إسلامية نظام الإنقاذ (2-4)
ushari@outlook.com
أما وقد ميَّزتُ في المقال السابق بين "الإسلام" و"المسلم" و"الإسلامية"، أركز على الإسلامية، تاركا الإسلام والمسلم جانبا، إلا فيما يستدعيه تشريح هذه "الإسلامية". فهذا التحديد الثلاثي وما يندرج تحته مشدود إلى أغراضي المتعلقة حصرا بالوضع السوداني. أدرك أن الأمر أكثر تعقيدا إن كنا نتحدث عن الإسلام بصورة عامة، أو في العالم، أو عن الإسلامية هكذا بإطلاق، أو عن المسلم في الدنيا من حيث أشكال تدينه أو ثقافته، وهي أشكال متكثرة لا حصر لها وتستعصي على الإحاطة العلمية الكلية بأحوالها أو بجوهرها.
أولا،
الإسلامية السودانية
لا يمكن فهمُ طبيعة نظام الإنقاذ، وكذا لن تكون مقاومتُه ناجعة، إلا بالنفاذ إلى حقيقة "الإسلامية" السودانية. وليست هذه "الإسلامية" إلا تنزيل الإسلام ذي النصوص في الدولة وبواسطة جهاز الدولة، وإنْ كنا نريد المقارنةَ، فالإسلاميةُ السودانية تحتل مكانها بين المشروعات السياسية الكبرى التي لكل منها عقيدة ذات نصوص، مثلها مثل النازية والفاشية والشيوعية والرأسمالية، وغيرها.
أما تخصيصا، فالإسلامية هي العقيدة الأيديولوجية لهذا نظام الإنقاذ، الدولة الإجرامية الفاسدة. ولأن هذه الدولةَ المحددةَ إسلاميةٌ، كان حتميا أن تكون كذلك إجراميةً فاسدةً، فبإسلاميتها تظل هذه الدولة تُحقِّق إجرامَها وفسادَها، وبالإجرام والفساد تتحقق الإسلاميةُ ذاتها، وهكذا الدائرةُ حركيةُ هذا النظام .
إن دائرية المنطق في تثبيت هذه العلاقة بين الإسلامية والفساد والإجرام دائريةٌ موضوعيةٌ سائغة، ولها سند في الوقائع. فلا نأتِ إلى تقييم نظام الإنقاذ إلا ولدينا أصلا فهم مسبق بطبيعة هذا النظام كإسلامي إجرامي فاسد. وليس هذا الفهم السبقي مُختلَقا، بل له أساس في التجربة التاريخية مع أصحاب النظام من الإسلاميين وحلفائهم العسكر، التجربة في مجالات تفعيل الإسلاميين والعسكر الإجرامَ والإفسادَ وتعبئة الدين لخدمة الإجرام والفساد في السودان، ويمكنك تقليب جميع التركيبات بين هذه المكونات الثلاثة في خط زماني ذي تطابق. لتتحصل على ذات الفهم التفسيري للنظام. نعرفه من فلسلفة هايديقر ومن مفاهيم الهيرمنوطيقا، وكله من العلم العام اليوم. والقصد هنا أن نرد على تذاكي الكتاب الإسلاميين، يحاولون كل شيء للدغمسة وللتخليط.
...
أولا، لا يتطلب تكييفُ الإنقاذ بالإجرام والفساد مزيدَ إثباتٍ إضافي لما هو أصلا معروف عن نظام الإنقاذ في الوعي السوداني العام ومنشور في سطح الأرشيف يراه الجميع.
تتلخص الإنقاذ، كدولة إسلامية، باعترافها وبتكييفها لذاتها كإسلامية، وفي الواقع الوجودي، تتلخص في الإجرام والفساد. فالارتباط بين المكونات الثلاثة (الإسلامية والإجرام والفساد) ثابت في كل حدثٍ ذي علاقة بموضوعنا يدور في تاريخية نظام الإنقاذ.
...
فانظر في مساحات السودان كمسرح الجريمة الفسادية المتمثلة في نهب الموارد، بخرق القانون الجنائي المحلي ذاته، ولا معنى لذكر أمثلة جرائم، بسبب تكثرها حتى أضحت هي الأصل.
