إسهام عبد الله علي إبراهيم في صناعة الترابي (2-3)

 


 

 


ushari@outlook.com
أولا،
خلفيات جهود صناعة الترابي: الطالب شوقي وحل الحزب الشيوعي
قبل خمسين عاما، في يوم 9 ديسمبر 1965، أجازت الجمعية التأسيسية تعديلات في الدستور، وقررت بموجبها حل الحزب الشيوعي وطردَ نوابه من البرلمان. كان للدكتور حسن الترابي، من موقعه كعضو في الجمعية التأسيسية وكرئيس لتنظيم الإخوان المسلمين، دورٌ مقدر في التخطيط والتنفيذ.
تمثلت خلفية ذلك الحدث التاريخي في ترداد القذف في إسناد الطالب شوقي محمد علي الزنا للسيدة عائشة زوجة محمد، مما كان تعورف عليه أصلا بـ "حديث الإفك". وقد كان الإسناد القذفي، غير المعروفة تفاصيله الدقيقة في لغته المحددة، جرى في سياق ندوة طلابية عن الدعارة نظمها الإخوان المسلمون بمعهد المعلمين العالي بأم درمان. ولم يكن شوقي المتدخل بالتهور والرعونة في النقاش شيوعيا.
لجأ الحزب الشيوعي إلى المحكمة متحديا القرارات بحلِّه وطرْدِ نوابه من البرلمان. فأصدرت المحكمة العليا قرارها ببطلان التعديلات الدستورية والقرارات المترتبة عليها. رفض الصادق المهدي رئيس الحكومة الاعتراف بقرار المحكمة العليا. وهكذا ...
ثانيا،
الحلقة التلفزيونية: خمسة إسلاميين لصناعة الترابي
بعد الخمسين عاما من ذلك الحدث التاريخي، توفي حسن الترابي. فبث التلفزيون حلقة من برنامج "حتى تكتمل الصورة"، لندوة بعنوان "المشهد السياسي بعد رحيل حسن الترابي"، وتم نشر الحلقة في اليوتيوب يوم 7 مارس 2016، بعد يومين من الوفاة.
شارك في الندوة مقدم البرنامج، الإسلامي الطاهر حسن التوم، وأربعة من كبار الإسلاميين: السيد أحمد عبد الرحمن، الأستاذ كمال عمر، د. الطيب زين العابدين، ود. عبد الله علي إبراهيم.
كان د. عبد الله، وهو عضو سابق في الحزب الشيوعي، أول من طَلبَ منه مقدمُ البرنامج أن يؤطر المحادثة، داخل البيت الإسلامي، بالإجابة عن السؤال المركب التالي:
"كيف يمكن لنا أن نقرأ الترابي بمعزل عن مشاعر الحب والبُغض؟
كيف يمكن أن تَقرأ هذه الظاهرة التي امتدت في تاريخ السودان ولها الكثير من الأثر؟ لا سيما في ظل جدال الآن نقراه في الواتساب ونقراه في الصفحات بين محبين وكارهين؟
كيف يمكن أن نخْرُج بالترابي من هذا الجدل البسيط إلى قراءة الأثر وعُمقه؟
يا بْرُوف!
ثالثا،
عبد الله يختار موضوع حل الحزب الشيوعي مرتكَزا لطمس ماكيافلية الترابي
فلأن البروف كان من "المحبين"، انتهز الفرصة ليرد على "الكارهين". أورد عبد الله قراءته لموجة التعبير عن الكراهية لحسن الترابي في تضاعيف رواية أنشأها عبد الله، واختار لها موضوعا دورَ حسن الترابي في قضية "حل الحزب الشيوعي" في العام 1965، قبل خمسين عاما.
في هذه الرواية، انتاش عبد الله بسهامه مجموعةً لم يُسمِّها بوضوح، واكتفى بأن أشار إليها بـ "هُم"، "قُلْنا ليهم"، "من مدة طويلة جدا"، وهو لابد كان يقصد الشيوعيين واليساريين والعلمانيين وربما بقية جموع الكارهين للشيخ خلال تلك "المدة الطويلة جدا".
قال عبد الله إن هؤلاء الكارهين للشيخ لم يقرأوا حسن الترابي "قراءة رشيدة"، وإنهم لو كانوا قرأوا الشيخ مثلما قرأه هو عبد الله خلال الخمسين عاما الماضية، لكانوا فهموا صحة موقف الشيخ بشأن "حل الحزب الشيوعي".
