ بانزلاقِ لُعابِ يُرخي حمله على طول الخطّ الشّماليّ المتخثّر عند جانب فمي- ثمةُ انزلاقٍ صغيرٍ على عجلاتٍ يُعاودُ وصلَ نفسِهِ إلى مكانٍ أكثرَ بهجةٍ. ينبغي ليدي أن تأتي، صُعُداً، إلى وجهي وتمسحهُ عن الوجود. لكنّني أفكّرُ، بالفعلِ، أراهُ مَقضِيّاً ولا شيءَ يحدث. عليهِ تَواصلَ الانزلاقُ فوق ذقني وعلى طولِ جذع عنقي، متباطئاً ومتناقصاً في حجمهِ، فأيّ بوصةٍ من المجرى الذي يُخلّفُهُ وراءه تأخذُ شيئاً من جُرمه. قطعَ الهمّ تلك الممرات على وجهي. وأنا قد تركتُ ذلك يحدث لأنّني ما شعرتُ بهِ حادثاً وعرفتُ أنّه هناكَ فقط حين دعاني أحدُهم، ذات يوم، "ذا الوجه المتخثّر" ونظرتُ في المرآةِ باحثاً عن دليلٍ على ما قال فوجدتُ كثيراً من ذلكَ رادَّاً إليَّ تحديقتِي.

ماذا كنتُ قبل هذا؟... أنا أنسى... هل كنتُ أبتسمُ؟ أضحكُ جاهراً وعالياً؟ لا أستطيعُ استعادةَ ذاك. أن تضحكَ؟ ما معنى ذاك؟ أفكّرُ في نهيقِ حمارٍ. ذلكم مثل ضحكةٍ كبيرةٍ، لا إراديّةً ومشتملةً على كلّ الجّسد، صاخبة وكاشفةَ أسنانٍ. ما الذي يمكن ان يسوقَ إلى مثلِ ذاكَ السّلوك؟ ليس هنالك شيء في ماضيَّ يجعلُني أنهق. عارفاً بهذا، يمكنني القولُ إنّني سوف لا أضحكُ، أبداً، مرّةً أخرى. ذلك إن كنتَ قد فعلتَ ذلكَ أبدا. ليس "عينين ميّتتين". ليس "رأساً أسوداً". ليس "عتيقاً". رُغمَ أنّني استحققتُ العراقة. لكن "ذا الوجه المُتخثّر". الخطُوطُ قد حُفِرَتْ، هناكَ، بإزميلٍ، دون قبولي. ينبغي عليّ أن أكونَ قد انزعجتُ ودعوتُها باسمٍ آخرٍ- مثل التّفكير. وإلا فكيفَ قُيِّضَ لي أن أفعلَ ما أنشأها لزمانٍ طويلٍ كهذا دونَ أن أنزعج من أنّني كنتُ أفعلُ شيئاً سيفرضُ عليَّ، يوماً ما، ضريبةً فادحة؟ وإذ أُفكّرُ في الأشياءِ وأُقلّبُها أرى- الآن- كيف أنني قد جعلتُ حياتي أقسى مما احتاجت أن تكونَ وأطولَ ممّا هو ضروريٌّ.

وجهي يقولُ إنّ الحياةَ مُخَثَّرةٌ. إنها حياةٌ كانت طريّة البدءِ، بيدّ أنّها، لكونها قد انتُبِذَتْ عهداً طويلاً، تحوّلتْ إلى هذا:- إحصاء الساعات التي تتجرجرُ خلال الظّلمة، تعهّد الدقائق التي تتواثبُ، تتنقّلُ وتتقافزُ آناءَ الأيّام. حين أستلقي ساكناً في الليل أكونُ أنا تلك الساعات التي ترفضُ أن تمرَّ. وقد أحومُ في أنحاءِ المستعمرةِ، في بعضٍ من تلك الدقائق، بوجهٍ مُخَثّرٍ، ثم أعودُ وأدُسُّ فمي المتخثّر في حافّةِ كوبِ ماء.

قد دفنتُ زوجتين ومعظم أطفالي. أنا مُحاطٌ بأحفادٍ وأبناءِ أحفادٍ. إنّهم يظنّونَ أنّني يهوذا ورجلٌ عجوزٌ يستطيعُ أن يطبخَ حساء فلفلٍ عظيمٍ حين يُستدرَجُ إلى فعلِ ذلك. هم يتركونني وحدي في معظم الوقت، يثيرون جدلاً حولي، من على مبعدةٍ مُناسبةٍ، عند أوقاتِ الطّعام، يأتُونَ إليّ لكي يروا إن كنتُ لا أزالُ حيّاً عند أولِ الصّباحِ. ويُبادرُونني بوكزةٍ أو وخزةٍ، ثم يختفون، كلّ اليوم، في داخل الحقول.

اصطدم أحدهم بي، ذات مرّةٍ. كنّا قد استدرنا معاً حول ذاتِ الرّكنِ من المنزل، مُفكِّرَيْنَ بأنّهُ كان نهراً فائضاً على اتّجاهٍ واحدٍ. كنتُ ماشياً بخطوِيَ المتّئد فيما كان هو راكضاً، بأشدّ اندفاعه، من عصىً انهالَ بها عليهِِ شخصٌ ذو سلطة. عصفَ بي من قدَمَيَّ فتدحرجتُ ليارداتٍ عديدةٍ قبل أن أتوقّفَ ووجهي قُبالة النجومِ العُلى. واصلَ الصّبيُّ اندفاعه وأتى إليَّ حاملُ العصا، أعانني على القيامِ على قدَمَيَّ، قصفَنِي، بالعصا، على ساقيَّ لأنني أخّرتَهُ عمّا هو فيه، ثم استأنفَ طِرادَهُ. تُعاودُني تلك الضّربةُ التي أرتني نجومَ السّماءِ في عزّ النّهارْ. أنا أُحاولُ أن أُمضي بعيداً عن أركانٍ لا أستطيعُ أن أرى ما حولها، رُغمَ أنّني ما التقيتُ أحداً على ذاكَ النّحوِ منذُ ذلك اليوم. قد أُوقَفُ، فجأةً، على سُبُلِي بضربةٍ على رأسي والنجوم سوف تطلعُ، آنذاكَ، في السّماءِ، وإن كنتُ وقتُها لا أستطيعُ أن أتَشَابَى إلى شيءٍ ما كي أستمسِكُ به حتّى أُقِيمُ نفسي فإنني سأتهدّلُ أسفلاً على الأرضِ ويُقضَى في أمري أو أنْكَفِئُ. في البدءِ هم- أي أبناء أحفادي- كانوا يتكأكؤُونَ عليَّ ويتحاجّونَ في أنّني قد انتهى أمري، بيدَ أنّني كنتُ دوماً أتعافى بسرعةٍ شديدةٍ فينساقون عنّي بعيداً. بدأ أبناءُ أحفادي يُسمُّونني "اجلُسْ يا جدّي". أحببتُ ذلكَ أكثرَ من "ذي الوجهِ المتخثّر". أحياناً، حينما أرى أحدهم قادماً قد أنتظرُ حتّى أتأكّد من أنّه قد رآني، ثم أجلسُ، آنذاكَ، على عَمَدٍ، كأنّما النّجومُ قد غصبتني على أن أتهاوى بقدميَّ، وحين تجعلُهم نظرةُ الهمِّ والإنذارِ يلوونَ ناحيتي قد أصرفهُم عنّي بعيداً بنفاذِ صبرٍ. قد يضحكونَ وقتذاك. أعني مثلَ حمارٍ. أنا لا أستطيعُ أن أضحكَ، لذا فقد أهُزُّ، آنذاكَ، رأسي مُستعجبَاً من مُتعتِهم ومن كيفَ أنّ الضّحكةَ تأتيهُم- هكذا- بسهولةٍ.

