الأكثرية العظمى من إحالات واقتباسات واستشهادات هذه الدراسة, هي لقادة وعضوية الحركة الإسلامية السودانية, ولوثائقها التأسيسية. لأنها الحكم الأفضل عليها وعلى سنوات حكمها, ومن داخلها, واستناداً إلى ما توصل إليه – مجزءاً - كتابها ومفكروها, وعلى خلفية إمكاناتها والأهداف التي قالت إنها تسعى لتحقيقها, بل وباستخدام معاييرها في كثير من الأحايين. من هذه المعايير ما قاله زعيمها حسن الترابي من أن "التاريخ امتحان لجدوى المفهومات الأصولية وأثرها, وفي مصائره حكم على كونها (..) ذرائع لمقاصد الدين أو لمفاسد في حساب الدين. فالنظر الراجع يستفيد بدليل المآل (..) ويحكم على المواقف الأصولية إن قد زادتنا فقهاً أم تبلداً, وإن قد مكنت حكم الدين أم ضيعته"(1). ويكشف "النظر الراجع" لأكثر من ربع قرن من حكم الحركة الإسلامية السودانية, و"مشروعها الحضاري", القائم على تطبيق الشريعة في الفضاء السوداني المعاصر, المتعدد ثقافياً ودينياً وعرقياً, عن عشرة إشكالات أساس أقرب إلى أن تصب في حزمة "المفاسد والتبلد والضياع", بحسب تعبير حسن الترابي سالف الذكر: أولاً: على الرغم من أن الحركة الإسلامية السودانية قدمت نفسها باعتبارها حركة تجديدية حديثة, إلا أن الصادرات عن حركة التجديد تكشف عن إبهام وغموض وتعقيد, جعل الوصول إلى كنه المنهج التجديدي – في حالة وجوده إصلاً - عسيراً ومتعذراً للقادة التنفيذيين الذين تولوا إدارة الدولة عبر آلية التمكين, ولبقية عضوية الحركة الإسلامية, وبالأحرى لبقية السودانيين. الأصل في مناهج التجديد التبسيط والوضوح, لأنها أدوات عمل ميداني لتعقُل الظواهر وقراءاتها, ثم التحكم في استخدامها. غاب هذا المنهد التجديدي المبسط الواضح, لذا لم تسفر عملية التطبيق إلا عن تكريس للانتقائية السلفية التقليدية لفكر الإخوان المسلمين, وللفكر السلفي التقليدي, بصورة عامة, فقط مع توسيع مداها(2). احتفظت هذه الانتقائية بالأركان الرئيسية لمنظومة الفكر السلفي التقليدي, بينما انصب جهدها على توسيع فرص الاختيار من بين محتويات البناء الفكري وممارسات العهد الإسلامي الأول. فعملت على تحريك بعض هذه المحتويات, وإسقاط بعض آخر, وإعادة تأويل أخري, وإحياء رابعة كانت مهجورة.. وهكذا دواليك, تحت ضغوط الواقع أو شدة المنافسة السياسية, وليس توليداً عن "اجتهاد إسلامي قائم على مقدمات نظرية وموضوعية"(3). وقاد التوسع بلا ضوابط واضحة إلى تذبذب المواقف والفتوى والأحكام بين الذرائعية القحة - التي عُرفت أحياناً بفقه الضرورة - والدينية المتصلبة التي لا تعرف المرونة, مع توجه مستمر نحو التشدد. النتيجة هي أن العقل الفقهي السلفي التقليدي ظل حاضراً بقوة في سياسات وبرامج الدولة, وبالتالي بقيت وتفاقمت الأزمة العميقة التي عاني منها المجتمع السوداني والتي تسبب فيها هذا الفكر, وكانت الدافع وراء جهود التجديد, من جهة, والسعي المتصل للحركات الإسلامية للوصول إلى السلطة, من جهة أخرى, باعتبار أن الأزمة منشؤها أساساً عدم تطبيق الشريعة. ثانياً: لهذا السبب عاني المشروع غربة تاريخية