أَلَقُ الصفحات الأخيرة من حضارتنا
د. محمد وقيع الله
2 October, 2011
2 October, 2011
(1من 3)
للصفحات الأخيرة من حضارتنا ألق شديد.
فقد كانت شمس الحضارة الإسلامية وهي تنحدر تضئ الكون وتفتح صفحة جديدة في حضارة بني الإنسان!
وليس سرا أن السنة التي شهدت سقوط غرناطة، وهي سنة 1492م، هي نفسها السنة التي شهدت الاكتشاف الأخير لأمريكا على يد الإيطالي الذي استخدمه الإسبان كرستوفر كولومبس!
وليس سرا أن السفن التي أقلعت بكولومبس ومخرت به عبار المحيط الأطلسي كانت من بقايا الأسطول الإسلامي في الأندلس.
وليس سرا أن الأموال التي خصصت لرحلة كولومبس كانت من الأسلاب التي انتزعت من مسلمي الأندلس المقهورين المشردين!
وليس سرا أن الخرائط الجغرافية التي اهتدى بها كولومبوس في رحلته كانت من إعداد الجغرافيين الإسلاميين وعلى رأسهم أبو الحسن الإدريسي!
ولم يعد سرا أن مسلمي الأندلس ومسلمي إفريقيا كانوا قد وصلوا إلى أمريكا قبل كولومبوس بزمان طويل!
فقد تأكد للمؤرخين المحدثين أن عرب الأندلس إلى الدنيا الجديدة قبل أن يصل إليها الأوروبيون .
ويبدو أن رحلات العرب الأندلسيين قد بدأت في القرن الثامن الميلادي ، وتواصلت حتى بعد سقوط الدولة الأندلسية في القرن الخامس عشر الميلادي ، عندما صارت الدنيا الجديدة ملجأ قصيا انتهى إليه المسلمون واحتموا به من محاكم التفتيش .
الأدلة الأثرية الثرية
وتدل بعض الآثار التي اكتشفت حديثا بنواحي البحر الكاريبي، وهي قطع نقود عربية على وصول العرب إلى هناك قبل كولمبس.
وفي ذلك يقول المؤرخ الدكتور سيروس غوردون : " إن كميات قطع النقود المعدنية التي اكتشفت على سواحل فنزويلا كانت من الكثرة والتكرار بحيث لا يظن أنها كانت بحوزة هاوٍ لجمع القطع النقدية المعدنية النادرة ، وإنما كانت سيولة نقدية حقيقية .
إن جل القطع النقدية كانت رومانية يرجع تاريخها إلى عهد أوغسطين في القرن الرابع الميلادي.
واثنتان من تلك القطع كانت عربية، ترجع إلى القرن الثامن الميلادي . وهذه الأخيرة هي التي تحدد لنا تاريخ الرحلة التي جاءت بتلك النقود، فقد كان استعمال النقود الرومانية ساري المفعول حتى خلال العصور الوسطى الأوروبية. ويبدو أن سفينة قدمت بتلك النقود من أسبانيا أو من شمال أفريقيا عبر الأطلسي في حوالي القرن الثامن".
Cyrus Gordon, Before Columbs , Crow Publishers Inc. P. 70))
أدلة المؤرخين الإسلاميين
وعلى الرغم من وجود تلك الأدلة فإن حديث المؤرخين عن أخبار تلك الرحلات يأتي مختصرا ولا يعطي الحدث أهميته المفترضة.
وقد تحدث أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي المتوفى في عام 346هـ عن قوم من أهل الأندلس عبروا ما كان يسميه بحر الظلمات والأخضر والمحيط الذي كان يظن بعض أهل عصره أنه أصل سائر البحار.
وقال إن: " منهم رجلا من أهل الأندلس يقال له خشخاش ، وكان من فتيان قرطبة وأحداثها فجمع جماعة من أحداثها ، وركب بهم مراكب استعدها في هذا البحر المحيط ، فغاب فيه مدة ثم انثنى بغنائم واسعة ، وخبره مشهور عند أهل الأندلس".
(أبو الحسن المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر ، 1/115.)
ومع استفاضة شهرة الخبر كما يقول المسعودي فإنه شاء أن يحجب عنا تفاصيله ، ولعل استفاضة الخبر وشهرته هي التي زهدت المسعودي عن إيراده بما يستحق من التسجيل المفصل .