ربّما ضحكتُ مع زوجتي الأُولى وبناتي، ومع زوجتي الثّانيةِ وابننا، إن لم أفعل ذلك مع أطفالهم وأطفال أطفالهم. إنّهم يضحكونَ عليَّ. ليس هنالك دليلٌ في عينيَّ ليُطلعُنِي على أنّني ضحكتُ عندَ أيِّ منعطفٍ من حياتي الماضية، كما وبالقطعِ يعوزُ الدّليلُ إيّاهُ فمي المُلتوي. أيُّ أنفٍ مُحَايِدٌ. إنّه لا يُفصحْ عن طبعِ حاملهِ إلا قليلاً، لا يشي بشيء. الحدّةُ في مِنخارٍ هائجٍ قد تكونُ إنذاراً بألا نُغيظَ صاحبَها أبداً، بيدَ أنّها لا تقولُ إنّ حاملَ المِنخارين الهائجينَ قد فعلَ، ذاتَ حينٍ، شيئاً قاسياً أو قاتلاً. ليس الشّأنُ كذلك مع عينيّ وفمي. إنّهم يشُونَ، تلغرافيّاً، بشيءٍ من ماضيَّ، حاضري ومستقبلي. الوجهُ المتخثّرُ؛ العينان الميّتتَان. لا تلتقيهِ عند ركنٍ أعمى. وإن تفعلَ ذلك، والي الرّكض، لا تتردّد أو تلتفتْ خلفاً إلى ذينك العينين، ذاك الفم. اجرِ وكأنّكَ فارٌّ من عصىً غليظة. إنّ "الوجهَ المُتخثّرَ" مُعدٍ. والعينان الميّتتان تُحوّلان المرءَ إلى حجرٍ. إجْرِ، حتّى وإن كنتَ تُشاركَ العينينَ إيّاهما الدّمَ، والفمَ إيّاهُ الكلماتْ. عينان رأتا كلّ شيءٍ. فمٌ لم يقُلْ شيئاً، بل ظلّ صامتاً. "اجلُسْ يا جدّي". مَضْحَكَةً. عقبَةً. عبئاً قريباً. حين تسوَدُّ العينان الحمراوان، حين تغدو النّجومُ التي أراها كائنةً هناكَ بفعلِ لطمةٍ تُعاودُ الوقُوعَ والسّماءُ تكونُ قريبةً وسوداء- دوماً سوداء، حين أجلُسُ سيكُونُ ذلك ليس لأحدٍ آخرٍ سوى نفسي. سوفَ لا أنهضُ وأنفُضُ الغُبارَ عن سراويلي وأهُزُّ رأسي مُستعجباً من المُتعةِ التي أُعطيت لشخصٍ آخرٍ على حسابي. ستدعوني زوجتي وسأُجيبُها بالطريقةِ الواحدةِ التي أعرفُها الآن:- في صمتٍ وبإيماءةٍ. الآنَ، إذ نحنُ نتحدّثُ عبر السنيِنِ، دونَ كلماتٍ، عبرَ ظُلمةِ هذي الحياةِ وموتِها، تسألُني أن أضُمّها. لكنّها كانت هي أيضاً قد أثقلَها الموتُ على احتمالِ ذراعيّ. المخدّاتُ القائمةُ وراءَ رأسِها وظهرِها كُنَّ قد ضُغِطْنَ بفعلِ احتضارها على مدى أسابيعٍ. كان ذلك موتاً بطيئاً أخذ وقتاً طويلاً طويلاً فأردتَهُ أن يُجيءَ، أن يتمَّ عملَهُ ويخرُجَ من حياتي. أدناها إبني منّي، ثم نظر بعيداً كي يُخفي عينيهِ الرّطبتين. انحنيتُ عليها وأُذُناي ماسحتان أنفَها وفمها عساهما تسمعان رغبتها الاخيرة. قالت:- "لا تدعاني أنتظِرُ طويلاً جدّاً". أكملتُ جُملتَها لها. فهي قد ذهبتْ إلى حدِّ "جِدّاً"* [* في الأصلِ too، وهي، كما يعلم القارئ، تأتي، في اللّغةِ الإنجليزيّة، قبلَ "طويلاً long " حيثُ التّعبيرُ كلُّهُ كالآتي:- Don`t keep me waiting too long – المترجم] في جملتها اللاهثة. قُلتُ "طويلاً". لكنّها ما قالتْ شيئاً مجيباً ونظر ابني إلينا بانحناءةٍ في رأسِهِ فعرفتُ أنّها كانتْ ميّتة.

في الفجرِ التّالي كان قد ذهبَ. وفي غسقِ ذاتِ اليومِ كان قد قُبِضَ عليهِ. ثم قبلَ أن يحلَّ اللّيلُ كان قد انضمَّ إلى أُمّهِ فيما أنا مُنحنٍ فوقَهُ لأنّهُ كان أكثرَ ثِقلاً من أن يُقَامَ أو أن يُحمَلَ، كطفلٍ على مخدعٍ، على النحو الذي تخيّلتُ أنّني قد حملتَهُ بهِ آن ما كان صغيراً. وعدتُها بأنني لن أُطيلَ كثيراً مكوثي وراءها، لكنّني أرسلتُ، من بعدِ ذلكَ، ابني في محلّي، قبلَ أقلَّ من يومٍ كاملٍ. الآنَ لا أستطيعُ أن أموتَ لأنني لا أقوى على مجابهةِ لومها لي على إرسالهِ إليها قبلي، أو في مكاني، أو على الإطلاق. سنيني، منذُ موتها وموته، غدتْ مسرُوقَةً، بجُبنٍ، مرئيّةً خللَ عينين مُدماتَينْ، مشعُورةً بجلدٍ متنَمّلٍ وعظامٍ موجُوعةٍ، عَطِنَةَ الهواءْ، ظَلِيْمَةَ السّماءْ، صَعِيْبَةً على القلبِ ومُتخثِّرَةً في الفمْ. حين أتى ابنُ حفيدي حول ذاك المُنحنى، عندَ ظهرِ البيت، وأرسلني مرميّاً من على قدميَّ، ثم واصل ركضه كان ذلكَ حادثٌ بسبب السوطِ بذاتِ القدرِ الذي كان بهِ واقعٌ على سبيلِ الانتقامِ لإبني منّي. ذلكم لماذا لم أقُلْ لهُ شيئاً. كما ولم يقُلْ هو، أيضاً، لي شيئاً. أنا أرى، في كلّ وقتٍ، نجومَ ذلك اليوم لزمانٍ أطولَ من ذي قَبْلٍ. أعرفُ أنّني، ذاتَ يومٍ، سأراهُنَّ وسوفَ يكُنَّ آخرَ شيءٍ أراهُ وسيكونُ ليس هنالك بعدٌ، لسروري، "اجلُسْ يا جدّي" ولربما تُوافِيْنِي، آنذاكَ، ابتسامةٌ ما وتُعَلِّيَ فمي المقلوبَ أسفلاً- شيءٌ مقاربٌ لبدءِ نهيقِ حمارٍ قد ينفذُ خارجاً من شفتيَّ، إن تيسّرَ ذلكَ أصلاً.

