أفريقيا وشبح الوصاية الدولية
محجوب الباشا
20 July, 2014
20 July, 2014
كان مؤتمر برلين 1885 نقطة فارقة في تاريخ القارة الأفريقية حيث كرس فكرة التغول على سيادة الكيانات السياسية الأفريقية التي جرى تقسيمها بين القوى الأوربية العظمى في ذلك الزمان في إطار ما عرف وقتها بالتكالب الأوربي على القارة الأفريقية. فباستثناء بعض الاقاليم المحدودة كانت الدول والممالك الأفريقية تتمتع حتى ذلك الوقت بالاستقلال التام وتمارس سيادتها على كامل أقاليمها ، وتعيش تحت ظل نظام إقليمي مقبول لدى دولها. وكما هو معلوم فقد قامت الدول الأوربية بغزو الأقاليم الافريقية المختلفة ومن ثم تقسيمها فيما بينها، وقد مكنها من ذلك أنها امتلكت في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي تقنية عسكرية أرقى ورغبة ملحة في نهب الثروات الطبيعية للقارة الأفريقية لإشباع نهم آلتها الصناعية الناهضة.
عندما تصارعت القوى الأوربية فيما بينها خلال الحرب العظمى والتي أصبحت تعرف لاحقاً باسم الحرب العالمية الأولى أجبرت الدول المهزومة على التنازل عن بعض ممتلكاتها في مناطق متعددة من العالم من بينها القارة الأفريقية لوضعها تحت ظل ما عرف بنظام الانتداب الذي تبنته عصبة الأمم وهي المنظمة الدولية التي خرجت من رحم تلك الحرب. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف العقد الخامس من القرن العشرين تبنت الأمم المتحدة نفس السياسة وقامت بتكوين مجلس الوصاية الدولي الذي أشرف على ممتلكات الدول المهزومة في القارة الأفريقية بدعوى تهيئتها للاستقلال. ولعل من أشهر الدول الأفريقية التي وقعت تحت نظام الانتداب بعد الحرب العالمية الأولى دولة جنوب غرب أفريقيا التي قضت محكمة العدل الدولية باستمرارها تحت هذا النظام بإشراف جمهورية جنوب أفريقيا حتى نالت استقلالها في عام 1990 تحت اسم ناميبيا.
تواتر في الآونة الأخيرة الحديث عن بعض الظواهر التي تنبئ بمحاولات لبعث نظام الوصاية الدولية من مرقده تحت مسميات جديدة ، وتشير لذلك عدة مؤشرات في القارة الأفريقية. ومن عجب أن يعود هذا الحديث خلال السنوات الأخيرة التي تعالت فيها أيضاً نغمة الحديث عن التكالب الجديد على القارة ، غير أن التكالب هذه المرة اتخذ شكلاً مختلفاً أقل حدة مما حدث في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وأقرب لما عرف خلال الحرب الباردة بالاستعمار الجديد ، ويشارك فيه لاعبون جدد حيث لم يعد محصوراً على الدول الأوربية التي تراجع دورها على الساحة الدولية ، ويستعمل أسلحة تختلف كثيراً عن تلك التي استعملت في التكالب الأول ولكنها اكثر تقدماً مما تمتلكه الدول الأفريقية وأهمها سلاح التكنولوجيا الحديثة التي أعطت هذه الدول ميزة أكبر في حركة الاقتصاد العالمي. ومرة أخرى يلجأ المجتمع الدولي للمنظمة الدولية لتنفيذ خطته بوضع القارة الأفريقية أو بعض أجزائها تحت الوصاية بصورة أو أخرى كما يرى عدد من المراقبين. ويمكننا أن نتناول هذه الظاهرة من خلال ثلاث وثائق مهمة صدرت خلا ل العام الماضي وهذا العام ، وهي على التوالي قرار مجلس الأمن 2098 الصادر بتاريخ 28 مارس 2013 عن الأوضاع في الكونغو الديمقراطية ، وقرار ذات المجلس رقم 2155 بتاريخ 26 مايو 2014 عن الحالة في جنوب السودان ، وتقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر بتاريخ 17 يونيو 2014 والذي تناول التطورات في جمهورية أفريقيا الوسطى.
