قرائي الأعزاء أستميحكم عذرا بإعادة نشر هذا المقال بذات العنوان مع بعض تغيير طفيف، وقد سبق نشره في اكتوبر 2011 عام الانفصال والبوار. نحتفل اليوم بذكرى اكتوبر الأخضر وقد استجاب ربنا لبعض دعاء لهجنا به في 2011 (وحلمنا الكبير أن تعود أكتوبر علينا في مقبل الأيام فتجدنا:وطنا كاملا سالما،وشعبا غانما مجيدا -يشعل الأرض قمحا وتمني، وليس ذلك على الله بعزيز) وقد كان ذلك الحلم وهذا الدعاء في زمانه يبدو كحلم طوباويٍ بعيد المنال ولكن مثلما كتبنا حينها ليس بمستحيل إن أتت أشراطه. فحينما تأتي تلك الأشراط يغدو الحلم في حكم المقدور عليه، وكذا كل عمل كبير: يسبقه حلم كبير، يصحبه عمل مجد، و يكلله توفيق إلهي: لن تحده الحواجز أو تمنعه الموانع مهما علت أسوارها وتحصنت بالحصون أو البروج المشيدة ..وهو ما حدث بالفعل في ديسمبر الثورة التي تفوقت على أترابها من الثورات وتفوقت على أمهاتها من الثورات لكونها ثورة اجتماعية شاملة ومحروسة، غطت كل بقاع الوطن بكلمة واحدة قالها الشباب وقالتها النساء واصطف معهم الشيوخ وقالها الأطفال :تسقط بس! و أكتوبر اليوم لنا ليست مجرد اجترار لتاريخ يشهد بعظمة هذا الشعب أو نوع من نوستالجيا الحنين الى الماضي ،لكنها تمثل حاضرا نابضا يتوق للخلاص ومستقبلا زاهرا يزخر بالأمل. ومن هذا الباب لا يحق لنا الاحتفال بأكتوبر كأسطورة أو أعجوبة عسيرة التحقيق وحدث «زمانه فات وغنايه مات».علينا واجب استحضار روح أكتوبر كتاريخ نستمد منه الدروس ونستلهم العبر كما نادى د. عبد الله علي ابراهيم في سلسلة أكتوبرياته الثلاثين التي نشرت تباعا في اكتوبر 2011 في جريدة الأحداث في صياغة شيقة غزيرة المعلومات برغم مما لكناه على بعض ما جاء بها من حديث، ومنه انطباع يقفز لقاريء الأكتوبريات العلوية من السطور مباشرة ومن ما بين السطور :أننا في ساحة لا وجود فيها الا للرفاق فالفعل فعلهم والقرشي منهم ولا مكان لأغيار! مع أن المعنى الأهم الذي تجسده أكتوبر هي العمل الجماعي... كما وجدت مفارقات مدهشة في الطرق التي استدل بها د.عبدالله على أن القرشي مات على الشيوعية ولا أغالطه في ذلك لكن دهشتي تنبع مما اتبع من طرق الاثبات . كنا نحسب - قبل ذلك الإخبار أن الحزب الشيوعي من الأحزاب الحداثية التي تحفظ فيها أسماء الأعضاء في سجلات وتستخرج لهم بطاقات الانتساب ،لكن اعتماد د.ابراهيم لم يكن على شيء من هذا! بل كان على ما رأيته محنا تضاف لمحن السودانيين التي أحصاها الأستاذان شوقي و البطل:بتوسله لذلك الاثبات بصورة فوتغرافية تجمع القرشي مع شيوعيين ورحلة بصحبة جمهور جله من أنصار الماركسية «كان من ضمن الحضور د.عون الشريف قاسم مما يعني أن هناك آخرون من غير أنصار الماركسية، حيث لم يأتنا نبأ يفيد بشيوعية د.عون رحمه الله»، وقصاصة ورق تركها القرشي لزميله معتذرا عن غياب اضطر له، وكلها حادثات لايصمدن - بنظرنا لاثبات شيء! بينما تصلح اضافة لغياب سجل لأعضاء الحزب الشيوعي، أن الحزب الشيوعي السوداني كذلك في مرامي السهام التي وجهها أستاذ سعد الدين فوزي نقدا للنقابات في السودان بسبب افتقارها للاهتمام بالتوثيق. أكثر ما يحز في النفس ويفت في العضد أن العالم لا يذكر أكتوبر 21، ولا يذكر فضل سبقنا بها، حينما اندلع ربيع الثورات العربية أول ما اندلع في تونس وفي مصر ولم يشهد