أمريكا وحقوق الإنسان … بقلم: د. أسامة عثمان

 


 

 

ussama.osman@yahoo.com

 

تصادف فتح ملف حقوق الإنسان مرة أخرى في الولايات المتحدة مع فوزها بمقعد في الأسبوع الماضي في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي أنشئ قبل ثلاث سنوات بديلا عن لجنة حقوق الإنسان التي تعرضت لانتقادات كثيرة من الولايات المتحدة وغيرها. وقد آثرت الولايات المتحدة مقاطعة المجلس عند إنشائه في يونيو 2006 لأنه لم يأتِ على هوى حكومة بوش التي كانت تحاول تشكيل العالم والمؤسسات الأممية على الشكل الذي تريد، وقد رفضت الدول الأوربية وبقية دول العالم مساندة موقف وفد الولايات المتحدة برئاسة جون بولتون أحد صقور المحافظين. وكان لانتقادات الولايات المتحدة كبير الأثر في القضاء على لجنة حقوق الإنسان وهي هيئة فرعية تابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة تمثل آلية المنظمة والمنبر الدولي لمسائل حقوق الإنسان ويساعدها مكتب المفوض العام لحقوق الإنسان في أداء عملها.

  

كانت الولايات المتحدة قد خرجت من اللجنة خروجا مدويا مثّل شهادة الوفاة بالنسبة لها عندما غادر سيشان زيف، سفير الولايات المتحدة قاعة اللجنة بعد انتخاب السودان، دون منافسة، عضوا فيها في 4 مايو 2004، وهو يردد يا للمهزلة يا للمهزلة! وكانت الولايات المتحدة تنتخب عضوا في اللجنة منذ إنشائها حتى ذلك العام الذي لم تنجح فيه في دخول المجلس ودخله السودان وليبيا وكوبا! كانت قضية دارفور وقتها قد وجدت طريقها لوسائل الإعلام العالمية وكان الحديث عن التطهير العرقي والإبادة الجماعية على أشده وبدأ الناس يسمعون لأول مرة بالجنجويد، وحفلت الصحافة العالمية بروايات عن الفظائع التي وقعت في الإقليم في الفترة 2003-2004. وانتخب السودان بعد أن ظل زهاء عقد من الزمان منذ عام 1989 يتلقى الإدانة تلو الإدانة بغالبية جميع أصوات الجمعية العامة ووضعته اللجنة ضمن البلدان ذات الوضع الخاص بسبب الانتشار واسع المدى لحقوق الإنسان مما يتطلب تعيين مقرر خاص بحقوق الإنسان يتولى التقصي عن الأوضاع وكتابة التقارير للجنة.

  

وكانت لجنة حقوق الإنسان مع لجنة وضع المرأة من أول اللجان المتخصصة التي أنشأت منذ انعقاد أول دورة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في عام 1946. ولكن اللجنة منذ قيامها حتى وفاتها لم تنجح في القيام بالدور المتوقع أن تقوم به ولقد ظلت حتى عام 1967 في مرحلة المراقب لأوضاع حقوق الإنسان دون التدخل أو الإشارة لحالة بلد بعينها فقد كانت مسألة سيادة الدول مبدأ مقدسا والحرب الباردة على أشدها، ولكن الوضع تغير بعد ذلك بسبب ممارسات نظام الفصل العنصري والأوضاع في الأراضي الفلسطينية بعد حرب عام 1967، لتصبح اللجنة أكثر تدخلا في شؤون الدول للتقصي عن الانتهاكات وإدانتها وقد ظل الحال كذلك حتى حل اللجنة في عام 2006، ومن اشد الانتقادات التي وجهت للجنة هو أن عضويتها قد ضمت دولا ذات سجل سيئ للغاية في مجال حقوق الإنسان وهذا الانتقاد يأتي من الدول الغربية في أغلب الأحيان أما مجموعة دول العالم الثالث فقد انتقدت اللجنة بسبب أنها صارت منبرا لتوجيه الانتقادات العلنية لبعض الدول المنتقاة لا بسبب سجلها السيئ في مجال حقوق الإنسان ولكن بسبب تعارض سياساتها مع سياسات الدول المهيمنة. ذكرنا بهذه الملابسات لأن المجلس الذي خلف اللجنة حمل معه الأسباب التي أدت لعدم فعالية اللجنة وسنرى عندما يجرى أول تقويم لتجربة المجلس بعد مرور خمس أعوام على إنشائه في عام 2011، ماذا ستكون الحصيلة.


