أمدرمان أيام المهدية: ملخص ما جاء في كتاب للأسير الإيطالي س. روزيقونولي. ترجمة: بدرالدين الهاشمي
أمدرمان أيام المهدية: ملخص لبعض ما جاء في كتاب للأسير الإيطالي س. روزيقونولي (4)
فارنام ريفش Farnham Rehfisch
ترجمة : بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الرابع من ترجمة لبعض ما جاء في مقال للأكاديمي الراحل فارنام ريفش (والذي عمل لسنوات طويلة أستاذا لمادة الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة الخرطوم في ستينات القرن الماضي.) يلخص فيه ما كتبه أسير المهدي الإيطالي س. روزيقونولي في مؤلفه I meei Dodici Anni di Prigionia in Mezzo ai Dervisci والصادر في عام 1898م عن الحياة في أمدرمان بين عامي 1881م و1894م. يلاحظ أن ما جاء به المترجم باللغة الإنجليزية هو عبارة عن شذرات متفرقة من كتاب القس الإيطالي لا يربطها تسلسل تاريخي معين، بيد أنها عظيمة الفائدة في معرفة الحياة الاجتماعية في أمدرمان بعيون أسير مسيحي لا يخلو من تعصب (ضد المسلمين واليهود أيضا!) وبغض لآسريه وثقافتهم، ورغم ما فيها من حكايات يصعب تصديق بعض تفاصيلها أو الوثوق بصحة وقوعها.
في الجزء الأول أورد الكاتب شيئا عن أيامه الأولى في أمدرمان وعن مقابلته للخليفة وعن عمله في ميدان التجارة، وحكى في الجزء الثاني عن معاناته في العمل في مطعم صغير في سوق أمدرمان، وعن إجباره على العمل متطوعا في بناء قبة المهدي وعن تمرد الأشراف على سلطة الخليفة. أما في الجزء الثالث فقد حكى القس الإيطالي عن حال أمدرمان وسكانها في عام المجاعة (1888م) وعن حكم الخليفة وممارساته.
نشر هذا المقال في مجلة "السودان في مذكرات و مدونات" العدد 48 الصادرة في عام 1967م.
المترجم
************ ****************
كانت دولة الخليفة مقسمة إلى ثمان إمارات على رأس كل منها أمير، ويكون الأمراء عادة من البقارة المخلصين الخاضعين مباشرة للخليفة، ويقيمون في عواصم إماراتهم وهي دنقلا وبربر والمتمة وكركوج والأبيض وفاشودة والفاشر والرجاف. يوجد في كل إمارة بيت للمال، وقاضي يبت في شئون السكان، وجباة للضرائب لا يسألون عما يفعلون، ويمارسون أشد أنواع الظلم والابتزاز من أجل استخلاص أقصى قدر ممكن من المال لمصلحتهم الشخصية. كانت كل أموال بيوت المال في الإمارات المختلفة تصب في النهاية في "بيت المال" في أمدرمان والذي كان يتولى إدارته يعقوب وعثمان شيخ الدين (شقيق الخليفة عبد الله وولده) وغيرهما من أقرباء وخلصاء الخليفة، والذي كان يستأثر لنفسه بعشر ما يرد لبيت المال من كل عاصمة عدا دنقلا، والتي كان يخصص دخل ضرائبها كله له دون غيره.
كان إخلاص الناس وعاطفتهم نحو الخليفة (والذي كانت السلطات تبقيه بالقوة والتخويف) يتناقص وباضطراد كلما بعد المرء عن أمدرمان، وكان السكان في أطراف البلاد الذين كانوا يحافظون على نوع ما من الاتصالات مع القوى الأوربية ينتظرون ويؤملون حل ربقتهم على أحر من الجمر.
