أفريقيا والعدوان الإسرائيلي على غزة
كشف العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة عن عورات العالم العربي فقد لاذت معظم الحكومات العربية بالصمت ، بل إن بعضها بدا أقرب إلى الموقف الإسرائيلي منه لموقف المقاومة الفلسطينية ، ولعل الأسوأ هو أن الشارع العربي نفسه بدا منقسماً على نفسه. وفي الوقت الذي يتحدث فيه الكثيرون عن اتفاق جديد على غرار "سايكس ــ بيكو" لتقسيم الوطن العربي فإن الجامعة العربية لم تحرك ساكناً ولم تدع أي حكومة عربية لقمة طارئة أو حتى اجتماع لمجلس الوزراء. تبدو الصورة مختلفة في القارة الأفريقية ، فقد اتخذت بعض الدول مواقف قوية من العدوان الإسرائيلي كما شهدت شوارع وميادين عدد من العواصم والمدن الأفريقية مواكب داعمة لموقف الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة. وبينما انتهز المسلمون في مختلف أرجاء القارة مناسبة عيد الفطر المبارك ويوم القدس الذي يصادف الجمعة الأخيرة من رمضان لتسيير المواكب السلمية التي تندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة ، أصدر تنظيم شباب المجاهدين الصومالي بياناً يعلن فيه أن المواطنين الاسرائيليين والمصالح الاسرائيلية يمثلون أهدافاً مشروعة ويطلب فيه من الفلسطينيين والعرب مهاجمة هذه الأهداف في كل مكان. لم تكن ردود فعل الحكومات الأفريقية بأقل تبايناً من ردود أفعال المواطنين ، فمن حكومة جنوب أفريقيا التي أعلنت موقفاً قوياً إلى جانب الشعب الفلسطيني إلى مواقف بعض الحكومات التي أطلقت الرصاص لتفريق المتظاهرين الذين خرجوا تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني في غزة.
أعلنت حكومة جنوب أفريقيا عن تبرعها بمبلغ مليون دولار لدعم المتأثرين بالعدوان الإسرائيلي في غزة ، كما قامت بإرسال مبعوثَيْن خاصَّيْن للرئيس جيكوب زوما التقيا بوفد لحركة حماس بالعاصمة القطرية الدوحة كما قاما بزيارة لإسرائيل. طالب المبعوثان بالوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي على غزة والسماح للفلسطينين بإعادة بناء ما تم تدميره خلال الهجمات الجوية الاسرائيلية. من ناحية أخرى ، قامت وزارة الخارجية باستدعاء السفير الاسرائيلي بجنوب أفريقيا وأعربت له عن قلقها البالغ بشأن الهجمات الاسرائيلية على قطاع غزة. وكان اتحاد الشباب التابع لحزب المؤتمر الأفريقي الحاكم قد طالب بطرد السفير الإسرائيلي من البلاد ، غير أن المبعوثين الخاصين أشارا إلى أنهما لم يتلقيا طلباً بقطع العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل من قيادات حماس التي التقياها في قطر. كما تبنى اتحاد عمال جنوب أفريقيا الرسالة التي وجهها اتحاد العمال الفلسطيني لاتحاد النقابات العالمي مطالباً فيها بمقاطعة الدولة اليهودية ، وذلك عبر عدد من الخطوات تتمثل في وقف شحن وتفريغ البضائع الاسرائيلية في الموانئ العالمية ، ومقاطعة اتحاد العمال الاسرائيلي الضالع في دعم العدوان على الشعب الفلسطيني ، وعدم الاستثمار في السندات المالية للحكومة الاسرائيلية. ويرى بعض المراقبين أن جنوب أفريقيا كانت وراء قرار مجموعة التنمية لأفريقيا الجنوبية "ساداك" بإدانة العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة وبصفة خاصة الهجمات التي نفذتها القوات الاسرائيلية على المستشفيات والمساجد والمؤسسات المدنية. وكان البيان الصادر عن المجموعة قد أشار إلى دعم قرار مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة والذي طالب بتشكيل لجنة تحقيق محايدة في الانتهاكات الاسرائيلية في قطاع غزة ، وهي الانتهاكات التي وصفها قرار المجلس بأنها ترقى لدرجة الجرائم ضد الإنسانية.
ولعل العودة لتاريخ جنوب أفريقيا يوضح السبب الذي يجعل الحكومة والمواطنين في ذلك البلد أكثر تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني ، وقد تناولت صحيفة "ديلي ﭬوكس – Daily Vox" الصادرة في جوهانسبرج الموضوع في مقال افتتاحي لها بتاريخ 16 يوليو الماضي تحت عنوان "لا نستحي من أن نتخذ موقفاً مما يجري في غزة". أشار المقال إلى أنه في الوقت الذي كان فيه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا معزولاً من جانب معظم دول العالم فإن اسرائيل كانت واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لذلك النظام البغيض ، وبعد أن فرضت الأمم المتحدة حظراً على تصدير السلاح للنظام العنصري كانت إسرائيل هي الممول الأكبر للآلة العسكرية لذلك النظام بالرغم مما عرف عنها من قمع للمواطنين السود في جمهورية جنوب أفريقيا.