بالنسبةِ لعقلي، كان درسٌ بسيطٌ في الطاعةِ هو ما يلزمُ الصّبِيَّ. كان محتاجاً لمعرفةِ مقامهِ في زمانٍ قريبٍ هو أنفعَ لهُ من زمانٍ متأخّرٍ عن الأوانْ. آمنتُ أنا بأنّ عقوبةً ما سوف تُصلحُهُ لأنّها ستُبقِيْهِ منتبهاً خلال سوقِها بعيداً عن رأسهِ الوحشيّ، مرّةً واحدةً وإلى الأبد، أيَّ فكرةٍ عن التّحرّرِ من المسؤوليّةْ. إنّهُ قد ولدَ مملوكاً من قِبلِ رجلٍ آخرٍ، مثل أبيهِ من قبلِهِ ومثلما كان قد يُولدُ ابنُهُ. ذلكم يبدو واضحاً ومستقيماً بما يُكفي، لكن إن تتدبّرَ أمرَ تزايُدِ الفارّينَ فإنّكَ سوفَ لا تظُنُّ ذلك. أين يذهبُ الفارّونَ حين لا يُقبَضْ عليهُم؟ أنا دوماً أضع هذا السؤال لليافعينَ لأنّي أستطيعُ أن أرى أحلامهم بذاتِ الوضوحِ الذي أرى به ألوانهم وشبابهم على وجوههم. الفردوس هو الإجابة التي أحصلُ عليها منهم. الفردوس. حقٌّ، وأيْمُ اللّعنة! أصيحُ.‍‍ فإنّهم حينَ يُمْسِكُ المُهرِّبُونَ بهُم فسيُخصَّصُونَ للفردوس، يُرسلُونَ إلى هناكَ فوراً، ومن ثم يغدونَ، أخيراً، أحراراً، لكن ليس أحراراً في أن يُخبرُونا أيَّ شيءٍ عمّا يُجري لهم. فِرْ من هُنا وستموتْ. أصغى إبني إلى حُجّتي الحذرة، هزّ رأسهُ بنفيٍ، لكنّه حازَ على فضلِ أن يظلَّ هادئاً ويُمضي بعيداً. عرفتُ أنّه قد عزا حُجّتي إلى العمرِ العجوزِ أو الجّبنِ أو ذينكُما معاً.

ينبغي أن أكونَ قد رقبتَهُ وهو يُمضي فيما لا يزالُ هازّاً رأسهُ وكأنّما ليُفرِغَهُ من كلماتي فقرّرتُ، حينذاكَ، أنّه كان في حاجةٍ لأن يتعلّم الأشياءَ بنفسهِ. عرفتُ ثمنَ درسٍ كذاك. المخاطرة كانت واضحة لعيني، بيد أنّ التَّمَدْرُسَ في فكرةِ الخِنُوعِ، الطّاعةِ والتّواطُؤ كان مُختلِفَاً بالنِّسبةِ لكلّ واحدٍ منّا. كان رأيي أنّ عبداً يستطيعُ أن يعيشَ حياةً حسنةً طويلةً إن هو عملَ بجدٍّ وأبرزَ لسيّده أكثرَ الأوجه من نفسه كرامةً حتّى يُبادَلَ بمعاملةٍ على ذاتِ النّحوِ من ذاكَ السيّدِ تشتملُ على ذاتِ التّمَدّنِ، ذاتِ الإنصافِ، بل وحتّى العطفِ آن ما تغدو العلاقةُ دافئةً وأليفةً. رأيتُ ذلك بعينيّ الميّتتين هاتين حينما كانتا عائشتين وجائشتينَ بالطَّاقةِ وعطشانتينَ للتّغييرِ، للحقِّ في أن تنطلقا- بصاحبهما- كما تُريدا. رأيتُ كثيراً جداً من الرجالِ اليافعين والنساء اليافعات المعافين، العطوفين، المَرحين يختفونَ من حياتي وظننتُ أنّ إبني لن يكونَ من أولئك. لكنّني تحقّقتُ، في ذاكَ اليومِ الذي نفضَ عنهُ فيهِ حُجاجِي واحتفظ لنفسهِ بأحلامهِ الخاصّة الجّانحةِ، من أنّني سأضطرُّ إلى أن أُنقِذَهُ من نفسِهِ بدرسٍ.

كنتُ قد انشغلتُ عن أمرهِ بأمّهِ الشّابّة طريحةَ الفِراشِ المتلاشيةْ. كانت الحُمّى قد نشّفتها إلى حدٍّ ماثلتني عندهُ في السّنينْ. كانتْ على شفا هذا العالم والعالم الآخر فلزمني أن أُوفِيها انتباهاً دائماً. آنذاكَ أحلّني سيّدي من معظم واجباتي آن ما أُخبِرَ المُلاحظُ بأن يسمحَ لي بزمانٍ أهتمُّ فيهِ بحاجاتِها. مَنْ يستطيعُ أن يحُوزَ على تلك الدّرجة من الاعتبار الذي أُبدِىَ لهُ سوى أحدٍ قد تدبّرَ أن يستخلِصَ العطفَ والإنصافَ من واحدٍ آخرٍ؟... إنّ الحديثَ مع إبني وقراري ذاكَ قد انحسرا عن عقلي. فزوجتي كانت قد فقدتْ كلَّ إحساسٍ بالزّمنِ وظلّتْ على قِنُوطٍ لا يُريمْ. كان الأمُ، ناحية ظهرها الأسفل، فظيعاً. ما استطعتُ أن أُقنع السيّد بأن يدفع أجرةً لطبيبٍ كي يفحصها فهو قد حاجّني وأقنعني بأن زمانها قد أتى وأنّ ليس بمستطاعِ كلّ شخصٍ أن يصيرَ ثوراً عجوزاً مثلي. ذلكم بدا مقبولاً، لذا سعيتُ على سبيلِ جعلِ أيّامها الأخيرة مريحة. السّاعاتُ ألقتْ بعبئها عليَّ. وحين تُوفِّيَتْ كنتُ منهكاً. إبني قد ذهب قبل أن أفتقده. كان الأمر، أو بدا، خارجاً عن طوعي حتى تحقّقتُ من أنّي إن ما فعلتُ شيئاً لآلَ إلى الفردوسِ مع أمّهِ وتركَ جسدهُ المُحطّمَ كي يتعفّنَ في زقاقٍ ما. ذاك كان سيكونُ قدرَهُ إن كنتُ قد غسلتُ يدي من مسؤوليّتي عنهُ. لكنّني ما استطعتُ ذلك. كان الملاحظُ قد غادر المكانَ، بصحبةِ فريقِ رجالٍ جائعين، قبل ساعاتٍ من آنذاك. ذلكم على سبيلِ سعيٍ وراء إبني. هو ما عنَّ له حتّى أن يسألني. وما أن سمعتُ أنّ ابني قد ذهبَ- ذلك الإبنُ الوحيد، الإبنُ الذي تحاورتُ معهُ عقلانيّاً والذي رفض حجّتي- عرفتُ ما الذي ينبغي عليَّ أن أفعلَهُ.

ثمةُ طائفتين من العبيد:- العبدُ الذي يتعيّنُ عليهِ أن يُجرّب كلّ شيء بنفسه قبل أن يأتي إلى فهمٍ ما لأيِّ شيءٍ والعبدُ الذي يتعلّم خلال الملاحظة. العبدُ، في الطّائفةِ الأولى، يسلُكُ وكأنما هو العبدُ الوحيدُ في العالمِ الذي يُزارُ من قِبَلِ أسوءِ حظٍّ على الأرضْ. ذلك النّوعِ من العبيد متهيّجٌ، جالبٌ لكثيرٍ من المتاعبِ إلى رأسهِ وجاعلٌ قسمةَ كلِّ عبدٍ سواه أسوأَ بعشرةِ مرّات. أما العبدُ من الطائفةِ الثانيةِ فهو مُتعارفٌ عليهِ، عموماً، بأنّه أكثرَ إشراقاً، يعيشُ عمراً أطولَ، يُسبّبُ لكلِّ شخصٍ حولِهِ حدّاً أدنى من الغمومِ ويكسبُ المودّةَ "الصغيرةَ" للملاحظِ والسيّد. تبيّنتُ أنّ إبني من الطائفة الأولى، الطائفة غاوية المشاكل، في ذلك اليوم الذي مضى فيهِ بعيداً عن نصيحتي. انقذفَتْ شُحنةُ برقٍ خلال قلبي. أزَّ خفقُ قلبي مثلُ ابتداءِ مطرٍ على سقفٍِ قبلَ استقامتِهِ، ثانيةً، على إيقاعِ صبيبٍ مُنهالْ.

