إشكالية العلاقة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى

 


 

 


"والكلام المسكوت عنه"
تحليل تاريخى سيكلوجى
mailto:helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج

الحلقة (5/7)

دارفور ونظام الإنقاذ:
ظنَّ أهل الإنقاذ, وهم أقليَّة فى محيط السياسة السودانية, إمكانية تجيير دارفور لصالح كسب سياسى كبير وتحويل ولاء أهلها التقليدى لحزب الأمة لصالح الجبهة الإسلامية القومية, مع تركيز خاص على القبائل العربية لدعم التوجه الرسمى للدولة فى إطار ما أسموه المشروع الحضارى. لكن إن رأى أهل الإنقاذ فى دارفور كنزاً مليئاً بالغنائم السائبة فإنهم فشلوا فى العثور على, أو حتى تطويع, المفتاح المناسب لفتحه وإستثماره.
    مشكلة دارفور المزمنة تتمثل فى التخلف والجهل والفقر جراء عدم وجود أي مشاريع تنموية تتناسب وحجم سكانه وإتساع رقعته الجغرافية (تعادل مساحة فرنسا!) وغياب الخدمات الإجتماعية الضرورية من تعليم وصحة و تدهور مريع للطبيعة نتيجة الجفاف فى العقود الأخيرة, مع أهمال الحكومات المتعاقبة كل هذه الأمور وتجاهل مطالب المواطنين هناك, أى ببساطة تهميش الإقليم فى مواعين الثروة والتنمية الإجتماعية والإقتصادية وتهميش أبناءه فى مواعين السلطة والمشاركة فى الحكم. سلطة الإنقاذ ما عملت إلا لتؤكد كل ذلك وأكثر فى نفوس أهل دارفور, بل وسعت لتقوِّض القليل الموجود أصلاً من المشاريع الإقتصادية فى سياسة بدت وكأنها مدفوعة بدافع إنتقامى, أو كشيئ فى نفس يعقوب, وهى إن تفعل ذلك تحاول فى نفس الوقت كسبهم سياسياً, فكيف يستقيم الظل والعود أعوج!

    بجانب عدم إنشاء أى مشروع تنموى فى دارفور خلال الأربعة عشر عاماً الماضية منذ إستيلائها على السلطة, أعادت حكومة الإنقاذ عقارب الساعة إلى الوراء متمثلاً فى الآتى:
(1) حل مشروع جبل مرة الزراعى وبيع آلياته فى المزاد العلنى.
(2) تصفية مشروع غرب السافنا لتنمية الموارد الطبيعية بمناطق جنوب دارفور.
(3) تصفية مشروع غزالة جاوزت للإنتاج الحيوانى.
(4) إهمال مشروع أم بياضة الزراعى.
(5) إهمال مشروع ساق النعام ومد مدينتى الفاشر ونيالا بمياه الشرب النقية.
(6) محاولة قفل جمارك مليط فى بداية التسعينات وفتح نقطة جمارك فى دنقلا مع محاولة إغراء الشاحنات التجارية القادمة من ليبيا بتغيير إتجاه مسارها إلى دنقلا بدلاً عن دارفور.
(7) تحويل خطة الزعيم الليبى العقيد معمَّر القذافى لرصف طريق الكفرة الفاشر وإستبداله بطريق الخرطوم العيلفون (60 كيلومتر!).
(8) إستقطاع منطقة العطرون الغنى بمادة العطرون بشمال دارفور وإضافتها إلى الولاية الشمالية.
(9) الإعتداء الغاشم على أموال طريق الإنقاذ الغربى.
(10) غمط حق دارفور فى الإتفاقية الحصرية لتصدير المواشى السودانية للأسواق العالمية.
(11) أنشاء مصفاة البترول فى المجلد بالرغم من أنًّ حقول الإنتاج بمنطقة أبوجابرة بجنوب دارفور.
(12) إهمال تطوير منطقة أبو جابرة البترولية.

    من بين كل تلك المآسى تبقى النقاط الخمسة الأخيرة قمة الإستهتار والإستفزاز لأهل دارفور, فمنطقة العطرون فى دار الميدوب ظلت جزءاً أصيلاً من دارفور وسلطناتها التاريخية أى منذ ما قبل تشكيل سودان اليوم بقرون عديدة, ولذلك لا توجد مندوحة واحدة تبرر أستقطاعها وضمها للولاية الشمالية سوى "قوة عين" لسلب دارفور من ثرواتها الملحية والمعدنية المتوافرة. لقد ظلَّ أهل مدينة الفاشر يتهامسون عن نوايا غير طيبة للمرحوم الزبير محمد صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية تجاه دارفور ويتهمونه سراً بأنه كان وراء محاولة قفل محطة جمارك مليط وضم منطقة العطرون للولاية الشمالية, وقد حدث كل ذلك ونظام الإنقاذ كانت فى قمة هيجانها وبطشها بكل من يقول كلمة حق فى وجهها ولذلك سكت الناس, لكن سكتتهم كانت تقول كلاماً كثيراً عن تبرمهم و شعورهم العميق "بحقارة" أهل الشمال لهم, إذ لم يكفهم فقط غمطهم لحقوق أهل دارفور فى دوائر الثروة والسلطة القومية بل إمتد ذلك ليشمل حتى أموالهم و ديارهم وأراضيهم التى توارثوها صاغراً عن كابر ويشهد به العالم كله كحقهم الخالص لهم, وبحلول عام 1992م إقتنع أهل الفاشر بحقيقة إستهداف النائب الأول لدارفور فشطبوه من خيالهم, وكان عندما يزور الفاشر بعد ذلك لا يجد فى المطار من يستقبله سوى الوالى وأهل الحكومة من الرسميين والتنفيذيين لزوم الشغل. مهما حدث من أمر ستظل منطقة العطرون جزءاً عزيزاً من دارفور على مرِّ العصور وسترجع إليها آجلاً أم عاجلاً لأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه.