انظر، تجد المثقفين الإسلاميين أعضاء الطبقة السياسية الاقتصادية هم الجناة، بتلك صفتهم كإسلاميين، تحديدا، وما كان ممكنا أصلا لهم التحلي بشرف الجريمة الاقتصادية إن لم يكونوا كانوا إسلاميين.
فما الإسلامية إذن في هذه الحالة إلا ذلك هو سلوك الإسلاميين في أرض الواقع. فيتعين أن لا ننظر إلى الإسلامية كتصور هلامي أو مثالي، أو كنموذج للفضيلة، بل أن نستبصر ماديتها الظاهرة عيانا في العلانية أو هي مدلس عليها لكن يفضح حضورَها المادي التفكيكُ.
وانظرْ الإجرامَ والفسادَ كسلوكيات إسلامية لدى قادة نظام الإنقاذ عبر الحدود الدولية:
جريمة التخطيط لاغتيال الطاغية حسني مبارك والشروع في تنفيذها، والمليون دولارا غير محددة الأصل لشراء تسهيلات بالبر الأثيوبي لا تتجاوز بضعة آلاف من الدولار، والأجندة الإسلامية؛
مؤاجرة المرتزقة السودانيين من مليشيا الجيش للمقاتلة في اليمن نيابة عن شيوخ الخليج، تجد الجريمة ضد يمنيين محددين تم قتلهم بسلاح المرتزقة السودانيين، وتجد خطاب الريالات ريع المؤاجرة، وخطابَ الإسلامية السودانية في كل مكان؛
استجلاب مليشيات الجنجويد من دول جنوب الصحراء والاستقواء بهم ضد الفور والزغاوة والمساليت؛
ودونك الاتفاقيات الجنائية بشأن الأرصدة المنهوبة في مليزيا والصين وفرنسا.
فالحلقات الإسلامية-الإفسادية-الإجرامية موجودة ومتمددة في السودان وعبر الحدود الدولية.
...
ثانيا، خلَّقَ نظامُ الإنقاذ إجرامَه وفساده وكرَّسَهما بالإسلامية، الإسلامية مُعرفةً كالعقيدة الأيدولوجية للحزب الحاكم، وكاقتصاد ذي مفاهيم، وكتكنولوجيا للعنف والقهر وإرهاب الدولة. كانت هذه "الإسلامية" الدافعَ الأساس غير المعلن حينئذ للانقلاب العسكري الإسلامي، إسلامي في تخطيطه وفي تنفيذه، وكانت هوية مهندسي الانقلاب إسلامية صرفة، هي قيادات الحركة الإسلامية السودانية، وكانت التركيبة البشرية للفَعَلة المباشرين للإجرام والإفساد في مفاصل القرار والتنفيذ في جهاز الدولة من المثقفين الإسلاميين، حصرا.
...
ظل كل شيء في الإنقاذ إسلاميا، في الجسد والدماغ وفي اللغة. وكله مسجلةٌ آثاره في الخطاب الإسلامي في السياقات التي تم فيها الإنتاج الصناعي للفساد وبتفعيل الإجرام على مدى ربع قرن من الزمان ويزيد في المفظعات الجماعية على أيدي المجاهدين بعقلية الغزو العنصري الديني في جنوب السودان، وفي الحروب الإسلامية الإبادية في دارفور وفي منطقة النوبة، وحروب النهب والترويع بواسطة المليشيات الإسلامية، وإنشاء الحركة الإسلامية المؤسسات المتخصصة في تعذيب المعارضين، وكان التعذيب ويظل يتم تنفيذه بأيدي المثقفين الإسلاميين حملة الشهادات الجامعية، وهنالك خمش قيادات الحركة الإسلامية وأعوانها الأراضي والممتلكات، ونهبها موارد البترول وإخفاؤها.
...
باختصار، كانت "الإسلامية" وتظل "اقتصاد" نظام الإنقاذ كنظام إجرامي فاسد. وما نظام الإنقاذ بإجرامه وفساده إلا الحركة الإسلامية السودانية ذاتها، لا تنطلي على أحد الخدع أن الحركة تم حلها، أو أن العسكر مسؤولون عن جميع "التجاوزات". وكاقتصاد، كانت ممارسات الإسلامية مشدودة إلى عقلانية تمخضت عنها الخيارات المحددة من قِبل قيادات الحركة برئاسة حسن الترابي، تحديدا في مجالي الإجرام والفساد.