مبدئية عن الإطار الحضاري المعاصر للسودانيين, حتى إن ظل هذا الإطار المعاصر إطاراً نظرياً بالنسبة إلى كثيرين منهم. ويعود ذلك إلى أن تفاصيل المكونات التي طرحها مشروع الحركة الإسلامية السودانية لمشكلات السياسة والمجتمع والاقتصاد, ظلت هي إجابات الماضي (القرن السابع) لهذه المشكلات. وبالتالي يقدم المشروع, في الحقيقة, إجابات تاريخية على أسئلة تاريخية طُرحت بلسان الحال أو المقال في العهد الاسلامي الأول, ولا تأخذ في الاعتبار التطورات التي طرأت على المجتمعات الإسلامية والتاريخ الإنساني منذ ذلك الوقت. لذلك كان الكثير من عناصر المشروع الرئيسية غير صالح ولا قابل للتطبيق في المجتمعات المعاصرة. هذا ما أقر به أحد القادة الفكريين للحركة الإسلامية, إذ كتب يقول: "تلاشت الدعوة للدستور الإسلامي بصورتها التاريخية والتي تقوم على حكومة إسلامية وإطار عقائدي إسلامي .. نسبة لأن التجربة العملية أثبتت صعوبة ذلك"(4). وترتبت على هذه الغربة التاريخية منطقياً مسألة أخرى, هي: أن التراث الفقهي والتشريعي الإسلامي, لا يغطي الجزء الأعظم من مسائل وقضايا المجتمع والدولة الحديثة, التي نتجت عن تطورات تاريخية شملت كافة مجالات الحياة الإنسانية. هذا ما اعترف به أيضاً د. حسن الترابي نفسه في زيارة له إلى لندن في أوائل تسعينات القرن الماضي, ذكر أثناءها أن الاجابات التي يقدمها الفقه الاسلامي لا تخاطب إلا 25% من جملة مشاكل التي يتوجب مخاطبتها في الدولة المعاصرة(5). ثالثاً: تعارضت بعض الأحكام التي طبقت (مثل الأحكام الحدية وأحكام القوامة وأهل الذمة .. وغيرها), بنيوياً مع حقوق الإنسان كما عرفتها المواثيق والعهود والتجارب الدولية, ومع معايير العدالة الحديثة التي طورتها الإنسانية. وقد تقدم أن النظام المعرفي الإرشادي للحركة الإسلامية لا يقبل بالصراع الاجتماعي الذي هو سمة المجتمعات البشرية, باعتباره مخالفاً لمفهوم التوحيد. ولا تعني الحرية فيه الحق في الاختيار الحر بين بدائل, وإنما الحرية في تطبيق الشريعة, وترتكز حقوق المواطنة في هذا النظام على العقيدة, وليس عل الانتماء الوطني, ويعتمد أحكام عقوبات من فترة تاريخية سابقة بألف واربعمائة عام, ولا يملك إلا حالة مواطنة خاصة لغير المسلمين.. أطلق هذا التعارض السقف لممارسات تمتد جذورها إلى ظرف تاريخي من الماضي. وترتبت على هذه الرؤية مظالم واسعة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان, وجرائم حرب, وجرائم ضد الإنسانية, وتهم بالإبادة الجماعية, كما ورد في تقارير المراقبين الدوليين لحقوق الإنسان في السودان, الذين أدى الحجم الكبير للإنتهاكات وجسامتها إلى تعيين عدد منهم بصفة دائمة, منذ قيام نظام حكم الحركة الإسلامية حتى الآن, بصفتهم مراقبين خاصين لمتابعة وضع حقوق الإنسان في السودان. وصدرت بسبب هذه الانتهاكات عشرات الإدانات لسجل حقوق الإنسان في السودان من المنظمات الدولية وتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة ضد رئيس الجمهورية ومسئولين آخرين من المحكمة الجنائية الدولية. رابعاً: قادت الطبيعة السلفية للمشروع, والتي تقوم على أن آخر الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها (من ممارسات), والتعلق بتصور ذهني عن العهد الأول مأخوذ عن كتب التراث, وأعتماد منهج الاستنساخ التشريعي للأحكام لإعادة إحياء هذا التصور, وكون الأحكام أجزاءً من حزمة تشريعية متكاملة ومترابطة - قادت هذه الطبيعة السلفية إلى "استدعاء" قضايا وأولويات المجتمع الاسلامي الأول لتكون هي أولويات المجتمع السوداني المعاصر. ونشأ نتيجة لذلك إطار سياسي واجتماعي نظري لا يعبر عن الواقع, وإنما عن تصورات ذهنية لهذا الواقع. فلم يكن جنوب السودان جزءً من وعي الحركة الإسلامية السودانية, ولا ضمن اهتماماتها, ببساطة لغيابه في الإطار النظري الذي يحكمها, بينما يشكل هو وأهله ثلث البلاد. وأدى هذا الأمر إلى تشويه الأولويات السياسية والاجتماعية, وانتهى إلى إثارة أو تضخيم مشاكل ليس لها هذا الحجم إلا في التصور, فقط لأنها كانت من الأولويات التاريخية للعهد الأول, بينما تًركت مشاكل أخرى حقيقية لأنها خارج التصور. فتم التركيز, مثلاً, على قضايا محاربة الفوائد البنكية باعتبارها ربا الجاهلية, وهي ليست كذلك, وقضايا عفة النساء, ومحاربة الزنا على الرغم من أن المجتمع السوداني ككل مجتمع محافظ, لم تكن العلاقة بين النساء والرجال فيه مصدر تهديد أوخطورة, بينما لا نجد إلا اهتماما وجهداً قليلاً في تناول قضايا مثل محاربة الفقر والتصحر وتحقيق التنمية. خامساً: أطلقت عمليات الأسلمة والتأصيل, "دينامية تسابق استنساخي سلفي" على مفردات ومفاهيم وممارسات الماضي. إذ استُبدلت الأسلمة بالمنطق المدني العام في إدارة الحوارات الوطنية, المنطق المدني هو منطق عام في متناول الجميع, لا يفصلهم عنه دين أو عرق أو ثقافة, لكن مع الأسلمة حلت محله الحجة الدينية في النظر إلى الأمور وتبريرها. وكانت الغلبة في هذه العملية لجماعات الفهم النصوصي الحرفي للدين, لبساطة حجتها, ووفرة نصوصها, ووضوح معانيها, وكثرة الطرق عليها في مجتمع تتفشى فيه "الأمية النقدية", وذلك مقارنة بالجماعات الإصلاحية التي تعتمد تأويل النصوص, وتوليد معان ومناهج جديدة. وقد أوجدت عملية تحويل الفضاء العام إلى فضاء ديني, والميزة النسبية للجماعات الدينية المتشددة, بيئة ثقافية وسياسية حاضنة ومفرِّخة للإرهاب والتطرف. وتحول التنافس السياسي بين الجماعات الدينية المختلفة إلى مزايدات أدواتها "الحجج الإيمانية السطحية" و"التكفير", والرمي بالردة والخروج من الملة - بسبب الاختلاف - والذي كان في غالبه اختلافاً حول قضايا سياسية. فأقصى ذلك الجماعات والأحزاب المدنية وبالطبع غير المسلمين عن الحوار العام. وأفرزت البيئة الجديدة جماعات سياسية جديدة تدعي امتلاك صحيح الإسلام شغلت الفضاء الأهلي, وشكلت بفتاويها حكومة مكملة للحكومة الرسمية, ولكن أيضاً أداة ضغط عليها في إطار المزايدات السياسية. وهذا ما أشار إليه أحد قادة الحركة الإسلامية عندما قال إن الساحة الطلابية إمتلأت في مرحلة ما "بأصوات أخرى وأفكار عادة رجعية عن