طريق الإنقاذ الغربى:
    وإذا كان الفساد ونهب المال العام بدون وجه حق قد صار سمة لنظام الإنقاذ منذ يومه الأول فإنَّ الفساد الذى صاحب أموال طريق الإنقاذ الغربى قد فاق حدود التصور خاصة لنظام يدعى أنه أتى لتطبيق العدالة والإنصاف فى ظل الشريعة الإسلامية, وستظل تمثل قلادة بارزة فى مسلسلات النهب الصريح فى كل التاريخ السودانى, وتتعدى الفساد المالى العادى إلى قضية أخلاقية خطيرة, ولكن المؤلم, بل والمحيِّر, أن نظام الإنقاذ لم تفعل شيئاً تجاه تلك الجريمة سوى السكوت لكن السكوت حول ذلك لن يجدى وسوف لن تنطفئ نار هذه القضية بل العكس ستظل متأججة إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولا.
لقد كثرت الأقاويل حول أموال طريق الإنقاذ الغربى والذى بادرأهل دارفور بجمعه كمبادرة منهم, بخلاف مشاريع الطرق القومية الأخرى التى تمولها الدولة كاملاً بل وتجلب لها تمويلات عالمية, وذلك من من خلال حرمان أنفسهم وأطفالهم من طعم السكر المخصص للإقليم والمدعوم من الدولة و إعادة بيعه بالسعر التجارى ثم تحصيل الفارق وحفظه فى حساب خاص عند الحكومة يمثل مساهمة أهالى دارفور من أجل بناء ذلك الطريق القومى الحيوى الذى تقاعست كل الحكومات السودانية المتعاقبة عن بنائه. لقد تجمعت عن تلك المبادرة مبالغ طائلة بلغت فى جملتها أكثر من 126 مليار جنيه (12,600,915,297 دينار تحديداً) ذهب معظمها فى حسابات مشكوك فى صحتها. ولمَّا كان العثور على الحقيقة فى عهد الإنقاذ أندر من لبن الطير فإن التفاسير ذهبت شتى مذاهب عن حقيقة أوجه صرف تلك المبالغ الطائلة, فتقول بعض المصادر بأنها قد صُرفت فى بناء طريق التحدى (الخرطوم-شندى-عطبرة) من خلال تحويل الآليات الثقيلة التى أُستجلبت للعمل فى طريق الإنقاذ الغربى فإتجهت شمالاً إلى ذلك الطريق, ومن قائل بأن جزءاً من تلك الأموال إستخدمها الترابى لتمويل الحرب فى الجنوب والشاهد على ذلك أنَّ نائباً من دارفور بالمجلس الوطنى, حين كان الدكتور الترابى رئيساً له, حاول إثارة موضوع أموال الطريق ودخل فى مساجلة مع الترابى حيث أمره هذا الأخير بالجلوس والصمت ولم يُطرح الموضوع مرة أخرى بالمجلس إلى أن غادره الترابى وذهب معه ذلك المجلس, إلاَّ أن مصادر متنفذة فى الحكومة والحركة الإسلامية أشارت سرَّاً إلى أنَّ معظم تلك الأموال تم إنفاقها فى إنشاء مجمع جياد الصناعى, ذلك اللغز المحيِّرالذى لا يدرى أحد من العامة مصادر تمويله أو المالكين الحقيقيين له, ولمَّا كانت هنالك بعض الإشاعات توحى بملكيةَ هذا المجمع الصناعى للحركة الإسلامية العالمية فإن طرفى الجبهة الإسلامية (المؤتمر الوطنى والمؤتمر الشعبى) تفاديا التصريح علانية بشأن تلك الأموال. ولو كان نظام الإنقاذ واضح وصريح مع أهل دارفور وكل أهل السودان عن ظروف تلك المشكلة وتمليك حقائقها للرأى العام لما تفشت تلك الإشاعات, على كل, ومهما تكن من صحة أو عدم مصداقياتها, إلا أن المؤكد أنَّ حكومة الإنقاذ لم, ولا, ولن تود أن تكشف الحقائق كاملة عن مصير أموال ذلك الطريق, أو حتى الرغبة فى الحديث عنه, يدل على ذلك مقولة الدكتور على الحاج (من المؤتمر الشعبى) "خلوها مستورة"!! وتأكيد الرئيس البشير (من المؤتمر الوطنى) على ذلك بقوله "شكوناهم لله"!! ولما ضاق السيد أمين بنانى وزير الدولة السابق بوزارة العدل, والذى كان ممسكاً بملفات الفساد المالى ومن ضمنها طريق الإنقاذ الغربى, بمماطلة الحكومة والمجلس الوطنى فى أن تفعل شيئاً حيال تلك القضية وهدد بكشف المستور أُقيل من منصبه! و تصر حكومة الإنقاذ أن يذهب أمر طريق الغرب فى طى النسيان, وكما عبر بيان صادر عن رابطة أبناء دارفور بأمريكا الشمالية أن "الإنقاذ قد خان أهل دارفور في حرمة أموالهم وبددتها لهم شذر مذر وأخرجتها لهم "كسور وبواقى" فلا هى بنت لهم الطريق ولا هى أرجعت إليهم أموالهم كما هى, وبينما تتشقق الطرق القومية شمالاً وشرقاً وجنوباً تربط ما بين أنحاء البلاد يظل أهل دارفور لا بواكى لهم حيث يبدو أن مشروع ذلك الطريق الوحيد والذى من المفترض أن يربطهم بدولة السودان ولأول مرة فى التاريخ قد تم حذفه تماماً عن خطة المشروع الحضارى لنظام الإنقاذ" (إنتهى).
    حقيقة يبدو أن نظام الإنقاذ قد تعمد طى ملف الطريق نهائياً عن برامجه التنموية فحتى خلال الأزمة الراهنة فى دارفور والإتهامات المرفوعة من سكانها بالتهميش التنموى, وإبرازهم لقضية طريق الإنقاذ الغربى كحقيقة مجسمة على أرض الواقع, إستنكف كل من الرئيس ونائبه عن الإعتراف بذلك أو حتى الإشارة إليه فى خطبهم الرسمية أو تصريحاتهم الصحفية حتى بدا وكأن شيئاً مدبراً فى الخفاء لا يودون إطلاعه على الملأ. ولما لم تجد الحكومة بداً من الحديث, فى خضم الأحداث الدائرة الآن بالإقليم, صرح النائب الأول فى زيارته الأخيرة للفاشر فى نهاية شهر يوليو الماضى أن حكومته قد أبرمت عقداً مع شركة شريان الشمال! بقيمة 10 مليار دينار لرصف 225 كيلومتراً من الطريق فى ظرف سنتين! حيث تعمد أن يذكر الطول الحقيقى للطريق, والذى يتجاوز الألف كيلومتر, أو أن يشير إلى تلك الأموال الطائلة التى جمعها المواطنون من دم قلوبهم. لقد كان من المفترض أن يكون ذلك الطريق شيخ الطرق السودانية وأول مشروع قومى رائد للطرق إذ يشكل جزءاً من الطريق القارى العابر لأفريقيا من الشرق إلى الغرب, لكن بعد مرور نحو نصف قرن من محاولة تنفيذه ينطبق عليه المثل "كأنك يا زيد ما غزيت"!. إن أكثر صادرات السودان تأتي من الغرب, ففي الوقت الذي تمنى أهلوها بناء طريق يحملون عليه صادراتهم إلى أسواق القطر الداخلية والأسواق العالمية كانت الإنقاذ تبني طريقين شرق النيل وغرب النيل للشمالية, التي هجرها أهلها, فما هي الجدوى الاقتصادية لهذين الطريقين غير زيارة المتبقين من الأهل؟ هل يمكن أن تجري مقارنة نزيهة بين جدوى طريقي الشمالية وطريق الغرب؟ وإذا أمكن أن تقف على حجم الإسهام الدارفوري في الدخل القومي من خلال قراءة سريعة لصادرات السودان نجد أنها فى تنامى متزايد خاصة فى مجال الثروة الحيوانية والبترولية والإمكانيات الواسعة لمنطقة جبل مرة المعطلة بسبب عدم وجود المنافذ للأسواق الداخلية والخارجية, وعليه فلنتساءل لماذا تجاهلت الدولة إستقطاب قرض لإنجاز ذلك الطريق أسوة ببقية الطرق القومية الأخرى أم أنَّ الأمر فيه خيار وفقوس!
    لقد ظلَّ قادة الإنقاذ ومناصروهم من صحفيى ومثقفى وسط شمال السودان النيلى يسخرون من شكاوى أهل دارفور من تهميش منطقتهم فى مجالات الثروة ومشاريع التنمية الإقتصادية والإجتماعية بالرغم من إعتراف غالبية السودانيين بذلك, وللأسف فبعد مرور 14 عاماً على حكم الإنقاذ فإنَّ لا أحداً فى السودان اليوم يمكنه الإشارة إلى مشروع تنموى واحد نفذته الإنقاذ فى دارفورأسوة ببقية مناطق السودان الأخرى. وبينما تشرع الدولة فى تخطيط وتنفيذ والبحث عن تمويل للمشاريع بالولايات المختلفة نكاد لا نجد حظاً لدارفور فى ذلك, فمثلاً قرأنا فى الصحف مؤخراً أنَّ وزارة الطرق والجسور قد أعلنت عن فرز عطاء طريق عطبرة هيا (بنهاية شهر مايو الماضى) تمهيداً لبدء العمل فيه "بتمويل" من الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي!, فهل قامت الدولة يا ترى بالبحث عن تمويل لطريق الإنقاذ الغربى, حتى بعد أن فرطت فى أموال المواطنين الذين إئتمونها من أجل ذلك؟؟ ويؤكد النائب الأول عند إفتتاحة بدء العمل فى مشروع سندس الزراعى أنَّ تكلفته التى بلغت (75) مليون دولار تعتبر زهيدة!, يا سلام, إذن ما له يستكثر مبالغ أقلَّ من تلك لإنشاء مشاريع أكثر ربحية وإنتاجاً فى دارفور مثل تطوير الإنتاج الحيوانى والتى إحتلت مساهمتها فى إجمالى الدخل القومى اليوم المرتبة الثانية بعد البترول؟؟ وعندما يطالع مواطن من دارفور أنَّ الدولة تسعى لتأمين 2 مليار دولار لتمويل سد الحمداب, أو 409 مليون دولار لمشروع سكر النيل الأبيض, أو 12 مليون دولار لتأهيل مشروع القاش, أو 25 مليون دولار لتأهيل محالج مشروع الجزيرة فلا غبار عليه إن تساءل عن حظ إقليمه فى قسمة تلك الكيكة الكبرى التى تسمى الثروة! أحلال لغيره حرام له؟ أم كيف يمكن تفسير ذلك الأمر له؟
إن مواطن دارفور ليسعده أن يعم الخير كل ربوع السودان وأن ينعم أهله بكل التقدم والرفاهية لكن يجب أن يتم ذلك فى ظل العدالة والمساواة مع بقية المناطق الأخرى بحيث يشعر كل مواطن فى هذا السودان بأنه ينتمى لهذا البلد حقاً وحقيقةً. إنَّ فوائد إنشاء مشروع تنموى واحد فى أى مكان لا يتوقف فقط على ما يدره ذلك المشروع من دخل مباشر بل إنَّ العوائد الإقتصادية والإجتماعية لسكان المنطقة تتعدى ذلك بأضعاف مضاعفة, فمثلاً مشروع سكر النيل الابيض الذي يقع في منطقة الكوة سيتمثل آثاره المتوقعة فى إنعاش المنطقة اقتصادياً وتوفير فرص عمل لمختلف الشرائح الإجتماعية من عمال موسميين وعمال مهرة ومهندسين وفنيين وموظفين وزراعيين بالإضافة إلى الفوائد غير المقدرة مالياً مثل تخضير المنطقة وخفض درجات الحرارة. وإذا طبقنا ذلك على مشاريع أكبر حجماً وأضخم رأسمالاً, مثل خزان الحمداب مثلاً, يتضح لنا مدى إستفادة أهالى تلك المناطق وتخلف المناطق المحرومة عن قصد مثل دارفور. مثل هذه الإخفاقات يعكس عدم التوازن والإنصاف فى التخطيط القومى للبنى التحتية ومشاريع التنمية وإنسان دارفور لا ينظر لذلك بعين حاقدة وإنما يطلب المساواة فقط حيال ذلك.