فأبين أن إسهام عبد الله كان مشدودا بالدرجة الأولى إلى تشويه تاريخ حدث حل الحزب الشيوعي، وطمس حقيقة ماكيافلية دور حسن الترابي في الحدث، وإلى إظهار الشيخ بصورة زائفة كالمفكر العالم في الفقه الدستوري الغربي. وكله في إسهام عبد الله في مشروع الإسلاميين لصناعة الترابي، كمكون في برنامج الإبقاء على الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة وتمكين طبقة الإسلاميين.
رابعا،
نص الفيديو من ثلاث دقائق وفيه دفاع عبد الله عن دور الترابي في حل الحزب الشيوعي
فلأنَّ ما قاله عبد الله عن قضية حل الحزب الشيوعي غيرُ قابل للتصديق، لشناعته، أورِدُ فيما يلي النص الكامل لأقوال عبد الله في ثلاث دقائق 6-9، كما الأقوال كانت جاءت في الفيديو الذي لابد للقارئ من مشاهدته، لأن الكتابة الحرفية ليست قادرة على تسجيل دقائق النفسانيات المصاحِبة لانفعالات عبد الله في التعبير بصوته وبجسده عن موقفه، وعن عدم حساسيته لمشاعر ضحايا جرائم الشيخ. وأضيف بين قوسين معقوفين ما لزم توضيحه لتيسير فهم النص المكتوب.
. https://www.youtube.com/watch?v=OREXtP9p2Po
فهذا هو النص كاملا:
...
"والله أنا يعني بَزكِّي في هذا المقام مقال كتبتْه اليوم رشا عوض، وهي من المعارضين الأشاوِس، وبالضبط هي طلبت قراءة مستقلة، معارِضة، لا تتأثر بالاحتقانات التاريخية، وقالت فيها كلمات في غاية القوة، عن إننا لن نحقق أي نصر على جثةِ الرجل ومن وراء غيبته.
ودا مُشْ ... ليس هذا رأفةً بالترابي، هذا رأفة بنا نحنُ، إذا كُنا نحنُ من جهة أخرى ... من الجهة الأخرى من النهر.
هذه تَبِعة، وليست تَبعة اليوم، نحنُ [أنا عبد الله] من مدة طويلة جدا طالبين منهم [اليسار] أن يقرأوا الترابي قراءة رشيدة، لان عدم قراءة الترابي قراءة رشيدة جعلته غير مفهوما للأطراف، وتحركاتو غير واضحة.
أنا أدِّيك مثل، مثلاً، أنو هو لُمَّا جا [من فرنسا] ما كنا نعلم أنو رسالة الدكتوراه بتاعتو [كانت] عن الديمقراطية وكيف تتحوطْ لـ ... الـ .... ("حالة الطوارئ"، هكذا أعانه مقدم البرنامج ...) ... حالة الطوارئ فيها.
وحصل أنو طبَّق الرسالة بتاعتو دي في حل الحزب الشيوعي 65، يعني ... في أقل من سنة. ونُسِبَ هذا إلى الإسلام، ونُسِبَ هذا إلى الرجعية، ونُسِب هذا إلى الإسلام السياسي، وكذا.
بعد مدة، نكتشف أنو عندو الرسالة بتاعتو، وهي تستنِد على حجج وبيِّنات غرْبِيَّة عن أنَّك إنتَ ممكن تحِل الحزبَ الشيوعي، وأيَّ حزب آخر، إذا شَعَرْتَ بأنو هوَ ... إذا شعرت أنو هو ... إذا شعرتَ أنَّ الديمقراطية في خطر.
وتطبيقاتُ هذا في فرنسا كانت وارِدة، وتطبيقاتُ هذا في الولايات المتحدة كانت وارِدة، حتى أنهم [في أمريكا] كانوا يطلبوا من أعضاء الحزب الشيوعي أن يُسجلوا أسماءهم كعملاء لروسيا.
فطُوال المدة دي نِحنَ [هم، الكارهون للترابي] بِنَقْرا الترابي وخَطوتو في حلِّ الحزب الشيوعي كَهاجِس، كشيء مُوحَى من الشيطان، أو مُوحى من الإسلام، أو مُوحى من كِدا، بينما هي فِكرة غَرْبِيَّة مُعاصِرة وقائِمة، وأَخَذَها مباشرةً من الفقه الدستوري الغربي".