إن محاولات قطع المحيط كانت متعددة ، فإن كان المسعودي قد تحدث في هذا الخبر المختصر عن أندلسيين عبروا المحيط وأتوا بغنائم جمة ، فإن الشريف الإدريسي قد حدثنا عن مغامرين عرب من لشبونة الأندلسية عبروا المحيط مرتين وآبوا بالخيبة.
جزيرة الغنم
قال المسعودي : " ومن مدينة لشبونة كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه كما تقدم ذكرهم ولهم بمدينة لشبونة بموضع من قرب الحمة درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين إلى آخر الأبد.
وذلك أنهم اجتمعوا ثمانية رجال كلهم أبناء عم فأنشأوا مركبا حمالا وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر ثم دخلوا البحر في أول طاروس الريح الشرقية فأبحروا بها نحوا من أحد عشر يوما فوصلوا إلى بحر غليظ الموج كدر الروائح كثير القروش قليل الضوء فأيقنوا بالتلف فردوا قلاعهم في اليد الأخرى وجروا في البحر في ناحية الجنوب ثلاثة عشر يوما فخرجوا إلى جزيرة الغنم وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل وهي سارحة لا راعي لها ولا ناظر إليها.
فقصدوا الجزيرة فنزلوا بها فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها فوجدوا لحومها مُرَة لا يقدر أحد على أكلها فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب ثلاثة عشر يوما إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث فقصدوا إليها ليروا ما فيها فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر فأنزلوا بها في دار فرأوا بها رجالا شقرا زعرا شعور روسهم سبطة وهم طوال القدود ولنسائهم جمال عجيب، فاعتقلوا منها في بيت ثلاثة أيام.
ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي فسألهم عن حالهم وفيما جاءوا وأين بلدهم فأخبروه بكل خبرهم فوعدهم خيرا وأعلمهم أنه ترجمان الملك، فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم احضروا بين يدي الملك فسألهم عما سألهم الترجمان عنه فأخبروه بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب ويقفوا على نهايته.
فلما علم الملك ذلك ضحك وقال للترجمان خبر القوم أن أبي أمر قوما من عبيده بركوب هذا البحر وأنهم جروا في عرضه شهرا إلى أن انقطع عنهم الضوء وانصرفوا من غير حاجة ولا فائدة تجدي.
ثم أمر الملك الترجمان أن يعدهم خيرا وأن يحسن ظنهم بالملك ففعل ، ثم صرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية فعمر بهم زورق وعصبت أعينهم وجري بهم في البحر برهة من الدهر ، قال القوم قدرنا أنه جري بنا ثلاثة أيام بلياليها حتى جيء بنا إلى البر.
فأخرجنا وكتفنا إلى خلف وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس ونحن في ضنك وسوء حال من شدة الأكتاف ، حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بأجمعنا ، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة فحلونا من وثاقنا وسألونا فأخبرناهم بخبرنا وكانوا برابر ، فقال لنا أحدهم : أتعلمون كم بينك وبين بلدكم ؟ فقلنا لا ، فقال إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين، فقال زعيم القوم : وا أسفى ، فسمي المكان إلى اليوم أسفى وهو المرسى الذي في أقصى المغرب ".
(الشريف الإدريسي ، صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس، مأخوذة من كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مطبعة جامعة ليدن، هولندة ، ص 183 ـ 184.)
العرب السابقون
ولا شك أن خبر الإدريسي أوسع تفصيلا وأقوى دلالة من خبر المسعودي ، وفي قوله إن المغامرين الأندلسيين التقوا فيما وراء بحر الظلمات بمن تكلم باللسان العربي تأكيد على أن عربا آخرين سبقوا فوصلوا إلى هناك من قبلهم واستقروا هناك ، ولا يدري على وجه التحديد كم بقوا بأمريكا قبل أن يبادوا بواسطة الصليبيين الأسبان الذين تعقبوهم بقيادة كولمبس وخلفائه من المستكشفين اللاحقين .
ولكن من المؤكد أنهم تركوا من خلفهم آثارا علمية وحضارية تدل عليهم ، فقد أودعوا لغة الهنود الحمر الكثير من المفردات العربية كما أثبت ذلك عالم اللغات الكبير البروفسور ليو واينر الأستاذ السابق بجامعة هارفارد.
Leo Wiener , Africa and the Discovery of America .))