فلا يمكن أن ننظر إلى "الإسلامية" إلا من حيث هي هذه الممارسة الفعلية للطبقة السياسية الدينية محددة العضوية في الحركة الإسلامية السودانية. وكانت هذه الطبقة من الإسلاميين مدفوعة في قراراتها العقلانية بمصالح دنيئة، في ظروف ندرة الموارد، وكانت مدفوعة كذلك بمشاعر الخوف المعزز بالنذالة الشخصية. الخوف من فشل الانقلاب العسكري ومن تكلفة الفشل، والنذالة كالبنية النفسية في دماغ المثقف الإسلامي والمخرَّجة سلوكيات لتفعيل صناعة الإفساد غرض الانقلاب العسكري، وحماية تلك الصناعة بالأفعال الإجرامية الضرورية. ولا يوجد غير الأفعال الإجرامية وسيلةً لحماية صناعة الفساد ذاتها أو للتغطية عليها أو للتستر على الفعلة، التستر عليهم تحديدا لأنهم إسلاميون.
...
فليست الإسلامية إلا ذلك مشروعها الاقتصادي النهبي المحمول بتلك نذالة الإجرام المنظم بالوسائل العقلانية لكنه المدفوع بانعدام العقل في تصور المثقفين الإسلاميين الغاية النهائية، غاية أن يكون السودان هو الجبهة الإسلامية القومية، كالحل النهائي لتحقيق مطامح طبقة الإسلاميين!
...
ثانيا،
تخصيص الإسلامية
عليه، ولأن الإسلامية ليست فئة تحليلية، ولا نموذجا حالما، ولا برنامجا للفضيلة هناك في الأوراق أو المخططات العقلية، لا يمكن أن نفهمها إلا في سياق سياسي مادي محدد، هنا في وجودية الواقع المحدد، فنتحدث عن هذه الإسلامية في السودان، محلا وزمانا ووقائع تاريخية حاضرة، ويمكن أن نخصصها أكثر فنتحدث عن "الإسلامية في نظام الإنقاذ"، وهي ذاتها "إسلامية الحركة الإسلامية السودانية بقيادة حسن الترابي"، لا تغير منها مذكرة العشرة أو المفاصلة أو الادعاءات عن الابتلاءات العارضة، أو وفاة الترابي.
كذلك لا يمكن أن نعمم هذه الإسلامية لتشمل مشابهات باهتة لها في إسلامية الصادق المهدي، وهذي الأخيرة إسلامية غير جادة، وهي اليوم مجرد كلام فارغ ولا يؤبه لها، كانت أغراضها في السابق محدودة في خدع الأنصار وبعض المتدينين في الداخل وفي بث انطباع زائف بحركات البراغماتية لتسهيل المقبولية في الخارج. كله تجاوزته الأحداث.
وكذا لا يمكن أن نطابق بين إسلامية الحركة الإسلامية السودانية/نظام الإنقاذ، من جهة، وأشكال الإسلامية في مليزيا أو في تركيا أو تونس، من جهة أخرى. فبالرغم من التوافق بين هذه الإسلاميات في صناعة الفساد، إلا أنك لا تجد في الدول الثلاثة الأخرى مثل تأسيس الإجرام من قِبل إسلاميي السودان لحماية صناعتهم الفساد. في احتيالهم، يريد الإسلاميون السودانيون مسح خصوصيتهم التاريخية المحددة المصبوغة بالدرجة الأولى بإجرام الدولة، ويرغبون اليوم في إلحاق انفسهم بالحركة الإسلامية خارج حدود السودان. انظر أسباب فرحتهم في مظاهرات الابتهاج بفشل الانقلاب العسكري في تركيا، يريدون التمسح بالتجربة الإسلامية التركية عل إجرامهم المحلي ينمسح من الذاكرة السودانية. لكن الحركات الإسلامية البراغماتية في ماليزيا وتركيا وتونس، وبالرغم من خطل إسلاميتها، تتبرأ بدورها من إسلاميي السودان وتنأى بنفسها عنهم، بسبب تلك خصوصية التاريخ الدموي للمثقفين الإسلاميين في السودان، وسمعتهم السيئة في العالم الخارجي، وبسبب غرابة شطط الادعاءات بالعروبة والإسلامية لدى هؤلاء السود المنبتين من جذورهم الثقافية الإفريقية.
