“أم كواكية الثانية” .. دارفور من الحلم إلى الحريق (2) … بقلم: عبد الحميد أحمد محمد
24 June, 2009
أم كواكية الثانية:
يعتبر العام 2003 هو البداية الحقيقية لـ(أم كواكية الثانية) إذ أخذت الحرب وجهاً جاداً وحقيقياً حين تمكنت مجموعة من الحركات المسلحة الدخول إلى مدينة الفاشر وأن تدمر عدداً من الطائرات الحكومية الرابضة على أرضية مطار الفاشر هو ما أعتبر الإعلان الحقيقي لإنطلاق الحركات المسلحة والعمل العسكري في إقليم دارفور.
وكان الأقليم في حقب مختلفة قد شهد بعض الإحتجاجات السياسية ونزوعاً إلى حمل السلاح منذ العام 1964. إلا أن مجموعات السياسيين والمثقفين من أبناء دارفور في ذلك التوقيت تمكنوا من إحتواء ذلك التيار وتداركوه عبر كيان (جبهة نهضة دارفور) التي سعت سلمياً للتعبير عن حق دارفور في التنمية والإصلاح متعظة في ذات الوقت من الآثار التي خلفتها الحرب بجنوب السودان. ويعتقد كثير من الساسة والمراقبين للشأن السياسي في السودان أن تفجر الصراع بدارفور بدايات الألفية الثالثة ما هو إلا نتاج لتراكم المظالم وأرتفاع وتيرة الإحساس بالغبن والمظالمة لا سيما وأن هناك إعترافاً من كل النخب السياسية السودانية بأن إرثاً خلفه المستعمر الذي كان يتبنى سياسة قصور تنموي تجاه دارفور قد ظل ذلك الأرث يتنقل في العهود الوطنية حقبة بعد حقبة ولم يتحرر وعي القادة الوطنيين بمختلف تياراتهم وتوجاهاتهم من هذه التركة الإستعمارية وتقاليدها في الحكم المركزي القابض للسلطة والثروة دون أن تبسط نحو الأقاليم، فتركزت خدمات الصحة والتعليم والطرق والبنى التحتية بالمركز دون حظ يذكر للأقاليم المتباعدة لا سيما وأن هذه الأقاليم قد شملتها صحوة من الوعي بإذدياد معدلات التعليم وأرتفاع الحس السياسي.
غير أن بروفيسور حسن مكي يرى أن هناك عواملاً أخرى أسهمت في تأجيج (أم كواكية الثانية) في دارفور هذه التي نشهدها اليوم فيقول: (بيئة دارفور بيئة قبلية هشة وبها صراعات وجاء الجفاف الذي ضرب كل الساحل الأفريقي وهذا حرك مجموعات كبيرة من القبائل خصوصاً القبائل العربية من مناطقها إلى مناطق المراعي ومناطق المياه، ولأول مرة تلتحم بالمزارعين إلتحاماً شديداً وعنيفاً لأنها تبحث عن التشبث بالبقاء فعندما يكون للقبيلة ثلاثة آلاف من الجمال وهي في منطقة جافة ليس بها ماء ولا مرعى تذهب بسلاحها الناري وتدخل مناطق الزراع ولا تفرق إن كانوا عرباً أو زرقة فلا يهمها وتحدث الإشتباكات ويكون الموت بالآلاف، ودائماً ما تكون الغلبة للرعاة الذين تمرسوا على الخيل والجمال وأصبحوا أشبه بالفرسان في حين أن الزراع راجلون مستقرون وفقراء لا خبرة لهم بأساليب الحرب والكر والفر.