وأنشأوا مدارس لتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي في مناطق نيفادا وكلورادو ونيو مكسيكو وانديانا كما أثبت ذلك الباحث الأسترالي البروفسور بيري فيل الذي عمل أيضا أستاذا للأنثربولوجيا والتاريخ بجامعة هارفارد واكتشف مخلفات خطوط عربية بالنسخ الكوفي القديم في تلك الأصقاع.
Barry Fell , Saga America .))
أكثر من خمسمائة مكان أمريكي باسم عربي
ومما له أعمق الدلالة على الوجود الإسلامي العربي القديم، أكثر من خمسمائة مدينة أو قرية أو معلم جغرافي في أمريكا الشمالية يحمل اسما إسلاميا ، فهناك عدة قرى أو مدن تسمى مكة أو المدينة ، في أنديانا وآيداهو وواشنطن وأوهايو وتنسي وتكساس . كما توجد مدينة الحسن بداكوتا، ومدينة محمد بألينوي ، وغير ذلك كثير .
وتحمل بعض قبائل الهنود الحمر أسماء ذات أصول عربية. ويسمى الهنود الحمر مجموعات معينة من الكواكب بالدب الأكبر. وقد ذكرت مجلــة (الصفا) البيروتية في عدد قديم لها صدر بتاريخ رمضان 1304هـ قول بعض العلماء عن مجموع كواكب الدب الأكبر : " ومن غريب أمره أن كلا من سكان أمريكا الأصليين والأراكوس وقدماء العرب في آسيا سموه الدب الأكبر، مع أنهم لم يخالط بعضهم بعضا على ما هو المرجح " ثم علقت المجلة على ذلك بقولها: " لماذا لا يكون ذلك دليلا على أن المخالطة وقعت قديما ثم انقطعت قرونا كثيرة لأسباب لم تعلن لنا ؟ فإن تلك الصورة لا شبه لها بالدب ولا بغيره من الحيوانات ، وتعرف هذه الصورة بسبعة كواكب لامعة تسمى أربعة منها بالنعش الأكبر ، والثلاثة الباقية ببنات النعش الأكبر ... وهي متفرقة كثيرا ، وعلى ذلك قال الشاعر :
وكنا في اجتماع كالثريا فصيرنا الزمان بنات نعش!
(مجلة الزهراء ، القاهرة ، 1345هـ)
أَلَقُ الصفحات الأخيرة من حضارتنا
محمد وقيع الله
(2من 3)
لم يمض زمان طويل على وصول عرب الأندلس إلى العالم الجديد حتى تأسست محاكم التفتيش الأمريكية، وذلك عندما تلقى الأساقفة الموكلون بتطهير العقائد صلاحيات تخول لهم ليس التحقيق وإصدار الأحكام فحسب، وإنما كذلك البحث عن المتهمين وإقامة الدعاوى عليهم. وكان جل المتهمين من الموريسكيين واليهود واللوثريين و(المنافقين) .
محاكم التفتيش الأمريكية
ذكر د. كاردياك نماذج من تلك المحاكمات التي جرت لمسلمين في بيرو سنة 1560م وما بعدها حيث : " كلف مجلس الكنيسة القس أن يقوم بدور حاكم المجلس الكنيسي لثلاث قضايا تتعلق بالموريسكيين أولهم الخلاسي لوى سولانو Luis Solano ابن الموريسكي جون سولانوJuan Solano من دومنسيه De Mencia وهي امرأة سوداء . وقد سلم إلى السلطة المدنية لاتهامه من طرف ديوان التحقيق بهذه المدينة بأنه مسلم وأحد دعاة دين خاطئ .
وفي هذا اليوم نفسه الثلاثين من نوفمبر لعام 1560م كان موريسكي آخر هو الفارو كونزالاز Alvaro Gonzalez ، والياس هرذندو دياز اصيل هورناشوس دوكستيلا Hornachos de Castilla) ، قد حكم عليه لنفس الأسباب وسلم إلى السلطة المدنية ليتم حرقه . أما لوب دو لابينا Lope de La Pena وهو احد موريسكييي كواد لاجيرا (Guadalajara) فقد اتهم فقط بأنه مسلم وانقضت حياته ليحكم عليه بالسجن مدى الحياة مع حمله لباس الفضيحة طوال حياته .