الأفق الرحب لحركة الإسلام الحديثة, إلى أطر الإسلام البدوي وتقاليده الميتة"(6). ويمكن أن نضيف هنا أن "الإطار البدوي وتقاليده الميتة", الذي ذكره الكاتب الإسلامي هو في الحقيقة سمة للمشروع الحضاري في مجمله, ذلك أن عناصر ومكونات المشروع التشريعية هي إجراءات لمعالجة وترتيب أوضاع بدوية, ولذلك فمن الطبيعي أن تكون معبأة بالمحمولات البدوية للمنشأ الجغرافي للإسلام في عهده الأول. ما فعلته الجماعات الدينية المنافسة أنها سارت بهذا الطابع إلى نهاياته القصوى, وذلك في إطار المنافسة السياسية, بعد أن تحول الخطاب في الفضاء العام, مع تطبيق الشريعة إلى الحجة الدينية بديلاً عن الحجة المدنية. سادساً: أيضاً بسبب الطبيعة السلفية لـ"المشروع الحضاري" للحركة الإسلامية السودانية تفشت وسادت حالة من الركود والتراجع الاجتماعي والثقافي والفكري والفني أيضاً, وذلك للغياب البنيوي لمفهوم "التقدم" في النظام المعرفي, وتقليص دور العقل, وغياب الحريات وقوى الدفع المحفزة للتقدم والنهضة في النظام الإرشادي السلفي. اكتفت القيادات الفكرية للحركة الإسلامية السودانية بترديد أن "النهضة لا بد أن يكون لها محفز ومحفزها إما أن يكون الإسلام أو غيره, وأبانوا استحالة غير الإسلام"(7), وبالتالي أصبح تطبيق الشريعة هو هذا المحفز دون أن تحتوي مكوناتها على قيم ومفاهيم الحرية والتقدم – كما سبق - التي هي أساس كل نهضة(8). كما أن الأداة الأساس للفقه السلفي في التعامل مع مستجدات العصر, وهي ’القياس‘ تكرس للتبعية الحضارية والجمود. لأن القياس لا يشتغل إلا بأثر رجعي, ينتظر النوازل, والمحدثات, واختراعات الآخرين ليلحقها, بأشباهها. كما لم تتمكن الحركة الإسلامية من تقديم مواقف تجديدية "تطمئن الخاطر الدينئ"(9) في قضايا الفنون, باعتراف قادتها ذاتهم. وتضافرت الأمية النقدية الكامنة في الثقافة المجتمعية, ونظام التعليم الذي فرضته الحركة الإسلامية في المدارس والجامعات, خاصة الجامعات الدينية التي أنشأتها, والذي يقوم على "الاجترار وتقديس نصوص القدامى والنظر إليها كمعطيات أبدية لا تخضع لأحكام المكان والزمان والتاريخ", ولا يعتني أو يدرب على قيم التفكير والمساءلة والنقد, بل يعطلها تعطيلاً كاملاً, إضافة إلى ايديولوجيا الحركة الإسلامية وتربيتها المنغلقة على يقينيات لا تقبل المساءلة ولا المراجعة- تضافرت هذه العوامل لتورث المجتمع السوداني في مجمله وعلى الأخص النخب الممسكة بمفاصل الدولة والمجتمع "إدقاعاً فكرياً وفقراً معرفياً ونقصاً حاداً في القيم النقدية الضرورية للتكوين المتوازن المتصالح مع الذات والمحيط المباشر والعالم الخارجي(10). فلم تطور هذه النخب إنتاجاً فكرياً أو أطروحات موضوعية حول الدولة أو المجتمع أو السياسة أو الاقتصاد أو الثقافات والإثنيات السودانية(11). وتفشت بدلاً عن ذلك العاطفة الدينية في المجتمع وداخل تنظيم الحركة الإسلامية, وصار "كثير من الإسلاميين سواء في السودان أو في خارج السودان يتضخم الجانب الديني العاطفي فيهم على حساب الواقعي والعلمي (..), فتجد أن الإنسان