فالمثقفون الإسلاميون السودانيون، وهم الحركة الإسلامية ذاتها، الحركة كممارسة عملية خلال ربع قرن من الزمان هي عمر الإنقاذ، هؤلاء المثقفون الإسلاميون أكثر قربا إلى بوكو حرام، من حيث سيطرة نفسانيات الإجرام البدائي وذهانية التقتيل والبشاعة. لكن المقارنة لا تذهب إلى أبعد من هذه النفسانيات والحساسيات في الأدمغة. فليست لبوكو حرام المعرفة التقنية الراقية المتوفرة لدى إسلاميي السودان في تجويد صناعة الإجرام أو تطويرها وقد أصبحت صناعة الإجرام لدى الحركة الإسلامية السودانية فنا وعلما وفقها متكاملا في الوحشية.
وهنالك الفرق الراديكالي المتمثل في أن الحركة الإسلامية السودانية، وهي نظام ذو سيادة قائم ولها دولة معترف بها، تمتلك قدرات خطابية بدون مثيل لها في الحركات الإرهابية العالمية مجتمعة. على سبيل المثال، أنشأت الإنقاذ جهازا مؤسسيا إسلاميا للكتابة العدوانية، "سلاح الكتابة". فيه عدة كتائب. "كتيبة الإنشاء"، ولها جذور ممتدة في الدولة الإسلامية التاريخية، وقوامها كتاب ليسوا في الموضوع إلا ضباط أمن رغم وظائفهم الظاهرية ذات المقبولية الاجتماعية، هم "كتاب السلطان"، خالد موسى ود. خالد المبارك، على سبيل المثال، ودونك كتاب جهاز الأمن المعروفون في صحف جهاز الأمن المعروفة.
وهنالك "كتيبة المضايقة"، وهذي أسماء الكتائب صحيحة أُطلقُها على هذه الكتائب الموجودة تحارب، لأنها لا تفصح عن هويتها المفضوحة، هذه الكتيبة للمضايقة قوامها مثقفون إسلاميون، منهم من هو في السبعينات من العمر يعيش في المهجر، ومنهم من يفصح عن اسمه ومن يستخدم اسما وهميا، مكلفون بمراقبة ما يكتبه المعارضون في الصحف الالكترونية، فيتقحمون على الكاتب المستهدف في صندوق بريده الالكتروني، أو هم يستخدمون الهاتف والبريد الالكتروني لإرسال رسائل التهديد، هؤلاء الإسلاميون يعقِّبون بالشتائم وبقلة الأدب والبذاءات على مقالات الكتاب المعارضين للنظام.
وكلها أخلاقيات في صميمها إسلامية، استحدثتها وظلت تطورها الحركة الإسلامية السودانية منذ ستينات القرن الماضي حين كان الأساتذة الجامعيون الإسلاميون يوجهون طلابهم في التنظيم إلى "قذف" كل معارض لهم بأنه "شيوعي". واليوم نشهد ذات ذلك الشكل المشاغب غير الأخلاقي في الستينات وقد تم تطويره وتأسيسه في منظومة سلاح حرابي متكاملة للعدوان على معارضي النظام داخل الحدود وعبرها، وسلاح الكتابة من إنجازات الفريق أمن مهندس محمد عطا، لكنه سلاح الكتابة كذلك دليل على أن الإسلامية عقيدة سياسية شريرة لا علاقة لها بفضيلة.
وهنالك "الكتيبة الالكترونية"، وهو أحد أسمائها. من أطرف خصائصها الضابط الأجنبي المرتزقة، الهندوسي، من الهند، المتخصص في كتابة البرامج الالكترونية للقرصنة والتجسس وسرقة الملفات والعدوان على المواقع الشبكية المعارضة. نعم هندوسي، لكنه كذلك "إسلامي"، لا يقل في "إسلاميته" عن الضابط العظيم في منظومة سلاح الكتابة خالد موسى. وهي من ابداعات الحركة الإسلامية السودانية في تجديد فقه المواطنة وتركيب هوية "الإسلامي" متعددة الأبعاد.
...
ثالثا،
عقلانية الإسلامية
هذه الإسلامية السودانية نظريةٌ سياسية معيارية شمولية، وهي تعتمد عقلانيةً خطابيةً لاهوتية ذات أساس في ماديةِ طفيليةِ الاقتصاد. وأقصد بعقلانيتها أنها تتدبر في أمرها وتتفكر وتقرر تختار بين البدائل الممكنة، وهي واعية.