    لقد جاءت الإتفاقية الحصرية لتصدير المواشى السودانية للأسواق العالمية, والتى تم إحتكارها للأمير البليونير السعودى الوليد بن طلال, فى مخالفة واضحة لأصول الفقه الإسلامى فى شئون المعاملات التجارية التى تقوم ضد مبدأ الإحتكار ثم ضد توجه الدولة ذاتها نحو تطبيق سياسة السوق الحر فى مجال النشاط الإقتصادى, لتولد حالة من الشكوك والجدل العنيف بين مصدرى الماشية الذين تضرروا جراء ذلك القرار وبين وزارة التجارة الخارجية التى أصرَّت على إنفاذها رغم المحاذير التى أشارت إليها الصحافة وبعض الجهات المسئولة فى الدولة. لقد تطورت صادرات البلاد من الثروة الحيوانية من لحوم الأبقار الحية والمذبوحة والجمال والضأن والأغنام وأصبحت تحتل المرتبة الثانية فى الدخل القومى حيث تأتى بعد البترول مباشرة متخطيةً الإنتاج الزراعى, وبمتوسط دخل لا يقل عن 400 مليون دولار سنوياً, يمكن أن تزداد إضطراداً إذا توفرت لتلك الثروة المعينات الصحية والمراعى الجيدة, لكن ما يهمنا فى هذا الأمر هو تجاهل الدولة لنصيب الولايات التى تنتج الثروة الحيوانية من تلك المبالغ الطائلة, والتى يجب أن تذهب جزءاً منها للتنمية الإقتصادية والإجتماعية المحلية فى تلك الولايات, خصوصاً لجهة تنمية القبائل الرحل ومحاولة تقديم خدمات التعليم والصحة لهم ولحيواناتهم, إضافة إلى وضع الخطط لتوطينهم وإستقرارهم دون أن تتأثر ثرواتهم الحيوانية بذلك. وكمثال فقد ظلَّ مشروع الجزيرة ومنذ إنشائه يستقطع نسبة 5و2% (إثنين ونصف فى المائة) من دخله السنوى تذهب للخدمات الإجتماعية فى منطقة الجزيرة, واليوم نجد أنَّ تلك المنطقة لا تعانى شيئاً فى مجال الخدمات مثل الصحة والتعليم ومياه الشرب النقية والكهرباء والمواصلات والإتصالات. لقد زار عبدالباسط سبدرات مدينة الفاشرفى مطلع التسعينات, وكان وقتها وزيراً للتربية والتعليم, فخاطب مجتمع أهل الفاشر فى ليلة حاشدة وتحسَّر أن يجد أن عدد المدارس الثانوية فى دارفور كلها أقَّل من تلك الموجودة فى مدينة واحدة من مدن وسط السودان, والظن أنه كان يقصد مدينة ود مدنى, المهم فى الأمر أن دارفور وحدها تنتج حوالى نصف الثروة الحيوانية بالبلاد, إذ أنَّ هناك جزءاً من شعبها بأكمله يُعرفون بالبقارة, ويعيشون فى جنوبى مناطقها يرعون الأبقار, وجزء آخر يُعرفون بالأبَّالة ويعيشون فى شماليها يقومون بتربية الجمال, وبين هؤلاء وتلكم قبائل كثيرة تربى الضأن والأغنام. ومنذ مطلع التسعينات تلاحظ تدفق كثير من شركات تصدير الماشية السودانية إلى دارفور, خاصة مناطق نيالا والضعين وبرام, لشراء الماشية بأسعار بخسة وإعادة تصديرها للخارج بالعملة الصعبة, لكن طالما إستلمت الإتفاقية الحصرية ذلك النشاط وبرعاية الدولة فيجب أن تشتمل إتفاقيتها على بند ضريبى واضح يذهب لصالح التنمية المحلية, وبحسابات بسيطة يمكن أن يدر ذلك ما بين 5 إلى 10 مليون دولاراً سنوياً ستساعد دارفور حقاً فى الوقوف على قدميها. لكن طالما الأمر يتعلق بدارفور فإن نظام الإنقاذ لا يهتم بذلك فى الوقت الذى تناقش فيه نصيب الولايات الأخرى من الثروة القومية (البترول تحديداً) الموجودة فى داخل حدودها فى مفاوضات السلام بكينيا.