كلما زاد تدينه ارتفعت درجة حرارته, وقل نصيبه العلمي وقل بصره بالواقع"(12). وتسبب غياب الروح العلمية والفقر المعرفي إضافة إلى الفساد في خراب واسع للبنيات التحتية والقطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية في البلاد وفي أنظمة التعليم والإدارة ومجالات الآداب والفنون, وتردت سمعة البلاد ومشاركاتها الخارجية. في هذا السياق تحولت الفتوى إلى وسيلة للحفاظ على المصالح الاقتصادية للحاكمين بـ"تمرير وتسويق المفاهيم الرأسمالية" المتوحشة, وسد "المنافذ [أمام] أي محاولة جادة لبلورة مذهب إسلامي أصيل في التنمية الاقتصادية"(13), من جانب, ولحراسة رأس المال الرمزي السلفي حبيس الماضي من جانب آخر. سابعاً: أفرزت الفجوة بين النظام المعرفي الإرشادي وبين الإطار المعاصر لحياة السودانيين, ما يمكن تسميته بظاهرة "الحقوق الورقية". إذ إن لكل من النظام المعرفي الإرشادي للحركة الإسلامية, من جهة, والإطار المعاصر للسودانيين, من جهة أخرى, مرجعيته الثقافية والقانونية المختلفة: فشكلت - بصورة نسبية - تداعيات العولمة, ونضالات التحرر الوطني, والإرث الديمقراطي السابق, والحركة العالمية لحقوق الإنسان, والإتفاقات التي وُقعت مع مجموعات سودانية ثائرة - شكلت مرجعية الإطار المعاصر للسودانيين, بينما شكلت أصول الأحكام والتراث الفقهي السني مرجعية النظام المعرفي الإرشادي للحركة الإسلامية السودانية - وإلى درجة محدودة جداً - مرجعية المجتمع السوداني التقليدي, بصورة عامة. في غياب حركة إصلاح ثقافي هي من ناحية عملية حركة إصلاح ديني, ظلت الغلبة السياسية والاجتماعية للمرجعية الأخيرة. ذلك أن المؤسسات هي تعبيرات ثقافية وحضارية, وليست مجرد قواعد وإجراءات, وأن مؤسسات مثل البرلمان والنظام الدستوري والقانوني الذي يحفظ حقوق الإنسان.. تتطلب القبول بمجموعة من القيم الثقافية السياسية. فحق الانتخاب, مثلاً, يفترض التسليم بعقلانية الإنسان وقدرته على التمييز والاختيار, ونظام الأحزاب السياسية يفترض القبول بمبدأ التعددية وحرية التعبير والتفكير والتنظيم والتسامح مع الآراء المخالفة, ورفض التسليم بواحدية حل سياسي أو اجتماعي ما(14). ولأسباب تتعلق بتوازنات القوى داخل النظام, ومع معارضيه السياسيين, وعلاقاته مع الخارج, تبنى دستور السودان لعام 2005, بعد اتفاق السلام - مع حركة التمرد في جنوب السودان - في بعض بنوده, المرجعية الدستورية والقانونية المعاصرة, وتبنت بنود أخرى المرجعية السلفية, بينما تبنت القوانين ما دون ذلك المرجعية السلفية (القانون الجنائي, قوانين النظام العام, قانون الأحوال الشخصية, قانون المصارف..