إبني لا يحب العنب !!!

 


 

 

 

احيانا كثيرة تعقد الدهشة ألسنتنا فيما نجد من صدود وتأبي ورفض وتعفف من ابنائنا عن أشياءنا وغرابة تفاعلهم معها، ونرى اختلاف كبير جدا فيما رؤيتنا نحن ، فما نراه رفاه ربما يرونه خلاف ذلك، وما نراه طاعما شهيا ، يعتبرونه لهم فيه رأي أخر ، وما نحب اليهم ونتمنى من طعام وشراب وألبسة ونظام تعامل بيننا وبينهم ، وبينهم وبين العالمين فيه خلاف كبير ، حتى وان رضوا به وبرونا بذلك ، فنحن نختلف في اشياء كثيرة .
نحن نرى انه تشدنا طباع تربية معينة ، كانت بسيطة في معانيها ، وقليلة ومفيدة ومباركة في كل شيء ، وهم الآن تخطوا كل ذلك برؤيتهم الخاصة، وتخطفهم التغريب والثقافة الغريبة التي نراها نحن ونعرف انها سراب ويرونها هم كل شيء وافضل شيء ، فنختلف في تناول الحياة والتعامل معها ، واحيانا يصل الواحد فينا لدرجة الثورة وينشب الخلاف ، لأنهم بسهولة ليسوا نحن ولا نحن هم ، والفوارق بيننا كبيرة جدا ، فوارق جاءت على أمواج الحداثة والمستجدات ، فأختلف لإختلافها معنا حتى الذوق والتذوق ، والتعامل والتعاطي مع الاشياء ، بما فيها كل شيء حتى التدين وعموم الأخلاق.
للحقيقة المرة جدا التي تتطلب منا نحن الاباء ، وعيا تربويا وصبرا بالغا ، وتتطلب منهم هم ، رؤية للاشياء بزوايا اخرى ، ولهذه الحقيقة نحن نصنع اسرا و نعيش في بيوت واحدة مع اسرنا واولادنا،لكن هناك غرابة وغربة بيننا ونحن في الواقع غرباء عن بعضنا ، نحن في الحقيقة نشعر بأننا ضيوف قدامى بمناهج أهل الكهف بالنسبة لما يعتبره أبناؤنا حداثة ، وهذا يتطلب تنازل منا حتى في مستوى الدهشة والاستغراب ويتطلب قبول منها لما يفعلون وقبول منهم لما يبدر منا من لجج وخلاف وربما يصل الى خصام لا نملك لهم عبره الا حبا شديدا ، ونراه حبا يتيما لا يجد من يشبع لأواؤه ولواعجه هذه هي الحقيقة.
*فأنا لا ألومك يا ابني* لاختلاف عصركم عن عصرنا ولكني والله أدهش كل يوم لفوارق التغيير الكبيرة والسريعة جدا ، تغيير في كل شيء ، في الطبع وفي النهج وفي التعامل مع الاشياء وفي الاشياء نفسها.
دعني يا ابني أطوف بك قليلا على ماضينا ، كيف تربينا وكيف نشأنا ، عاداتنا ، مأكلنا ومشربنا وأجواء ثقافتنا قبلكم.
أنت الآن تعاف أكل العنب وتميل لأكل " الهواميق" بلغة حبوباتنا في السودان وتتلذ "بالهوايش" على لغة أهلنا في جنوب السعودية .
يا ابني كنا نأكل اللحم مرة او مرتين على الأكثر في الاسبوع ، كنا نفرح ونتلذذ بحلاوة الطحنية ، وحلاوة دربس ، وبالتمر ، والبسكويت ، ويكون يومنا كله عيد اذا تحصلنا على قطعة حلاوة لكوم ، او قطعة برتقال ، اما مشروب البيبسي كولا ، يا ابني فكان حلم لا يناله الإ سعيد ومترف ، الببسي كولا كانت تتوحم عليها بعض النساء ، وكان ازواجهن يذهبون الى الاسوق على بعد 15 كيلومترا احيانا ، لكي يجلبوا لزوجاتهم الببسي كولا ، او تغاحة توحمت عليها ، حتى لا يسقط جنينها من شدة الوحم ، وكانت الببسي كولا تعد علاجا لأوجاع البطن، وعسر الهضم ، وكان طعامنا الاساسي قدح من عصيدة بملاح القديد (الشرموط) ، او الروب ، واحيانا بالموية ، (نعم كسرة بموية تسخن مع قطعة بصل محمرة وتؤكل على زيت السمسم)، وتطورت الموائد حتى تخمنا من الرفاه ، حتى اصبحت موائدنا لا يستصيغها الحدثاء .