لقد ذكرنا أعلاه أنَّ نظام النميرى حاول تجيير البترول المكتشف بحقل أبى جابرة فى جنوب دارفور لصالح كردفان, أمعاناً لحرمان دارفور من أى خير فيها, ثم جاءت الإنقاذ لتؤكد ذلك بالبيان العملى فقامت بإنشاء أول مصفاة صغيرة للبترول بطاقة 2000 برميل فى اليوم, تتوسع الآن لطاقة 5000 برميل يومياً, فى منطقة المجلد بجنوب كردفان بالرغم من أنًّ حقول الإنتاج تقع فى منطقة أبوجابرة بجنوب دارفور, وهى أقرب لمدينة الضعين منها إلى المجلد بأقل من نصف المسافة. فبعد تركيب المصفاة كان النفط الخام ينقل من آبار أبى جابرة إلى المجلد بالتناكر لمسافة طولها 147 كيلومتراً بينما المسافة بين تلك الآبار والضعين هى 60 كيلومتراً فقط. وإذا تعللت الحكومة بخط السكة الحديد فالمدينتان تقعان عليه, بل إن محطة ومدينة الضعين أكبر فى حجمهما وتجهيزاتهما من محطة المجلد, إضافة لذلك فإن منطقة الضعين وما جاورها من ديار البقارة تعتبر من أكبر المناطق ذات الكثافة السكانية على مستوى السودان وبالتالى فى مستوى الإستهلاك من المواد البترولية, إذاً ما الذى يمنع من إنشاء تلك المصفاة بالضعين, بدارفور, خاصة بعد أن تأكد سعى الحكومة لإنشاء مصفاة أكبر حجماً وأكثر تعقيداً بمدينة الأبيض حاضرة كردفان بسعة 10000 برميل فى اليوم, تتوسع الآن لطاقة 15000 برميل؟

