أنا أعرف المكان، أنا أفهم المكان

 


 

 

عبد اللطيف علي الفكي

(الجزء الأول)
1- المعرفة المكانية ليست شيئاً عابراً في عبارة "آه، عرفت". فتكون معرفتك وفق ألا تعطي شيئاً ملموساً، بل تعطي شيئاً هلامياً لا شكل له. ولكن حين يكون التفوُّه بجملة "أنا أعرف"، فإن المعرفة التي تتعامل معها هي معرفة تضعك مع مفردة مركبة من مفردات أشياء المكان: أعرف (كذا) وفي معرفة (كذا) يتطلب منك أن تعرف (كذا وكذا) إلى آخر أشياء المكان. فما المقصود بـ(شيء)؟
2- كلمة ’شيء‘ – كلمة صغيرة من ثلاثة أحرف – لا تنحصر في الجمادات فقط، كما يتبادر إلى الذهن في تعاملنا في حياتنا اليومية. وإنما تعني كل ما هو قد تـجمَّعَ بصورة خاصة لأحوال وملامح وملابسات. فمثلاً جملة ’في الغرفة أشياء كثيرة‘ تختلف شيء كجماد ملموس هنا من جملة ’أشياء كثيرة لم أفهمها منه‘ حيث شيء لا تعني أي جماد ملموس، بل قد تعني رأياً، أو فكرةً، أو موقفاً، أو تصرُّفاً إلخ. فكلمة شيء أقرب معنىً لقولٍ موازٍ هو: الأشياء لا تأتي فُرَادى. لذلك "أنا أعرف كذا‘ لا تعني ’كذا‘ في حَدِّ ذاتها، وإنما تعني ما هو مُسبق، وما هو مُلحَق؛ أي السابق واللاحق. فمثلاً ’أنا أعرف قيادة السيارة‘ لا تعني القيادة في حَدِّ ذاتها. وإنما ’أنا أعرف قوانين الطريق‘، ’أنا أعرف صب الوقود فيها‘، ’أنا أعرف تبديل الإطار‘، "أنا أعرف أن أقرأ بيانات السيارة على الواجهة" "أنا أعرف أن أفتح غطاء الماكينة"، وهلم جرَّا. هذا ما تعنيه مَقُوْلة الأشياء لا تأتي فُرادى. مما يؤدي إلى أن جملة ’أنا أعرف‘ لا تأتي فُرادى.
3- إذا أتت ’أنا أعرف‘ إفراداً، فإن ذلك يؤدي إلى النقطة العمياء في الخطاب. النقطة العمياء دائماً في الإفراد. المثال البسيط س قالت إنها تعرف قيادة السيارة. ولكنها حين مرت بإشارة مرور تضئ وتطفئ اللون الأحمر فقط، لم تعرف ماذا يعني ذلك!! فارتبك كل مرور الشارع. إذاً، المعرفة تمت بصورة أحادية وهي أنا أعرف الضغط على البنزين، والدعس على الفرامل والمسك بعجلة السيارة. هنا جملة ’أنا أعرف‘ جاءت في عمىً تام لأجزاء كثيرة لقيادة السيارة. بالطبع التصليح ليس من تلك الأجزاء. هنا النقطة العمياء في ’أنا أعرف‘ تغطي تلك الأجزاء الأخرى تغطيةً عمياء.
4- نأتي بمثالٍ آخر للنقطة العمياء. في عام ١٩٢٨ ألقى محمد عشري الصديق كلمة ألقاها في كلية غردون نيابةً عن الطلبة المتخرجين كمهندسين. نأخذ من تلك الكلمة هذه الجملة التي تصف "السودان مهد التعصب"، ثم يتساءل، ويتعجب "فلماذا نحن متعصبون"؟! طالما "نحن جميعاً ندين بدين واحد ونتكلم بلغة واحدة" (ص ١٧). جملة النقطة العمياء هي إذاً هذه الإفرادية: أنا أعرف أننا ندين "الدين الواحد" وأنا أعرف أننا نتكلم "اللغة الواحدة". ولكن إذا نظرنا إلى ناحية علمية، نرى أن التعداد السكاني الأول ١٩٥٥-٥٦ قد حقق أن عدد اللغات بلغ ٢٠٤ لغة، وأن ٤٩٪ يتحدثون غير اللغة العربية في البيت. هنا تعاميتْ ’أنا أعرف‘ عن ٤٩٪ من الأمة السودانية. وجعلتهم في سويداء النقطة العمياء.
5- وفي هذه المعرفة لأشياء المكان تضع جملتنا "أنا أعرف" – خارج النقطة العمياء – مفردات الأشياء خارج الالتباس والتغبيش والخداع، وداخل شيء واحد هو دوزنة المكان. في قلب دوزنة المكان هذه هناك إما نعم أنا أعرف/ أو لا أنا لا أعرف. أختا "أنا أعرف" وهما إما/أو أختان في هذه الـحِدَّة من الثنائية. لأنهما أختان لا توسط بينهما. هذه الوظيفة في انعدام التوسط هي لتوفير إمكانية تشغيل مفردات أشياء المكان. فإذا قلت ’أنا أعرف قيادة السيارة‘ أو قلت ’أنا لا أعرف قيادة السيارة‘ ففي كلتا الحالتين: حالة أعرف وحالة لا أعرف وهما في دوزنة المكان، يكون قد تم توفير إمكانية تشغيل مفردات أشياء المكان. لأن أي نوع من الالتباس، أو التغبيش، أو الخداع يسد ويُعيق ويحجز تشغيل "أنا أعرف" الأشياء في المكان.