من ناحيته هاجم رئيس دولة زمبابوي روبرت موغابي زعماء الدول الغربية الذين وصفهم بالانتهازية ، وأشار إلى موقف هؤلاء الزعماء من تحريك آلة حلف النيتو العسكرية الضخمة للإطاحة بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي بدعوى حماية المدنيين بينما يتعرض المدنيون في غزة لهجمات متواصلة من جانب إسرائيل دون أن يحرك هؤلاء الزعماء ساكناً. وبينما خرجت مواكب تطالب بطرد السفير الاسرائيلي من زمبابوي نقلت بعض الصحف أن الدعوة لطرد السفير ستعرض على البرلمان قريباً. وفي غامبيا كرر الرئيس يحيى جامع نفس التهم ضد الدول الغربية التي ظلت صامتة حيال مأساة الفلسطينيين في غزة ، مشيراً إلى أنه في الوقت الذي تدين فيه الدول الغربية روسيا بسبب الصاروخ الذي أسقط الطائرة الماليزية في أوكرانيا فإنها تغض الطرف تماماً عن عشرات بل مئات الصواريخ التي تسقط كالأمطار على رؤوس الفلطسينيين العزل في غزة. ووصف الرئيس جامع في خطابه بمناسبة عيد الفطر المبارك القيادة الاسرائيلية بأنها أسوأ من القيادة النازية وأن ممارساتها اسوأ من سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا البيضاء. أما في تنزانيا فقد اصدرت وزارة الخارجية بياناً أدانت فيه الهجوم الإسرائيلي على غزة ، ودعت فيه المجتمع الدولي لأن يلقي بثقله وراء جهود تحقيق السلام في فلسطين. كما دعا البيان التنزاني لإقامة دولة فلسطينية مستقلة كخطوة أولى وضرورية نحو تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط برمتها ، مؤكداً دعم الحكومة التنزانية لحل الدولتين الذي يساعد في توفير الأمن والاستقرار في المنطقة بما في ذلك أمن اسرائيل نفسها. أما في موزمبيق فقد سيرت رابطة حقوق الانسان موكباً ضخماً في العاصمة مابوتو خاطبه سفير دولة فلسطين ، وقد طالب الموكب بالتدخل المباشر للأمم المتحدة لوضع حد للمعاناة التي ظل يواجهها سكان قطاع غزة لعدة سنوات بسبب السياسة الاسرائيلية.
انتهز المسلمون في العديد من الدول الأفريقية ومن بينها كينيا ونيجيريا مناسبة عيد الفطر المبارك والجمعة الأخيرة في رمضان "يوم القدس" لتسيير مواكب ضد الغزو الاسرائيلي لقطاع غزة ، حيث سيرت الحركة الاسلامية في نيجيريا موكباً كبيراً في عدد من المدن من بينها مدينة كانو في شمال البلاد ردد فيه المتظاهرون هتافات ضد كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. وبينما كان احتفال عيد الفطر في كينيا هادئاً تمت الإشارة خلاله لمأساة الفلسطينيين في غزة ، فإن نيجيريا التي تعيش حالة من التوتر بسبب نشاط حركة "بوكو حرام" شهدت صداماً دامياً بين المتظاهرين والقوات الحكومية. تحول موكب يوم القدس في مدينة زاريا بشمال نيجيريا إلى مواجهة دامية بين الشرطة والمتظاهرين المسلمين الذين كانوا يهتفون ضد العمليات الاسرائيلية في غزة. تقول وكالات الأنباء أن 25 متظاهراً فقدوا حياتهم في المواجهات مع الشرطة ، وأن الشرطة قامت بتنفيذ حكم الاعدام في عدد منهم بعد اعتقالهم ، مما أشاع جواً من التوتر بالمدينة. وفي السنغال حرجت مظاهرات توجهت نحو سفارة فلسطين في العاصمة داكار حيث أعلنت عن دعمها لمواطني غزة وطالبت الحكومة السنغالية بقطع العلاقات مع دولة إسرائيل.
من الواضح أن الأحداث الأخيرة في غزة كانت سبباً في ميلاد حركة تضامنية مع الشعب الفلسطيني تنتظم القارة الأفريقية في الوقت الحالي وتعيد للأذهان ذكريات منتصف السبعينات من القرن الماضي عندما بلغ التعاون العربي الأفريقي شأواً بعيداً تمثل في عقد عدد من القمم المشتركة وإقامة مؤسسات التعاون الاقتصادي والسياسي مثل المصرف العربي للتنمية في أفريقيا. ولعل قرار اتحاد الأدباء الأفريقيين الصادر في أبريل الماضي بمقاطعة دولة إسرائيل يقف دليلاً على الروح الجديدة للتضامن العربي الأفريقي. كان الاتحاد قد برر قراره ضد إسرائيل بسبب سياساتها العنصرية التي أدت إلى هجرة الملايين من أبناء فلسطين ، ووضع الآلاف من المهاجرين الأفريقيين لإسرائيل في معسكرات اعتقال أشبه بتلك التي كانت قائمة في المانيا على أيام النازية. يبقى أن نرى إن كان العالم العربي قادر في ظل التشرذم الذي يسود ربوعه حاليا على الاستفادة من هذا التضامن الأفريقي للعمل على عزل إسرائيل على الساحة الدولية كما حدث في منتصف السبيعنات من القرن الماضي.
mahjoub.basha@gmail.com