الخ). ونتيجة للتعارض المذكور بين مواد ومرجعيات هذا الدستور, والخلفية الثقافية الحضارية التي يشتغل فيها, مع ميل النظام إلى إسناد المرجعية السلفية بقوة, أصبحت الحقوق المضمنة في الدستور, بما في ذلك وثيقة جيدة للحقوق, مجرد حبر على ورق. ثامناً: كذلك أثبتت تجربة الاسلامييين السودانيين في الحكم أن نواقص الحرية والمعرفة وحقوق المرأة التي حددها ’تقرير التنمية العربي الأول‘ لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي, في عام 2004, على أنها الأسباب الرئيسية للتخلف التنموي في العالم العربي, أثبتت تجربة الحركة الإسلامية السودانية في الحكم أنها نواقص بنيوية في النظام المعرفي الإرشادي وفي "المشروع الحضاري" للحركات الإسلامية ذات الإسناد الإخواني. فكما سبقت الإشارة يقوم هذا المشروع على قواعد سلفية وتشريع استنساخي يخلو – لأسباب تاريخية بدهية – من مفاهيم وأدوات الحرية كما نعرفها اليوم بوصفها "كامل محتوى منظومة حقوق الأنسان, أي الحريات المدنية والسياسية بالإضافة إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية", كما يُعرفها ذلك التقرير(15). فالحرية بهذا المعنى ليست أصلاً في المشروع, كما رأينا مراراً, حتى وإن قال سدنة المشروع بغير ذلك. لذلك لم يقتصر الإستبداد على أشكاله السياسية المعروفة بل اتخذ طابعاً دينياً مقدساً, تكاملت فيه السلطة الرسمية مع الجماعات الأهلية السلفية, وتبادلا الأدوار في تقييد الحريات. وتكفلت الجماعات الأهلية السلفية المتحالفة مع السلطة بما لا تستطيع الجهات الرسمية المجاهرة به, فأصدرت عبر السنوات, بمباركة السلطة وتأييدها, سلسلة متتالية من الفتاوى التكفيرية طالت معظم جوانب الحياة السياسية, ومعظم القيادات الحزبية, بمن فيهم السيد الصادق المهدي, آخر رئيس وزراء منتخب, بل وحسن الترابي زعيم الحركة الاسلامية نفسه. وقد كانت النتيجة هي تضافر العناصر الرسمية مع العناصر الأهلية لتنشر بيئة من الارهاب السياسي والثقافي والفكري, هزت النسيج الاجتماعي ومزقته, وسممت الحياة السياسية والفكرية في السودان(16). تاسعاً: أضمرت واستبطنت مكونات المشروع الحضاري وعناصره القائمة على تطبيق "الشريعة" في فضاء معاصر, متعدد ثقافياً ودينياً وإثنياً, عنفاً هيكلياً كامناً, يصدر عن ديناميات وجهتها النقاء والصهر الآحادي والاستيعاب والاستلاب الثقافي, في مواجهة نزوع مشروع لمكونات التنوع السوداني الثقافي والديني والإثني واللغوي. يتطلع هذا النزوع الكامن إلى الاعتراف والاحترام وإرادة مشاركة والتعبير عن التفرد, وبالتالي التعدد- فأوجدت هذه الديناميات المتناوئة حالة من التوتر والتصادم, حولت البلاد إلى ساحة للعنف اللفظي والمادي والنزاعات الدامية, لا سيما العنف المفرط لدولة الحركة الإسلامية السودانية تجاه مواطنيها في الهامش. وانفجرت هذه التوترات حروباً أهلية في شرق السودان بعد جنوبه, ثم في ولايات دارفور الكبرى, والنيل الأزرق وجنوب كردفان, لا تزال مستعرة حتى الآن. وقد أودت هذه الحروب بحياة مئات الألوف من السودانيين ودمرت سبل عيشهم ونسيجهم الاجتماعي. وذلك إضافة إلى التعذيب المنهجي في السجون والمعتقلات والمسنود بالفتوى الدينية(17), و"عقيدة العمل الأمني للحركة الإسلامية [التي] اعتمدت العنف الحاسم لإسكات المعارضة"(18), وانتشار السلاح والحروب القبلية وثقافة العنف, والعنف المودع في مناهج التعليم والقانون, وما تطفح به الصحف ووسائل الإعلام والمساجد والندوات من عنف