حول نقد التلب لنقدي لقصيدة ياسر عرمان الخرمان!
(1 من 2)
اختار الأستاذ مأمون التلب عبارة (الفن الفتاك) عنوانا لمقالته التي منحها عنوانا فرعيا هو (حول محمد وقيع الله وقصيدة ياسر عرمان).
وإذا قصد الأستاذ التلب أن يصف مقالي في نقد القصيدة المدعاة للمدعو ياسر عرمان بأنه ضرب من الفن الفتاك فقد أصاب.
وفي الحق فإني ما أردت بمقالي ذاك إلا أن أنكل بهذا الدعي على حرم الشعر والشعور الوطني السوداني المدعو ياسر عرمان.
ولست أحب أن أوصف بأني ناقد أدبي أو فني أو كاتب أو باحث إلا بالقدر الذي أخدم به رسالتي في الدعوة إلى الإسلام والذود عن حياضه من اخترامات العلمانيين الحداثيين من أمثال ياسر عرمان الخرمان.
مدعي الشعر ياسر عرمان. ولذلك سررت بقول الأستاذ التلب أن مقالتي تلك (مرمطت)
ولم يحزنني قوله بعد ذلك أن مقالتي كانت ناضحة بالغرض.
فهذا أمر أعترف به ولا أتهرب منه ولا أخفيه فإن لي غرضا (ينضح) في كل ما أكتب وهو غرض الدفاع عن الدين الإسلامي والوطن السوداني وحرمات الأدب والعلم.
ولست محايدا ولا أعترف بدعوى الحياد في النقد الأدبي ولا آبه بالدعوات الزائفة المرفوعة بهذا الاتجاه ولا أدين بنظرية الفن للفن.
وأعلن جهارا نهارا أن غرضي من دخول من ميدان النقد الأدبي يتعلق بالدعوة إلى النظرية الإسلامية في الفن والأدب واستعراض نماذجه ونقد وهدم ما يخاصمها ويعاديها.
وليس معنى ذلك أني ساذَج أقبل كل شعر ينتجه الشعراء (الإسلاميون).
ولا أني ساذَج أرفض كل شعر ينتجه الشعراء غير الإسلاميين أو غير المسلمين.
وقد سبق أن كتبت مقال بعنوان( شعر إسلامي أم شعراء إسلاميون) أعربت فيهى عن اعتقادي أن الشعر الإسلامي هو في النهاية من ألوان الأدب الملتزم الموجه، وقلت إن إلزامات الإسلام وتوجيهاته ليست جامدة إلى الحد الذي ابتدعه معاشر شعرائنا الإسلاميين المحدثين. واستشهدت بقول أحد الشعراء الإسلاميين عن أن الإسلام: " عقيدة ضخمة فاعلة ، تملأ فراغ النفس، وتستنفد طاقتها في الشعور والعمل، وفي الوجدان والحركة فلا تبقي فيها فراغا للقلق والحيرة، ولا للتأمل الضائع، الذي لا ينشئ سوى الصور والتأملات"، ولا تعتقلها في إطارات التزمت الحرجة الضيقة.
وقلت إنه ما لم ينفك الشعراء الإسلاميون المحافظون الجامدون عن عقدة المحافظة المتكلفة التي ابتدعوها، وما كتبها الإسلام عليهم، فلا أمل يرتجى في أن يبدعوا ما تطالب به نظرية الأدب الإسلامي الرفيع.
وأما من الشعراء غير المسلمين فقد أشدت بشعر الكثيرين منهم لأن بعض إنتاجهم يتطابق أو لا يتعارض مع نظرية الأدب الإسلامي.
ودعوت إلى أن نفرق بين مفهومين أساسيين: الأول هو مفهوم (الشعر الإسلامي)، والثاني هو مفهوم (الشاعر الإسلامي).