عزمتُ على أن أُنقِذَ إبني، لا أن أهجُرَهُ إلى القدرِ المفزِعِ الذي قد يجلُبُهُ إلى نفسهِ. أتت بي الأخبارُ، القائلةُ إنّهُ قد هربَ منذُ بِضعِ ساعاتٍ، إلى بابِ السيّدِ الأماميِّ، ذلك الباب المؤدّي إلى حجرتيهِ الخاصّتين الكائنتين في الطّابقِ العلويِّ لمنزله، للمرّةِ الأولى في حياتي. خرجَ عليَّ السيّد وايتجابيل وهو نصفُ مُكتَس ومندهشٍ من جُرأتِي، كما وضائقٌ بها ومستطلعٌ في ذاتِ الوقتْ. اتّخذَ هيئتُهُ المعتادة:- اليد اليُسرى على ردفه، اليُمنى تُداعبُ غُليُوناً مُتدلّياً من فمهِ مثلُ عضوٍ زائدٍ. إسْتَمِحْتُهُ عُذراً، دعوتُ الله أن يُبارِكَهُ ويُباركُ ابنيهِ وابنتَهُ الواحدةَ وزوجتَهُ الطيّبةَ، ثم شرعتُ في إيضاحٍ جليٍّ لبلاهةِ إبني النّزِقَة. أسكتَنِي على الفورِ وسألني ما الذي أريدُ منهُ أن يفعلَهُ مع هاربٍ من بينَ زِنُوجِهِ الطّيّبينَ يُسمّمُ عقولهُم على أساسٍ يوميْ. قلتُ لهُ إنّه لا حاجةَ به إلى الانزعاجِ بشأنِ إِبني لأنّ ما أقترحُهُ سيضمنُ لهُ عبداً ذلولاً مُطيعاً ليس لهُ عليهِ من شائبةٍ سوى فعلٍ واحدٍ نزقٍ وغيرِ حصيفْ. سأل، مرّةً أخرى، عمّا أريدُهُ أن يفعلَهُ. نظرتُ إليهِ للمرّةِ الاولى خلال تبادلنا الحديث. كان مشتّت البالِ ومغتاظاً. ما كان أبداً، في كلّ السنين الخوالي التي خدمتُهُ فيها، على مثل ذاكَ النّحوِ معي. قلتُ إنّني سأصلّي من أجلهِ ومن أجلِ عائلتِهِ كما صلّيتُ دائماً. توسّلتُ إليهِ أن يُرسلَ رجلاً على آثارِ فريقِ البحثِ حتّى تُضمنُ العودةُ الآمنةُ لإبني والعقوبةُ العادلةْ. قال إنّ الأحداثَ- آنذاكَ- قد خرجتْ عن سيطرتِهِ وغدَتْ في يدِ اللهِ وإنَّ اللهَ كان عادلاً ومُنصِفَاً، لذا علينا- أنا وهو- أن نقبلَ بحكمِهِ علينا جميعاً. وافقتُهُ على ذلك والتقطتُ نَفَسَاً كي أستأنِفَ عرضَ حالي، لكنّهُ دَاخَلَنِي بالسُّؤال:- هل "أنا" أبغي معارضة تقييمه للواقعة؟ قلتُ لا والتقطتُ، ثانيةً، نَفَسَاً حتّى أُعقْلِنُ ذاكَ الإشكال وأسُوقُهُ نحو خاتمةٍ منصفة. قاطعني، مرّةً أخرى، بترديدِ سؤالِهِ وكان، في تلك المرّة، متحدّثاً بنبرةِ صوتٍ أعلى وبدرجةٍ من الغضبِ قُصِدَ بها، بوضوحٍ، إسكاتي. انحنيتُ. استدارَ هو على أعقابِهِ فتحدّثْتُ:- "يا سيّدي أنا أعرفُ أينَ إبني".

أوقفَهُ ذلك وجعلَهُ يدورُ حول نفسهِ ويُجابِهُنِي وجهاً لوجهٍ كما كانَ من قبلْ:- "أينَ؟ أينَ؟ أينَ، يا رجُل؟ انْطِقْ!" كان مهتاجاً وبادياً عليهِ أنّهُ مُتّخذٌ معرفتي بمكانِ اختباءِ إبني على أنّها صورةٌ من صُورِ الاقتِدارِ عليهِ، هو سيّدي. كان ذلكَ سبباً كافياً لي كي أتنفّسَ بعمقٍ وأستطيبُ الهواءَ في مرابِعِهِ:- ذلك الهواءُ الذي كان مُعطّرَاً وعَطِنَاً بتَسَاوٍ. تنقّلتُ بعينيَّ في أرجاءِ الحجرةِ كأنّما الكلماتُ التي أرِدْتُ أن أجمعَهَا كانتْ هي شتّى أشكالِ الملابسِ التي رأيتُها متناثرةً على الأثاثِ والتي كانت جديرةً بأن تقفزَ، بإعجازٍ، إلى داخلِ رأسي، ومن ثَمَّ من على لساني، بِمعرِفَةٍ.

- "اسْرِعْ، أيّها الرّجُل، ليسَ لديَّ كلُّ اليومْ!"
- "إبني، يا سيّدي، يؤمنُ بأنّ هنالكَ مكانٌ، على الأرضِ، يُدعى "الفردوس". هو قد ذهبَ ليجدَ ذاكَ المكان. هو قد فعلَ ما يَحَاجُّ الشّبابُ بأنّهُ "مُطهِّرُهُم" لكونهم مباركينَ بالشّبابْ. ذلكم هو أن يكونُوا نزِقينَ وأن يُلعَنُوا. إنّه إبني الوحيد".
- "أينَ هوَ، بحقِّ الجّحيم، يا وايتجابيل؟" جُئِرَ باسمي عالياً. اندفعتْ الخُطواتُ، من كلّ فجّ دخُولٍ، إلى باطنِ حجرتِهِ:- عبيدٌ منزليّين، زوجتُهُ وأطفالُهُ وضيفان للعائلةِ كانا على وشكِ أن يُغادِرَا حينما صارتْ لاختفاءِ إبني أسبقيّةٌ على ما سواه. كانت تلك هي المرة الأولى، منذ زمانٍ طويلٍ، التي دعاني فيها باسمي. إستخدامُ إسمي في صيغةِ غضبٍ كان أشرسَ شكلٍ من أشكالِ اللا رِضا المنطوقِ الذي بِمُكْنَةِ سيّدي إبداءَهُ لي. بالنّسبةِ لي، كان ذلكَ هو المعادل اللّفظيَّ لجلدةِ سوطٍ- ما ندعوهُ "سوطاً باللّسانْ". عَمَشْتُ عينيَّ وانحنيتُ كأنما كان هنالكَ سوطٌ على الهواءَ حولَ ظهري.
-
- "إنّهُ قد اتّخذَ دربَ النّهرْ. أستَحْلِفُكَ الرّفقْ. إنّهُ مفجُوعٌ بفقدِ أمّهِ".
- "النّهر؟ لكن مُتعقّبي أَثَرِهِ قد ذهبُوا شمالاً؟"