إن المحكمة التي ألفت في الأراضي الأمريكية كانت محكمة ليما سنة 1569م ( في نفس الوقت الذي أنشئت فيه محكمة مكسيكو ) . وقد بدأت في العمل في السنة الموالية ، على أن أولى قضاياها التي مرت على القائم على ديوان التحقيق سير سبيلا (Cerezuela ) منذ وصوله إلى ليما ، كانت قضية مرتان روميرو من جبل طارق (Martin Romero de Gibraltar ) .
لقد قضى ستة عشر سنة في الأسر في دول المغرب العربي ، وهذا في فترات ثلاث . وقد امتثل لدى ديوان التحقيق ، غير أنه خلال إحدى مشاجراته ، كشف عن عقيدته الإسلامية : " سوف تدفع ثمن ذلك يا من اتبعت كلمة الإسلام "، وأجبر على حضور القداس بزي التائب والطالب للمغفرة ، حافي القدمين ومشدود بحبل برقبته .
وبهذه الطريقة نفسها كان بيدرو سانشاس (Pedro Sanchez ) قد امتثل أمام محكمة ديوان التحقيق بتهمة أنه قال في لحظات يأس أنه ينكر دينه ليعتنق دين محمد!
ومن جهة أخرى صرح أحد رجال الدين ، أصيل قرطبة ببعض الأقوال حول التماثيل ، وهي أقوال لا ينكرها المسلم :" وجب أن لا نعجب بالتماثيل، فهي عبارة عن قطعة من القماش أو اللوح قد تم سترها بشيء من الدهن"!
وقد صرح من تلقاء نفسه أنه كان ببلدان المغرب العربي وخدم لدى ملك عربي وأنه كان على وشك اعتناق الدين الإسلامي ، غير أنه أمام محكمة ديوان التحقيق ، قد رجع في تصريحاته مبينا أن كل ما قال هو محض اختلاق من خياله ، ولم يذهب مطلقا إلى بلدان المغرب ، ومع هذا فقد حكم عليه أن يقلع عن خطيئاته وأن يطرد من ولايته.
(لوي كاردياك ، الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون ، المجابهة الجدلية : 1492 ـ 1640 مع ملحق بدراسة عن الموريسكيين بأمريكا ، تعريب د. عبد الجليل التميمي ، مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية، ص 145.)
جهود الدعوة إلى الإسلام في أمريكا القديمة
إن مصائر العرب الأندلسيين الذين هاجروا بكثافة إلى أمريكا لم تلق عليها أضواء تاريخية كافية حتى الآن في الأدبيات الإنجليزية والعربية ، إلا أن هنالك كتابات وثائقية الطابع تتناثر في اللغة الأسبانية للدكتور لوي كاردياك أعطتنا صورة مصغرة عما جرى لأولئك الأقوام .
فقد نقل عن بعض المؤرخين الأسبان أوصافا لعرب الأندلس المسلمين بالموريسكيين ، تشير إلى التزامهم العفة الأخلاقية وكتم عقائدهم الدينية وعدم مشاركتهم في الحروب الاستعمارية .
ونقل عن الروائي الأسباني الشهير سرفانتس قوله : " إن الدين والحروب وأمريكا لا تقلل من عددهم ! إذ كلهم يتزوج وكلهم ينجب. ومنطقيا فإن عددهم في ارتفاع مستمر ".
(لوي كاردياك ، الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون ، المجابهة الجدلية: 1492 ـ 1640 مع ملحق بدراسة عن الموريسكيين بأمريكا ، تعريب د. عبد الجليل التميمي ، مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية، ص 145.)
وأشار إلى انتشارهم بصفة خاصة في مناطق وسط أمريكا وجنوبها ، وأن وجودهم هناك أعاق انتشار الدعوة إلى العقائد النصرانية وسط الهنود الحمر، الأمر الذي استوجب أن تتصدى محاكم التفتيش للبحث عنهم والتحقيق معهم واقتلاعهم من طريق التبشير، أو كما ذكرت إحدى الوثائق " وفي حالة عثورنا على شيء من هذا فإنه وجب القضاء عليه ومعاقبة المجرمين بأكثر صرامة".
(لوي كاردياك ، الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون ، المجابهة الجدلية: 1492 ـ 1640 مع ملحق بدراسة عن الموريسكيين بأمريكا ، تعريب د. عبد الجليل التميمي ، مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية، ص 149.)
وفي متابعة خطوات التنفيذ ـ يذكر د. كاردياك ـ أن الإمبراطور الأسباني أصدر أمرا في عام 1522م يمنع أي شخص اعتنق الديانة النصرانية حديثا من عبور المحيط إلى أمريكا.