ويذهب د. حسن مكي بالقول إلى أن النخب الدارفورية لجأت مؤخراً لتحوير هذه الحالة من التنازع القبلي على الموارد وصرفته بتوظيف سياسي دقيق إلى حرب على الدولة فيقول: (هنا جاء التوظيف السياسي للازمة، فالنخب الدارفورية لاحظت بأنها مهمشة وأنها بعيدة عن السلطة والثروة، فرأت أنه بدلاً من أن تفنى دارفور في الحروب القبلية لماذا لا توجه الحرب ضد الدولة بإعتبارها - حسب رؤيتهم- مركز الشر بذلك بدأت حرب الدولة ودخلت فيها أطراف أخرى حيث كانت هنالك تشاد التي لها أجندة من الحرب ضد الدولة السودانية وكانت هنالك المجموعات الموالية للمؤتمر الشعبي التي تحمل أجندتها الخاصة أيضاً ضد الدولة كما وأن هناك الأجندة الدولية الأخرى ممثلة في فرنسا وأمريكا وإسرائيل وهكذا أختلط الحابل بالنابل والسياسي بالمشاكل الموجودة بإرثها القديم.
ولئن إستطاع الحكم الثنائي البريطاني المصري –بحسب د. الزين- أن يضع في العام 1916 حداً لـ(أم كواكية) الأولى ويعيد الأمن والإستقرار لدارفور فإن ذلك تم وفقاً لعوامل توفرت لدولة الحكم الثنائي ويوجزها د. الزين في قوله: (بعد أم كواكية الأولى الأمن لم يستتب إلا في ظل الحكم الأجنبي الجديد وتم له ذلك من خلال ثلاثة عوامل أولها السلاح المتطور للإنجليز وتفوقهم على المناوئين لهم، ثانياً حماية المواطنين واجباً للدولة كانت عقيدة راسخة لدي الإنجليز وهذه كانت من ثقافة البيئة الأروبية التي قدموا منها ولهذا إتخذوا سياسة إخضاع كاملة للسودان، ومن ثم كان العامل الأهم هو إنشاءهم لنظام إدارة أهلية مقبول لدى أهل المنطقة وهو الحكم العشائري.)
ويجزم د. آدم الزين بأن أم كواكية الثانية التي تعيشها دارفور منذ 2003 فاقت حالة الإنفلات والإنفراط تلك التي أستطاع الإستعمار البريطاني أن يحسمها ويقضي عليها علاوة على ذلك فإن القضاء عليها صعب وشاق نسبة للإفتقار للعوامل الثلاث التي توفرت للمستعمر ومكنته من القضاء على الحالة الأولى، حيث لا تمتلك الدولة السلاح والقوة التي تمكنها من القضاء على المناوئيين وذلك لأن كل الأطراف لها سلاحها المتطور والثاني أن نظام الحكم العشائري ضعف وفقد حياديته بعد إستيعاب غالب رموزه في حزب المؤتمر الوطني الحاكم وأنخراطهم في تنفيذ سياسات السلطة المركزية أكثر من إلتزامهم بتنفيذ سياسة توفر الأمن والسلم الإجتماعي بالمنطقة، أما العامل الثالث وهو الأخطر –برأي الزين- أنه لا توجد عقيدة سياسية راسخة لحماية أرواح وممتلكات المواطنين كواجب للدولة، هذه الصعوبات يضاف لها أن العالم الخارجي تمكن من التدخل في مشكلة دارفور تدخلاً ألقى بظلال وأبعاد أخرى على القضية.
(أم كواكيةٌ) ثانية وفوضى عارمة وأنفراط أمني ما زال يلقي بكلكله على أهل دارفور الذين تمزقوا بين آلاف القتلي وملايين المشردين حين هجرت القرى إلى المعسكرات.. هناك حيث تمدد (إسحق) على حصيرة أمام (كشيقته) يحدثنا عن حلمه بأن تكون له (قطية) وسعيّة من الضأن والماعز وحقل تسرح فيه الطيور وأن يكون له أصحاب يعود معهم مساءً من دارة الرقص فربما لا يغنون يومها (للدرنقل) الذي غادرته صاحبته وإنما يغنون لوطن آمن مستقر يسير فيه الراكب من الفاشر إلى الجنينة إلى نيالا لا يخشي على نفسه إلا الذئب. حلم لا يبدو مستحيلاً وإن لفت سماءه الغيوم وسد أفقه غبار (أم كواكية)
حلم أن يكون لهم أقليم آمن مستقر يسعهم جميعاً اسمه دارفور.