أعطى سيّدي أوامراً لرجلٍ بأن يلحقَ بالمُتعقّبينَ ويُعيدَ توجيهَهُم إلى ناحيةِ النّهرْ. أضاف السيّد وايتجابيل لذلكَ أنَّ إبني لا ينبغي لهُ أن يُؤذى على أيِّ نحوٍ ما دام سيصيرُ مثالاً للجّميعِ كي يروهُ ويتّعظُوا. استدارَ، مرةً أخرى، على عقبيهِ فاتّخذتُ أنا ذلكَ علامةً على صرفِهِ لي عن مرآه. كان ذلك أفضلَ ما أستطيعُ أن آملَهُ:- العودةَ الآمنةَ لإبني. لكنَّ العبيدَ المنزليّينَ حدّجُوني بنظرةِ ازدراءٍ قد تجعلُ شدّتُها المرءَ يُصدّقُ بأنّي قد رميتُ إبني للأُسودْ. هم قد عرفوهُ وأحبّوهُ منذُ سنواتِهِ الباكرةِ التي قضاها حولَ منزلِ سيّدهِ آن ما كانتْ أمُّهُ طبّاختَهُ. هم ما فهمُوا معنى فعلي، فليسَ هنالكَ من أحدٍ كان عليهُم أن ينقذُوهُ. ربّما قد صارَ ذاكَ المنزلُ منزِلَهُم بقدرِ ما هو منزل السيّدْ. رميتُ أكثرَ ما أمكَنَنِي منهُم بنظرةٍ من ذاتِ النّوعِ إلى أن فتحتُ البابَ المؤدّي إلى داخلِ الفناءِ ووجدتُ أنّني أستطيعُ، مرّةً أخرى، أن أتنفّسْ. كانوا مُتنفِّسِيْنَ هواءَ وعِطرَ سيِّدِهِم المنبُوذَيْنَ فصاروا معتادينَ عليهُما بحيثُ أنّ أيَّ مصدرٍ جالبٍ لانزعاجِ سيّدهم كان جالباً لانزعاجهم أيضاً. بدوا غاضبينَ منّي لكوني قد أزعجتُهُ بذاتِ القدرِ الذي كانوا به غاضبينَ منّي لحقيقةِ أنّني قد أفشيتُ مكانَ إبني.

كلُّ ما استطعتُ أن أفعلَهُ هو الانتظار. أجّل سيّدي مغادرتَهُ، وعائلتُهُ وضيفاهُ، إلى الشّمالِ إلى حينِ عودةِ المتعقّبِيْنَ بإبني. كان مُزمعاً أن يصطحبهُم السيّد وايتجابيل إلى البلدةِ التّاليةِ، ثم يعودُ مع ابنِهِ الثّاني، ويليام، تاركاً زوجته وابنته اليافعة وديعتينَ عند اليدِ القديرةِ لابنِهِ الأكبرِ توماس. ما استطعتُ أن أفعلَ شيئاً، آنذاكَ، سوى التّمشّي في أرجاءِ المستعمرةِ الزّراعيّةِ والبقاءِ قريباً من الطريق الرئيسة المؤدّيةِ إلى المنزلِ، تلك الطريق التي كان الفريقُ المعنيُّ مؤكّداً مجيئهُ عبرها حاملاً إبني. مرّت السّنونُ مثل فأسٍ مُساقَةٍ خلل الوحل. هدأتْ أصواتُ الصّناعةِ المألُوفَةِ حول المزرعةِ فيما أرخى كلّ فردٍ سمعَهُ ترقّباً لقدومِ الملاحظ. حتّى الطيورُ، التي كانت أحياناً تُصيّرُ المكانَ "عَدَنَاً" حقيقيّةً من النّشيدِ بتمازُجِ أصواتِها، كانت، في ذلكَ اليوم، طائرةً في أنحاءِ المكانِ، بلا صوتٍ وتخطُرُ، خلال الغابِ، على أطرافِ أصابِعِها. هكذا بدا لي الأمرُ إذ كنتُ مشحُوذَ الأذنينِ والعينينِ على سبيلِ إشارةٍ، أيِّ إشارةٍ مُنبئةٍ بأنَّ إبني قد عادَ ولم يُلْحَقْ بـ"فردوسٍ" لم تتهيَّأْ لهُ نفسُهُ بعدْ.

طوّح السيّد ذراعيهِ إلى الأعلى آن ما هو خارجٌ من منزله، برفقةِ زوجته والضّيفين. كان الوقتُ ظهيرةً باكرةً. قال إنّهُ لا يستطيع أن يؤجّلَ ذهابَهُ، وضيفيه، إلى فِرَيْدْرِيْكْسْبَيْرْقْ ولو لدقيقةٍ واحدةٍ وإلا فإنّهم سيكونون ساعينَ، على سبيلهم إلى هناكَ، في الظّلمةِ. ثم أصدر أمراً بأن يُحبسَ إبني وحدهُ وينتظرُ العقوبَةَ في آنِ عودتِهِ. كانت تلك هي كلماتُهُ لنائبِهِ قبلَ مغادرتِهِ. ذاك النائبُ قد سمعَ الأوامرَ إيّاها برفقةِ أربعةِ عبيدٍ باستثنائي، فقد كنتُ أنا خامسَهُم. أعرفُ الآنَ لماذا هبطَ قلبي آنذاكَ، لكنّني ظننتُ وقتَها أنَّ نذيري كان غبيّاً وفي غيرِ محلّهِ. كم من مرّةٍ تركَ فيها السيّدُ المستعمرةَ الزّراعيّةَ وخلّفَ وراءهُ أوامراً نُفّذَتْ حرفيّاً؟ مرّاتٌ لا تُحصى. ذلكم ألّبَ مخاوفي قليلاً. كما وقدّرتُ، كذلك، أنّ المُتعقّبينَ قد يمرّونَ بهِ وهم على طريقِ عودتِهِم فيُخبرُهُم، شخصيّاً، بما اعتزمْ. ثم تذكّرتُ أنّ رسالةً قد بُعثَ بها إليهم لكي يغيّرُوا مسارَ تعقّبهم لإِبني إلى الدربِ المُحاذي للنّهر، مما يجعلُ أيَّ لقاءٍ كذاكَ غيرَ واردٍ. ارتجّ قلبي ثانيةً فبدأتُ أذرعُ، جيئةً وذهابا، المدخلَ الرئيسيَّ إلى المستعمرةِ الزّراعيّةْ. نشدتُ نائبَ المُلاحظِ وكرّرتُ، على مسمعيهِ، تعليمات السيّد لهُ فقال لي إنّهُ ليسَ أطْرَشَاً وإنّ من الأوفقِ لي أن أتذكّرَ مكاني في شؤونِ المؤسّسةِ. انحنيتُ وتراجعتُ، إذ لم تكنْ لديَّ رغبةٌ في تأليبِهِ ضدّي ما دام سوف يكونُ من هو على حُرِيَّةٍ تُخوّلُهُ التّأكُّدَ من أنّ أوامرَ سيّدي قد نُفّذَتْ.