هذه الإسلامية نظريةٌ سياسيةٌ، بمعنى الرؤية تجاه الترتيبات السياسية في السودان كمجال مشحون بالفرص الاقتصادية تنتظر اغتنامها، سياسيتها مُعرَّفة بالمعنى البذيء للسياسة، كتلك المخلصة من الفضيلة. فانظر في سياسات الإنقاذ، كلها خيارات عقلانية في مجال السياسة، وفق نظرية الإسلامية وهي نظرية شريرة. فحتى حين يقرر قادة الإنقاذ إبادة قبيلة بعينها فهم يتخذون لذلك قرارا يختارونه بين قرارات أخرى ممكنة.
والإسلامية "معياريةٌ"، في تلك سياسيتها، لأنها تفرض بالقوة وبالاحتيال ميزانا قانونيا محددا، الشريعة الإسلامية الصحيحة نصا، والشريعةُ هي أداتها لتثبيت مشروعيةٍ للطبقة الإسلامية الحاكمة في بلد للمسلمين، ولإرهاب الخصوم وزرع الخنوع في أدمغة الشباب. بدون تطبيق هذه الشريعة الإسلامية، لا يكون للإسلاميين اختصاص ولا موقف ولا مشروعية.
والإسلامية شموليةٌ من حيث فلسفتها التوحيدية، لأنها تدمج بالقوة التأويلية المكان والزمان والوطن كله بمكوناته الاختلافية في إطارها الديني السياسي التاريخي الضيق, وهي تفعل ذلك بتنزيل نصوص الإسلام المحدودة والمحددة بأسباب نزولها الظرفية، تنزلها مجددا في الدولة الحديثة والمجتمع المتغير في ظروف ووضعيات مختلفة جذريا عن الظروف الأصل لأسباب النزول الأولية المفترضة. ويكمن الخطل المعرفي في هذي شمولية الإسلامية وفي توحيديتها؛ حيث لا تقبل التعددية اختزالها لتكون صورةً مسخاً لتصورات إسلامي مهووس بدون عقل أو هو غير قادر على التفكير.
وتتمثل عقلانيةُ الإسلامية في أنها تعقِل بالمفاهيم الاقتصادية وسائلها الماكيافيلية، لا يغير منه أن عقلانيتها بدون عقل، وأنها عقلانية متحدرة من ذهانية العنصرية ودواعي الحقد والانتقام، عقلانية الفشل في إدراك السودان، وقد استبان فشلها في مادية نظام الإنقاذ، أحد أسوأ الأنظمة السياسية في العالم. ونحن السودانيين نعرف الإسلاميين، ونقرأهم بصورة جيدة وكافية.
وعقلانيةُ الإسلاميةِ خطابيةٌ في تلك ماديتها، لأنها تأتيك منسربةً في خطاب لغوي مفتوح لكل النصوص بما فيها النصوص الهرائية، وخطابيتها مفتوحة لكل القراءات التأويلية الممكنة بما فيها القراءات الزائفة. أكثر خطابها مكرر بالنقل الانتقائي من النص القرآني والأحاديث والفقه الإسلامي والثقافة العلمانية الغربية ولغة حقوق الإنسان المسروقة، وتجد قدرا كبيرا من خطابها مجرد هراء يكتبه بالاحتيال كتاب السلطان الموظفون في "سلاح الكتابة".
فما خطابية الإسلامية إلا ما ينتجه هؤلاء موظفو سلاح الكتابة كتاب السلطان لتسويق التفسيرات الغرضية للنصوص الحاكمة، دينية أكانت أم وضعية أم إجرائية أم صحفية أم مجرد كلامات فارغة. ولا تكترث الإسلاميةُ، كممارسة خطابية، لطبيعة النص أو لقوته أو انتاجيته، وهي تستهلك النصوص وتعيد تدويرها وتسويقها مهما كانت تفاهة تلك النصوص. خذ انفعال وزير الخارجية غندور وكتيبة كبار المحامين الإسلاميين بالنص التافه في جريدة الكترونية حائطية عن أن رئيسة المحكمة الجنائية استلمت رشوة وقدمت منها إلى الشهود الدارفوريين ليشهدوا بالباطل ضد عمر البشير!