والمقصودون هم أولئك المسلمون الأندلسيون الذين تظاهروا باعتناق النصرانية بعد سقوط الأندلس في أيدي النصارى .
وقد خص بالذكر من بين هؤلاء أهل اشبيلية ، لأنهم كانوا يقومون بغزوات على السواحل .
وفي عام 1531م تجدد الأمر بمنع اجتياز العبيد والبربر إلى أمريكا ، والمقصودون هم من بيعوا رقيقا من أهل الأندلس واحتفظوا سرا بإسلامهم.
وفي عام 1552م وجهت مباشرة إلى الملك وإلى المجلس طلبات تطالب بإقامة ديوان تحقيق بأمريكا .
وكما بينه جيدا مؤرخ الكنيسة بايرو (Perou) فرقاس أوقارت (Vargas Ugarte) : من الأسباب التي كانت وراء هذه الطلبات وجود عدد كبير من الأجانب بأمريكا في السنوات الأولى للتفتح ، خاصة منهم البرتغاليين والشرقيين وحتى الموريسكيين ايضا. وبالفعل كان هناك غزو من طرف التجار الأجانب خاصة منهم الهولنديين والفرنسيين والألمانيين والإنقليزيين والذين حملوا معهم أفكار الإصلاح ، أما الفريق الآخر فيتألف على الخصوص من البرتغاليين الذين استمروا على ممارسة اليهودية ".
((لوي كاردياك ، الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون ، المجابهة الجدلية : 1492 ـ 1640 مع ملحق بدراسة عن الموريسكيين بأمريكا ، تعريب د. عبد الجليل التميمي ، مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية، ص 152 -153.)
وبعد القضاء على من أصر على التمسك بإسلامه، جرى العمل على قدم وساق في تنصير الباقين.
وهكذا كلف فريق من المنصرين بالعمل في أوساط هؤلاء وتذويبهم في المحيط النصراني العام .
وعلى الرغم من رغبة الملكة الأسبانية في فرض اللغة الأسبانية، وعدم السماح باستخدام لغة غيرها في العالم الجديد، فانه جرى استثناء اللغة العربية لتستخدم في تنصير الموريسكيين .
أَلَقُ الصفحات الأخيرة من حضارتنا
محمد وقيع الله
(3من 3)
وعلى عكس رحلات الأندلسيين التي لم تحظ بالتوثيق الدقيق ، فقد حظيت الرحلتان اللتان انطلقتا من مملكة مالي الإسلامية إلى العالم الجديد بقدر أوفى من التدوين من قبل المؤرخين.
السلطان أبو بكر المالي والوصول المبكر إلى أمريكا
وقد كانت هاتان الرحلتان في عهد السلطان أبي بكر (1285 ـ 1312م ) شقيق السلطان مانسا موسى ( 1312 ـ 1336م ) ، الذي وصفه ابن بطوطة عندما زار بلاطه بالغنى الملحوظ الذي فاق به حكام زمانه طرا .
ووصفه المؤرخ الإفريقي عبد الرحمن السعدي بالصفة نفسها مضافا إليها البخل فقال : " سلطان كنكن موسى هو أول من ملك سغى من سلاطين ملي وهو صالح عادل لم يكن فيهم مثله في الصلاح والعدل قد حج بيت الله الحرام وكان مشيه والله أعلم في أوائل القرن الثامن في قوة عظيمة وجماعة كثيرة والجندي منهم ستون ألفا رجالا ويسعى بين يديه إذا ركب خمسمائة عبيد وبيد كل واحد منهم عصي من ذهب في كل منها خمسمائة مثقال ذهب.
ومشى بطريق ولات في العوالي وعلى موضع توات فتخلف هنالك كثير من أصحابه لوجع رجل أصابه في ذلك المشي تسمى توات في كلامهم فانقطعوا بها وتوطنوا فيها فسمي الموضع باسم تلك العلة فورخ أهل المشرق مجيئه ذلك وتعجبوا من قوته في ملكه ولكن ما وصفوه بالجود والكرم لأنه ما تصدق في الحرمين مع كثرة ملكه إلا بعشرين ألفا ذهبا بنسبة ما تصدق به اسكيا الحاج محمد فيهما وهو مائة ألفا ذهبا ودخل أهل سغى في طاعته بعد جوازه إلى الحج.