كان بيت المال بأمدرمان يحوي مخزنا لما ورثه الحكم المهدوي من التركية مثل أدوية قديمة، ومطبعة حجرية lithograph، وآلة لصنع الصابون، وكانت هذه الأشياء نادرا ما تستخدم. كذلك كان فيه متحف يعرض غنائم وتذكارات كل حروب المهدية، مثل سرير يوحنا ملك أثيوبيا. أقيم (حديثا) ببيت المال مكتب للتلغراف telegraph office مهمته الأصلية الاتصال بمخزن الأسلحة في الخرطوم، وليسهل الاتصال بالخرطوم وبيت الخليفة، وهو مفتوح – نظريا- للعامة أيضا.
يساعد القاضي (وهو بمثابة رئيس المحكمة العليا) أربعة أو خمسة قضاة يجلسون على الأرض في قاعة المحكمة، وبجانبهم كتبة يسجلون ما يقال أثناء المحاكمة. كانت "العدالة" عند هؤلاء سلعة تباع وتشترى، مثلها مثل أي بضاعة، ولكن كان الخليفة يوقع بمن يسمع بخيانته للأمانة أشد العقوبات.
كانت الذرة هي الطعام الأساس لسكان أمدرمان، وهي ذات أنواع وألوان مختلفة، وأفضل أنواع الحبوب عندهم هي الدخن الذي يزرع في كردفان، ومنه نوع أبيض يسمى القصابي والماريق، ونوع أصفر يسمى الصفرا (علمت من خبير أن ما أورده القس الأيطالي ليس صحيحا، إذ أن القصابي والماريق ليستا من أنواع الدخن، بل هي من أنواع الذرة. المترجم). من أنواع الذرة الأخرى في أمدرمان الفتريتة وهي ذات لون رمادي شاحب. أما أردأ أنواع الذرة فهي الذرة الحمراء، وهي ما يستهلكه فقراء السكان والعبيد. تخزن الذرة في حفر في التربة تحاط بمادة لزجة غرورية من الطين وروث الإبل وذلك لحفظها من النمل الأبيض (الأرضة). لصنع الكسرة تطحن الإماء الذرة أولا بين حجرين خشنين بالمرحاكة (وهنا شرح القس الإيطالي لقرائه كيفية صنع الكسرة بشيء من التفصيل. الكاتب) أو العصيدة (والتي شبهها بالثريد الإيطالي Polenta) التي تصب في قداحة (الجمع الدارج لكلمة قدح. الكاتب). يبدو أن كل شيء في السودان يجب أن يسحق أولا ويحول لبودرة قبل أن يؤكل، حتى اللحم يقطع لقطع صغيرة ويجفف تحت حرارة الشمس ويدق، وتستعمل مسحوقه لاحقا كملاح للشرموط. أما اللبن فيشربه السودانيين عادة مخمرا. عندما كنا نعمل في الإرسالية في غرب السودان كان طعامنا يحضر على الطريقة الأوربية، ولم يكن ينقصنا شيء، ورغم ذلك كنا نعاني من الإسهال المستمر والحمى والتى كنا نعزوها للملاريا، والتي فشلت كل الأدوية الني جربناها في مداواتها. تبينت من خبرتي أن سبب علتنا كانت في ما كنا نأكله، ووصلت لقناعة مفادها أننا يجب أن نتناول فقط ما يأكله الأهالي أنفسهم، فالخبز المصنوع من عجين القمح والخمر واللحم واللبن الطازج كلها كانت تسمم أجسادنا. في أحد أيام الأسر في أمدرمان تحصلت بطريقة ما على لسان ثور، فقمت بسلقه والتهامه وأنا في غاية الاستمتاع. ما هي إلا دقائق إلا والمغص المعوي يكاد يفتك بي. لاحظت أن الأهالي يزدردون أحشاء الحيوانات كالأبقار والإبل وأكبادها ورئاتها وقلوبها دون طهي، ولا يصيبهم من ذلك أدنى مكروه، بل هم يعدون أكباد الإبل النيئة من أعز أنواع الطعام، خاصة إن أكلت مع كثير من الشطة الحمراء والبصل. يضاف السائل الصفراوي (المرارة) للرئة عبر الرُّغامَى (قصبة الرئة) ثم تنفخ وتقطع وتؤكل نيئة مع البصل. لم أتعود في البدء على ذلك النوع (الغريب) من الطعام، وكنت أتحاشاه بقدر الإمكان، بد أني تعودت بعد مرور السنوات على أكل اللحم نيئا كما يفعل الأهالي دون أن يصيبني ضرر، وصرت أشتهيه عندما لا أجده، بل غدوت مغرما بأكل الجراد السمين الشهي، والذي كان يغزو البلاد بين حين وآخر ويتساقط بعضه على الأرض فيلتقطه الناس ويقطعون منه الأجنحة والسُّوقِ والرؤوس فتخرج معها الأحشاء ثم ويشوونه على ألواح فخارية أو معدنية على النار ثم يبيعونه في الأسواق بالأكوام. أذكر أن الأب أوفالدر عاد للمنزل ذات مساء سعيدا بعد تناوله لوجبة جراد لذيذة دعاه لها سلاطين.