وقلت إن المفارقة الكبرى هي أن الشعر الإٍسلامي بمعناه الأوسع، نجده عند الشعراء غير الملتزمين بنظرية الأدب الإسلامي، وبعيدا عن أوساط الشعراء الإسلاميين – بالتوصيف إياه ! –
وقلت إن الكثير من القريض الذي جادت به قرائح شعراء لم يتهموا أو يصنفوا على أنهم إسلاميون، يتلاءم كثيرا مع روح الإسلام، ويمكن أن يعدَّ شعراً إسلاميا بهذا الاعتبار.
فأنا معنيٌ إذن بالشعر المرتبط بالقيم الإسلامية، ولا يهمني من يكون القائل، وما إذا كان مسلما أم لا.
وبالطبع فيعجبني كما يعجب كل ذائق للأدب الاقتدار الفني في كل شعر ولو لم يتناسق قيميا مع ما يدعو إليه الإسلام.
ولا أنكر القيمة الفنية للشعر لمجرد اختلافي المفهومي مع قائله.
أما في حالة قصيدة ياسر عرمان الخرمان المدعاة فقد أنكرت الخواء الفني فيها، مثلما أنكرت الخواء الأخلاقي فيها، وأنكرت إقحام هذا الشخص لنفسه في حرم الشعر وتوظيفه بلا اقتدار لخدمة قضيته السياسية.
ولو قام ياسر عرمان الخرمان بتوظيف الشعر باقتدار فني ملحوظ لمصلحة ما يدعو إليه سياسيا لما أنكرت عليه قول الشعر.
وفي هذا يتفق معي الأستاذ التلب لأنه قال:" ظننتُ أن لا (يقصد ألا) أحد يستطيع الدفاع عن قصيدة الأستاذ ياسر عرمان، تلك التي مَرمَطَ بها الكاتب محمد وقيع الله الأرض على حلقتين، وتوقّعت أن يُدافع الناس عن عرمان شخصياً ويتركوا القصيدة جانباً تماماً. فالذي يُريدُ أن يُثبِتَ للجميع أن قصيدة عرمان كانت شعراً فهو خائنٌ لأمانة النقد، مُساهمٌ في تمدّد الشخصيّة السياسيّة أدبيّاً دون حقٍّ في الأدب وتجربته؛ أعني الصراع من أجل أن يكون العمل الأدبيّ جيّداً وجميلاً ومؤثّراً على نفوس البشر. فالكلمات كائنات حيّةٌ، وإن خَنقها وتكديسها بتلك العشوائيّة، بل ونشرها في وسائل إعلامية متعددة بوصفها قصيدة، واستمتاع بعض المثقفين بها؛ فذلك، فعلاً، أمرٌ يستحق الوقوف ويستوجب الحديث والمسائلة".
ولكن يختلف معي التلب وأختلف معه في نصبه لنفسه مرجعية للحق والخير والجمال، فما يعجبه ويسره حق صحيح وما يسخطه يؤلمه باطل صريح.
وقد أبان عن ذلك عندما خاطبني قائلا:" ورغم وجود تلك الصور الفنيّة الجميلة في كتابتكَ يا محمد، إلا أنك استخدمت الكلمات استخداماً فاسداً شوَّه جمالها ووصمها بالتأليم، والكتابات التي تؤلمني تكون، دائماً، كتابةٌ ضد الحقيقة وضد الإنسانيّة ".
ثم أنكر علي التلب معرفتي بالشعر رغم أنه تفضل قبل هنيهة واعترف بقدرة لي على رسم الصور الفنية الجميلة في كتاباتي، وقال :" ما الذي تعرفه أنت عن الشعر وقوّته واتصاله بالأرض والإنسان إن كنت تقول، وعلى الملأ، أنك (يقصد إنك) تؤمن بأن العقيدة هي أساس المواطنة؟ أتطردنا من بلدنا لأننا نختلفُ معكَ في الاعتقاد؟ أتعتبر المختلفين عنك عقائديّاً لا "يشبهونك" إنسانيّاً؟ ".