وبطريقها رجع فابتنى مسجدا ومحرابا خارج مدينة كاغ صلى فيها الجمعة وهي هنالك إلى الآن، وذلك عادته رحمه الله في كل موضع أخذته الجمعة فيها ، وطرق تنبكت فملكها ، وهو أول ملوك ملكها وجعل خليفته فيها وابتنى بها دار السلطنة فسميت مع دك معناه في كلامهم دار السلطان ، والموضع معروفة الآن وصارت مجزرة للجزارين "
(عبد الرحمن بن عبد الله بن عمران السعدي ، تاريخ السودان ، بتحقيق هوداس وبنوه، ص 7 ـ8.)
كانت مملكة مالي تعدَ في ذلك العهد ثاني أكبر دولتين في العالم بعد إمبراطورية المغول . أما الإمبراطورية الرومانية التي عاصرتها فقد كانت تبدو قزما ضئيلا إلى جانبها . وقد قيل ـ وربما كان في ذلك بعض المبالغة ـ إن المسافر يحتاج إلى عام كامل ليعبر مساحة الدولة المالية من أقصاها إلى أقصاها !
وقد اتفق المؤرخون على وصف السلطان منسا موسى بالثراء البالغ ، وأضاف القلقشندي إلى ذلك صفة الشجاعة والمهارة الحربية التي مكنته من توسيع مملكته ومضاعفة مواردها.
دليل ابن ضياء الله العُمري
ونقل القلقشندي خبرا عن المؤرخ الإسلامي المعروف ابن ضياء الله العُمري صاحب كتاب (مسالك الأبصار) عن ابن أمير صاحب قال : "سألته عن سبب انتقال الملك إليه ـ فقال : إن الذي قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك ، فجهز مائتين سفن ، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين ، وأمر من فيها أن لا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته أو تنفد أزوادهم ؛ فغابوا مدة طويلة ، ثم عاد منهم سفينة واحدة وحضر مقدمها.
فسأله عن أمرهم ، فقال : سارت السفن زمانا طويلا حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة وادٍ له جرية عظيمة ، فابتلع تلك المراكب وكنت آخر القوم فرجعت بسفينتي ؛ فلم يصدقه ، فجهز ألفي سفينة ، ألفا للرجال وألفا للأزواد ، واستخلفني وسار بنفسه ليعلم حقيقة ذلك ، فكان آخر العهد به وبمن معه".
(القلقشندي ، صبح الأعشى في صناعة الإنشا ، ص 294ـ 295.)
وهذا الحادث الذي أشار إليه منسا موسى ، أمكن تعليله حديثا من قبل بعض المؤرخين بأنه اصطدام بالتيار الاستوائي الشمالي ، أو تيار جزر الأنتيل قرب الشواطئ الأمريكية ، بما يعني أن السفن الأولى غرقت بفعل اصطدامها بذلك التيار العارم.
(Harold Lawrence , Mandenga Voyages across the Atlantic : African Presence in Early America. Journal of African Civilizations, P. 238.)
آثار الماندينغا
وليس بالضرورة أن تكون السفن التي قادها أبوبكر نفسه قد لاقت المصير ذاته .
إن آثار الماندينغا من أهالي مالي وجدت بعد ذلك بالعالم الجديد.
ويرجح ذلك أيضا الكشوف الأثرية لجماجم أشخاص سود يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر الميلادي ، وكذلك وجود آنية فخارية شبيهة بتلك التي يستخدمها أهل غرب أفريقيا يعود تاريخها إلى الفترة نفسها.
وأبلغ من ذلك في الدلالة وجود ألفاظ كثيرة في لغة قبيلة الأنديز والأوليمك التي تعيش بأمريكا مأخوذة من لغة الماندينغا الإفريقية.
وقد حقق في تفاصيل هذه البعثات عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي المعاصر البروفسور إيفان فان سيرتيما فأكد أن البعثة الأولى تحطمت على التيار المائي الاستوائي الذي يجري داخل المحيط قرابة سواحل فلوريدا، ورجَّح بشواهد أثرية لقبور أشخاص سود ترجع إلى تلك الفترة بالتحديد وصول البعثة الثانية و استقرارها في نواحي فلوريدا و المكسيك و اختلاطها بالهنود الحمر.