زحف الغسقُ على المستعمرةِ الزّراعيّةِ وانسرقَ إلى صالاتِ وحُجراتِ المباني وتحتَ مُشتبَكِ الأشجارْ. وقبلَ أن أعي ذلكَ كنتُ مُضيّقاً عينيَّ كي أرى ما وراء البوّابةِ الرئيسةِ التي كانت مُلفّعَةً بالظّلِّ. كسرتْ حشراتُ الليلِ مؤامرةَ الصّمتِ فيما بين الحياةِ الطّبيعيّةِ التي تنتفعُ بضُوءِ النّهارْ. كنتُ شكُوراً، فتلك الحشراتُ قد أعادتْ الرَّوتِيْنَ لليومِ النّشازْ. الأفضلَ من كلّ ذلك كان صوتُ الكلابِ النّابحةْ. الأسوأ في الأمرِ، كذلكَ، هو أنّني أردتُ أن أرَى إبني. عرفتُ أنّهم كانُوا سوف يرجعونَ لواحدٍ من سببين:- إمّا أنّهم قد نجحوا في الإمساكِ بإبني أو أنّهم أُرغِمُوا على أن يُوقِفُوا الطّرادَ بسببِ شُحِّ الضُّوءْ. أيا اللّه، أجعِلْهَا الأولى! تنامى صوتُ نُباحِ الكلابْ. بدوا متأرجحينَ في أرجاءِ رأسي آن ما هم نابحون. ذلكم على ذاتِ النّحوِ الذي تنحرفُ به الوطاويطُ عن شيءٍ ما لحظاتَ قُبَيْلَ اصطدامِها بهِ. في المسافةِ كنتُ أستطيعُ أن أُميّزَ دُهْمَةً. جرى العديدُ من العبيدِ كي يلاقوها، مضيفين بذلكَ أجزاءَ متحرّكةَ إليها. انتشرتْ الدّهمةُ وسرعانَ ما استطعتُ أن أرى أنّها قد أُنشِأَتْ من قطعٍ عديدةٍ تتنقّلُ وتُمسي أكثرَ انميازاً. ثم تعرّفتُ على قطعةٍ من تلكَ الدُّهمةِ لأنّها تحرّكتْ على هيئةٍ رأيتُها، من قبلٍ، مرّاتٍ عديدةً وكففتُ عن ملاحظتِها لأنّها كانتْ مألوفةً جدّاً. كالنت هنالكَ لحظةٌ أفرختْ فيها القطعةُ ذراعينَ، ساقينَ، رأساً وجسداً ثمّ، في خفقةٍ أو لمحةٍ، وجهَ إبني:- مفتوحَ الفمِ، ملطّخاً بالدّمعِ، مُرضْرَضَاً، لكن حيّاً. إندفعتُ إليهِ. حوّلَ جسدهُ ووجههُ بعيداً عنّي فعرفتُ أنّهُ لابدَّ قد سمعَ بأنّني من دلَّ عليهِ.

دُفعْتُ بعيداً عن السبيلِ وكنتُ قد أظلُّ واقفاً ومُتفكّراً في صدّهِ لي إن ما راعيتُ مهمّةَ التّوكيدِ على طاعةِ أوامرِ سيّدي. ذلكم لأنّني أُعايِنُ أماميَ إبني مقيّداً بالسلاسلِ، مُساقاً ومُجرجرَاً بالتّناوُبِ مثلَ وحشٍ بريٍّ ساكناً الغابةَ التي انتُزِعَ منها. ذاكَ هو إبني، من جرفتْهُ أحلامُهُ إلى حدٍّ جعلَهُ يَحَاجَّ بأنّ أبناءهُ سوف يكونونَ أحرارا. أبناؤُهُ! أقِرُّ بأنّهُ قد تحدّثَ على هذا النّحوِ الطّائشِ آناءَ تبَادُلِنا الحديثَ الذي قلتُ لهُ فيهِ إنّ مكانَهُ في الحياةِ كانَ ذاتَ المكانِ الذي اتّخذتُهُ أنا وسيبقى متاحاً لأطفالهِ. جابهتُهُ آنذاكَ بحجّةِ أنّ حيثيّاتِ ثلاثمائةِ عاماً كانتْ ضدَّ رأيهِ ومُوثِقَةً لرأيي. مضى هو، من بعدِ ذلكَ، بعيداً عنّي ونفضَ عنهُ كلماتي مثلما كثيراً ما ينفضُ كلبٌ مبتلٌّ عنهُ الماءْ.

هنا والآن هو قد أمسى فُرجةً للناسِ بسبب رأسهِ المجافيةَ الصّوابَ، مما برهنَ على أنّه انتمى لطائفةِ الناسِ الذين تعلّموا عبر أخطاءٍ مُعاشةً شخصيّاً ومكلّفةً. فقط أنا كنتُ مستطيعاً إنقاذهُ. وفي حكمي أنا قد أنقذتُهُ حين ذهبتُ إلى مالكِ هذهِ المستعمرةِ الزّراعيّةِ التي تترامى بِوُسْعٍ ما تستطيعُ العينُ أن تراه- ذلك المالكُ لكلِّ نفسٍ حيّةٍ فيها، إنسانِيّةً، حيوانيّةً، نباتيّةً وِمعدنيّةْ. ذهبتُ إلى الشّخصِ الوحيدِ الذي امتلكَ السّلطةَ لأن يُقرّرَ إن كان اليومُ سوف يجلبُ عناءً، دموعاً أو بهجةً لأيِّ واحدٍ منّا- نحنُ حاجِيَاتُهُ- عبر الطّرقَعَةِ البسيطةِ لأصابعِهِ. استحصلْت، من سيّدِي، على أمرٍ بأنّ إبني سوفَ يُستثنى من كلِّ أشكالِ العقُوبةِ إلى حينِ عودتِهِ. فعلتُ ذلك أنا، اللا مُسَمَّى، ذو الوجهِ المتخثّرِ، "اجلُسْ يا جدّي". مع ذلك هو أدارَ ظهرهُ إليَّ- إبني.