انتهى.
خامسا،
ملخص حجج عبد الله لتبرير دور الترابي في حل الحزب الشيوعي
باختصار، أتى عبد الله بثلاث مكونات متضافرة لتركيب حجته.
(1) لم يكن الترابي في جهوده الناجحة لحل الحزب الشيوعي مدفوعا أصلا بالإسلام، ولا بالإسلام السياسي، أو الرجعية، أو بالشيطان، أو كدا.
(2) طبق الترابي في الوضعية السودانية ما كان توصل إليه في رسالته للدكتوراه وموضوعها "الطوارئ في ظروف الديمقراطية".
(3) كانت عملية حل الحزب الشيوعي السوداني متسقة مع الفقه الدستوري الغربي في فرنسا وفي أمريكا.
سادسا،
في فهم مواقف عبد الله وتفسيرها
(1)
التناقضات الحتمية الناجمة من حجة الفقه الغربي الدستوري
سيدفع عبد الله بأن تلك كانت حجج الترابي، التي لم نقرأها نحن قراءة رشيدة. لكن الثابت هو أن حسن الترابي، حتى في حالات احتياله باللغة ما كان ليفكر مجرد تفكير في مثل المغالطة التي أتى بها عبد الله عن استناد الترابي على الفقه الدستوري الغربي لتسويغ حل الحزب الشيوعي. ذلك لإدراك الترابي أن المحاجة بالفقه الغربي، غير الإسلامي، ستظهره في مرآته وأمام الآخرين على غير الصورة التي كان الشيخ يريدها لنفسه.
فعبد الله، دون أن يدري، يُظهر الشيخَ مفتونا بأوربا، إمِّعةً تابعا للغرب، ويُظهِره عبدُ الله سياسيا بدون قدرة على التفكير المستقل، يجيد حفظ عقائد الفقه الدستوري الغربي وينقلها نقلا ليطبقها بالاستزراع في وضعية السودان المختلفة.
(2)
رسالة الترابي للدكتوراه مصحف عبد الله فيه فقه حل الحزب الشيوعي
بذلك فهم عبد الله أعلاه أن الفقه الدستوري الغربي كان سبب حل الحزب الشيوعي، وبتلك لغته، تصبح رسالة الترابي للدكتوراه مصحفَ عبد الله المكتوب بالفرنسية فيه كلام الإله الغربي منزَّلا على حسن الترابي في دور الرسول السياسي لهداية أهل السودان ضد عبادة صنم الحزب الشيوعي. ومن ثم كان جائزا، بل فرضا، حل الحزب الشيوعي. وفق قراءة عبد الله الرشيدة بترتيل المعاني على طريقة التفسير التوحيدي لدى الشيخ، تقرأ النصَّ القرآني كما تشاء وتفسره وتؤوله كيفما تشاء ليلائم غرضَك السياسي الحاضرَ.
(3)
الكيفية التي يفكر بها عبد الله لتنفيذ مشروع صناعة الترابي
ندرك أن عبد الله إنما أراد تقريب الصورة للمشاهدين، ولذا شرح عبد الله للمشاهدين معنى كلامه عن وجود "حجج وبينات غربية" في رسالة الترابي للدكتوراه توحي للترابي ولغيره بأنه يمكن أن "تَحِل الحزبَ الشيوعي وأيَ حزب آخر". شرح عبد الله كلامه بقوله إن ذلك حل الحزب الشيوعي أو أي حزب آخر يكون سائغا "إذا شعرتَ أنَّ الديمقراطية في خطَر"! هكذا.
فمعنى كلام عبد الله واضح من سياقه في حضرة محبيه الإسلاميين في البرنامج التلفزيوني. وكان عبد الله محصنا ضد أية رواية مغايرة أو مضادة، وضد أية محاولة تفنيد أو إبطال لكلامه. ومعنى كلام عبد الله واضح أيضا حين نقرأه في السياق التاريخي قبل خمسين عاما. يقصد عبد الله أن يقول إن الحزب الشيوعي مثَّل "خطرا على الديمقراطية"، في ذلك الوقت المحدد 1965، وبتلك الواقعة المحددة التي يغفلها عبد الله هي خوض الطالب شوقي في موضوع إسناد الزنا قذفا لعائشة زوجة محمد (حديث الإفك)، وشوقي لم يكن شيوعيا أصلا كما هو ذاته قال للمحكمة التي أدانته لاحقا وحبسته بتهمة الإساءة للدين.
