Government and Christian Missions in the Anglo-Egyptian Sudan, 1899 - 1914 (1/2) ريتشارد هيل Richard Hill ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص للجزء الأول من بعض ما ورد في مقال طويل للمؤرخ البريطاني ريتشارد هيل عن "إرساليات الحكومة والمسيحيين التبشيرية في السودان الإنجليزي – المصري بين عامي 1899- 1914م"، نشر بالعدد الأول من مجلة "دراسات الشرق الأوسط Middle Eastern Studies" الصادرة عام 1965م. وريتشارد هيل (1901 – 1996م) هو مؤرخ أكاديمي مختص بتاريخ مصر والسودان والشرق الأوسط، ومؤلف لعدد من أمهات الكتب عن تاريخ السودان منها "قاموس الشخصيات السودانية" و"مصر في السودان" و"المواصلات في السودان"، وهو من أنشأ "أرشيف السودان بجامعة درم البريطانية". ونشر ريتشارد هيل – بالاشتراك مع بيتر هوق - كتابه الأخير المعنون "صفوة الفيلق الأسود: كتيبة المجندين المصريين -السودانيين مع الجيش الفرنسي في المكسيك، 1863 -1867" وقد تجاوز عمره 94 عاما. المترجم ******** ********** ********** ساد الغموض العلاقة بين الحكم الثنائي (الإنجليزي – المصري) والإرساليّات المسيحية منذ قيام ذلك الحكم في 1899م، وغدت علاقة مأساوية بعد نيل السودان لاستقلاله في 1956م. وتتناول هذه الورقة المراحل الباكرة لتلك العلاقة غير السعيدة، إلا أنها لن تتطرق للمشاكل الحالية في جنوب السودان، أو للموضوع الأوسع والأشمل المتعلق بسلوك المؤسسة الإسلامية الحاكمة تجاه الأقليات السودانية غير المسلمة. وما أوردته هنا من مصادر لبحثي هذا، لا يمثل إلا جزءًا يسيرا جدا من الدلائل والبراهين على ذلك (اعتمد المؤلف على ما توفر لديه من وثائق محفوظة في أرشيف السودان بمدرسة الدراسات الشرقية في جامعة درم، وعلى أرشيف جمعية الكنيسة التبشيرية بلندن. المترجم). ويجب الحذر عند قراءة معلومات تتعلق بسماح اللورد كرومر (القنصل البريطاني بمصر) للجمعيات التبشيرية المسيحية بالعمل في جنوب السودان، إذ أن كرومر لم يفعل ذلك إلا على مضض، ودون رغبة حقيقية. لذا يجب دوما الغوص في خلفية ما هو مطبوع في وثائق، وعدم أخذها حرفيا دون اعتبار لأسباب وظروف صدورها. وكان بروز خلاف ونزاع في حق تعليم ونشر المسيحية والإسلام في جنوب السودان أمرا لا مناص منه، بالنظر إلى وجود عقيدتين دينيتين متعارضتين بالبلاد. وكما أن هنالك (بعض) المسلمين المتعصبين الذين يؤمنون بأن عقيدة المسيحيين عقيدة فاسدة، ويعدونهم مواطنين من الدرجة الثانية، بل ويرون أن عاداتهم ممارساتهم الشخصية غير صحية، فهنالك أيضا من المسيحيين من يرون في الإسلام ذات ما يراه دانتي (1). غير أنه ثبت من الممارسات الفعلية أن التعصب وعدم القبول بالآخر لم يكن صفة ملازمة وثابتة في التاريخ السوداني. وكان الحكم المصري – التركي للسودان (بين عامي 1821- 1881م) هو أكثر الأنظمة التي مرت على السودان تعصبا ضد الإرساليّات المسيحية. أما نظام المهدية الثيوقراطي الذي أعقب الحكم التركي – المصري، فقد كان سافر العداء - بصورة لا هوادة فيها – لكل المعارضين، بغض النظر عن مللهم ونِحَلهم. غير