(Ivan Van Sertima , They Came before Columbus : The African Presence In Ancient America , 1976)
وكان كولمبس في حقيقة أمره طليعة حملة صليبية جديدة، أرادت أن تصل إلى القدس عن طريق الهند، فوصلت من حيث لم تتوقع إلى ما يعرف اليوم بأمريكا.
(راجع تفاصيل ذلك في : Rafael A.Guevara Bazan ,Some Notes for Relations between Latin America . The Arabs and Islam, The Muslim World , October 1971.)
وربما كان بقايا هؤلاء الرجال هم أولئك السود الذين التقاهم كريستوفر كولومبس، وتحدث عنهم في مذكراته عن الرحلة الثالثة، ووصفهم بأنهم كانوا سود البشرة، ويحملون أسلحة مذهبة، وأنهم أغنياء بما لهم من متاع وأدوات.
وربما تمت إبادة هؤلاء السكان لاحقاً ضمن الأقوام والسكان المحليين، الذين أجهز عليهم المهاجرون الأوروبيون، الذين توافدوا على القارة الأمريكية على إثر كولومبس .
أما المساجد الأثرية التي اكتشفت في كل من نيفادا و تكساس و المكسيك فهي من بقايا آثارهم.
وقد ذكر كولمبس في مذكراته، بتاريخ الحادي عشر من أكتوبر 1492م، أنه ربما رأى مسجداً بمنارة طويلة قبالة الساحل الكوبي.
وكولومبس يعرف المساجد جيداً؛ لأنه أتى من الأندلس المسلمة في عام سقوطها في يد النصارى، فإن كان ما رآه مسجداً بالفعل فلعله كان أيضا من آثار أولئك الأفارقة المسلمين الذين هبطوا أمريكا قبل قدومه إليها.
(المرجع السابق)
وأما غنى هؤلاء الأقوام المسلمين الذي وصفه كولومبوس، ووصفه من قبله ابن بطوطة والقلقشندي وآخرون، فمع أنه أوصلهم إلى حواشي العالم الجديد، إلا أنه ظل غنىً شيئياً - بلغة مالك بن نبي، رحمه الله - لم يغن عنهم شيئاً.
إذ لم يتحول إلى مادة ثورة صـناعية، تنتج ما يقابل ويكافئ السلاح الأوربي الحديث، الذي استخدم لاستئصال وجودهم من على التراب الأمريكي!
وقد كانت الحضارة الإسلامية التي يستظلون بظلها قد أنهكتها ألاعيب السياسيين، وبدد قوتها صراعهم السفيه فيما بينهم لاحتياز المناصب، حتى أن بعض هؤلاء كان يتحالف مع النصارى ضد إخوانه المسلمين!
ولذا فلا عجب أن تمكن الخصم الحضاري النصراني من استخدام مصادر قوة المسلمين، وأن وجهها إلى صدورهم في خاتمة المطاف.
وقد ذكر كولمبس في مذكراته شيئا من بقايا حضارة المسلمين تتعلق بالجانب الأخلاقي السلوكي حيث قال إنه رأى فيما رأى بالعالم الجديد أقواما يشبهون أهل الأندلس، وأبدى استغرابه من انتشار الحجاب في أوساط نسائهم.
وتأكيدا لهذا ذكر مكتشف أسباني آخر، هو هيرناندو كورتيز، أن أولئك النسوة كن يرتدين البراقع التي كانت ترتديها نساء الأندلس.
ثم ذكر مكتشف الإسباني آخر، هو فيرناند كولومبس، أن هؤلاء النسوة كن يرتدين ملابس تماثل ملابس نساء غرناطة، بينما كان أطفالهن يرتدون أيضاً أزياء أطفال غرناطة.
Yousef Mrouch , Pre – Columbian Muslims in America , The Message , July ,1997 , p. 19))
خاتمة
وكان هذا آخر ما بقي من مصادر قوة المسلمين الذين هاجروا إلى أمريكا، أن استمسكوا بتقاليدهم الاجتماعية الأخلاقية، التي تتعلق بعلاقات الجنسين وآداب السلوك العام.
ولا شك أن هذا ميسم مهم من مميزات حضارتنا الإسلامية العظيمة، إلا أنه من مظاهر الدفاع عن الذات، لا من أسس لا من مصادر القوة والإشعاع.
ولم يكن مقوما كافيا لحماية ذلك الوجود الإسلامي الأمريكي المبكر، الذي سرعان ما تكاثر عليه الأعداء الصليبيون واجتاحوه واجتثوه من الجذور.
mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]