(4)
في عضوية عبد الله في الحزب الشيوعي
يمكن أن نذهب إلى ما لا نهاية في تشقيق مكونات هذا الوضعية لتبيين المفارقات المضحكة في الكيفية التي يفكر بها د. عبد الله. كأن نستدعي إلى المحادثة واقعة أن عبد الله نفسه كان حينئذ عضوا في الحزب الشيوعي حين اعتدى الترابي على هذا الحزب ونجح الترابي في تمرير التعديلات الدستورية التي أفضت إلى حل الحزب وطرد نوابه من البرلمان. وهي بالطبع واقعة تثير الضحك والبكاء معا، خاصة إن كنا تصورنا أن عبد الله كان يمكن أن يكون أحد نواب الحزب المطرودين من مواقعهم.
(5)
زعم عبد الله عدم وجود علاقة بين حل الحزب الشيوعي والإسلام السياسي
لا ينتهي الضحك عند ذلك الحد أعلاه. ففي الطريقة التي يفكر بها عبد الله معين جار بإضحاك يسيل بالوقائع المأساوية فلا ينضب.
فانظر على سبيل المثال الرواية التي يزلقها عبد الله في كلامه عن أن إسهام الترابي في حل الحزب الشيوعي لم تكن له أية علاقة بالإسلام السياسي، ولا بالإسلام.
يضحكنا عبد الله، حين يغفل متعمدا أن الواقعة التاريخية ذاتها، حل الحزب الشيوعي، في سياقها المادي بمكوناته التجريبية، بل كانت مصوغة بهتافات دينية إسلامية صاح بها المتظاهرون الذين كان استدرجهم المثقفون الإسلاميون للتجمع أمام منزل إسماعيل الأزهري، رئيس مجلس السيادة. ويغفل عبد الله المناداة الدينية الإسلامية في خطاب الأزهري نفسه، في وعوده للمتظاهرين أمام منزله أنه كرئيس لمجلس السيادة سيضع حدا للفساد العقائدي، وأنه سيتظاهر مع المتظاهرين لتطهير البلاد (من الشيوعية، طبعا). اقرأ هذا البيان في كتاب عبد الله النعيم عن العلمانية والإسلام.
كذلك يتجلَّى الخطل في إنكار عبد الله أية علاقة للإسلام أو الإسلام السياسي بقرار حل الحزب الشيوعي، حين نتذكر أن التعديلات الدستورية لتسهيل حل الحزب الشيوعي ارتكزت على أساس المحاجة بالعقيدة الدينية وهي الإسلام دين أهل السودان في تصور الإسلاميين. بالإضافة إلى أن السياق السياسي الذي دار فيه حل الحزب الشيوعي كان مشحونا بلغة الدين الإسلام، وكان يسيطر عليه الجدل حول الدستور الإسلامي.
فشاهدْ الفيديو في ثلاث دقائق، واسمعْ نبرات صوت عبد الله، وانظر حركاته الجسمانية، تجده يغالب التناقض بين الأقوال المُخَرَّجة والحقيقة الواضحة المرسومة محفورة في الذاكرة.
...
"وحصل أنو [الترابي] طبَّق الرسالة بتاعتو دي في حل الحزب الشيوعي 65، يعني ... في أقل من سنة. ونُسِب هذا إلى الإسلام، ونسب هذا إلى الرجعية، ونسب هذا إلى الإسلام السياسي، وكذا".
...
(6)
مصدر حل الحزب الشيوعي عند عبد الله هو الفقه الدستوري الغربي
أما وقد انتهى عبد الله من تقريره أنَّ نَسَبَ حلِّ الحزب الشيوعي لا يمتد إلى الإسلام ولا الإسلام السياسي ولا إلى الرجعية، وهو سيقول لاحقا إنه لا يمتد إلى "الشيطان"، اِلتفتَ عبد الله ليبين المصدر الفقهي "الحقيقي" في تقديره الذي استند عليه الترابي ولم نفهمه نحن بل فهمه عبد الله بقراءته الرشيدة للترابي.