لفظي وعنصرية. عاشراً: والنتيجة هي أن النظام المعرفي الإرشادي للحركة الإسلامية السودانية الذي يستند إليه "مشروعها الحضاري" خلا عملياً من الآليات السليمة المتعارف عليها عالمياً لإدارة التنوع الثقافي والديني والإثني, بما في ذلك الحد الأدنى من التنوع, وهو التنوع إلى رجال ونساء. وكما تقدم, فإن التحدي الأكبر أمام كل برنامج وطني يتصدى لمهام الحكم في السودان هو الإدارة السليمة للتنوع الثقافي والإثني والديني واللغوي. غير أن الأطر الفكرية لمشروع الحركة الإسلامية السودانية, لا تعرف التنوع الثقافي أو العرقي, ولا تعترف به, كما سلفت الإشارة. فالأمة في هذا المشروع هي "المجموعة من الناس تربط بينها آصرة العقيدة, وهي جنسيتها, وإلا فلا أمة .. والأرض والجنس, واللغة والنسب, والمصالح المادية القريبة, لا تكفي واحدة منها ولا تكفي كلها لتكوين أمة إلا أن تربط بينها رابطة العقيدة"(19). في هذا السياق يقوم التعامل مع غير المسلمين على قواعد ’فقه الذمة‘ و‘الولاء والبراء‘ والجهاد, وقد شكلت هذه القواعد المرجعية المسكوت عنها للدولة السودانية في فترة حكم الحركة الإسلامية, وبالطبع ليس في هذه القواعد ما يصلح لإدارة سليمة للتنوع, ومن هنا كانت حيرة الحركة الإسلامية في التعامل مع مكونات التنوع والتي تراوحت بين التجاهل والقمع أو الرغبة في التخلص, خاصة إذا كان المكون قوياً واعياً بحقوقه, كما كان الحال مع جنوب السودان. فقد كان جنوب السودان "كالنسي المنسي" في فكر الحركة, في نهاية الأربعينات والخمسينات, وغاب الاستعداد الفكري والديني لديها للتعامل مع مشكلة الجنوب في الخمسينات وبداية الستينات, حين كان يراود بعض عضويتها "إذا تذكروا معضلة الجنوب مع الإسلام – أن يتمنوا انفصاله ليخلص الأمر لتقويم المجتمع المسلم دون خلاف في أصل الملة"(20), كما ورد على لسان زعيمها. ثم كان الموقف المتردد في استراتيجية الحركة نحو الجنوب أواخر السبعينات وبداية الثمانينات: بأنه حال "تغلب التناقض التاريخي والثقافي بين الشمال والجنوب على دواعي الوحدة وتدخلت قوى خارجية ليتمرد الجنوب على قيام دولة الإسلام في السودان فليكن هو البادئ بالمقاطعة"(21), أي الانفصال. لتأتي الحرب الجهادية مع وصول الحركة الإسلامية للحكم, دفعة قوية نحو الانفصال. ثم موقفها السابق عينه - بعد منتصف التسعينات- ولكن متستراً هذه المرة بـ"استحالة حماية حدود السودان حتى نمولي", عبر لسان رئيس الجمهورية, ليأتي الانفصال ذاته بنهاية العشرية الأولى من القرن الجديد. في كل هذه المراحل لم تتوقف الحركة الإسلامية لتسائل سياساتها أو منطلقاتها الفكرية والعقدية الأساسية, طوال هذه المنعطفات غابت روح النقد والمراجعة عن تعامل الحركة الإسلامية السودانية ومواقفها من جنوب السودان, وعن قضايا التنوع الثقافي والعرقي والديني في السودان عامة. على العكس من ذلك ظلت الحركة ترمى باللوم دائماً على جنوب السودان. أما بعد انفصال الجنوب والفشل "الكارثي"(22) لمشروع الحركة الإسلامية في السودان, ألقى زعيمها باللوم على الشعب