    وبينما يتباهى وزير الطاقة بإنشاء المشاريع الإجتماعية ومد الخدمات لأهالى مناطق إنتاج البترول فى كل من ولاية الوحدة والهجليج ويستصحب الوفود والمنظمات العالمية لحقوق الإنسان ليطلعهم على إنجاز وزارته وإنصاف حكومته لأهل تلك المناطق تظل منطقة أبوجابرة بجنوب دارفور مهملة و دون خدمات مماثلة, فإذا كانت تلك المنطقة تنتج الآن ما مقداره 5000 برميل من النفط يومياً قابلة للزيادة وتشغل مصفاة المجلد فينبغى لأهالى المنطقة الإستمتاع ببعض خيرات ذلك المشروع مثل عباد الله الآخرين, وقد سبق للحكومة أن أجلت مجموعات كبيرة من قبيلة المعاليا التى تقطن المنطقة من أراضيهم وفتحها للإستكشاف والتنقيب دون أن تعوضهم شيئاً مقابل ذلك وإضطروا للنزوح إلى أماكن جديدة عليهم دون ضمانات من أنهم سيرحلون منها أيضاً إذا رأت الحكومة ذلك, لكن طالما أن الحكومة قد إنتهجت مبدأ تعويض الأهالى نسبة لفقدان أراضيهم وممتلكاتهم, خاصة فى مشاريع بعينها كما نشاهد, فيجب أن تتساوى فى ذلك كل المناطق على مستوى البلاد.

إن قضية إستخدام الثروة البترولية فى دفع برامج التنمية الإقتصادية والإجتماعية الشاملة فى السودان تحتاج إلى وقفة ومراجعة عميقة لأن ما يحدث الآن لا يعبر بتاتاً عن ذلك القصد أو حتى يقترب منه. البترول الذى يصدر الآن وتمتلئ خزائن النظام من عوائده يُضخ كافة من أراضى الإقاليم الجنوبية والغربية, وكل التوقعات تشير إلى أن تلك المناطق تستحوذ على معظم مكامن النفط السودانى, فماذا لقيت تلك الأقاليم من مشاريع التنمية مقابل ذلك؟ المشاهد الآن أن معظم عائدات البترول تذهب للإقليم الشمالى ولا يقدر إلاَّ المتنطعون من نكران ذلك إذ يكفى, كما أشرنا اعلاه, إلى بناء طريقين (وليس طريقاً واحداً) يربطان الإقليم الشمالى بالعاصمة ووسط السودان, هما طريق الخرطوم-شندى-عطبرة, والذى سيمتد إلى أبى حمد شمالاً وإلى هيا وبورتسودان شرقاً, ثم الطريق الجديد دنقلا- أم درمان, والمخطط له أن يمتد إلى وادى حلفا شمالاً ومنها إلى مصر, أى أنَّ الحكومة تبنى طريقين شرق وغرب النيل, لكن المفارقة فى إنَّ كل المبالغ المستدانة لإنشاء هذين الطريقين سيغطيان غالباً من عوائد البترول! أضافة لذلك فقد تمَّ التوقيع على إنشاء سد الحمداب لتوليد الطاقة الكهربائية وإمكانية زرع ملايين الأفدنة بالقمح فى الإقليم الشمالى, هذا السد سيكلف فوق الأثنين مليار دولار وسيتم تغطية تمويله أيضاً من إيراد البترول المنتج من أقاليم الجنوب والغرب اللتان تحملان ذلك البترول فى إحشائيهما بينما تظلان عطشى لإيراداتها, وإلا فمن أين للإقليم الشمالى من موارد لتغطية مثل تلك المشاريع الضخمة, وبينما يندفع أبناء شمال السودان النيلى فى نهب خيرات غرب وجنوب السودان لصالح أهاليهم نجد أنَّ تلك المناطق قد تركوها لرحمة ربِّها فلا طرق ولا كهرباء ولا تنمية, ولمَّا إحتج أبناء دارفور بسبب غياب التنمية والخدمات قالوا لهم إنَّ مشكلتكم تتركز فقط فى العطش فققروا رصد مبلغ 25 مليون دولار بقرض من البنك الإسلامى للتنمية, وحتى ذلك إستكثروها عليهم فتم خفضها إلى 15 مليون دولار فقط لإرواء كل دارفور, والتى يبلغ عدد سكانها أكثر من عشرة أضعاف سكان الإقليم الشمالى التى خططت الحكومة لإنفاق حولى ثلاثة مليارات دولار لتنمية سكانها الذين لا يتعدى عددهم عن نصف مليون! فأين العدالة إذاً؟ وإذا علمنا أنَّ البنك الإسلامى للتنمية كانت على إستعداد لصرف مبلغ 25 مليون دولار لمشاريع المياه, وبالفعل أرسلت وفدها لمراجعة تقييم المشاريع المرصودة, فلماذا لم تضغط عليها الحكومة للإلتزام بذلك المبلغ المقرر سلفاً ومد خدمات المياه للقرى التى يسير سكانها وحيواناتهم ليوم كامل فى سبيل الحصول على شربة من الماء من مناطق بعيدة؟ حتى تلك المصفاة الهائلة التى بنيت شمال الخرطوم, وعلى مقربة من الإقليم الشمالى, وتعتمد على النفط الخام المجلوب من جنوبى وغربى البلاد, تم حجز الوظائف فيها لأبناء الإقليم الشمالى, إذ لم يخجلوا حين طلبوا فى أورنيك التقديم للوظائف فيها توضيح إسم القبيلة! ذلك ما إكتشفه السيد محمد عبدالله جار النبى عضو الهيئة البرلمانية من كردفان وأثاره فى وجه وزير الطاقة, دكتور عوض أبو الجاز, فى تقرير عن أداء وزارته أمام المجلس الوطنى, بداية عام 2003م, والذى بدوره أقسم بأن ليس لديه علم بذلك وإذا علم فإنه سيستقيل! بالرغم من إبراز نسخة من ذلك الأورنيك أمام سيادته. وبالطبع, وكعهد الشعب السودانى بنظام الإنقاذ, لم نسمع بتحقيق جرى حول تلك الفضيحة, أو حتى صدور قرار رسمى علنى بإلغاء تلك الأرانيك, فمن هو العنصرى يا ترى؟ وما معنى العنصرية إزاء هذه الحالة؟