كنا نأكل وجبة واحدة في اليوم يا ابني ، ليس لأننا نزهد في الطعام انما يا ابني لا يستطيع رب الأسرة ان يوفر اكثر من ذلك ، فالدخل محدود جدا ، و نحن اما مشغولين في المزارع او نرعى في البوادي او يدرس بعضنا في المدارس ، وللمدارس والدراسة قصصا كثيرة ليس هذا وقتها.
اما اعمالنا ونحن صغار مع آبائنا في المزارع (الحواشات او البلدات)، فأذكر اني كنت اذهب مع ابي ومعنا سعن ماء صغير ، نعلقه على عصاتين (شعقيبة او مشعليب)، ليضربه الهواء فيكون باردا ، تتنزى جنباته وتعرق من الهواء ، ونشرب من وكائه دون أكواب او كاسات (كبابي)، ويشرب ضيفنا وابن السبيل ، لا يا ابني كنا اذا لم نجد ذلك ، نشرب من الجداول الرقراقة ومن الحفائر ومن السواقي ومباشرة من السماء من سقط المطر ، واذا اردنا احيانا ان نصنع شاي نظيف ، تنقع له امهاتنا بماعون تحت ازيار المياه (جرار الفخار) التي نستخدمها لمياه الشرب ، حيث لا فلاتر ولا تنقية ولا ثلاجات .
وبعد ان نشرب كباية الشاي عند الفجر نتوجه لمزارعنا (حواشاتنا) ، ونقوم بمختلف اعمال الزراعة الشاقة ، الحش والكديب والزراعة نفسها ، ولقيط القطن ، وقطعه ،وحرقه وقطع العيش ودقه وتخزينه في المطامير ، لنأتي في المساء احيانا دون ان نتذوق لقمة واحدة ، احيانا يمر علينا بائع (الرغيف) ونحن في المزراع، والسعيد فينا من يشتري منه حتى ولو خبزة واحدة ليأكلها بقطعة طماطم من جرف المزرعة دون حبة ملح.
فأنا لا ألومك يا ابني الأ تأكل عنبا ، لأنك لم تجرب يابني ان تشتهي قطعة برتقالة او تفاحة او عنبة في صورة كتيبات المدرسة ، فالوفرة وازدحام النعم عليكم، واعتيادها يقتل كل شيء ، قاتل الله الإعتياد يا ابني الذي ينسى الناس حتى فضيلة الحمد .
كانت العصائر والمشروبات عندنا قليلة ونادرة جدا ولا نأبه بها ليس لأننا لا نحبها بل لإنعدامها ، لأن ثقافتنا كانت تعتمد على الأزرقين الماء والتمر ، وإذا حسن الحال ، اللبن ، أما جلب نفسه الماء يا ابني فكانت قصته قصة عجيبة جدا ، فعلى الرغم انا نسكن على ضفاف النيل فإن الحصول على مياه الشرب (موية الشراب )، كانت عنت وعناء شديد وعمل في حد ذاته بالنسبة لنا خصوصا في القرى التي تبعد عن النيل قليلا ، كنا نرد (نذهب)، لجلب موية الشراب على الحمير بالصفائح (التنك)، او القرب ، والسعون (القرب الصغيرة)، من ابار المياه الصغيرة المحفورة بالكواريق في جوف الترع (القنوات)، تلك الابار (التمد ، او الجمام)، اعماقها لا تزيد احيانا عن المتر الواحد وهي معرضة للحشرات والهوام والثعابين والعقارب ، وتنبع من جوفها الموية من بين ثنايا الرمال ، فتتجمع (تجم )، ونحن نغرف مرة لنعبي صفائحنا، ونصبر مرة اخرى لتجم او تتبر البئر ، والجم والتبر هو النضح ودر الماء من ضرع البئر من جديد ، فننتظر احيانا هكذا منذ بذوغ الفجر ونحن داخل البئر ، التمدة حتى نعبء جوز الصفائح الى منتصف النهار .