السوداني, عندما قال إن خطأ من قاموا بثورة الانقاذ (انقلاب الحركة الإسلامية عام 1989) لم يكن في الممارسة, فحسب, بل كان في اعتقادهم إمكانية نجاح التغيير في رقعة جغرافية لا ترقى إلى وطن أكثر ما يجمع بين أهلها لون بشرتهم(23) !!؟. الهوامش: 1- حسن الترابي, قضايا التجديد: نحو منهج أصولي (تونس: معهد البحوث والدراسات الاجتماعية, 1987), ص 240 2- يرى سعد الدين ابراهيم أن السمات العامة لفكر الإخوان المسلمين هي الشمولية والإطلاقية والانتقائية واللاتاريخية. للمزيد أنظر: سعد الدين ابراهيم, المسألة الاجتماعية بين التراث وتحديات العصر, في: مركزدراسات الوحدة العربية, مصدر سابق ص 473 3- حسن مكي, الحركة الإسلامية.. المفاهيم وشهادة الميلاد, في: هويدا صلاح الدين عتباني, مصدر سابق, ص 18 4- المصدر السابق, ص 18 5- نقلاً عن الصحفي السوداني السر سيدأحمد في ندوة بمركز الخاتم عدلان, 20/4/2011 6- المحبوب عبد السلام, مصدر سابق, ص 303 7- حسن مكي, الحركة الإسلامية في السودان, مصدر سابق, ص 180 8- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, تقرير التنمية العربي 9- حسن الترابي, الحركة الإسلامية, مصدر سابق, ص 165 10- عبد الإله بلقزيز, أزمة التعليم التي أنجبت صعود الإسلام الحزبي, أنظر هذا الموقع: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/e7e446f3-8fca-44db-9f26-4c7b4fcbf314 11- التيجاني عبدالقادر, نزاع الإسلاميين: مقالات في النقد والإصلاح, 2008, ص 287 12- التيجاني عبد القادر, نزاع الإسلاميين ص 288 13 - التيجاني عبد القادر (وهو أحد القيادات الإسلامية الناقدة للتجربة الإسلامية في السودان), صحيفة الأحداث 16/4/2011 14- السيد ياسين [محرر], الترث وتحديات العصر, الطبعة الثانية, مركز درسات الوحدة العربية, بيروت, 1987, ص 440 15- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, تقرير التنمية العربي الأول, 2004 16- أنظر في هذا الشأن فتاوي هيئة علماء السودان, وفتاوي د. عبد الحي يوسف في كتبه الصادرة عن دار مشكاة وفي كتابه: الدولة في الاسلام, دار مشكاة, الخرطوم, ص 59, وفتاوي الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة 17- عبد السلام, ص 119 18- عبد السلام, 119 19- حسين سعد: الأصولية الإسلامية العربية المعاصرة, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, 2006, ص 248 20- حسن الترابي, الحركة الإسلامية, مصدر سابق, ص 156 21- الطيب زين العابدين, الحركة الإسلامية ووحدة السودان, مصدر سبق ذكره 22- التعبير لـ د. عبدالوهاب الأفندي في وصف فشل مشروع الحركة الإسلامية في السودان. ندوة: الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي تجارب واتجاهات, المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, الدوحة, 6-8/ 10/2012. 23- شمس الدين ضوالبيت, الحركة الإسلامية السودانية في السلطة- إشكالات المنهج والتطبيق, مشروع الفكر الديمقراطي, سلسلة قراءة من أجل التغيير 13, الطبعة الثانية, 2014, هامش 68, ص 149