    تلك فى مجال توزيع الثروة, أما إذا تناولنا مسألة المشاركة فى السلطة فتبدو المسألة أكثر غرابةً, وبداية وبنظرة واحدة لمختلف الوزارات التى تشكلت فى عهد الإنقاذ نجد أن أبناء دارفور لم يتخطوا وزارات "الزينة" من أجل إيهام أهاليهم تمثيلهم بعدالة فى ماعون الحكم, إلا أنَّ حادثتين فى مسار الإنقاذ تكشف بسهولة زيف ذلك الإدعاء, أولهما التوتر والمنافسة الحادة التى جرت بين الشفيع أحمد محمد طاهر والدكتور غازى صلاح الدين العتبانى حول منصب أمين اللجان الشعبية خلال النصف الأول من التسعينات, وإعادة سيناريو الصراع بين أولاد الغرب وأولاد البحر, وبالرغم من فوز غازى بالمنصب إلاَّ أنَّ بعض المصادر شككت فى حقيقة فوزه خاصة بعد أن صرح بعض قادة الإنقاذ بعد الإنشقاق أنَّ كل الإنتخابات التى تمت فى عهد الإنقاذ سواء على مستوى الجماهير أم الحزب كانت مزوَّرة!
    الحادثة الثانية جاءت بعد مصرع الزبير محمد صالح نائب رئيس الجمهورية فى حادثة جنوح طائرة عسكرية بمنطقة أعالى النيل, تقول الروايات, والعهدة على الذين كانوا قريبين من مراكز السلطة, أن الدكتور الترابى, عرَّاب النظام النافذ تلك الأيام, قد رشَّح نائبه فى المؤتمر الوطنى الدكتور على الحاج محمد للمنصب الخالى لكن الرئيس البشير تجاوز ذلك وقام بتعيين على عثمان محمد طه, وزير الخارجية آنذاك, كنائب له, فخلا تبعاً لذلك منصب وزير الخارجية, فقام الترابى بترشيح السفيرمهدى إبراهيم للوزارة لكن البشير تجاوزه مرة أخرى وعيَّن الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل, الأمين العام لمجلس الصداقة الشعبية العالمية آنذاك, وزيراً للخارجية. وإذا علمنا أن البشير وعلى عثمان ومصطفى عثمان كلهم من الإقليم الشمالى, وأنَّ على الحاج ومهدى إبراهيم كلاهما من غرب السودان, تكون الصورة قد إكتملت تماماً لإبعاد أبناء غرب السودان عن مراكز الحكم القوية ووزارات السيادة والإكتفاء برميهم فى وزارات الدرجة الرابعة (أو وزارات اللعب, كما وصف الأب فيليب غبوش ذات مرة) مثلما ظلت كل الحكومات الشمالية تعامل بها مواطنى جنوب السودان منذ الإستقلال, فحتى ومع إصرار شيخهم الترابى لإختيار واحداً من أبناء الغرب لملأ إحدى المنصبين إلاَّ أنَّ أبناء الشمالية قد وقفوا ضده وسفهوه, لقد كان الترابى يرمى لأهداف بعيدة لم يدركه تلاميذه من قادة الإنقاذ الذين فتنوا بالسلطة, فالجبهة الإسلامية كانت قد نجحت فى التمدد إنتخابياً فى الثمانينات وإخترقت مناطق الإتحاديين الحصينة فإنتزعت منهم دوائر برلمانية قوية فى الشمالية وكسلا فى إنتخابات الديمقراطية الثالثة التى جرت عام 1986م, والآن والسلطة بيدها فهى تريد أن تتمدد فى إتجاه قواعد حزب الأمة العصية فى غرب السودان ولهذا كان لا بد من بناء إستراتيجية لإغراء الأهالى هناك بمظاهر السلطة, وكون أن يكون نائب رئيس الجمهورية واحداً من أبنائهم فلا شك فيه أنهم سوف يبادلون الجبهة الوفاء فى أول إنتخابات ديمقراطية قادمة. لقد كانت خطة الترابى بعد تنفيذ إنقلابه أن يستقوى ويمسك بمفاصل السلطة والثروة والإعلام ثم يفتح الباب على مصراعيه, وبسرعة, للتنافس الحزبى حيث يمكنه الفوز بسهولة فى إنتخابات برلمانية مفتوحة على عجل, خاصة بعد عزلة السودان بعد حرب الخليج الأولى وتصاعد حرب الجنوب, لكن حواريوه قليلى التجربة أبوا إلا أن يفسدوا عليه خططه الإستراتيجية ولما عاندهم لاحقاً رموا به فى السجن, أما المجموعة الخاسرة من أبناء الغرب فلم تتمكن من إبتلاع الغبن والضيم والتهميش الذى شعروا به فقاموا بإصدار الكتاب الأسود والذى أيده الترابى ضمناً بتساؤله عمَّا إذا كانت هنالك معلومة غير صحيحة وردت فى تلك الوثيقة.