حصلت الولايات المتحدة على مقعد بعد أن انسحبت نيوزيلندا من الترشّح لصالح الولايات المتحدة التي فازت دون منافسة وإن جاءت عدد أصواتها مساويا لأصوات الصين التي اعيد انتخابها وأقل من الأصوات التي حصلت عليها المكسيك وبنغلاديش ولقد كانت الولايات المتحدة تسعى لأن تشترط اللوائح للدول المترشحة أن تكون ذات سجل مشرف في مجال حقوق الإنسان حتى لا تنتخب بلدان مثل التي فازت في هذه الدورة مع الولايات المتحدة وهي السعودية وقيرقيستان وكوبا إلى جانب روسيا والصين وجميع هذه البلدان تحتل مكانا رفيعا في قائمة الولايات المتحدة للدول التي تنتهك حقوق الإنسان.

  

ولقد قررت الولايات المتحدة الترشح لأنها ظلت تسعى منذ بداية إدارة أوباما لتكون حاضرة في جميع المحافل الدولية لإيقاف انحسار دورها في العالم بسبب سياستها الخارجية في سنوات بوش. وتأمل الولايات المتحدة أن «تحد من غلواء» المجلس في معاداته لإسرائيل لأن المجلس منذ إنشائه في عام 2006 قد أدان ممارسات إسرائيل في الأراضي المحتلة في أكثر من قرار. قالت سوزان رايس، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، عقب الانتخابات أن من الممكن للولايات المتحدة أن تلعب دورا في إصلاح المجلس إذا استطاعت أن تجعله يقلل من التركيز على إدانة إسرائيل لينظر في قضايا كبرى مثل انتهاكات حقوق الإنسان في دارفور. وتعتقد بعض الدول أن لدول منظمة المؤتمر الإسلامي سيطرة عددية في المجلس لأنها تمثل أغلبية في مجموعة أفريقيا ومجموعة آسيا على السواء مما جعل انتخاب بلد كالسعودية يتم دون كبير عناء حتى أن السعودية لم تصدر بيانا قبل الانتخاب تدعي فيه التزامها بحقوق الإنسان حتى وإن لم تكن تنوي احترام تعهدها. ويختلف الناس في مدى تأثير الولايات المتحدة في توجه المجلس حيث يرى البعض أن الولايات المتحدة لن تستطيع أن تغير شيئا بسبب التركيبة ونظام الانتخابات بينما ترى بعض جمعيات حقوق الإنسان أن الولايات المتحدة يكمن أن تلعب دورا نشطا في تقديم مشروعات قرارات للفت النظر إلى البؤر المظلمة في مجال حقوق الإنسان عند هذه المنظمات مثل القمع الديني للتبت في الصين والقمع الديني في السعودية ومراعاة حقوق المثليين والبهائيين في إيران، إلى جانب حقوق الإنسان في أفريقيا وروسيا.

  

وربما تحتم على الولايات المتحدة أن تعترف لأول مرة بأنها قد استطاعت أن تدخل المجلس، كشأن الكثير من الدول، لا لسجلها المشرّف في مجال حقوق الإنسان وإنما بسبب نظام التوزيع الجغرافي، وانعدام المنافسة.حيث ترشحت ثلاثة دول لشغل مقاعد مجموعة «غرب أوروبا والدول الأخرى» هي بلجيكا والنرويج وقد حصلت كلتاهما على أصوات تفوق أصوات الولايات المتحدة وانسحبت نيوزيلندة. فلولا انسحاب نيوزيلندا وعدم وجود مرشحين آخرين من المجموعة لكان من الصعوبة انتخاب الولايات المتحدة بسبب سجلها الماثل في الأذهان لانتهاكات حقوق الإنسان تحت مسمى الحرب على الإرهاب والحرب في العراق وفي أفغانستان، ولقد اعترفت سوزان رايس بذلك قائلة إن هنالك بلدان في هذا المجلس ذات سجل غير ناصع في مجال حقوق الإنسان، ولا نستثني أنفسنا، وسنعمل جاهدين لإصلاح ذلك مما يمثل بادرة أمل لم يسعد بها أنصار حقوق الإنسان كثيرا حيث جاءتهم الأخبار بقرار الرئيس أوباما برفضه نشر صور جديدة لمشاهد التعذيب في سجن أبو غريب سيئ السمعة لأنها لن تضيف جديدا وستساعد في تشويه صورة الولايات المتحدة في العالم عامة وفي العالم الإسلامي على وجه الخصوص وقد يتفق معه الكثيرون في ذلك، ولكن القرار بعدم فتح التحقيق في الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها مثل خيبة آمل كبيرة لنشطاء حقوق الإنسان. وينطبق الشيئ نفسه على قراره بإدانة ممارسات التعذيب التي يسميها رجال المخابرات "وسائل الاستنطاق الشديدة" ويجادلون في أنها ليست تعذيبا. وربما وقعت محاكمات سياسية لمن أمروا بها ولكن من نفذوا من رجال المخابرات لن يطالهم التحقيق والمحاسبة. ولقد زاد الطين بلة قراره بالإبقاء على المحاكم العسكرية بعد تعديلها ونقلها إلى داخل الأراضي الأمريكية لمحاكمة بعض سجناء غوانتانامو بعد أن كان قد وعد بحلها وتبين من تقييم الخبراء في الفريق الذي كونه لتقديم المشورة أن حل المحاكم العسكرية سيعني إطلاق جميع سجناء غوانتانامو لأن الأدلة المتوفرة بعد سبع سنوات لا ترقى لتوقيف أي منهم أمام القضاء العادي وسيتم إطلاق سراحهم فورا لذلك أوصوا بالإبقاء عليها بعد التعديل لأن جرائم الإرهاب غير مألوفة في النظام القضائي العادي ولم تتوفر خبرة تشريعية لسن قوانين تناسبها بعد. ولقد أعلن الكثير من حكام الولايات أنهم لا يرغبون في إطلاق سراح هؤلاء المتهمين في أراضي ولاياتهم كما أن بعض دول المتهمين ترفض عودتهم أو إنهاء ستعرضهم للتعذيب وربما أكثر من ذلك مما يعني أن يستمر بعضهم معتقلا دون مبرر قانوني ولقد هلل الناس لقرار أوباما بعد أن دخل البيت الأبيض بيوم واحد بإغلاق معتقل غوانتانامو خلال عام ولكنه لم يذكر شيئا عن معتقل باقرام بالقرب من كابل ومعتقلات الجيش الأمريكي في العراق ومعتقلات أخرى غير معروفة.