وإذا أخذنا كلام الكاتب حرفيا فكأنه يتبرأ من العقيدة الإسلامية التي نؤمن بها ويخشى أن يجرد من حق المواطنة لهذا السبب.
ولكنا لا نؤاخذه بما قال بالحرف ونصرف مراده إلى معنى آخر وهو رفضه لربط حق المواطنة بالاعتقاد الديني.
وهنا أجدني على اتفاق تام معه.
وأظنه لم يترو التروي الكافي في قراءة كلامي أو فهمه بعد ذلك على نحو خاطئ هو على النقيض من معناه الأصلي.
فقد قلت في نقدي لياسر عرمان إنه التقى في فهمه لموضوع المواطنة مع المفهوم القطبي الذي لا أتفق معهما فيه.
وقد استخدمت عبارة واضحة في بيان اختلافي مع المفهوم القطبي للمواطنة بقولي:" وكان مثيرا أن ينقلب ياسر عرمان إلى داعية ديني، وأن يدعو بدعوى سيدنا سيد قطب الشهيد التي أوردها في فصل (عقيدة المسلم جنسيته) في كتابه الذائع الذكر (معالم في الطريق) وهي الدعوى التي تجعل آصرة العقيدة وحدها أساسا للمواطنة وقد ردد ياسر عرمان هذه الفكرة غير السديدة في شعره المزعوم".
وربما غفل الكاتب عن وصفي لفكرة سيد قطب بأنها غير سديدة وهو يقرأ عجلا ما كتبت.
وأكرر القول بأن فكرة ربط المواطنة بالعقيدة هي إحدى الأفكار غير السديدة التي شحن بها سيد قطب الحركات الإسلامية.
وهو ربط لا أساس له من النصوص الشرعية ولا التجربة الإسلامية التاريخية ولا من حيث التنظير الفقهي.
وهذا مجال من مجالات الفقه الدستوري لا نخوض فيه ونحن نطرق شيئا في مجال النقد الأدبي.
أيّ فن فتاك أجيده؟!
حول نقد التلب لنقدي لقصيدة ياسر عرمان الخرمان!
(2 من 2)
نفيت في الحلقة الأولى من هذا المقال الدعوى التي رماني به الأستاذ مأمون التلب وهي نظرية القائلة ربط حق المواطنة بالاعتقاد الديني.
وترتيبا على ذلك تنهار جميع الاعتراضات التي بناها الكاتب الحصيف على فهمه المعكوس لقولي.
فقد رفع الكاتب في وجهي مجموعة من الأسئلة المبهمة والمغلوطة والملغومة منها سؤاله التعليمي القائل:" ألا ترى أن جميع البشر هُم، في حقيقتهم، الفن خالصاً؟".
وهوسؤال غير بين النكهة، وغير واضح الوجهة، ولكنه إن أراد به أن يقول إن البشر في خلقتهم فن خالص، فقوله صواب، وجوابنا عنه: بلى!
وأما إن أراد أن يقول إن البشر كلهم من أهل الفن الخالص، وأربابه المخلصون، أو إنهم كلهم فنانون، أو إنهم كلهم يتذوقون الفن ويؤثرونه فالإجابة تأتيه نفيا!
ومن ذلك سؤاله التعليمي الذي لا يخلو من لهجة زاجرة:" ألم يعلّمك الشعر بديهة أن جميع الشعوب تكتب الشعر وتغني وترقص؛ تُبدع، وهذا هو الذي يُوحّدها داخل السودان أم خارجه "
والحقيقة أني لم أعلم ذلك, ولا أرى أن أحفاد آدم السودانيين يتحدون على أساس الفن، فلكل إقليم من أقاليم السودان المترامية فنه الخاص، ورقصه الخاص، وله أحيانا ضرب من الشعر الخاص يصاغ بلهجة محلية لا يفهمها بقية أهل السودان.