الكتاب الأسود:
لا زلت أذكر أول رد فعل لصحافة الخرطوم عند ظهور الكتاب الأسود عام 1999م إذ نعتته الأفلام المنحازة مباشرة بالفتنة والجهوية والعنصرية, وهى كلمات ظلت قريبة من شفاه وأقلام مثقفى وسط شمال السودان النيلى عندما يتعلق الأمر بدارفور. لقد ظنوا أنَّ الحقيقة غائبة حتى صدور ذلك الكتاب بتلك الصورة الموثَّقة والرصد الدقيق بحيث لم يترك حجة لأحد, ولأنَّ الحقيقة دائماً مُرة فقد فجَّر الكتاب مواقف متباينة, فبينما عضدت من شكاوى أهل المناطق المهمشة فى الغرب والجنوب والشرق من تهميشهم فى مواعين السلطة ورصده لذلك بدقة إندفع أبناء وسط شمال السودان النيلى إلى كيل الإتهامات الجزافية متناسين الحقائق التى وردت فى الكتاب, وبالتالى لم تحقق مكابرتهم سوى توسيع الهوة بين الجانبين التى هى بالأساس متسعة بإطراد, فتنافرت النفوس أكثر بين أبناء الغرب والشمال, وبدأ الكل يكيل الإتهامات والتلافيق والكلمات المؤلمة لبعضهم البعض ويحاول كل جانب أن يدافع عن نفسه, خاصة فى أوساط طلاب الجامعات, والسبب ببساطة هو الحقائق التي ظهرت على ذلك الكتاب حيث وضح بالحرف والكلمة والدليل أنَّ هنالك فئة معينة من أبناء الشعب السوداني محتكرون للسلطة وجُلَّ الثروة, وقد وضح تماماً خلال تلك المساجلات أنه إذا كان ابناء الغرب قبل صدور ذلك الكتاب لم يحتجوا أو يكشروا عن أنيابهم حول تلك المسألة فإنه لا يعني أنها كانت غائبة عنهم فالظلم تجاه دارفور موجود منذ ما قبل الاستقلال.
 لقد بذلت الحكومة جهداً كبيراً لمحاصرة ذلك الكتاب ونعتته بالفتنة بل وهدد والى الخرطوم دكتور مجذوب الخليفة بمحاكمة كل من يضبط عنده الكتاب, لكنهم نسوا أن الممنوع مرغوب فإنتشر الكتاب إنتشار النار فى الهشيم, خاصة بعد وضعه على صفحات الإنترنت, والآن لا تجد مثقفاً من دارفور إلاَّ وقد قرأ الكتاب أو أمتلك نسخة منه.



















إشكالية العلاقة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى
"والكلام المسكوت عنه"
تحليل تاريخى سيكلوجى

                                                                       helhag@juno.comد. حسين آدم الحاج


الحلقة (6/7)


المفاصلة السياسية والعسكرية الأولى بين دارفور والجبهة الإسلامية القومية:
    لقد جاءت حادثة المهندس داؤد يحيى بولاد عام 1992م كنقطة فاصلة بين الجبهة الإسلامية القومية ممثلة فى نظام الإنقاذ وقبيلة الفور, أكبر قبائل إقليم دارفور, وإنداحت لتشمل معظم القبائل الأفريقية بها. ومهما كان من تطور تلك الأحداث وبتلك الصورة الدراماتيكية إلا أن الحكومة تكتمت عليها بطريقة شبه كاملة لأنها أحرجتها فى المقام الأول, إذ شكلت أول مفاصلة مسلحة بين أحد أبناء الجبهة, مسنود بالحركة الشعبية لتحرير السودان, وحكومتها, وقد جاءت لتعمق الهوة بين الجبهة الإسلامية ومواطنى دارفور خاصة بعد أن سبقتها مفاصلة سياسية لا تقل خطورة بينها وأثنين من كوادرها المرموقين كانا نائبين فى الجمعية التأسيسية الأخيرة عن دارفور هما الدكتور فاروق أحمد آدم (دوائر الخريجين ومن أبناء مدينة كاس بجبل مرة) والسيد عبدالجبارآدم عبدالكريم (دائرة قارسيلا بغرب دارفور), الذان إنشقا عن الجبهة وأنضما إلى الحزب الإتحادى الديمقراطى نهاية عام 1988م بدعوى ضلوع الجبهة فى مؤامرة ضد أهل دارفور.