أشار قرار مجلس الأمن رقم 2098 المذكور إلى عدة نواحٍ من القصور رافقت أداء السلطات الحكومية في منطقة شرق الكونغو وبصفة خاصة الانتهاكات الواسعة التي تقوم بها القوات الحكومية بحق المدنيين ، وعجزها عن توفير الحماية الضرورية لهم ، وانعدام الأمن. تضمن القرار إنشاء "لواء دولي للتدخل" لتلافي أوجه القصور المذكورة وقد تمكن اللواء المكون من قوات عدد من لدول الأفريقية من إلحاق الهزيمة بحركة “M23” المتمردة بعد تدخل عسكري من جانبه استعمل خلاله طائرات بدون طيار . وبالرغم من أن قرار مجلس الأمن قد أشار إلى أن تشكيل اللواء لا يجب أن يكون سابقة في طبيعة عمليات الأمم المتحدة وأنه لا بد أن تكون هناك استراتيجية انسحاب واضحة له ، إلا أن الربط بين انسحابه من المنطقة وبين مقدرة الحكومة الكونغولية على حماية المواطنين وتحييد الحركات المسلحة جعل الكثير من المراقبين يرون فيه نقلة غير مرحب بها في طبيعة عمل القوات الدولية لحفظ السلام. بل إن البعض يتحدثون عن ظهور جيل جديد يعني ليس فقط بحفظ أومراقبة السلام وإنما بصنع السلام نفسه. من جهته أشاد المبعوث الخاص للرئيس أوباما لمنطقة البحيرات العظمى راسيل فينغورد باللواء ووصف تكوينه بالتحول المهم في طريقة التعامل مع الأزمة ، مما قاد لمعالجتها بصورة جذرية. لا شك أن الجدل القانوني حول "لواء التدخل" وطبيعة الدور الذي يقوم به سيستمر لفترة قد تطول ، إلا أن الذي يثير قلق الكثير من دول الجوار هو القوة الضاربة التي يتوفر عليها اللواء وبصفة خاصة الطائرات بدون طيار التي وعدت الحكومة الأمريكية بتوفيرها وإدارة عملياتها.
في جنوب السودان عمل قرار مجلس الأمن رقم 2155 على توسيع صلاحيات بعثة الأمم المتحدة في ذلك البلد بالتركيز بصورة أساسية على حماية المدنيين بسبب ما تعرضوا له من أعمال العنف نتيجة للاشتباكات بين جناحي الحركة الشعبية لتحرير السودان المتحاربين. أشارت الفقرة الرابعة من القرار إلى ضرورة حماية المدنيين من المخاطر أياً كان مصدرها دون التفريق بين الحكومة والحركات المناوئة لها ، كما سمحت للقوات الدولية باتخاذ الخطوات الاستباقية التي تراها ضرورية لحماية المدنيين. كما ينادي القرار بتوسيع النطاق الجغرافي لنشاط القوات الدولية عندما يتحدث عن دورها في حماية المنشآت العامة بما في ذلك تلك المتعلقة بانتاج البترول ، ويقول أن هذه الحماية تكون ضرورية للغاية في الحالات التي تعجز الحكومة عن تقديمها. هذا فضلاً عن إنشاء مواقع كجزر معزولة لحماية المدنيين مع توفير الوسائل الضرورية للدفاع عن هذه المواقع ، ومراقبة أوضاع حقوق الإنسان وتوفير الجو الآمن لعمليات الإغاثة. لا جدال في أن القرار 2155 يوسع بصورة غير مسبوقة صلاحيات البعثة الدولية مما يجعلها تشارك الحكومة الشرعية في الكثير من الواجبات التي من الواجب أن تضطلع بها ، ولا شك أن نجاح تجربة الأمم المتحدة في كل من الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان ستغري المجتمع الدولي بالسعي نحو تطبيقها في مناطق تعاني من الاضطراب وانعدام الأمن في عدد من الدول الأفريقية الأخرى.