كان أغنياء أمدرمان يأكلون في بعض المناسبات لحوم طازجة للدواجن والأغنام والأبل، وطريقة طيها تكون بتقطيعها لقطع صغيرة وطهيها مع بصل سبق قليه في زيت سمسم أو سمن حتى يحمر، ويؤكل "الملاح" مع الكسرة وحدها، ويؤكل اللحم بمفرده. كان فقراء أمدرمان يأكلون وجبة واحدة في اليوم بينما كان الأغنياء يتناولون عادة وجبتين في اليوم، الأولى هي وجبة خفيفة في الصباح مكونة من العصيدة (وقد تضيف لها بعض الأسر الثرية كبد الإبل) مع شرب البقنية أو المريسة، ثم وجبة كاملة بعد ساعة أو ساعتين من غروب الشمس. عادة ما يشرب المرء مع وجبة الطعام الماء من أقداح مصنوعة من قرع مجفف، وتوضع فوق القرعة طبقة من أوراق الذرة لتخفف من تسرب طعم القرع المر للماء.
يتناول سكان أمدرمان مختلف أنواع المشروبات مثل المريسة والبقنية من الذرة والنبيذ (الشربوت) من التمر (شرح القس الأسير وبتوسع طرق صناعة المريسة والبقنية والنبيذ مما لا داعي لذكره هنا. المترجم)، وهذه المشروبات جميعها تصيب الرجل الغربي بالغثيان. المريسة شديدة الإسكار، وتختلف عن البقنية في القوام والكثافة. أما النبيذ عندهم فله حلاوة غير مستحبة (في الأصل مقرفة. المترجم) وهو مرغوب بشدة رغم ارتفاع ثمنه. يصنع البعض ليلا الكحول (العرقي) من الذرة، ويتم تقطيره في أواني فخارية. كل ما ذكر هي مشروبات محرمة قانونا ومن يقبض عليه وهو يصنعها أو يتناولها فسيلقى عقابا قاسيا (غالبا بالجلد بالكرباج)، مع الغرامات المالية لزيادة إيرادات بيت المال.
يتناول الرجال والنساء وجباتهم اليومية بصورة منفصلة، وتكون غالبا في مجموعات من الجيران، بينما يأكل الأحرار طعامهم بعيدا عن العبيد (الذين كانوا يتناولون أكثر أنواع الأطعمة بؤسا). اكتسبت مع مرور الأيام في الأسر العادة المحلية في عدم تناول المرء للطعام بمفرده فصرت أتناول طعامي مع رفيقي الإيطالي ريجنتو دائما، إما في عشته أو عشتي.