  وكثيرا ما يستحلي بعض الناس نقد سجل الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان ويجعلهم ذلك يشعرون براحة ضمير ولكن نقدهم يكون أشبه بالإشارة إلى نقص القادرين على الكمال. ومهما قيل عن سجل الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان فإن ذلك السجل يظل مفتوحا وقابلا للنقد والتقويم، كما أن أجهزة الإعلام وتنظيمات المجتمع المدني تظل ترصد وتتابع كل ما يمس قضايا الحريات والحقوق بدقة وتسعى للتغير ما استطاعت إلى جانب أن جميع الأجهزة تقوم بدورها الرقابي فالجهاز التشريعي يقوم بدوره التشريعي والرقابي ومحاسبة أجهزة الأمن والمخابرات إن تجاوزت دورها كما يقوم الجهاز القضائي بتنفيذ القانون وليس من حجر أو تجريم أو مناطق محرمة وتكميم للأفواه. والأمل أن تكون صفحة سنوات بوش السوداء قد انطوت وأنها كانت استثناء على الرغم من الأنباء غير السارة التي تواترت في الأسبوع الماضي فيما ذكرنا أعلاه.   

وبعد فإن من السهل الحديث عن حقوق الإنسان في الولايات المتحدة وما هو أصعب منه هو الحديث عن حقوق الإنسان في السودان وما شابه السودان من الدول المحيطة به ومن مثيلاته في الدائرة العربية والإسلامية والأفريقية وهي دوائر انتمائه الثلاث وجميعها تضم بلدان ليس من أبرز ما تتصف به احترامها لحقوق الإنسان والحريات. فيا ترى متى سيجئ اليوم الذي يكون لنا فيه جهاز تشريعي يحاسب الأجهزة الأمنية إذا تجاوزت، ومتى ستكون صحافتنا حرة كشأن صحافة أمريكا التي نقرأ هذه الأيام والتي لا تترك شاردة أو واردة عن المخالفات التي قامت بها أجهزة الدولة الأمنية في الفترة البوشية بدعوى حماية الأمن القومي بعد أحداث سبتمبر 2001، ومتى سيكون المجتمع المدني هو الرقيب الحقيقي. فانتهاكات أمريكا لحقوق الإنسان ما كنا سنسمع بها لولا وجود صحافة حرة ورأي عام ومجتمع مدني نشط ويقظ دافع عن الحريات حينما اشتدت عليها الهجمة دون خوف أو تهديد، وأغرب ما نقلته الصحف في تبرير الرقابة على الصحف في السودان مع افتقادها للأساس الدستوري أن الشريكين، حفظهما الله، قد اتفقا على فرضها بسبب هشاشة الأوضاع السياسية والأمنية في البلاد! وهذا مبرر أشبه بمبررات المحافظين الجدد لتبرير تضييق الحريات وسنعرض، إن شاء الله في مقالنا القادم لهذه المسائل تفصيلا والله الموفق.

  نشر في جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 19 مايو دون الفقرة الأخيرة التي حجبها الرقيب.  

 

آراء