الوثيقة الثالثة في هذا الإطار هي التقرير الذي صدر عن مجموعة الأزمات الدولية بتاريخ 17 يونيو 2014 تحت عنوان: "أفريقيا الوسطى من النهب إلى الاستقرار". يقول التقرير أن مشكلة أفريقيا الوسطى تكمن في أن الحكومات المتعاقبة على البلاد لم تكن تهتم برفاهية المواطن بقدر ما كانت تهتم بنهب ثروات البلاد الضخمة والاغتناء من المتاجرة في هذه الثروات. لم يستثن التقرير الرئيس جوتوديا وتحالف سيليكا اللذين يقول أنهما وخلال الفترة القصيرة التي قضياها في الحكم اتبعا نفس الأساليب التي اتبعتها الحكومات السابقة التي كانت تتاجر في الجواهر وسن الفيل. وأورد التقرير بعض حالات النهب والفساد التي تورطت فيها حركة سيليكا خلال فترة حكمها للبلاد.
ولعل الملفت في هذا التقرير هو التوصية رقم (4) الموجهة للحكومة الانتقالية والدول المانحة والتي تطالب بالاستعانة بفريق من الخبراء يعمل في وزارتي المالية والمعادن بالاضافة لشركات القطاع العام الكبرى ويكون له الحق في نقض أي قرارات يمكن أن تتخذها الحكومة في هذه المجالات. لم يحدد التقرير جنسيات هؤلاء الخبراء غير أنه لا يخفى على فطنة القارئ أن المقصود هو إقامة حكومة خفية تتحكم فيها الدول المانحة وتمتلك صلاحيات واسعة لتسيير الاقتصاد في البلاد. لا شك أن المجموعة حاولت تسويق هذه المقترح عبر حديثها المطول عن حقيقة الفساد المستشري في أفريقيا الوسطى منذ استقلالها دون استثناء لأي حكومة وطنية. ورغم أن التقرير قد أورد من الحقائق ما يؤكد استشراء ظاهرة الفساد في أفريقيا الوسطى والأثر السئ لذلك على الأوضاع الاقتصادية في البلاد ، إلا أن الحديث عن تعيين خبراء أجانب لإدارة الاقتصاد يعيد للأذهان الحجج التي أوردتها الدول الأوربية في مطلع القرن العشرين لتبرير سياستها بإخضاع الدول الأفريقية للاستعمار الذي استمر لعدة عقود وخرج مخلفاً وراءه هذه الأنظمة الفاسدة التي تحكم الغالبية العظمى من دول القارة في الوقت الحالي. ولعل الممارسات الأوربية السالبة في القارة الأفريقية خلال القرن العشرين أعطت كلمة "استعمار" معنى مغايراً لمعناها الحقيقي في اللغتين العربية والانجليزية.
تغيرت الأوضاع الدولية بصورة كبيرة في العقود الثلاث الماضية ، كما تغيرت موازين القوى على الساحة الدولية ، غير أن أهداف القوى الكبرى في السيطرة على القارة الأفريقية ظلت كما هي. كما أن مطامع هذه الدول وغيرها في السيطرة على ثروات الدول الأفريقية لم تتغير بالرغم من محاولاتها إخفاء ذلك بدهاء في الإيحاء بالسعي من اجل تحقيق الأمن والرفاهية للمواطن الأفريقي. ومما لا شك فيه أن ممارسات الحكومات الأفريقية تتيح الكثير من الثغرات التي يمكن أن يستغلها الطامعون في ثروات القارة الضخمة سواء أن كانوا من أبنائها أو من غيرهم ، مما يهيئ الأجواء لمثل هذا الحديث عن الوصاية الدولية في شكلها الجديد.
mahjoub.basha@gmail.com
////////
///////////