يمر اليوم عند غالب الناس بصورة رتيبة مملة. فمن يفرض عليهم العمل مثل العبيد والآخرين يعملون طوال اليوم دون انقطاع. أما الثري منهم فيستيقظ مبكرا ويذهب للصلاة في المسجد، ثم يعود لمنزله لتغسله زوجته الأولى وتعطره، وتقدم له وجبة اليوم الأولى. بعدها يقوم الرجل بعدة زيارات لمن لديه معه أمور تجارية أو غير ذلك، ويذهب للمسجد أربعة مرات أخرى خلال اليوم لأداء بقية الصلوات جماعة. بعد صلاة العشاء قد يقضي الرجل بعض الوقت في قراءة القرآن وتفسيره قبل أن يعود لداره ليتناول الوجبة الثانية ويخلد إلى النوم، إذ أن الخليفة كان يمنع الطواف في المدينة ليلا.
يعيش العربي أيامه يوما بيوم دون نظر أو تدبر للمستقبل، ويعمل في هذه الصنعة أو تلك التجارة التي أتاح له الذكاء أو الصدفة العمل فيها في تلك اللحظة، وإن كسب بعض المال من صناعته أو زراعته تلك، يبدأ في الاستمتاع بمباهج الحياة دونما عمل، إلى أن ينفذ ذلك المال فيعود للعمل من جديد. إن أول ما يفعله العربي إن وجد مالا هو أن يتزوج ثم يشتري عددا من العبيد، وبذا يضمن لنفسه الراحة والرفاه، فالزوجة ستتولى إدارة شئون البيت، بينما سيقوم العبيد بالخدمة (المجانية) في غير ذلك من الأمور. يستمرئ الرجل حياة الدعة والخمول إلى أن تسوء حالته المادية فيقوم ببيع عبيده أو العودة للعمل لتمكن من جمع مبلغ صغير من المال يمكنه من إعادة الكرة والعيش مرة أخرى كسيد عاطل. كان من نتائج ذلك النوع من السلوك أن ضعفت الثقة عند غالب التجار، فصاروا يطمعون في الأرباح السريعة، وكثرت السرقات، ولم تجد معها العقوبات الرادعة ولا العسس. يقوم اللصوص بقطع محافظ الناس الجلدية المعلقة على رقابهم بدقة وحرفة عالية خاصة في الأسواق، وفي هذه الأيام صاروا يتسورون جدران البيوت، ولم تسلم حتى عشتي الصغيرة من السرقة في عديد المرات.
لا تقوم النساء الحرائر بأي أعمال تذكر، وقلما كن يغادرن المنزل أو يقمن من "العناقريب" التي ينبطحن عليها طوال اليوم (حتى عند تناول الطعام)، فالخدم يقمن بكل ما لزم عمله بينما هن يقضين غالب اليوم في الاعتناء بأنفسهن بمساعدة بعض صغار الفتيات الرقيق. وفي بعض الأحايين تمارس هؤلاء الفتيات الصغيرات مكرا أنثويا يسرقن به اهتمام ملاكهن عندما لا يكن مشغولات بنسج الأقمشة والبسط، وصنع أشياء بسيطة من سعف النخل.
للزوجة الأولى سلطة نسبية تتحكم بها – لحد ما- على بقية زوجات الرجل، بيد أن العلاقات بين الزوجات عادة ما تكون علاقة خصام، إلى الحد الذي ينبغي على الزوج فيه التدخل والفصل بين الزوجات، وأول ما يفعله الزوج في هذا الصدد هو أن يجعل كل زوجة "توقد نارها" بمفردها (أي أن تطبخ طعام عائلتها الصغيرة بمعزل عن بقية الزوجات الأخريات).