ولا يعني ذلك أني أنكر أن الإذاعة ومن بعدها التلفاز أسهما في ترويج الفن الأمدرماني، أو إن شئنا الدقة العلمية قلنا فن شمال ووسط وبعض غرب السودان.
فالمعلومة التي تحدث عنها الكاتب، وكأنها في مقام البدهيات والمسلمات، ليست في مقام البدهيات والمسلمات العامة كما زعم.
ودعواه هذه ربما انطوت على خطر أكبر، إن أراد أن يؤسس رابطة المواطنة على أساس من قيم الشعر والرقص، بعد أن رفض تأسيسها على أساس من قيم العقيدة والدين.
وتأسيسا على تلك الدعوى فكل من لا يتذوق الفنون الشعبية أو تلك التي يزعمون أنها قومية يفقد حقه في المواطنة في السودان.
وبعد ذلك شاء الكاتب أن يقحمني في شعر الأستاذ صديق المجتبى، فقال :" لقد كتب الشاعر صديق المجتبى، مثلاً، قصيدةً في مديح صاروخ! صاروخ حَربي من صواريخ صدّام حسين! أيُعقل أن يتجرّأ شخصٌ على الفن والإنسانيّة جمعاء بهذه الوقاحة؟ على تاريخها وما أنجزته في سبيل كرامة الإنسان وحريّته وحقّه في الحياة كإنسان فقط دون ديانات أو ألوانٍ أو أفكار؟ ".
فهو يريد هذا الكاتب أن يحاسبني على شعر جاد به الأخ الأستاذ صديق المجتبى، وهو مثقف وطني وشاعر من شعراء الفصحى، أعرفه شخصيا وأحترمه كثيرا، ولكني غير مستعد لأن أتبنى كل ما يقوله من شعر، ولا أدافع عن أشعاره، ولا أرضى أن أحاسب عليها، فصاحبها ما زال حيا يُرزق ويَقرُض، وهو صاحب مراس وبأس حينما يتصدى لهذا الضرب من الناس.
فهذا مفهوم نقدي جديد، غيرعادل، ربما أفرزته حديثا حركة الحداثة الشعرية والنقدية المؤدلجة، والمسيسة والموجهة يسارا، يريد الكاتب أن يطبقه علي.
ولذلك شرع في التحقيق معي، وكأنه مفوض شرطة أدبي، فخاطبني قائلا:" لماذا لم تنتقد ذلك الشعر وذلك الفن؟ أَكُنتَ مُوافقاً عليه؟ ألن يكون مُشرّفاً في حقّك أن تنتقد الأقرب إليك بدلاً عن القفز فوق الحواجز لمناطحة قصيدةٍ هي في أصلها ليست شعراً مثلما قُلت!".
والحقيقة أني لم أقرأ قصيدة المجتبى التي أشار إليها الكاتب، ولم أسمعها، وحتى لو قرأتها أو سمعتها فما أنا بمكلف ولا ملزم بنقدها، لأني لا أتوقف لأتناول كل ما أقرأ بالنقد، ولا أجد وقتا لذلك لو أردت.
وقد كان على هذا الناقد أن يقوم بنقد القصيدة بنفسه إن استطاع، وأن يكتفي بنقده لها إن كان قد تمكن من نقدها، وألا أن يفتعل حملة تحريض أدبي ضدها، على الطراز اليساري المعروف في تنظيم حملات النقد الجماعي لما يرون فيه الخطر عليهم.
وبلهجة رسالية فيها كل استعلاء الإيمان خاطبني سائلا وموجها:" ألا تريد أن تكون مساهماً في حركة التغيير التي تجتاح العالم الآن وتُثبتُ، يوماً بعد يوم، أن الإنسان يستطيع أن يتذكّر الحياة، ويستطيع أن يكتشف بسهولةٍ أن المُقدّمةُ الآن ليست هي الحياة، ولذلك فإنه قادرٌ على الصراع لأجلها".