أن الحكم المهدوي لم يستمر طويلا. وقام الحكم الثنائي (1899 – 1955م) والحكومة السودانية المستقلة (1956م) بسن قوانين جديدة عوضا عن قوانين الشريعة الإسلامية (التي كانت هي مصدر التشريع الوحيد في غضون سنوات المهدية)، وقصرت قوانين الشريعة على الأحوال الشخصية للمسلمين دون غيرهم، والتزمت بالمعايير الغربية لدولة علمانية من طبقة واحدة تكون فيها المواطنة هي المعيار (المتساوي) لكل أصحاب الديانات المختلفة (أو للذين ليس لديهم عقيدة دينية من أي نوع). وفي هذا المقال سنتناول السنوات الخمس عشرة الأولى من عمر الحكم الثنائي. وكان حاكما السودان الإنجليزي المصري: لورد كتشنر (1898 – 1899م) وسير ريجيلاند وينجت (1899 – 1916م)، وكل كبار ضباط وموظفي الحكم الثنائي أعضاءاً في كنيسة إنجلترا، عدا المفتش العام سلاطين باشا، والسكرتير المالي سير ايدجارد بيرنارد، إذ كانا يتبعان الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وقاضي القضاة، المسلم خريج الأزهر. وكان كتشنر ووينجت مؤهلان مزاجيا لحكم منطقة غالب سكانها من المسلمين، وبها أقلية وثنية. وكان الحاكم العام هو ممثل الملك المسيحي والخديوي المسلم. وكتب وينجت إلى أسقفه قويين في عام 1911م ما نصه: "على الرغم من أنني مسيحي الديانة، إلا أنني أمثل في هذه البلاد الملك والخديوي، وأنا مسؤول عن الحفاظ على توازن دقيق بين كل سكان البلاد، سوءا أكانوا مسلمين أو مسيحيين". وكون وينجت في عام 1901م لجنة استشارية دائمة من "العلماء" بالخرطوم لتقديم النصح له في الأمور الإسلامية، وشكل في عام 1912م لجنة أخرى من كبار الموظفين البريطانيين (سرية المداولات) لنصحه في شؤون الإرساليّات المسيحية. وكانت القيادات الأنغليكانية تفتقر إلى الحماس التبشيري، وظلت مقيدة عاطفيا في مهمتها الدينية. وكانت الغالبية العظمى من أعضائها من أبناء المدارس العامة البريطانية (2)، ومن ورثة السلوكيات السائدة في تلك المدارس. وكانت آرائهم السياسية استعمارية خالصة، إذ كانوا يؤمنون بأن بريطانيا تقوم بتمدين البلدان المستعمرة، وأن دينهم يعكس أكثر من مجرد نظرة استشرافية استعمارية، فدينهم هو دين يناسب الحكام الاستعماريين. وكانوا يعدون أنفسهم - بصورة عامة – من الأنغليكانيين المعتدلين و"المقتصدين" في التعبد، وكان كثير من كبرائهم من الماسُونِيّين (3). ولم يتصف بالتدين (المسيحي) الشديد من كبار الموظفين بحكومة السودان سوى ميد ونتر باشا (مدير السكة حديد) واستانتون بيه (مدير مديرية الخرطوم). ولم يعرف لموظفي الإدارة الاستعمارية البريطانية أي علم أو اهتمام خاص بالتاريخين المسيحي أو الإسلامي، أو عقائدهما. وكانوا يبدون بعض الاهتمام بأخلاقيات الدين، وليس بأصول ومحتوى عقيدته. ويمكن وصفهم، باختصار غير مخل، بأنهم كانوا من المستعمرين المتسامحين البُسَطاء الجَنتلمانيّين (النبلاء)، وبأنهم كانوا يتصفون – بصورة عامة – بالعدل، وبأنهم غير قابلين للفساد والإفساد. غير أن المبشرين كانوا جد مختلفين عن أولئك الموظفين. وكان غالب القساوسة الكاثوليك الرومان والراهبات والمسيحيين