...
"بعد مدة نكتشف أنو عندو الرسالة بتاعتو، وهي تستند على حجج وبينات غربية، عن أنك إنتَ ممكن تحل الحزب الشيوعي، وأي حزب آخر، .... إذا شعرت أنَّ الديمقراطية في خطر.
"وتطبيقاتُ هذا [حلِّ حزبٍ إذا شعرت أنَّ الديمقراطيةَ في خطرٍ] في فرنسا كانت واردة، وتطبيقات هذا في الولايات المتحدة كانت واردة ...
"حتى أنهم [في أمريكا] كانوا يطلبون من أعضاء الحزب الشيوعي أن يسجلوا أسماءهم كعملاء لروسيا".
...
(7)
جمجمة الترابي مجرد بخسة عند عبد الله
فالأكثر إضحاكا في أعلاه هو أن عبد الله لا يدرك أن حجته الفظيعة في شناعتها، تصور جمجمة الترابي مجرد بُخسة، وهي القرعة المتناشفة الفارغة من لب. هذه البخسة، يقول عبد الله إن الترابي كان أصلا ملأ فراغها بما كان الترابي استعصره من مصادر الفقه الدستوري الغربي الفرنسي والأمريكي، قبل أن يعود الترابي بهذه البخسة مليانة بذلك الفقه يحملها فوق كتفيه.
ويذهب عبد الله بروايته إلى أنه في أقل من سنة، قبل أن تنشف البخسة المليانة بالفقه الدستوري الغربي، نهل منها الترابي واغترف عقيدة دستورية محددة للتعامل مع واقعة يغفلها عبد الله هي إسناد الطالب شوقي الزنا لعائشة. ومن ثم يقول عبد الله، بمعنى كلامه المحذوف من النص، إن الترابي توصل بالقفزة الاستدلالية من منصة تلك الواقعة إلى أرضية النتيجة "المنطقية" الحتمية، أنه يجب حل الحزب الشيوعي! هكذا.
بعدها يمضي عبد الله في روايته لبيان الصحة المنطقية والفقهية لدور حسن الترابي في حل الحزب الشيوعي. فينفي عبد الله أن تكون خطوة حسن الترابي "هاجسا" أو خاطرا موحى من الإسلام أو من الشيطان في شيء. وإنما كانت خطوة حل الحزب الشيوعي، في رواية عبد الله، "فكرة غربية معاصرة وقائمه أخذها الترابي مباشرةً من الفقه الدستوري الغربي". هذا هو النص المحدد:
...
"فطوال المدة دي، نحن بِنقرا الترابي وخَطْوتو في حل الحزب الشيوعي كهاجس، كشيء موحى من الشيطان، أو موحى من الإسلام، أو موحى من كِدا. بينما هي فكرة غربية معاصِرة وقائمة، وأخذها [الترابي] مباشرة من الفقه الدستوري الغربي".
...
سابعا،
مغالطات في خطاب عبد الله
(1)
صناعة الترابي المفكر العالم
يتوسل عبد الله إلى تحقيق مقاصده بإظهار الترابي عالما في الفقه الدستوري. بينما الحقيقة التاريخية الثابتة من تجربة أهل السودان مع الترابي على مدى نصف قرن تبين بصورة كاملة وواضحة أن الترابي لا يمكن تكييفه عالما أو مفكرا أو مثقفا. لأنه كان دائما سياسيا ماكيافليا لا يتورع عن اقتراف أكثر الأفعال نذالة في مجال السياسة والحكم، بما في ذلك إنشاء المؤسسات لتعذيب خصومه السياسيين، والتغطية على جرائم القتل التي اقترفها أعضاء الحركة الإسلامية السودانية، وشن الحروب الجهادية العنصرية على المدنيين في جنوب السودان ودار فور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق.
(2)
لا وجود للفقه الدستوري الغربي الذي يدعيه عبد الله
لم يكن هنالك أي فقه دستوري في فرنسا أو في أمريكا، خلال فترة دراسة الترابي في فرنسا، يسوغ حل حزب، فقط "إذا شعرتَ أن الديمقراطية في خطر".