فبمنهج التفسير التوحيدي وبغيره من التفاسير يستعصر الإسلاميون من النصوص ما يقتضيه كل حال إجرام أو فساد، بما في ذلك الاستعصار بوقاح الاحتيال على النص، بعلة التجديد.
والإسلامية لاهوتية لأنها تقول لنا بالخداع، والخداعُ خصيصة في كل لاهوت، إن كل أمرها من الله، فهي لله ومنه. لكن لاهوتية الإسلامية صادقة واحتيالية في ذات الوقت. فهي تطبق الشريعة الإسلامية الصحيحة بصورة صادقة، لكن لأغراضها الطبقية الفاسدة، وفي ذلك كذبها. وهي تخادع بالتطبيق الصحيح للشريعة، لأنها تدرك بالعقل أن الدين لم تعد له أصلا قائمة ولا قيمة في مؤسسات الدولة الحديثة المحكومة بالإجراءات البيروقراطية غير مشغولة البال بدين أو بأخلاق، ومع ذلك إدراك الإسلاميين لطبيعة لادينية المؤسسات الحكومية، وبالرغم منه كإدراك عقلاني، فإنهم يقحمون الدين إقحاما في تدابير البيروقراطية الحكومية، لأن هذا إقحام الدين يسهل لهم الدوران الاحتيالي على حيدة البيروقراطية وعدم اكتراثها لدين.
...
فبهذي بعض أهم مكوناتها أعلاه، تعني "الإسلامية" في أرض الواقع السوداني، ولا يهمنا واقع غيره إلا للتوضيح السياقي الإضافي، تعني هذه الإسلامية تنزيل الإسلام في جهاز الدولة وفي الحياة العامة وترتيب الحكومة السلوكَ الشخصي في الحياة الخاصة. فلاحظ هنا أن "الحكومة" التي ترتب حياتَنا ليست فكرة مجردة، ولا هي فئة تحليلية أكاديمية، بل هي هذا "المثقف الإسلامي" المحدد مجسدنا، ذاته الذي نعرفه اليوم بصورة جيدة، هو الذي يتحكم شخصيا في حياتنا، بذلك تنزيله الإسلام في الدولة وفي ترتيب الحياة الخاصة، فانظر إليه:
حسن الترابي بعدم أخلاقيته (أنت إلى القصر رئيسا وأنا إلى السجن حبيسا)؛
علي عثمان محمد طه الثابت لدينا إجرامه، ليس فقط في فنون الاغتيال عبر الحدود الدولية، بل في الفيديو وهو يأمر بالضرب في المليان للقتل المباشر شوت تو كيل، داخل السودان؛
نافع على نافع، لا قيمة لنفيه أنه لم يعذب أحدا، وأعرف أنه كذاب حين ادعى أن سجن كوبر كان المحل الوحيد لاعتقال المعارضين. وقد شاهدت وتحدثت مع المعارضين الذين تم نقلهم إلى سجن كوبر حيث كنت، وحكوا لي وللمعتقلين في سجن كوبر تجربتهم في بيوت الأشباح.
وفي جميع الأحوال، ثابتة حقيقة مؤسسات التعذيب التي أنشأها المثقفون الإسلاميون. وقد اعترف حسن الترابي بحدوث التعذيب وبمؤسساته لكنه قلل من أمره، مما يتسق مع أخلاق الإسلامية أن التعذيب ما فيهو حاجة.
ذات محمد عطا مدير جهاز الأمن، لا يلجأ إلى يديه العاريتين، بل يستخدم للتعذيب دماغ المهندس، وقد طور محمد عطا فنون التعذيب الإسلامي ليكون تعذيبا بالهندسة علميا، بالإفادة من العلوم النفسية والاجتماعية وعلوم الجريمة، دون أن يغير الأفعال المادية ذاتها من نوع الضرب، والاغتصاب الجنسي، والاختطاف والحبس، والتقتيل.
أحيانا ننسى أن جوهر التعذيب الإسلامي أن يسبب المثقف الإسلامي أقصى درجات الألم في جسد معارضه في الفكر والسياسة، حين يلقي الإسلامي القبض على ذلك معذبه بالمقاومة، فيستخدم المثقف الإسلامي يديه والأدوات المعينة لإشباع رغبته المشدودة إلى تحقيق اللذة الإسلامية يجدها في لحظات صراخ ضحيته، أو حتى في لحظات مفارقة الضحية الحياة وقد خنقه المثقف الإسلامي أو دق مسمارا في دماغه لا يهم.