العاديين بالسودان ينحدرون من أصول نمساوية وإيطالية فلاحية. وكانت الحكومة تأمن جانبهم، إذ لم يكن يثيرون ضدها أي مشكلة. أما البروتستانت فكانوا كلهم من البريطانيين والأمريكيين من الطبقة المتوسطة الدنيا، وهؤلاء من الذين ينتمون في الغالب لحركة الانبعاث الانغليكانية. وكانوا يختلفون عن مديري المديريات العسكريين الذين كانوا لا يهتمون كثيرا بالروحانيات ولا يأبهون أو ينفعلون عاطفيا بالمسائل الدينية والأخلاقية. بل كانوا يتوقون دوما لـ "الحقيقة المصلحة Reformed truth" وينزعون أيضا لنقل هذه الحقيقة للآخرين. وكانت الإرساليّة الرومانية الكاثوليكية هي الأكبر في السودان. وكانت الوكالة الرسولية (apostolic vicariate) لوسط أفريقيا قد أقيمت في 1846م، وأرسلت مندوبيها للعمل التبشيري في أوساط الزنوج في شمال وجنوب السودان في 1848م. وتوقفت تلك النشاطات مع قيام الثورة المهدية بين عامي 1882 و1885م. وظلت تلك الإرساليّة تعمل من المنفى (في مصر) في غضون سنوات عهد المهدية، بقيادة القس ف. سوقارو، الذي كان رجلا اجتماعيا محبوبا من قبل البريطانيين. وبعد نقل سوقارو من مصر، حل محله القس روفيقو، الذي تولى عملية التفاوض مع لورد كرومر ولورد كتشنر في أمر عودة تلك الإرساليّة للعمل بالسودان بعد سقوط الدولة المهدية في سبتمبر من عام 1898م. غير أن كتشنر عاد للندن بعد معركة أم درمان، وقابل الكاردينال هـ. أ. ڤون ليطلب عونه في أن تكون الإرساليّة التي ستبعث للسودان بريطانية خالصة. غير أن مقترح كتشنر لم يظفر بالقبول بسبب مقاومة القس روفيقو وممثلي الحكومة النمساوي – الهنغارية. وبدأ كتشنر بالانتقام من تلك الإرساليّة (الأوروبية) وغيرها من الإرساليّات على طريقته الخاصة. فبدأ عند تخطيطه لإعادة مدينة الخرطوم بمنع الإرساليّة التي كانت لها كنيسة بجوار القصر من استعادة موقعها القديم بحجة أن موقعها القديم يتعارض مع خطته الجديدة، ومنحهم ثُمن مساحة موقعهم القديم في مكان آخر، مع تعويض زهيد لم يتجاوز 3,075 جنيها استرلينيا. وتولت الأشغال العسكرية عمليات هدم مبنى الإرساليّة والكنيسة والاستفادة من طوبها المحروق. ولَمْ يَحِرْ القس روفيقو جوابا، ولم يكن أمامه غير القبول بخنوع للأمر الواقع والتخلي عن المبنى "المقدس" بقبري القسين كمبوني ورايلو، والرضا بتحويله لمبنى يستعمل للأغراض المدنية (غير الدينية). وأتي أسير المهدية السابق جوزيف أورفالدر (الذي هرب من أم درمان في 1893م) للخرطوم في خريف عام 1899م لمعاينة موقع الإرساليّة الجديد، ولم يسمح له ومن معه بالبقاء في الخرطوم إلا لأيام معدودة لجمع رفات القس كمبوني، وأعيدوا على عجل للقاهرة. وبقي القس روفيقو في السودان حتى وافاه الأجل في 1903م، وخلفه قس نمساوي اسمه ف. أكس. قياير، كان أكثر قبولا عند لبريطانيين من سلفه الراحل. وتحسنت علاقة الإرساليّة بالحكومة أكثر عام 1905م عقب لقاء عقد في رئاسة جمعية الكنيسة التبشيرية بلندن ترأسه وينجت وذلك لتخفيف العمل التبشيري (المَحْمُوم، كما وصفه وينجت) بالسودان، والعمل على تحويل التعليم الديني البحت لمجال التدريب