أطلقَ المُلاحظُ قذائفَ الأوامرِ في كلِّ اتّجاهْ. بحثتُ عن نائبِهِ فلم ألقاهُ عندَ أيِّ مرأىً لبصري. دعوتُ كلَّ أقربائي كي يجدوهُ حتّى يؤكّدُ أوامرَ سيّدي المتعلّقة بسلامةِ وعافيةِ إبني. ركضُوا في الأرجاءِ منادينَ. سألني المُلاحظُ، السيّد ساندرز، عمّا أنا ضاجٌّ بشأنِهِ. قلتُ لهُ إنّهُ، قبلَ أن يقومَ بأيِّ حركةٍ أو فعلٍ آخرٍ، ينبغي لهُ أن يسمعَ كلماتِ السيّدِ من نائبِهِ الذي سيُحضَرُ لهُ بعدَ حينْ. سألني أينَ ظننتَ بأنّ ذاكَ النائبَ سوف يكونُ في ذلك الوقت إن لم يكُنْ حيثُ اعتادَ أن يذهبَ خلال الشهورِ العديدةِ الأخيرةْ. لم أقُلْ شيئاً، بيدَ أنّني هززتُ رأسي وبحثتُ في يافوخِي عن طرفِ خيطِ إجابةٍ لذاكَ السّؤالِ المُلغِزْ. عاد العبيدُ، في الحالِ تقريباً، واستطعتُ أن أرى الإجابةَ على سؤالِ الملاحظِ على وجوههم. فنائبُهُ قد تزوّجَ قبلَ أشهرٍ ومن ثمّ دأبَ على الاختفاءِ عندَ زوجتِهِ في كوخهما الكائنِ على مبعدةِ حواليَّ خمسةَ أميالٍ من المستعمرةِ الزّراعيّةْ. لم يعرفْ السيّدُ شيئاً من ذلكْ. فكلُّ ما هو معنيٌّ بهِ هو أنّ نائبَ مُلاحظِهِ حُرٌّ في أن يذهبَ، آناءَ عُطلةِ نهايةِ الأُسبُوعِ وليس كلَّ مساءٍ، بعيداً عن المستعمرةِ الزّراعيّةِ ويزورُ زوجتَهُ. في تلكَ اللّيلةِ كان قد انطلقَ إلى هناكَ رُغمَ أنّ سيّدهُ قد أصدرَ لهُ أوامرَ مُحدّدَةْ. قال عبدٌ مُلحقٌ بمنزلِهِ إنّ النائبَ قد غادرَ بُناءً على افتراضٍ بأنَّ إبني سوف لا يُقبَضَ عليهِ، على الأقلِّ في اللّيلةِ إيّاها. وغمغمَ السيّدُ ساندرز بشيءٍ عن أوامرٍ من السيّدِ تتعلّقُ بسلامةِ وأمنِ العبيدِ لا تستطِعْ أن تأتي إليهِ إلا بعدَ أن "تبيْتَ" عندَ نائبِهِ. ليس من مصلحةِ عبدٍ أن يُكرّرَ أوامرَ مُقلقةً لراحتِهِ. لذا أنا قُلتُ- للمُلاحظِ- إنَّ تلكَ الأوامرَ المتعلّقَةَ بإبني قد شُهِدَتْ من قِبَلِ أربعةٍ آخرينَ بجانبي وكان من واجبي أن أُبْلِغَهُ بهم. أمرني بالسّكوتِ أو أن أُجْلَدَ. كما ونطقَ، أيضاً، ببذاءاتٍ أُخرياتٍ في وجهي. كان قد أصابَ قدَمَهُ بجُرْحٍ سيّءٍ جعلَهُ على درجةٍ من الألمْ. كذلكَ ظلَّلَ عناءُ تعقّبِ آثارِ إبني، ليومٍ كاملٍ، وجهَهُ. لكن ليس هنالِكَ أيُّ نصيبٍ من التّعبِ الشّخصيِّ يستأهلُ أن يُبَرَّرَ بهِ هذا النّوعُ من التّعاملِ مع أكبرِ عبيدِ المستعمرةِ الزّراعيّةِ سنّاً وتجربةً. واصلتُ الكلامَ وكأنّ ما قالَهُ كان شيئاً مثل "ما أجملَ الغرُوبِ الذي شهدناهُ في مطلعِ هذهِ اللّيلةْ!" ذلكم لأنّ المَهَمَّة المُسْتَلْزَمَة الأداءَ آنذاكَ ما كانتْ هي توكيدَ تهذيبهِ معي وإنّما مصيرَ إبني. رفعَ يدهُ ولسعَ مِرْفَقَاهُ أُذْنِيَ اليُسرى وصدغِي. تعثّرتُ، ليس من اللّطمةِ بقدرِ ما من حقيقيَّتِها. قبلَ ما يُقاربُ الثّلاثينَ عاماً وُجِّهَتْ لي لطمةٌ مماثلةٌ وتمكّنتُ أنا، مجرّدَ العبدِ، أن أُودِي بذاكَ المُلاحظِ، الذي كان هو في الواقع أبا السيّد ساندرز، إلى توبيخٍ عنيفٍ تلقّاهُ من سيّدي السّابقْ، أي أبا سيّدي الحاضرْ. قبل ثلاثينَ عاماً خلتْ تدبّرتُ ذلكَ، لذا أستطيعُ أن أتدبّرَهُ الآنَ أيضاً. هبطَ صمتٌ على الفناءْ. نظرَ إبني إليَّ وشبَّ إلى حيثُ السيّد ساندرز. كفّهُ ثلاثةُ رجالٍ من فريقِ الطِّرَادِ عمَّا عنَّ لهُ بجُهْدٍ يسيرْ. دفعوا رأسهُ إلى الأسفلِ وغصبُوا ذراعيهِ المربوطتين على الارتفاعِ عالياً وراءَ ظهرهِ. جعلَهُ إنهاكُهُ مُعيناً لهُم على فعلِ ذلكْ. نظرَ الملاحظُ حولَهُ واستقرّتْ فوقَ رأسِهِ ملاءَةٌ من الشّعورِ بالعيبْ. خفضَ ذقنَهُ إلى ناحيةِ صدرهِ وغمغمَ باعتذارٍ مغبُونٍ أضافَ إليهِ أنّني قد جلبتَ على نفسي ما آذاني بهِ ما دُمتُ لم أُغْلِقْ فمي. سألني عمّا هي تلكَ الأوامرِ المتعلّقةِ بإبني. أخبرتُهُ بها. قذفَ عنهُ بعيداً شعورَهُ بالعيبِ واكتسى بدرْعٍ من الحِنْقْ. صاحَ بأنَّ يَومَهُ جميعَهُ قد أُكِلَ على سبيلِ مُطارَدَةِ آبِقٍ. وقال إنّهُ قد أعادَ المُجرمَ، بإخلاصٍ، إلى المستعمرةِ الزّراعيّةِ في حينَ أنّ الآخرينَ كانُوا سيتخلّصُونَ منهُ عندَ أسرِهِ.

"سببي الوحيدُ لأن أعيدَ ذلك الزِّنْجِيِّ اليافعِ هو أنَّ ربَّ العملِ قد قالَ إنّهُ سوفَ يُجْعَلُ مثالاً لا يُشجّع آخرينَ على الهروب- قدمي قد جُرجِرَتْ. أنا تعبٌ وجائعٌ. ليس هناكَ من طريقةٍ لهذا الزّنجيِّ تُعفيهِ من مُواجهَةِ العُقُوبَةِ المعتادةِ لجريمتِهِ. ينبغي أن يُجعلَ، لرفاقِهِ، مثالاً. عدمُ معاقبتِهِ الآنَ بالطّريقةِ المُناسِبَةِ سوف يكونُ وبالاً على كلّ هذه المستعمرةِ الزّراعيّةْ. أنا الملاحظْ. وفي غيابِ السيّدِ أنا أفعلُ ما هو أفضلَ لها. أنا لا آخُذُ أوامراً من زِنْجِيٍّ. أنا لا أهتمُّ إنْ يبلُغُ عُمْرُكَ المائةَ عاماً. إنّكَ عبدٌ. الآنَ اغْرُبْ عن سبيلي أو أنّني، واللهُ شهيدٌ عليَّ، سوفَ أُوثِقُكَ بالسّيُورِ قربَ ابْنِكَ وأُهيلُ عليكَ جلداتٍ كثيرةً مثلَهُ بسببِ وقاحَتِكْ".

"جلداتٌ كثيرةٌ مثلُهُ". أنا قد هُدّدتُ بالسّوطْ. السيّدُ سيسمعُ نبأَ هذا. أمّا الآنَ فأنا قد وقفتُ، مرّةً أخرى، مُسمّرَاً إلى رُقعتِي من الأرضِ فيما الجّمهرةُ حولَ إبنيَ انساقتْ نحو مركزِ الفناءِ حيثُ العُقُوباتُ، التي عُنِيَ بها صرفَ المتفرّجينَ عن أفعالٍ مُماثِلَةٍ، قد أُعِدَّتْ ساحتُها. نادي إبني أُمّهُ. سمعتُ ذلكَ فوقَ عجيجِ مائتينَ وخمسينَ من عبيدِ المستعمرةْ.

تشبّثْتُ بذراعِ أقوى قريبٍ لي، وهو رجلٌ عُمرُهُ قريبٌ من عُمرِ إبني- الحفيد الثالث للإبنةِ العاشرةِ من بناتيَ الإثنى عشرْ. قلتُ لهُ بأن يُجريَ الخمسةَ أميالٍ لمنزلِ النّائبِ ما دام النّائبُ وحدُهُ هو من يستطيعُ إنقاذَ حياةِ إبني من عرضِ الوحشيّةِ العامِّ هذا. بدا مُنْذَرَاً فأنا قد نسيتُ أنّهُ لو اكتُشِفَ عبدٌ حائماً، في اللّيلِ، خارجَ المستعمرةِ فسوفَ يكُونُ معرّضَاً لأن يُقْتَلْ. أخبرتُهُ أنّني سأذهبُ إلى هُناكَ بنفسي كي أُنقِذَ إبني. مسَّ ذراعي، أومأَ إليَّ وانطلقَ في جوفِ ظِلالِ الغسقِ، مُتزَاوِغَاً تحتَ الأشجارْ. رقبتُ ظهرَهُ إذ كان مُمتَزِجَاً بالظّلالِ، ثمّ ذائباً فيها. صاح إبني، مرّةً أخرى، منادياً أمّهُ. انفصلْتُ عن الجّمهرةِ كي أصلَ إليهِ.