من البديهيات أن كل فقه دستوري في التقاليد القانونية العالمية يسمح للسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وكذا للسلطة القضائية إصدار تدابير أو قوانين أو قرارات تحجر الحريات، لأغراض التعامل المحدد مع خطر طارئ. لكن الذي فهمه عبد الله وقرر دغمستَه والتلاعبَ به هو أن ذلك السماح لا يكون أبدا إذا كنت أنت فقط "شعرتَ" أن الديمقراطية في خطر. فتحجيم الحريات في كل فقه دستوري بل يتم عبر "اختبارات" صارمة. أهمها أنه لابد من وجود "خطر ماثل وحاضر"، أي خطر وشيك الوقوع، قبل اللجوء للإجراءات الطوارئية.
فهل كان هنالك حقا خطر وشيك على الديمقراطية من قِبل الحزب الشيوعي، لكي يتم استخدام الفقه الدستوري الغربي في رسالة الترابي لحل الحزب وطرد نوابه من البرلمان؟
يعلم عبد الله أن المحكمة العليا في السودان كانت قررت الإجابة بالنفي، ومن ثم كان قرارها ببطلان ما كان ذهب إليه الترابي وما كان أقرته الجمعية التأسيسية بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان. ولم أسمع أن عبد الله قال إن المحكمة العليا قبل خمسين عاما كانت فاسدة فلا قيمة لقرارها.
(3)
لا علاقة للموضوع بتسجيل الشيوعيين الأمريكان كعملاء روسيا
ليس سليما دفع عبد الله حين ادعى مطالبة الحكومة الأمريكية أعضاء الحزب الشيوعي الأمريكي تسجيل "أسمائهم كعملاء لروسيا". فالفترة الزمنية التي حدثت فيها هذه التجاوزات القانونية غير الدستورية، من قبل السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، كانت انتهب في الخمسينات وفي بداية الستينات وهي لم تكن أصلا مكونا في الفقه الدستوري الأمريكي كما ادعى عبد الله. أي، هي ممارسات لم تطابق فترة الستينات حين كان الترابي يكتب رسالته للدكتوراه، ولم يكن لها من أثر في العام 1965 حين كان الترابي يتآمر لحل الحزب الشيوعي.
فمن أهم خصائص الدستور الأمريكي مراجعة مدى دستورية التشريعات، ومدى دستورية القرارات التنفيذية والقرارات القضائية في المحاكم أدنى المحكمة العليا.
كانت المحكمة الأمريكية العليا، والمحاكم الأمريكية الأدنى، تحمي الشيوعيين والتروتسكيين خلال فترة دراسة الترابي في فرنسا، تحميهم ضد القوانين الحكومية المتحاملة على حرية الرأي السياسي والتنظيم.
الصحيح هو أن الفقه الدستوري الأمريكي في التعديل الأول للدستور، وكان ساريا قبل عقود متطاولة قبل الفترة التي كان فيها الترابي يكتب رسالته للدكتوراه، كان هذا الفقه الدستوري الأمريكي يرفض مثل ما فعله حسن الترابي بتمرير التعديلات الدستورية لحل الحزب الشيوعي. بالعبارة المعروفة في وثيقة الحقوق في الدستور الأمريكي، بالتعديل الأول، أنه "يُحظر على مجلس الكونغرس تشريع أي قانون يؤدّي إلى دعم ممارسة أي دين، أو تشريع أي قانون يؤدّي إلى منع ممارسة أي دين؛ أو تشريع أي قانون يؤدّي إلى تعطيل حرية الكلام أو النشر الصحفي أو حق الناس في إقامة تجمعات سلمية أو إرسالهم عرائض إلى الحكومة تطالبها برفع الظلم."
إن أقوال عبد الله عن أمر الشيوعيين تسجيل أسمائهم كعملاء لروسيا لم تكن من "الفقه الدستوري الغربي"، فلا يمكنه المحاجة بها.
....
فأترك الأمر عند هذا الحد. والخلاصة هي أن عبد الله في هوسه بالدفاع عن الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، التي تأتينا في أشكال نظام الإنقاذ البغيض، والحركة الإسلامية السودانية، وجهاز المثقفين الإسلاميين، والمليشيات، والأجهزة السرية، لم يعد يكترث لمشاعر ضحايا إجرام هذه الدولة الإسلامية وفسادها. وهو الموضوع الذي أخصص له المقال التالي، عن عدم أخلاقية دفاع عبد الله عن نظام الإنقاذ.
....
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com

 

آراء