.. أعلاه ليست إلا بضعة أسماء للتمثيل، وللذكرى، لكن القائمة بأسماء المثقفين الإسلاميين الجناة الذين اقترفوا أفعالا وحشية، تتجاوز الآلاف.
...
ذلك كلُّه تنزيل الإسلام بأفعال المثقفين الإسلاميين مشدودٌ إلى أغراض صناعة الفساد، بواسطة جهاز الدولة، لا يوجد أفضل من جهاز الدولة وسيلة عقلانية لصناعة النذالة ذاتها.
قد يسأل سائل: كيف نعرف أن تنزيل الإسلام في جهاز الدولة غرضُه صناعةُ الفساد؟
نعرفه، أولا، لأن تلك هي الوقائع المتساوقة بين مادية التنزيل ومادية الفساد المتداخلتين في وضعية السودان أمامنا، والتساوق يشير إلى العلاقة وإلى السببية.
وثانيا، ندرك الأمر من قراءة التاريخ، لأن العلاقة التاريخية بين النهب والسلب والسبي، كانوا يسمونه "الخراج" أو البقط، من جهة، وتنزيل الأيديولوجية الإسلامية، من جهة أخرى، ظلت هذه العلاقة ثابتة في تاريخ العلاقات العنصرية في السودان منذ غزو العرب المسلمين أرض النوبة والبجا في منتصف القرن السابع الميلادي ولما تمر على نشأة دولة المدينة القائمة على الغزو النهبي ثلاثون عاما. وليس ما يسمى في كتب التاريخ الملفقة "دخولُ الإسلام" في السودان إلا دخولَ "العرب المسلمين" يحملون في أدمغتهم وفي أيديهم ذاتها هذي الإسلامية السودانية الحاضرة، بإجرامها وبفسادها المتمثلين في النهب والعدوان على السكان الوطنيين، وباستخدامها ذات النصوص الدينية المنزَّلة لشرعنة ذلك النهب وذلك العدوان.
...
رابعا،
أهم معينات تفكيك الإسلامية كتاب نبوة محمد التاريخ والصناعة (د. محمد محمود)
إن تفكيك الدولة الإسلامية ذات الإجرام والإفساد مهمةٌ ملحة تنتظر شباب السودان. التفكيك على مستوى التحليل العقلاني للمؤسسات الإسلامية الإجرامية الفاسدة وعلى مستوى التفكير في كيفية تدميرها وإنشاء بدائل عقلانية فوق أنقاضها. ولا يعدو ما أقدمه مؤشرات في الطريق، أو لنقل "معالم في الطريق"، خاصة وأني أدرج الشباب الإسلاميين بين الشباب، وأميز بينهم وبين دهاقنة الإسلامية المثقفين الإسلاميين الماكرين.
فموكول للشباب الإسلاميين أنفسهم إنقاذ أنفسهم، بإعمال التفكير، والتفكير مناطه التشكك في جميع النصوص، ويضع التفكير أهمية محورية لمقاربة كل نص، مهما كان الادعاء بقدسية لهذا النص، مقاربته كنص يأتيك بتناقضاته ومغالطاته وبما يخفيه وبما يُزيِّفه ويُحَسِّنه بالباطل. وليس نص مقالي هذا باستثناء من قاعدة التفكيك. لكن الأمر ليس على سبيل العدمية أن كل نص باطل. بل العقل المتفكر هو الذي يعيننا على التمييز بين النص الصادق بتناقضاته لكنه الساعي إلى الحقيقة، من جهة، والنص المتدبرة كتابته يبدو بريئا لكنه المقصود به الخداع والتدليس، من جهة أخرى.
ويعين العقل المتفتح على كشف حقيقة كل نص على حدة، وعلى تحديد مظان الخداع والتدليس والخرافات والمغالطات في كل نص.
ولأن التفكير يحتاج إلى معينات، فأهمُّها عندي ذات الكتاب الذي أرشحه دائما لشباب الإسلاميين، للقراءة الانتقادية، كتاب د. محمد محمود عن نبوة محمد التاريخ والصناعة.
...
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com