"إنّها لا تستطيعُ أن تصلَ إليكَ، يا بُنَيَّ. أنا هنا من أجلِكَ". رآني واستغرَقَ في الصّمتِ والغَمِّ. أقمتُ نفسي أمامَ السيّدِ ساندرز فقطبَ جبينَهُ. "إبني هو كلُّ ما أملُكُ، يا سيّدي. سَرِّحْهُ. دعنِي آخُذُ مَكَانَهُ".

ضحك السيّد ساندرز عالياً، هشَّ الهواءَ أمامَ وجهِهَ وكأنّما لكي يتخلّصَ من حشرةٍ ضارّةٍ، ثُمَّ أمرَ بأن يُمسَكَ بي وأُثَبَّتُ طِوالَ المُدَّةِ التي يستغرقُها إعمالُ مائتي جلدةٍ على جسدِ إبني. حينَ أبانَ عددَ الجّلداتِ صعدتْ صيحةٌ مُنْدَهِشَةٌ من بينَ الجّمهَرَةِ وملأتْ هواءَ المساءِ الباكِرْ. بدأتُ في مُنازعَةِ قبضةِ رجلينِ مُمسِكَيْنَ بي فما كانَ منهُمَا إلا أنْ شَدّدا، ببساطةٍ، من حوزتِهِما عليَّ وغَصَبَانِي على إحناءِ رُكْبَتَيَّ. أُضيئَتْ النّيرانُ. تآمرَ كلّ لسانِ لهبٍ مع بقيّةِ خُرَدِ الضّياءِ لكي يسُوقُوا بعيداً الظّلمةَ المُنبثّةَ، لكنْ خابَ سعيَهُمْ. صدعَتْ الجّلدةُ الأولى حُفرةً على رأسي وصرختُ في سبيلِ إبنيَ الذي كان قد استغرقَ في صمتٍ ماثلَ سكونَ العُشْبِ والأشجارْ. صاحتْ إبنتاي الباقيتان وأطفالهما وأحفادهما وتوسّلتا الرّفقَ من السيّد ساندرزْ. توسّلتا وصاحتَا. مُزّقَتْ اللّيلةُ، بفجيعتِهِم، إلى خِرَقٍ وقُصَاصَاتٍ.

الآنَ، حينما أسمعُ الحشراتِ في الغسقِ تكونُ أيُّ تكتَكَةٍ، ضجّةٍ ونقيقٍ هي صوتَ دمِي سائلاً الرّحمة. ما مُنِحَ منها شيءٌ. إبني، الثّمرَةُ الأخيرةُ لرحمِ زوجتي، بهجتَها، ما وُهِبَ من رِفْقٍ. وأنا الذي عملتُ، كلّ آناءِ حياتي، لمؤسسةٍ واحدةٍ وعائلةٍ واحدةٍ ما أُبْدِيَ لي أيُّ احترامٍ- لم أُعَزْ أو أُقدُّرْ مطلقاً. أنا قتلتُ إبني لأنني أرَدْتُهُ بجانبي حينَ موتي. ومثلما هو قد أمسكَ لي بأمّهِ الثقيلةَ الوزنِ بالموتِ حتّى أُصغي إلى نفسِها الأخير كان، كذلك، سوف يُمسكُ برأسي آنذاكَ حتّى يُعينُني على إسماعِ كلماتيَ الأخيرةْ... لكنّه قد قُضِيَ الآنَ بأن ابنَ حفيدي يستطيعُ أن يركلني أرضاً، ينبُذَ جسدي السّاقطَ، ثمّ يتركنِي مشلُوحاً هناكَ ولا يعتبرُ أو يُفكّرُ، من بعد ذلكَ، بأيّ شيءٍ عنها. كلّ فردٍ من الناسِ، دونَ استثناء، يلومني على موتِ إبني. ادْهسْنِي بنازلةٍ ما واقْتُلْنِيْ. اعْجِنَنِي بالسّوطِ، أيّها الملاحظ، فأنا عبدٌ عموميٌّ. ثمةُ دمٍ على ضميري. ذاكرتِي أطولَ من الزّمانِ. أُريدُ أن أنسىْ. لا أُريدُ أن أرى بعدْ. أنا أُجيبُ إن نُوديْتَ "يا كَلْبْ". يركضُ أبناءُ أحفادي نحوي فأجلُسُ كي أتجنّبَ النّكبةَ وهم يضحكُونْ. هم ينهقُونْ. "اجلُسْ، يا جدّي" أو ستُرْكَلُ سافلاً. يا قاتلَ الأطفالِ. أيّها الذائدُ عن أسوءِ مصيرٍ لقومِكَ أو أيِّ قومٍ. هل هذا ما صِرْتُهُ؟ ليس، من بعدٍ، في حاجةٍ إلى سيطرةٍ أو رقابةٍ، بل واحدٌ اعتادَ على وجودِهِ إلى حدٍّ غدا معهُ مُنتهِكاً لحريّتِهِ الخاصّةِ، لذا فهو يُمكنُ لهُ أن يُترَكَ لتدابيرهِ الخاصّةْ. هو سيّدٌ لعبُودِيَّتِهِ الخاصّةْ. عبدٌ مُسْتَعْبِدٌ. عبدٌ أنموذجيٌّ. عبدٌ حاكمٌ لذاتِهِ. يعتقدُ أنّ الحريّةَ هي الموتْ. يعتقدُ أنّ الفِردوسَ هو الحياةُ الآخرةْ. مارسَ الموتَ- في-الحياةِ لسنينٍ، بيدَ أنّ الموتَ لا يأتِي. يرى الموتَ في عينيهِ، في فمِهِ. لهُ جسدٌ مُيَتَّمٌ من الضّحكِ، النّومِ، الحبِّ، الهدفِ. واهبٌ للموتِ. عائشٌ فيما بعدِ الجّميعِ- رأتهُم العينانَ يرحلُونْ. ثُبّتَ الفمُ المتخثّرُ على وضعيّةِ ازدراءٍ لصاحبِهِ. والعينانُ، إذ كانتا رائيتينَ لإبْنٍ، لعشرةِ بناتٍ، لعديدٍ من الأحفادِ، ثم لزوجتينِ يرحلونَ جميعاً عن الدّنيا لم يبقْ لهما شيءٌ يقتُلانهُ سوى نفسيهِما. انقلبَتْ العينانُ على نفسيهما. هزَّأَ الفمُ نفسَهُ. حدِّقْ وتَهَزَّأْ ومِتْ (إن كنتَ محظُوظاً!). لكن لا، فالصّباحاتُ ما تزالُ تتكرّرُ إثرَ نومٍ مُختَطَفْ. أتناوشُ والأقرباء، أُمشي في الضُّوءِ الهادئِ، أنتشِرُ، بلا شيءٍ أكثرَ من حفيفٍ، فوقَ كلِّ شيءٍ وأجلُسُ مُواجهاً الحيثَ الذي تبدأُ فيهِ الشّمسُ طِلُوعَهَا. الشّمْسُ تبدأُ في الطّلُوعِ لأنّها ينبغي عليها ذلكْ. متى سوفَ تموت؟ هل سأشهدُ أنا ذاكَ الموتْ؟ أيّتُها الشّمسُ، ودّعِيْنِي إلى خارجِ هذا العالمْ. أنا لي أهلٌ على النّاحيةِ الأخرى من الوجُودِ أكثَرَ من على ها ذي. احمِليْنِي إليهُمْ. دفِّئِيْ عينيَّ المُتجمِّدَتَيْنْ. اجْعَلِيْ فَمِيْ عذْبَاً. هُزِّيْ أصلابيَ الميّتَةْ. أنا سأرقُدُ هُنا. دثِّرِيْنِيْ.

//يتبَعْ//

 

khalifa618@yahoo.co.uk

 

آراء