المهني. وجاء النشاط التبشيري البروتستانتي بالسودان متأخرا عن نظيره الكاثوليكي. ففي اجتماع لجمعية الكنيسة التبشيرية عقد في مدينة اكستر البريطانية بعد أسابيع قليلة من مقتل غردون بالخرطوم (يوم 26 يناير 1885م) تم اقتراح انشاء "بعثة غردون التذكارية" للسودان، وتم التبرع بـ 3,000 جنيها استرلينيا للبدء فيها. ورغم أن جمعية الكنيسة التبشيرية كان لها نشاط واسع في أوغندا، إلا أنها لم تكن – حتى ذلك التاريخ – قد بدأت أي عمل في السودان. وكان عليها بالطبع أن تنتظر حتى تسقط الدولة المهدية قبل أن تفكر في الولوج للسودان. وقام الفريق ف. ت. هيج Haig (الذي عمل بالجيش الهندي وأحد الأنغليكانيين المتشددين) بزيارتين لمناطق البحر الأحمر بين عامي 1886 – 1887م و1890 – 1891م كممثل لجمعية الكنيسة التبشيرية، وذلك لاختيار مواقع لمراكز (محطات) للتبشير. وزار الرجل سواكن في تَيْنِك الرحلتين، وأصر في تقريره عنهما أن يكون التبشير بالسودان باللغة العربية. ولما ذاعت الشائعات بمصر في عام 1895م عن قرب الهجوم على المهدويين، قام الفريق هيج بمخاطبة جمعية الكنيسة التبشيرية بخصوص خطة لتحويل وادي النيل (المسلم) للأنغليكانية. وأقترح أيضا إنشاء مركز تبشيري بسواكن كخطوة أولى نحو نشر الأنغليكانية في المناطق الداخلية للسودان. وبعد أيام قليلة من نهاية دولة المهدية (تحديدا في 29 سبتمبر 1898م) بادر دكتور هاربر ممثل جمعية الكنيسة التبشيرية بالقاهرة القديمة بالاتصال باللورد كرومر بعد أن سمع بأن السلطات البريطانية تفكر في إنشاء كلية "غير مذهبية" بالخرطوم تخليدا لذكرى غردون، وطالب بالسماح له بإنشاء إرسالية بالسودان. ونقل كرومر الطلب لكتشنر، والذي رفض الفكرة وقال بأن ذلك ليس بممكن حاليا. إثر ذلك كرر هاربر طلبه وطالب بالسماح له بإنشاء إرسالية في فشودة (على النيل الأبيض، نحو 470 ميلا جنوب الخرطوم). غير أن كرومر كان يرى أنه من السابق للأوان أن تقام إرساليات مسيحية في السودان إذ أن (غالب) سكان البلاد هم من السودانيين التعصبيين، وأن التنصير - في تلك السنوات – من شأنه أن يضر بالحكومة وبالإرساليّات أيضا، وأن السودانيين كانوا على اقتناع سلفا بأن هدف الانجليز من غزو السودان هو تحويلهم عن دينهم للمسيحية. وبهذا الفهم فهم سيعدون المبشرين مجرد موظفين لدى الحكومة. ورغم ذلك سمح كرومر للجمعيات التبشيرية بالعمل في أي منطقة جنوب فشودة. غير أن كتشنر حذر ممثل جمعية الكنيسة التبشيرية في لندن (يوم 23 أكتوبر) من مغبة فتح باب أي إرسالية للمسلمين. وبعد شهرين أصدرت الجمعية بيانا أسفت فيه على رفض حكومة السودان فتح "بعثة طبية" لها بالخرطوم، وذكرت أنها ستقوي من عملها وتزيد من نشاطاتها بمصر "... خدمة لكل الأعراق في وادي النيل، وستعمل على مد خدماتها لسكان الخرطوم والمناطق المجاورة لها، متى ما سمحت الظروف ...". وفي 25 يوليو 1899م أصدرت جمعية الكنيسة التبشيرية بيانا آخرا أسفت فيه لاستمرار منع حكومة السودان إنشاء إرسالية طبية بالخرطوم خدمةً للمحمديين، رغم أنها سمحت لكل التجار (الأجانب) بدخول السودان. وذكرت الجمعية أنها ليست على استعداد لإقامة إرسالية دائمة للوثنيين (الأرواحيين؟ المترجم) في الجنوب، ولكنها سترسل لهم بعثة استكشافية رائدة في بدايات 1900م بقيادة دكتور هاربر والكاهن (القس فيما بعد) قوين (4). وكان قوين قد بدا عمله الكنسي في السودان وهو متمرد وغاضب من موقف حكومة السودان غير المساند، بل المعطل للإرساليات الكنسية. وظل قوين بأم درمان تحت رقابة لصيقة من السلطات، وتم تعيينه قسيسا ملحقا بالقوات البريطانية، عوضا عن السماح له بالتوجه لفشودة كما كان يؤمل. وأخبره وينجت صراحةً بأنهم لا يثقون في الإرساليّات، وأنه من الأفضل لهم الأوبة لمصر. وتقدم قوين بطلب للحكومة عام 1904م للسماح له بإنشاء مدرسة مسيحية على أرض تقع مباشرة أمام جامع المدينة (بعد دفع قيم الأرض كاملة)، إلا أن الحكومة قابلت طلبه بالرفض المطلق. ومع مرور السنوات بدأ قوين في تفهم موقف حكومة السودان الذي كان يؤثر التروي والتريث في دعم النشاط التبشيري بالسودان، وقويت علاقته الشخصية بونجت، الذي كان كثيرا ما ينصحه في أمور التبشير في السودان، بل وحذره ذات مرة (في 4/1910م) بأن "الدين الإسلامي يروق للسود أكثر بكثير مما يستطيع فعله الدين المسيحي". وتقبل قوين تلك العبارة بأريحية ولم تثر غضبه أو غيظه. إلا أن العاملين في إرساليات جنوب السودان لم يكونوا سعداء بمواقف حكومة السودان المضيقة عليهم، وفكروا في الانسحاب لأوغندا. بل بدأ رجال الإرساليّات في انتقاد القس قوين نفسه بحسبانه قد صار "لسان حال سياسة الحكومة". وفي عام 1910م آلت لحكومة السودان قطعة جغرافية (تسمى جيب لادو Lado Enclave) كانت تتبع للكنغو البلجيكي، وكان كل سكان تلك الأراضي من الوثنيين. وتسابق الكاثوليك الرومان مع جمعية الكنيسة التبشيرية (الأنغليكانية) للظفر بموطئ قدم في تلك البقعة. غير أن وينجت كان يرى أن يعدل بين الطائفتين، وكان يعتقد أيضا أن جمعية الكنيسة التبشيرية أصغر من أن تحظى بأراضٍ واسعة فوق طاقتها الحقيقية. بينما كانت تلك الجمعية تخشى من أن يقدم على تلك البقعة الكثير من الموظفين والتجار المحمديين، لذا كانوا في عجلة من أمرهم لبدء عملهم التبشيري. وسارعت حكومة السودان بإرسال 500 من الجنود المسلمين لتلك المنطقة، وأعلنت أن يوم الجمعة هو يوم العطلة الأسبوعية بها. ولم تسر الإرساليّات بذلك الإجراء بالطبع، بل وصف أحد مسؤولي تلك الإرساليّات حكومة السودان بأنها "أدَاةٌ لنشر المحمدية". وزار السودان في شتاء 1898 – 1899م ممثلان لبعثة المشيخية المتحدة (United Presbyterian Mission) بمصر، وممثل لجمعية الكتاب المقدس البريطاني والأجنبي (British & Foreign Bible Society) في رحلة استكشافية. ولاحظ القس الأمريكي جي. قيفن بأن حكومة السودان العسكرية كانت تفرض قيودا على دخول الأجانب للبلاد – بصورة عامة - ولكن قيودها على السماسرة والمضاربين كانت أقل صرامة من تلك المفروضة على المبشرين. ولاحظ أيضا بأن الضباط البريطانيين هم "رجال أذكياء، وحكماء في الأمور الأخرى، ويمكن أن نعدهم حتى من المسيحيين"، بيد أنهم كانوا لا يرون ضرورة لوجود "مؤسسة الإرساليّات". وأقترح القساوسة الأمريكيون أن يبدأ العمل التبشيري في شمال السودان. وكانوا يؤملون في أن تقوم الكنيسة الانغليكانية في مصر بإرسال شباب مصريين متعلمين للعمل في مجال التبشير بالسودان. وتم قبول تلك الاقتراحات بعد إدخال بعض التعديلات عليها، وتم تعيين قيفن مع طبيب من الإرساليّة بمصر للعمل في السودان. ومثلما رفضت حكومة السودان السماح للأنغليكانيين بالتبشير في شمال السودان، رفضت أيضا السماح لبعثة المشيخية المتحدة بذلك العمل، وقصرت التصريح لهم على العمل بجنوب السودان في أوساط غير المسلمين. وفي يوليو من عام 1901م قررت حكومة السودان بأن لا تسمح بالتبشير إلا على بعد 150 ميلا من منبع نهر السوباط. أما بعثة السودان المتحدة (Sudan United Mission) فلم تبدأ عملها في السودان حتى عام 1920م. وكانت قبل ذلك تعمل في نيجيريا. وكان أحد أنشط العاملين في تلك البعثة (دكتور كارل كوم) قد سافر برا من الساحل الغربي لأفريقيا إلى النيل عام 1910م، وقابل سلاطين ولم يتفقا على شيء. وكان وينجت يؤمل في أن يفلح القس قوين في الحد من حماسة دكتور كوم التبشيرية المفرطة وكانت هنالك أيضا الكنائس الخمسينية (Pentecostal churches) التي تكونت حديثا في الولايات المتحدة. ولقيت تلك الكنائس معاملة أسوأ من تلك التي لقيتها البعثة المشيخية المتحدة. وكان فرع تلك الكنائس الخمسينية في أسيوط قد طالب عام 1905م بالسماح له بإقامة بعثة في جنوب السودان. إلا أن وكيل السودان بمصر لخص رأيه في تلك الجماعة بالقول بأنهم: "نوع كريه منافق ومتعصب من المبشرين، ولا نرغب في مثل هؤلاء... أعتقد أني نجحت بصورة جيدة في إثنائهم عما كانوا ينون عمله". وبمجرد سقوط الدولة المهدية بدأ كتشنر وكبار موظفيه في التعرض لمطالبات متحمسة من الإرساليّات المسيحية. غير أن اللباقة والصبر لم تكن من أبرز صفات كتشنر، ولكنها كانت من صفات اللورد كرومر (الذي كان مسؤولا عن وضع وتنفيذ السياسة الحكومية تجاه الإرساليّات)، وهو من أصول المانية بروتستانتية، وأحد جدوده كان قسا لوثريا. وأعلن كرومر عن سياسته تلك إبان زيارته لأم درمان في شتاء 1898 – 1899م، بعد أسابيع قليلة من استيلاء كتشنر عليها. كان كرومر قد خاطب كبراء المدينة وطمأنهم ووعدهم بأن لا أحد سيتدخل في شؤونهم الدينية، وأنه لن يسمح بالتنصير في أوساطهم. ونال ذلك التصريح مباركة رئيس الوزراء البريطاني اللورد ساليسبري، وتفهم وموافقة (مع بعض الأسف) من رئيس الأساقفة البريطاني تمبل. وأقرت السياسة التي وضعها كرومر لكتشنر في خطابه له يوم 7/12/1899م منع التبشير المسيحي في شمال السودان، وعدم السماح للإرساليات إلا بالاحتفاظ بمخازن لها في الشمال. وسمح لها بالعمل في الجنوب فقط. وكانت الحكومة تمنح المساجد والكنائس بعض الامتيازات في نقل مواد البناء بالسكة حديد وبالبواخر، وتعطي تصاريح سفر مجانية لرجال الدين القادمين لزيارة البلاد (مثل الشيخ محمد عبده ومطران لندن). وكانت إدارتي الجمارك والبريد والبرق تخضع للرقابة أو تصادر كل المطبوعات المرسلة للسودان وبها ما يثر الفتنة والكراهية