لنا العالم بأننا الأولين في مضمار تحقيق الحريات بوسائل الجهاد المدني، وقد سبق لنا خوض غماره مرتين قبل الآخرين في سيناريو صار مألوفا عندنا حد العادة :يشتعل الشارع بعد تعبئة واعداد ،ينحاز له الجيش فيتنحى النظام بمثلما فعل الفريق عبود في أكتوبر 64 أو يجبر على التنحي كما حدث للمخلوع نميري في ابريل 85 ولا ندري هل نحن المقصرون في ذلك ، والتواضع كما ذكرنا سابقا -علة سودانية أم أن الآخرين لم يعطونا حق الملكية الفكرية تعاليا و تحقيرا؟ لكن ليس ذاك آخر أحزاننا في ذكرى أكتوبر فهناك الجهل بأكتوبر مما أورد أمثلته د.علي ابراهيم خاصة من جيل اليوم في الجامعات وهناك تجهيل المغرضون على أكتوبر ورميها بحجر من الذين يقولون لم يكن هناك ما يستدعي الثورة بالأساس وتهم أخريات فنظام عبود بحسبهم لم يكن بذلك السوء الذي يستوجب تغييره والمغرضون هم الشموليون الذين في أحسن حالاتهم يؤمنون بنظرية المستبد العادل، ولكننا من ساحة الدفاع عن أكتوبر ننسحب بطيب خاطر وسرور تاركين المجال كله لقلم د.علي ابراهيم القدير الذي تزكيه عدة مزكيات أدناهن شهوده العصر. وفي السياق فقط نضيف قاعدة قيمية عامة نراها ونحب التحبير عليها:وهي أن حجتنا على الشموليات تقوم أساسا على اقصائها الرأي الآخر والاعتماد على التقييم الشخصي للأمور مما يفضي حتما للانفراد بالرأي، اقصاء الآخرين والعناد الشيء الذي يعيب من حيث المبدأ النظم الشمولية مهما ادعى مدعون نقاء سرائر القائمين عليها وصلاحهم أو فكرة المستبد العادل التي تعشعش في بعض العقول ومن هذا الباب لا يمكن النظر لنوفمبر بعين الرضا حتى وان كانت عند مقارنتها بما شهدناه من ويل وثبور في مايو وعظائم أمور في يونيو في صالحها ولذلك نقول بالديمقراطية وحتميتها وأفضليتها مهما قلنا فيها لأنها تقوم على أعمدة الحكم الراشد: من مشاركة ومحاسبية وشفافية وسيادة حكم القانون فتلك قواعد سهلة الحساب ودغرية المنطق تتم فيها المحاسبة على الأعمال أما النوايا وما في الصدور فندع فيها الخلق للخالق. واحدة من العلل التي نراها قابعة خلف سيرة أكتوبر الخافتة هي غياب كتاب تاريخي موثوق الكلمة يوثق لأكتوبر برواية متفق عليها من الجميع وباب الشهادات غير المنقحة وغير المعتمدة التي -تنفخ دور هذا وتغمط دور ذاك -مفتوح على مصراعيه، ومن هنا نحي الجهد التوثيقي لدكتور علي ابراهيم والسيد عبد الحميد الفضل رحمه الله وكل من كتب عن أكتوبر بعيون من حضر ونرجو أن ينضم لهم كل من شهد جانبا من ملحمة أكتوبر مهما كان دوره صغيرا لتصب كل المعلومات في أيدي كتبة بررة ينقحون ما بين أيديهم ويمتحنون مصداقيته وبعده عن الغرض ثم يقدمون لنا ، رواية تاريخية واحدة معتمدة لا خلاف حولها : وسيكون ذاك أول هم. أما ثاني الهموم -في ذكرى أكتوبر، فهو الواجب الذي لا يتم بسواه واجب وهو تحقيق مطلب الأمة واستعادة الديمقراطية :فهذا المطلب كان هو المطلب الوحيد الذي أوصانا به أب الديمقراطية :الامام الصديق طيب الله ثراه وهو أب للديمقراطية بشهادة معتمدة مختلفة المشارب لكونه سبق وصيته التي قدمها على فراش الموت بالعمل المجد ،فقد كان أول من دق اسفينا في نعش نظام نوفمبر بمعارضته الشجاعة الصميمة منذ يوم الانقلاب الأول فكسر حاجز الخوف من جحافل العسكر وترك للمعارضين إرثا ثمينا لفوائد العمل الجماعي