تتعرض صغار البنات للختان، وتقضي البنت منهن ما لا يقل عن أربعين يوما وهي مقيدة على السرير، بينما كان ينظف جرحها بالماء الحار.لا تضع المرأة الحامل مولودها في بيت زوجها، بل في بيت والدها، وبعد الولادة تتعرض لعملية تشابه الختان الذي تعرضت له كطفلة صغيرة، ويلزم أن تبقى طريحة "العنقريب" لأربعين يوما قادمة تؤوب بعدها لبيت بعلها. لا تكشف المرأة المتزوجة عن وجهها للرجال الغرباء خلا العينين ، ولا تغادر بيتها إلا في موكب فيه عدد من النساء الرقيق. وعلى الرغم من قواعد السلوك الصارمة المتعارف عليها بالبلاد فإن الحيل التي كن يمارسهن اولئك النسوة لبلوغ ما يرغبن في عمله لا حصر لها، بل وكان بعضهن كثيرا ما لا يتورعن عن "القوادة" لأزواجهن.
تتحلى النساء في أمدرمان بأنواع مختلفة من الحلي، فيضعن مثلا أقراطا ثقيلة تتطلب ربطها بخيط حول الرأس، أو قلادات مصنوعة من حلى صغيرة غالية الثمن يقال إنها نمساوية الصنع. توجد أيضا قلادات من المرجان أو الكهرمان أو الزجاج، وبعض القلادات من العملات الذهبية والفضة الأوربية الصغيرة. كذلك كانت النساء في أمدرمان يضعن أساور من الفضة الثقيلة أو العاج أو النحاس، أما الأساور الذهبية فهي لثريات النساء فقط.
تتم عملية التنظيف الشخصي عند النساء بمسح كامل الجسد بالدهن أولا، ثم دلكه من بعد ذلك بمسحوق الكسرة وخميرة الخبز، وهذا من شأنه أن ينظف البشرة ويطري الجسم. بعد ذلك يقمن بدهن أجسادهن بمختلف أنواع الدهون والمراهم العطرية التي تخبأ في أواني فخارية صغيرة وتحرس بعناية. تتكون هذه الدهون العطرية من زيت السمسم المغلي مع دهن حيواني يضاف إليه خليط من مساحيق خشب الصندل والقرنفل وصدف البحر السوداء (الضفرة) والمحلب. وقبل أن يبرد كل ذلك الخليط تضاف إليه عطور مستوردة من جدة. تقدر النساء (الحرائر) تلك العطور المخلوطة تقديرا عاليا للحد الذي يقمن فيه بتحضيرها بأنفسهن ولا يتركن عملها لرقيقهن من النساء (يلاحظ هنا أن القس الإيطالي لا يفرق كثيرا بين ما تسميه النساء "اللخوخة" للتنظيف، و"الدلكة" للتعطر. المترجم).
يرتدي الرجل بنطالا متوسط الطول (سروال) وقميصا طويلا (عراقي)، بينما تلف المرأة قطعة قماش متوسطة الطول حول وسطها، وإن كانت المرأة من الحرائر فستغطي كامل جسدها (ويشمل ذلك الوجه عدا العينين) بقماش قطني أبيض يأتي من بربر.
توجد في أمدرمان مدارس (خلاوي) للأطفال يتعلمون فيها القرآن والقراءة وهم جلوس على الأرض، ولا يستفيد من خدمات الخلاوي تلك إلا أبناء الأثرياء الذين بمقدورهم نفح الشيخ بالعطايا.