ولقلة الماء وقسوة الحصول عليه ،،كنا نستحم بالجرادل (السطول ) مرة واحدة في الاسبوع ، في القرى التي يعتبر الماء فيها نعمة ما بعده نعمة ، او مرتان في قرى اكثر حظا .
الان يا ابني الماء عندكم اصبح بأنواع وعبوات والوان ، ونعمة لا نلقي لها بالا ولا نحمل لها هما ، والصنابير تدفق في اهمال وبذار ما بعده بذار ، تسرفون احواض الحمامات والمسابح وتستخدمون في المرة الواحدة ما يمكن ان يكفي اسرتنا سابقا لمدة ثلاث ايام.
انا لا الومك يا ابني كثرة النعم ، وبطر الناس من الاعتياد.
لا تسألني عن ثلاجة (تلاجة)، مثل تلاجتكم الفارهة الكبيرة والتي تزدحم بالماء البارد والأطعمة بكل انواعها والفواكه بما فيها العنب والتي نرمي بها اسبوعيا الان في سلة الوساخة ، هذه السلة يا ابني بمحتوياتها من العنب واللحوم والايدام والمقبلات التي غيرت امزجتنا وجلبت لنا الأمراض العضال ، وملأى ببواقي البيرغر والساندوتشات والشاورما والبيتزا ، هذه "الهواميق التي غربت فيكم حتى المذاق ، وغربت استطعام الالسن والبطون وميكانيزم الهضم .
كنا لا نمرض كثيرا يا ابني ، وقل ما يوجد عندنا امراض الا التي تسببها فواقد الفيتامينات ، وعلى الرغم من ان انواع اكلنا محدودة جدا الا اننا كنا اصحاء ولم تك هناك ادوية بهذا الكم وهذا الكيف ، الشفخانة (الصيدلية)، كان بها دواء واحد هو دواء "السلفة" محلول ابيض يعطي "بطلسة" ، كأسة صغيرة من "الطلس" دون مقاييس ، ينفع لكل شيء او بالاحرى يعطى لكل شيء ، وجع الرأس والرمد والحمى ، ووجع الحلق ، والام المفاصل ، نعم والله دواء واحد ، وكنا لا نذهب للتمرجي (المساعد الطبي)، كثيرا ، بل لا نحب الذهاب اليه خوفا من الإبر (حقن البانسلين)، اذا كان عند داءا يتطلب دواءا اقوى من السلفة ، الان يا ابني انا لا ألومك ، لكثرة المصائب والامراض ، صار الهواء يسبب مرضا ، والأكل يسبب مرضا والنوم يسبب مرضا ، وأجواء المدينة ، وازدحامها وكثرة الهموم والأوهام تسبب امراضا كثيرة ، بل ان التوتر العام والضيق النفسي رغم تكاثر النعم ، تسبب امراضا اخرى وعدم الاشتهاء ، يسبب عللا من نوع اخر .
وانا لا ألومك يا ابني لكني والله أغبطك ولا أحسدك ، أغبط فيكم حياة الرغد التي انتم فيها ، ولكني والله أرفق بك وأترأف عليك واتحسر في داخلي اذا رأيتك تترغد دون ان تحمد الله ودون ان تتذوق طعم السعادة والفرح من هذه النعم التي سدت علينا اشتهاء النفس وإستطعام الحياة ، وأخاف عليك اذا بطرت النعم وكفرتها وما شكرت ، ( *واضرب لهم مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون* ).