6- ’أنا أعرف‘ حتى الآن ترتبط بمفردات أشياء المكان. وهذا الارتباط يجعل دائماً معرفة الشيء معرفةً ليست مفردةً، بل هي معرفة ذات مفهوم ملموس، لأحوال وملامح وملابسات، المكان. هذا اللمس يقود الفهم خارج أي التباس، أو تغبيش، أو خداع. لأنه مرتبط بـ(إما/أو) إما أعرف أو لا أعرف. ولا توسُّط بينهما. فهي حرفية جداً. وحرفيتها هنا أنها في وظيفة ملموسة تعمل خارج هالة صناعة الإخضاع. لذلك جملة ’سآتيك بين الخامسة والسادسة مساء‘ جملة خارج "أنا أعرف". لأنها هي جملة خارج ’إما ليس الخامسة تماماً/أو ليس السادسة تماماً‘. لذلك سقطت من أن تنجح في تشغيل أشياء المكان. بل بالعكس، هي عطلت تشغيل أشياء المكان مُـدَّة ساعة وأنا أخضع لها.
7- الفهم الملموس لـِجملة ’أنا أعرف‘ هو بالضرورة يقودك خارج هالة صناعة الإخضاع. سأضرب مثالاً بسيطاً للفهم الملموس ضد صناعة الإخضاع. هبكما أنت وأحمد كلاكما في قطر. أحمد اشترى تذكرة مباراة نهائية لكأس العالم في قطر، وأنت اكتفيت، مع استطاعتك شراءها، بأن تتابعها على التلفزيون. بلمس التذكرة بالشراء يكون أحمد قد دخل في الفهم الملموس للمباراة، فهو يرى بأم عينيه ويشارك الحماس بكل قوة، وينبهر بمهرجانية المكان أيما انبهار. بينما أنت خضعتَ إلى عيني مُخرِج المباراة لأنك تنظر إلى الشاشة لا الملعب، وهمود الحماس خارج أيةِ مهرجانية.
8- الفهم الملموس للمكان هو فهم يدخل في دوزنة المكان. وهذا الدخول يفترض سلفاً خروجاً من هالة صناعة الإخضاع التي هي أدواتها: الالتباس، أو التغبيش، أو الخداع، أو الإلحاح والإصرار المتكرر لوهم صنعه ص. يلح ويصر عليه تكراراً ص نفسه، أو مجموعة ص. حين أدخل محمد عشري الصديق الـ ٤٩٪ يتحدثون فيما بينهم لغات مختلفة في النقطة العمياء لخطابه، لم يكن من جرَّاء يقصد به التباساً، أو تغبيشاً، أو خداعاً. وإنما من جرَّاء أوهام صنعتها الـ ٥١٪ وتلح وتُـصِرُّ عليها تكراراً حتى بدا في لسان محمد عشري هو تكرار صحيح، وأن الـ ٤٩٪ وهمٌ لا وجود له. هنا نجحت – بطريقة غير ملموسة للمكان – هالة الإخضاع من خلال المثل القائل كثرة الطرق تفك اللحام. فكثرة الطرق هنا ذلكم الإلحاح والإصرار المتكرر، لتفك لحام هو لَـمْسُ المكان الماثل أمامنا أصواتاً وملامحةً تعيش أمامنا، في هذا التواطن. لأن النسبة المئوية تتشكل كالآتي: ٥١٪ انصهر لسانها فأصبحت هي الذات السودانية وحيدة اللغة العربية. و٤٩٪ هي إما الذات السودانية وحيدة لغتها المحلية، أو هي الذات السودانية ثنائية اللغة العربية واللغة المحلية. عندي نتيجة ذلك: السوداني وحيد اللغة العربية، والسوداني وحيد اللغة المحلية، والسوداني ثنائي اللغة العربية والمحلية. وهو ما أقصده بالتواطن. هذا التواطن لا توجد فيه ذات واحدة هي الذات المكانية، في إلغاء أن يكون هناك (آخر). وكذلك في إلغاء الكرم الخاطئ في عبارة (احترام الآخر). إذ لا يوجد آخر في الذات المكانية حتى تحترمه.
9- بهذا، نأتي الآن إلى أصعب ما في ’أنا أعرف‘ وهي ترتبط بمفردات أشياء المكان. أصعب مفردة من مفردات أشياء المكان هي ’أنا أعرف سياسة‘. لا يرجع ذلك إلى أن السياسة شيئاً صعباً عسير المنال. لا. وإنما يرجع الأمر إلى أن السياسة لا يستنطقها إلا المكان. المكانُ وحده ونفسُه وعينُهُ وذاتُه، كشاهد عِيان، هو الذي يستنطق السياسة. وليس العكس في أن السياسة هي التي تستنطق المكان استنطاقاً كما اتفق من حيث يريد المتكلم. لذلك هذا الشيء المكاني الذي تسميه اللغة السياسة لا يصلح مع ’أنا أعرف‘. وإنما مع ’أنا أفهم‘. (نقف هنا حتى الجزء الثاني)

abdelatifelfaki56@gmail.com

 

آراء