لم يكن حال المسترقين بالسوء الذي هو عليه الآن. ففي عهد التركية (الذي كان أكثر رخاء ورفاه من العهد المهدوي الحالي) كان مالكو العبيد يعاملونهم معاملة إنسانية، بيد أنه ونتيجة للفقر الذي عم البلاد فقد صار السادة يطعمون عبيدهم أقل القليل الذي يكفيهم للبقاء أحياء وقادرين على العمل (بأكثر مما كانوا يعملون في العهد السابق). يعد الناس هنا العبد والعبدة أقل شأنا من الرجل الحر والمرأة الحرة، إذ هما لم يخلقا إلا لخدمة وإسعاد مالكهما. كان الملاك يأمرون رقيقهم من الجنسين بالعمل في المدينة أو خارجها في الحقول أو غير ذلك من شاق (أو فاسق) الأعمال ويطالبونهم بتسليمهم ما يحصلون عليه من أجور كاملا غير منقوص وإلا سيتعرضون لأشد العقوبات. كنت كثيرا ما أرى أولئك المسترقين الأشقياء يسيرون حفاة وشبه عراة على الرمال الساخنة في حر الصيف وهم يتكلفون مشقة أحمال ثقيلة والعرق يسيل من أجسادهم. كان باطن أقدام هؤلاء المساكين في خشونة لحاء الأشجار. في الشتاء يتعرض هؤلاء العبيد للبرد الشديد وهم شبه عراة فتشقق جلودهم دون أن يحصلوا على قطعة دهن صغيرة يمسحون بها الشقوق في أجسادهم. كانت مفروضا على النساء المسترقات أداء كثير من الأعمال التي كان يقوم بها العبيد، ولكن بالإضافة لذلك كان على هؤلاء النسوة العمل على "المرحاكة" ليلا وتحضير العشاء للسيد. ولضمان أن لا تغفو العبدة أثناء عملها أو أن تدخل بعض حبوب الذرة في فمها كان عليها أن تواصل الغناء أثناء عملية طحن الذرة. كان السادة يضعون حول عبيدهم الذين كانوا يشكون في أنهم يفكرون في الإباقُ سلاسل حديدية حول أرجلهم، ثم يأمرونهم بمواصلة ذات العمل الذي كانوا يقومون به. كان هؤلاء السادة ينكحون عبيدهم ما يملكونه من رقيق النساء طلبا للذرية وزيادة أعداد ما يملكونه من رقيق، دون اعتبار لأي علاقة انسانية بين الاثنين. لا يعتق العبد إلا إذا أنضم للجيش، ولا تعتق العبدة إلا إذا حملت من رجل حر. لا مجال للعبد للهرب من سيده، فقد جرب ذلك الكثير من المسترقين (خاصة الشباب) الذين حاولوا الهروب نحو أثيوبيا ومصر، وتم القبض عليهم عند الحدود مع الدولتين وأعيدوا لسادتهم حيث لقوا معاملة أسوأ مما سبق وجلدوا بالسياط وشرطت جلودهم وحشيت جروحهم بالفلفل الحار، وأثقلت أرجلهم بالسلاسل الحديدية.
ازدهرت تجارة الرقيق في عهد الخليفة عبد الله. كان بيت المال وتجار الرقيق يعرضون العبيد (من الجنسين) على المشترين في "سوق العبيد" في أمدرمان بالقرب من بيت المال، والذي كان يتلقى العبيد كعوض عن الغرامات المالية أو العقوبات أو الضرائب التي يفشل بعضهم في دفعها، فتتم مصادرة عبيد المتخلفين عن الدفع بعد تقييم أثمان رقيقهم. كذلك كان بيت المال يتلقى العبيد الآبقين الذين تتم استعادتهم ولم يتم التعرف على سادتهم لفترة أطول من 40 يوما، ويتلقى كذلك العبيد الذين يغنمون من الحروب. يقيم بيت المال مزادا لبيع وشراء العبيد مرتين أو ثلاثة في الأسبوع، وكان تجار الرقيق يحاولون بأقصى ما لديهم إثناء المشترين من عامة السكان عن شراء العبيد في تلك الأيام، ليظفروا هم بشرائهم لأنفسهم وبالسعر الذي يريدونه، وليحافظوا على مهنتهم كسماسرة رقيق. يجب أن نذكر كذلك أن بعض الملاك كانوا يعرضون رقيقهم من الجنسين للبيع في السوق بمجرد بلوغهم لسن تجعل أسعارهم مجزية اقتصاديا.