وأجدني هنا عاجزا فعلا عن توفير إجابة عن هذا السؤال تحديدا، لأنني لم أفهمه تحديدا، أو في الواقع إني لم أفهم السطر الأخير منه جيدا، لأنه مكتوب بلغة الحداثيين التي لا تحمل مدلولا قاطعا.
ولكني رغم ذلك أقدم إجابة فضفاضة، وصحيحة في الوقت نفسه، عن السؤال وهي إني أريد أن أسهم فعلا في تحويل الدنيا نحو الأفضل قدر ما أقدر.
ووسيلتي لذلك ترويج الفكرة الإسلامية عن الإله والكون والحياة، ومحاربة أفكار الظلاميين الحداثيين اليساريين الماركسيين اللا دينيين عن الإله والكون والحياة.
ثم لا تزال في جعبة مفوض الشرطة الأدبي هذا بقية اتهامات حيث أشهر في وجهي اتهاما آخر بأني وضعت شعراء الدنيا كلهم في سلة واحدة، وأضفيت عليهم اتهامات متشابهة، وهذا ما لم أفعله، لأني كنت أرد شخص واحد فقط في مقالي، لم أعترف له بالشاعرية، ولم أسلكه في عداد الشعراء، وهو المدعو ياسر عرمان الخرمان.
ولذلك لا يبقى معنى لقول الكاتب:" ثمّ أنك تحدّثت عن أمرٍ آخرٍ مؤسف، بتعميمك المُخل الذي جَمَعْتَ فيه شعراء اليوم في سلّةٍ واحدةٍ وألقيت بها إلى مذبلةِ شتيمةٍ غريبةٍ لا يستحقها هؤلاء الكُتاب، والذين تعرفهم جيّداً لأنك كَتَبتَ معهم من قبل في ملف تخوم الثقافي بصحيفة الأحداث، وفي أعداده الأولى، مقالاً عن الكاتب معاوية محمد نور، وقتها كُنت مُشرفاً على تحرير صفحات ذلك الملف جنباً إلى جنب كُتّابٍ ومشرفين يَفخرُ بهم الإنسان، (وذكر عددا من الأدباتية اليساريين، وكأنه لا يوجد في السودان أدباء من خارج دائرة اليسار)، ثم استأنف قوله قائلا:" دعكَ من هؤلاء وانظر إلى التراث العظيم الذي تراكم في ملفاتٍ ثقافيّةٍ أخرى، أخرجتنا من الظلمات إلى النور، كملفات الصادق الرضي وأسامة عباس وعثمان شنقر! (مرة ثانية عاد إلى تذكيرنا بأسماء من قائمة الأدباتية اليساريين!) وسألني لماذا لم أكتب في الإشادة بهم وبـ (أدبهم):" الذي نُشر ونُشر لعشرات السنوات[ كلها عشرتين بس!] في هذه الملفات إبان سنوات الإنقاذ جميعها؟".
وجوابي عن سؤاله التقريعي هذا هو أني لم أطلع بحمد الله تعالى على ما كتب هؤلاء (الأدباتية) الذين جاء بأسمائهم، ولذلك فلا أنتقد شيئا مما لم أقرأه ولم أخبره.