وخارطة طريق محكمة ،مشوا على هداها فكانت أكتوبر من ثمراتها. ليس من الانصاف في شيء أن نؤرخ لأكتوبر الثورة ابتداء من أكتوبر الشهر فلا يمكن لأحد أن يدعي أن الثورات تحدث بلا مقدمات ، وذلك قول اختبر السودانيون صدقيته منذ المهدية وفي الاستقلال وأكتوبر لم تكن بدعا من ذلك وقد مرت عمليتها عبر مراحل عديدة للبناء التراكمي والاعداد القاصد مما تمخض عن مخاضه الثورة في لحظتها الميمونة بمثلما سيتضح في عرض مختصر لأحداث أكتوبر.وها هي ديسمبر ولدت من رحم التراكمية والعمل الجماعي أيضا: في نهايات الحكم الديمقراطي الأول بعد الاستقلال في 58 تخوف رئيس الوزراء من تدابير مصرية تجري سرا للانقضاض على الحكم الديمقراطي الوليد والأميرلاي شديد الحساسية من التغول المصري وعدم وفائه بالعهود فله شخصيا معهم تجربة في عام 24 حينما غدر بهم المصريون تاركين ظهر مناضلي ثورة 24 مكشوفا دون غطاء فأصلاه البريطانيون نارا وفتكوا بأعضاء جمعية اللواء الأبيض وذلك عندما نفذ اللواء المصري الذي ثاروا من أجل إبقائه في السودان أمر الانسحاب رضوخا لرغبة بريطانيا للتقليل من الوجود المصري في السودان خوفا من تزايد النفوذ المصري - تم تنفيذ انسحاب اللواء المصري دون أن يحاول جنود ذلك اللواء الوقوف مع مناصريهم من ثوار 24 ، وقد كانت حركتهم أصلا لمؤازرته والتصدي لقرار ابعاده من السودان مما جعل الأميرالاي يكفر بفكرة الاتحاد مع مصر والتي كان يراها طريقا لتحرير السودان ويهرع الى الاستقلاليين سبيلا لتحقيق الاستقلال المنشود. المهم رأى عبد الله خليل عقد اتفاق محدود ومشروط مع القيادة العسكرية على أن يعيدوا الديمقراطية بعد ستة أشهر عند زوال الخطر . ولكنهم غدروا به فكان شخصه وحزبه من أول ضحاياهـم... حصل الانقلاب في أول أمره على تأييد الامام عبدالرحمن الذي خاف من تضييع الاستقلال نفسه ان أدت المعارضة لقيام حرب أهلية وآثر التعامل مع الحدث ضمن نظام الجودية السوداني لاقناع الجيش بالرجوع الى الثكنات فيما بعد .لم يوافق الامام الصديق منذ اليوم الأول على الانقلاب وقد كان يرى أنه يفسد السياسة بلا طائل. فحل مشاكل الديمقراطية كما قال يكون بمزيد من الديمقراطية - لذلك نشط في معارضة النظام منذ لحظة أتاه خبر الانقلاب وقدم مذكرته الأولى في 21 أكتوبر 1960 ثم دعا الى تجميع كل الأحزاب في الجبهة الوطنية التي تولت النضال وقادته ضد العسكر فكانت المذكرات المطالبة بعودة الجيش الى الثكنات والاضرابات وارسال المنشورات التعبوية للأقاليم.قدم السياسيون «تلغراف الساسة»احتجاجا على تعذيب محام في الأبيض تصدى للدفاع عن متهمين بالتظاهر وانتهى ذلك بسجن الساسة «عبدالله خليل،الأزهري،أمين التوم،الأمير عبد الله نقد الله وآخرين»ومذكرة لفت نظر للامام الصديق.. تلك المواجهات المتصاعدة كانت ذروتها في أحداث المولد 21 اغسطس 1961 عندما حاصرت الحكومة خيمة الأنصار في المولد وقتلت منهم وقتلوا منها وكان مشهد التشييع في اليوم التالي تحديا سافرا للحكومة وعندما تسبب الحدث في موت الامام الصديق نشطت الجبهة الوطنية بعد فترة شتات بعد وفاة الامام الصديق فكانت اجتماعات الجبهة الوطنية المشجعة والمحرضة على اضرابات العمال والمزارعين وطلبة الثانويات والجامعات بالتضامن مع جبهة الهيئات حديثة التكوين وجلها من اليساريين.. ومن ضمن