وانا لا الومك يا ابني لأن مفهومكم في ممارسة الحياة اصبح حزءا من منظمومة غريبة علينا وصارت المدنية هي خلق الناس ودين الناس ورفاه الناس وديدنهم واعتيادهم ، وما حدثتك عنه من ثقافتنا القديمة انتم تعدونها تجارب متحفية ، عفى عنها الزمان ، تحسبونها مثيلوجيا وخرافات قديمة عفى عنها الزمن ، وتعتبرونها ارشيفا تاريخيا ، لا يتماشى مع روح العصر ، والموضة ، روح العصر التي غسلت عنا كل شيء ، خلقنا وهمتنا ونخوتنا وذاتيتنا وديننا حتى اصبحنا كأعجاز نخل خاوية ، ونحن نسميها الزمان الجميل .
هندام نحن نعده خروجا عن المألوف ، فيه ما لايستر عورة وما لا يتماشى مع الذوق العام ومع الحياء احيانا ، تغريب في كل شيء ، في الهيئة والملبس، والشكل ، نحن نختلف حتى في انواع الحلاقة ، كان بعضنا قديما يترك له " قمبور " او يحلق " صلعة " ولا يأنف ولا يتأفف ، وكان الأب هو من يحدد ماذا تأكل وماذا تشرب وماذا تلبس وكيف تظهر واين تذهب وماذا تعمل بل احيانا ماذا تدرس ومن تتزوج ومتى تتزوج ، احيانا كان بعض الاطفال تأخذهم الجدات ليتربوا بعيدا عن الاسرة وليس لذلك ادنى رفض ، وكانت الشوارع والجيران يشاركون الأسر في تربية اناءها وتهذيبهم في الشوارع ، وكان الاساتذة والمداراس لهم جميعا رأي في طريقة تعاملنا مع الحياة.
الان يا ابني نحن نستغرب تلك الحرية والإنفراد والذاتية والتنائي والإنكفاء على الذات وعدم قبول راينا احيانا باعتباره نشاذ وغريب عن ما علمتكم صنابير التقنية الفاتحة والجارفة ، ولا ألومك لأن الأمر أكبر من قدرتنا الا ان يهدينا الله لأقرب من هذا رشدا.
انا لا ألومك يا ابني فالنقلة كبيرة جدا لا يسطيع مقايستها والوعي بها والحكمة فيها الا من اتاه الله الحكمة وأخرج من الظلمات الى النور.. أسال الله لي ولك الهداية.
لكن الاسئلة التي تطرح نفسها ، الى أين انتم بعد هذا ذهبون ؟.وماذا سيكون شكل حياة ابناءكم القادمين اذا مد الله الأيام اياما؟ وماذا ستكون طبائع الأجيال القادمة والتي سوف ينشؤها ويربيها هؤلاء؟ وهل ستقترب بينهم هذه الفوارق؟ وهل ستكون شكل الأسرة هي شكل الأسرة وقوانينها ومنهجها وتوجهاتها التي نعرف؟ وهل سيبقى التماسك الاجتماعي على ما نحن عليه ، ام ان الأسرة سيصيبها مزيد من التغريب والغربة بين افرادها ؟ أسئلة تحتاج لاجاباتها لمصلحين اجتماعيين ولعلماء نفس ولتغيير منهج دعاة ودعوة وتحتاج لفقه ووعي وهداية حتى لا نؤخذ بغتة من الله.
" *فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم ابواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون* ".
اللهم إني أسالك في باقي ايام هذه حسن الخاتمة ، واسألك لأبنائي نورا يستهدون به بين الناس ، اللهم اعطهم يقينا يتثبتون بها في أمور دينهم ويقايسون بها الخير ، والزمهم يقينا وهدى يهتدون به بالحق ويبعدون به عن الباطل ، ويهديهم الى صراطك المستقيم.

rafeibashir@gmail.com

 

آراء