بين المسيحيين والمسلمين. وفي يناير 1905م أنذر مدير المخابرات بالقاهرة رئيس مجلة مسيحية جديدة (لم يسميها) بأن عليهم إرسال مجلتهم للمسيحيين فقط، وألا يبعثوا بها للمسلمين. وكان المسيحيون السبتيون (Sabbatarians) يطلبون من وينجت جعل الأحد هو يوم العطلة الرسمية بالدولة عوضا عن الجمعة. وخاطب القس قافين مؤتمرا عالميا للإرساليات في مدينة أدنبرا أعرب فيه عن أسفه لعدم احترام الأحد كعطلة أسبوعية مسيحية، والاحتفاظ بيوم الجمعة كيوم عطلة مقدسة. وكان الرجل قد سمع بأن المسؤولين البريطانيين يفضلون أن تكون العطلة الأسبوعية في يوم الجمعة حتى يتسنى لهم لعب الغولف والتنس، إذ سيكون من المخجل لهم اللعب في يوم الأحد. وأشاد أحد القساوسة بالأحوال بالسودان وتقدمه، ولم يجد ما يعيبه فيه سوى "عدم احترام يوم الرب". ورد عليه وينجت في يوم 25/3/1907م بالقول: "يجب أن تتذكر أن هذا البلد بلد محمدي، ونحن نحكمه خدمة للمحمديين. لم نرفع نحن العلم البريطاني في السودان، للأسف، من أجل الدفاع عن الحقوق البريطانية، ولكننا رفعناه من أجل توفير وسيلة مناسبة للتخلص من الاستسلام والمستسلمين". وفي الجنوب رفض حاكم مديرية منقلا (وغالب سكانها من الوثنيين) جعل الأحد هو يوم العطلة الأسبوعية الرسمية في كل الجنوب، إذ أن ذلك يربك عمل الموانئ النهرية. وكان وينجت يؤمن بأن أي تغيير راديكالي (متطرف) يحيد عن الممارسات المستقرة والمألوفة، من شأنه أن يجعل من الحكومة صيدا سهلا لانتقادات المتطرفين من ذوي الأيديولوجيات السياسية التي تنافح عن وحدة المسلمين لتكون تحت دولة إسلامية واحدة. وكانت الصحف والمجلات البريطانية تنشر الكثير من الغلطات الفاضحة والزلات المنكرة (gaffes)، التي كان من شأنها لو أعيد نشرها في الصحف العربية أن تسبب الكثير من المتاعب والريب والشكوك الخطيرة في السودان، خاصة في أوساط المتطرفين والمتحمسين المسلمين. فقد كان مجرد وجود الحكومة والمبشرين البروتستانت يثير في نفوس هؤلاء ذكرى غردون. واكتشف أحد غلاة الأنغليكانيين المتطرفين أن غردون نفسه كان قد صار في أيامه الأخيرة يميل – نوعا ما - إلى الكاثوليكية لعدم وجود إرسالية أنغليكانية تسنده وهو في محاصر في الخرطوم. إحالات مرجعية (1) لصاحب "الكوميديا الإلهية" دانتي (1265 – 1321م) الكثير من الآراء المضادة للإسلام (ولليهودية أيضا). تجد طرفا من ذلك في هذا المقال الاسفيري: https://elaph.com/Web/Culture/2012/3/723537.html وأيضا في عرض كتاب عن دانتي والاسلام بعنوان: Dante and Islam, Al-Masāq, 29:1, 93 - 95 DOI: 10.1080/09503110.2016.1275640 (2) المدارس العامة البريطانية (British Public Schools) هي مدارس ثانوية مستقلة عن الحكومة أنشئت بقانون صدر عام 1868م، أشهرها مدارس ايتون Eton وهارو Harrow ووينشيستر Winchester. (3) للمزيد عن تاريخ الماسونية يمكن مراجعة الموسوعة البريطانية https://www.britannica.com/topic/order-of-Freemasons (4) يمكن النظر في مقال مترجم بعنوان "السودان والحبشة" يتطرق للنشاط التبشيري في الدولتين shorturl.at/fmou8