النشاط المعارض لحكومة نوفمبر كانت الندوات السياسية التي تعقد في جامعة الخرطوم والتي فتح لها باب المناقشة الحرة حينما بدا للحكومة ان الطريقة التي عولجت بها مسألة الجنوب تحتاج لمزيد من نقاش. ولأن النقاش في قضية الجنوب كان حرا سرعان ما انتهى الى نهاياته المنطقية وتناول التحليل المرض«الانقلاب» وليس العرض «حرب الجنوب»وكانت ندوة 21 أكتوبر التي خاطبها الترابي وحمل فيها على الحكومة بسبب معاملة مسألة الجنوب كملف أمني«فسبحان مغير القلوب الذي دعا د.الترابي نفسه لانقلاب يونيو فيما بعد لحسم قضية الجنوب عسكريا!» ثم ما حدث من مواجهات أدت لاستشهاد القرشي في نفس اليوم ، وبعد تشييع جثمان الشهيد الذي صلى على جنازته السيد الصادق المهدي تحرك موكب صار يهتف :الى القصر حتى النصر. بعد الموكب سلمت مذكرة للقوات المسلحة تطالب الجيش بالرجوع الى الثكنات بامضاء كافة الأحزاب - ما عدا "كرام المواطنين". أعلنت جبهة الهيئات الاضراب وساندتها الجبهة الوطنية مما ضمن النجاح الكامل للاضراب .قرر عبود حل المجلس العسكري والاتصال بالجبهة الوطنية للتفاوض«الصادق المهدي،مبارك زروق،حسن الترابي،أحمد السيد حمد،عابدين اسماعيل».وفي 28 أكتوبر تم الاجتماع مع عبود وقدم له الميثاق المتفق عليه بين الأحزاب وانتهى الاجتماع بقرار عبود القاضي بتصفية الحكم العسكري وتشكيل حكومة انتقالية بمقتضى الدستور المؤقت.تم تكليف السيد سر الختم الخليفة برئاسة وزارة الحكومة الانتقالية ومن ألزم مهامها عقد الانتخابات في أقرب ما تيسر.حدث خلاف في الجسم السياسي بسبب غلبة اليساريين على حكومة أكتوبر ومحاولة تسييرها بحسب ما يرون وتأجيل الانتخابات عن موعدها المضروب. قاد حزب الأمة الرأي العام ضد هذا التوجه مطالبين رئيس الوزراء بالاستقالة.استقال السيد سر الختم الخليفة وأقيلت وزارته ثم تم تكوين حكومة متوازنة تراعي تمثيلا حقيقيا لكل الأحزاب مما أدى لقيام الانتخابات في موعدها في 1965م. ليس هناك - طبعا من يطمع في تكرار المشهد الأكتوبري بحذافيره فالزمن تغير والظروف كذلك تغيرت ولكننا ننادي باستدعاء روح أكتوبر وعوامل نجاحها وتحقيق أشراطها ،المتمثلة في تجميع كل الجهود يدا واحدة وهو مشهد متكرر وليس وقفا على أكتوبر وحدها يستدعيه السودانيون كلما واجهتهم محنة عظيمة : في المهدية ضد الاستعمار،في الاستقلال الثاني، في أكتوبر كما حدث في ابريل وديسمبر. هذا التجميع للجهود الذي كان شرطا قبليا لنجاح أكتوبر وسواها من انتصارات سودانية يتمثل أول ما يتمثل في نبذ الروح العنصرية التي أخذت تفتك بالجسد السوداني المنهك.وهذا النجاح نجده موثقا نثرا وشعرا: أمثال رائعة محمد المكي ابراهيم سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعا وخضرا ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا اسما وذكرا الحرية هي التي صنعت من السودانيين رقما يصعب تجاوزه وقد نلناها أو نلنا بعضها بديسمبر وتشكيل الحكومة المدنية ولكن لن يكتمل ذلك الا بقيام حكومة منتخبة في انتخابات نزيهة ومعترف بها داخليا وخارجيا... وبالاختصار: الحرية واستعادة الديمقراطية هي الواجب الذي لا يتحقق واجب الانجاز والعطاء الوطني ومن ثمّ الكرامة الانسانية الا به، فهبوا الى ما يصلح دنياكم وآخراكم لنركل من يقف في طريق ذلك العمل. وسلمتم