والغريب أن الكاتب لم يكن في انتظاري لأجيب، لأنه انطلق مجيبا عن سؤاله قائلا إن كتابات ملفات الصحف الأدبية اليسارية التي ذكرها:" كانت، بجهدها، المنفذ الوحيد للفكر والثقافة في زمنٍ أُغلِقت فيه المكتبات العامّة، وتوقّفت المجلات الأدبيّة السودانيّة العريقة، وطُردَ فيه اتحاد الكتاب السودانيين من مقرّه، وأصبح العمل الثقافيّ تضحيةً جليلةً بالحياة، عندما يرتضي البعض أن يعملوا ويبذلوا كلّ ذلك الجهد بمقابلٍ زهيدٍ يعجزُ عن الالتزام بمتطلبات الحياة في أبسط صورها، وعندما تكتب البقيّة في الملفات مجاناً، أسبوعيّاً، ويترجمون آداب وفنون العالم من حولنا لتُنشر مجّاناً (مرة أخرى ذكر أسماء بعض الأدباتية الحداثيين اليساريين)، عندما نَشهد نهضةً كهذه فإننا لا نُعمّم أليس كذلك"؟
وردا على هذا التفاخر بخدمة هؤلاء الأدباتية للأدب والثقافة أقول إن الصفحات (الأدبية) التي يحررونها برؤيتهم الحداثية السطحية الإقصائية هي أكثر صفحات الصحف اليومية بوارا.
وذلك مع استثناءات قليلة لم أكن اود أن أشير إليها إلا أنه ذكرني بمشاركتي يوما في تحرير صفحاتهم تلك.
فقد أرسلت المادة الأدبية التي أشار إليها إلى الأستاذ، عادل الباز، رئيس تحرير (الصحافة) وقتها، وقام بتحويلها إليهم، ولما أبديت اعتراضي على نشر مقالاتي بالصفحات الأدبية التي يحررها الحداثيون، اعتذر الباز بأن تلك المادة بالذات حظيت بنسبة قراءة عالية جدا، ودليله على ذلك أنها رفعت نسبة توزيع ذلك العدد من الصحيفة إلى الحد الأقصى، حيث بيعت سبعة وتسعون بالمائة من النسخ الصادرة من ذلك العدد.
وفي النهاية أبدى الكاتب رأيا فظيعا ينسجم مع رؤيته الحداثية الثائرة، واعترض على قولي:" وحتى في أيام صفاء اللغة العربية في عهد الجاهلية الأولى ما كان عدد شعرائها بضخامة شعراء الضاد اليوم ممن ترزؤنا الصحف اليومية بأشعارهم المفتراة"، وقولي:" ولكن قد هان الشعر العربي وانهارت دولته منذ أن اجتاح الحداثيون الخلاعيون الغثائيون دولته ودعوا وادعوا أنهم بصدد تحريره من قيود التقليد. ولعمر الحق فإنه لا يوجد فن ليس له قيود. وكما قال سيد الحكمة والفكر والشعر عباس محمود العقاد فإن كل فن له قيود لازمات: فالرقص مثلا ضرب من المشي، ولكنه يصبح فنا عندما يلتزم ببعض قيود الفن. والغناء كلام، ولكنه يصبح فنا عندما يلتزم ببعض قيود الفن. فكيف يصبح الشعر فنا وهو لا يلتزم ببعض قيود الفن؟!".
وقال:" لا ـ لك وللعقاد سيد الحكمة والفكر والشعر بالمناسبة ـ يتحوّل المشيُ إلى رقصٍ عندما يتحرر من القيود، ويُصبح الفنّ فناً عندما يتحرر من القيود المفروضة عليه، ويجتاح الحياة مُحبّاً منفلتاً من كلّ جاذبيّةٍ ويقينٍ وقواعد، هكذا عرفنا الفن وكذلك سنعرفه، دائماً، وفي كلّ مكانٍ وزمانٍ في هذا العالم ".
ونحن أيضا نقول له ولأشياعه الحداثيين: لا وألف لا. ولن يصبح المشي الأهوج فنا، ولن يصبح نثركم الشعري أو شعركم النثري شعرا أبدا.
فاكتبوا وانشروا ما شئتم من (الشعر)، وسنحوله جميعا إلى خانة النثر.
تماما كما فعل إمامنا وزعيمنا العقاد، حينما قام بتحويل (قصائد) رائدي الحداثة الخائبين: عبد الصبور وحجازي إلى لجنة النثر.
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]