كان تجار الرقيق يعرضون يوميا بضاعتهم من العبيد، بعد أن تدلك أجسادهم/هن بالدهن (حتى تغدو لامعة جذابة). كذلك يدرب العبد/ة على الاجابة على أسئلة يعلمون أن المشتري المحتمل قد يسألها للعبد/ة، وهذا مما يرفع من قيمته/ها في السوق. كان العبد والعبدة يجردان في وسط السوق من كل ملابسهما عدا خرقة صغيرة تربط حول وسط الجسم، وكان المشتري يتفحص في تؤدة وحرص سائر أعضاء العبد (والعبدة على وجه الخصوص!) دون حياء من الرأس إلى أخمص القدمين، إذ أن كل عيب في الجسد يقلل من قيمة "البضاعة". كان اللون الأسود الغامق هو اللون المفضل للمشترين، وتتناقص قيمة العبد أو العبدة مع انخفاض سواد البشرة. كانت العبدة التي بلغت الحلم لتوها هي ما يرغب فيه كثير من المشترين لجعلها "سرية/ محظية" وكان سعر الواحدة منهن يتراوح بين 150 و300 فرانك (سبق أن قمت بترجمة مقال نشر في سودانايل بعنوان "سلاطين والخليفة" لبايرون فارويل تطرق فيه لتفاصيل دقيقة لما كان يجري في سوق العبيد بأمدرمان، وذكر فيه أن سعر الفتاة المسترقة "السرية" كان يبلغ 180 - 700 دولار، وذكر للمقارنة أن سعر جمل الركوب كان يتراوح بين 200 – 400 دولار. المترجم).
ليس في السودان أطباء، بل يعتمد المرضى كليا على "الفكي" وما يكتبه من آيات قرآنية أو كلمات سحرية غامضة على ورقة صغيرة كعلاج شامل وعام لمختلف أنواع الأمراض. كان الرجال والنساء، وربما بسبب الحر الشديد، يعمدون للحجامة مرة كل شهر لإخراج الدم الفاسد، ويقوم بهذه العملية أحد العبيد بوسائل بدائية (هنا وصف القس الإيطالي تفاصيل العملية الدموية بتوسع وببعض الأخطاء أيضا. المترجم).
جربت شخصيا العلاج الشعبي في أمدرمان مرتين، إذ كنت قد أصبت بالآم شديدة في ظهري من حمل الأثقال لمسافات طويلة في أيام بناء قبة المهدي. استلقيت على بطني وربط الطبيب الشعبي (البصير؟) منديلا كبيرا مليئا بالرمل على ظهري ورش عليه في أركانه الأربعة زيت السمسم، ثم أشعل المنديل بالنار وغطى المنديل بإناء فخاري. بعد فترة قصيرة صارت الحرارة غير محتملة، فنقل الطبيب الشعبي المنديل والغطاء الفخاري لمنطقة أخرى في ظهري وهكذا دواليك. نجح ذلك العلاج في تخفيف آلام ظهري نجاحا كبيرا. في مرة أخرى وفي أحد أيام رمضان من عام 1894م (أي في عامي الأخير كأسير في أمدرمان) أصبت بإرهاق وإحباط وارتباك عظيم، بل فقدت القدرة تماما على النطق في عديد المرات اثناء حديثي مع زبائن مطعمي الصغير، وأحسست بشيء يخنق صوتي بداخلي. نصحني البصير السوداني بتناول نبات السنامكي للتخلص من ما في جوفي لمدة ثلاثة أيام مع أكل قليل من الطعام غير المملح، ثم من بعد ذلك مباشرة تناول نبات يسمى الفشاغ Sarsaparilla المغلي مع السكر مرة في الصباح ومرة في المساء لتسعة أيام متصلة، لم يسمح لي خلالها بأكل شيء عدا التمر والعسل. بعد ذلك سمح لي ببعض اللحم واللبن. ما هي إلا أيام قليلة وكنت قد تخلصت تماما مما كنت أشكو منه من علة.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]