    جاءت حادثة إنسلاخ النائبين عن حزب الجبهة الإسلامية القومية خلال توتر قبلى عنيف بين قبيلة الفور وبعض القبائل العربية التى أخذت تعتدى وبوتيرة متزايدة على ديار الفور فى جبل مرة وما حولها, زادت من حدتها ضعف حكومة الصادق المهدى فى التصدى الحاسم لها بالرغم من أن المجموعتين تشكلان معاً الجزء الرئيسى من قاعدتها الإنتخابية فى إقليم دارفور, ثم تطور الأمر إلى محاولة تفرقة عنصرية عندما أصدر مجموعة من أبناء القبائل العربية  بياناً وقعوا عليه بإسم "التجمع العربى" ذكروا فيه أن نسبة القبائل العربية فى دارفور تتجاوز 40% من جملة سكانها مما يتوجب إعطاءهم حقوقاً متوازية فى مجالات الحكم والتنمية, بل وطالبوا صراحة بضرورة تغيير إسم الإقليم لأنه يدل على تمييز عرقى. و بينما صمت حزب الأمة عن ذلك, مؤامرة أو مخافة عن شق قاعدته الإنتخابية فى المنطقة, ثارت ثائرة الأحزاب الوطنية الأخرى, خاصة الحزب الإتحادى الديمقراطى, الذى رأى فى الأمر فرصة لكسب قاعدة له فى دارفور, خاصة بين القبائل غير العربية, فقام بشن حملة إعلامية شعواء على ذلك البيان بل وطالب بعض قياداته بإلقاء القبض على موقعيها ومحاكمتهم بتهمة تفتيت الوحدة الوطنية, ويقال أنهم عرضوا سراً تزويد قبيلة الفور بالسلاح للدفاع عن نفسها أمام العدوان الواقع عليها. المهم فى الأمر أن الجبهة الإسلامية القومية لم تفعل شيئاً مؤثراً تجاه ذلك وإلتزمت الصمت من الناحية الرسمية رغم إلحاح نواب دارفور فيها بضرورة عمل شيئ من أجل أهاليهم, والغريب أنَّ صحفها اليومية الخمس ظلت تواصل الهجوم والنقد لحكومة الصادق المهدى فى ذات الموضوع لكن كانت فقط نكاية فيها وليس من أجل إطفاء تلك الفتنة المتنامية, فى تلك الأجواء وبعد أن إقتنع النائبان بوجود إتفاق مبطن وعلى مستوى قيادة الجبهة الإسلامية لتلك المجازر الدموية فى أوساط أهاليهم قررا الإنسلاخ عن الجبهة والإنضمام للقائمة البرلمانية للحزب الإتحادى الديمقراطى كرد فعل سياسى عاصف شغلت الصحف السودانية فى تلك الفترة ردحاً من الزمان. وقد بررالدكتور فاروق أحمد آدم ذلك الإنسلاخ فى المؤتمر الصحفى الذى نظمته أمانة دارفور بالحزب الإتحادى الديمقراطى فى يناير 1989م بأنَّ ما يجرى فى دارفور ليس صراعاً بين العرب والفور وليس نهباً مسلحاً وإنما نهب سياسى ومسلح ومنظم وأن ما يدور فى ذلك الوقت كان من أجل:
(1) إعادة صياغة دارفور سياسياً وإجتماعياً وبالقوة.
(2) تعريب السلطة فى دارفور وتشاد لدعم نظام حكم مجاور وحزب حاكم فى السودان (وأظنه يقصد ليبيا وحزب الأمة).
(3) إستخدام ذلك لإسقاط السلطة (آنذاك) فى تشاد ودفع الثورة العربية وفتح معسكرات فى السودان (د. محمد سليمان محمد, السودان: صراع الموارد والهوية, صفحة 386).

    خرج الدكتور فاروق والنائب عبدالجبار من الجبهة مغاضبين, بعد 25 سنة من عضويتهما فيها, وشكلاَّ بذلك أول مفاصلة سياسية بين حزب الجبهة وأهل دارفور مهدت الطريق لأول مفاصلة عسكرية وتحت نفس الأسباب والمبررات.

لقد تربى بولاد فى أحضان الحركة الإسلامية منذ نعومة أظفاره, إذ حفظ القرآن فى صغره, وقاد نضالها فى أحلك الظروف ضد النظام المايوى, عبر إتحاد طلاب جامعة الخرطوم القوى آنذاك, وتشرد ما بين داخل وخارج السودان إلى أن عاد بعد مصالحة الإخوان للنميرى عام 1976م حيث إنتخبه الطلاب رئيساً لإتحادهم. وبعد تخرجه من كلية الهندسة قسم الهندسة المدنية تم تصعيده كأمين عام للجبهة فى إقليم دارفور لكنه إكتشف الهوة العميقة بين ما ظلَّ يبشر به حزبه من آفاق العدالة والمساواة الإجتماعية بين كل المجتمعات السودانية من ناحية وأجندتها السرية من ناحية أخرى تجاه واقع مواطنيه فى دارفور, حيث بدأ التساؤل وإثارة نقاش داخل أُطُر الحزب مما جرَّ عليه كثير من العتب أولاً ثمَّ الغضب أخيراً حتى من جانب الترابى نفسه, ويقال أنَّ حادثة خروج النائبان فاروق وعبدالجبار من التنظيم قد أثارت لديه الكثير من التساؤلات, خاصة وأنَّ فاروق قد زامله أثناء الدراسة بمدرسة الفاشر الثانوية ثمَّ بجامعة الخرطوم وفى الحالتين كانا من أبرز قيادات الإتجاه الإسلامى وإتحاداته فى تلك المؤسستين العريقتين. ومع تطور النزاع خرج بولاد من السودان مغيَّراً إتجاهه تماماً منضماً للحركة الشعبية لتحرير السودان.
قد لا يهمنا هنا التمعن والإسترسال فى الخلاف بين كوادر ومكونات الحركة الإسلامية فيما بينها, فهى كثيرة ومشاهدة على أية حال, بقدر ما يهمنا الطريقة التى سلكتها الحكومة فى القضاء على حملة بولاد إذ تتمثل نتائجها بعيدة المدى أشدُّ فتكاً بالنسيج القبلى فى دارفور من جملة القضاء على الحملة ذاتها. لقد إستعانت حكومة ولاية دارفور, والتى كانت بقيادة العميد الطيب إبراهيم محمد خير (الطيب سيخة), بفرسان قبائل البقارة وإستثارتها لمطاردة الحملة وقنص أفرادها قبل صعودها شعاب جبل مرة المعقدة, فقامت تلك القبائل بإستباحة مناطق الفور مما دفعت مجموعات رعوية أخرى فى التفكير لاحقاً لإجتياح تلك المناطق أيضاً, بموافقة الحكومة, وإنتزاع مواطئ قدم لها داخل ديار الفور. لقد واصلت الجبهة الإسلامية موافقتها المبطنة لإبادة القبائل غير العربية منذ فترة الحكم الديمقراطى, ودعمتها بالعمل وهى فى السلطة, بتحريض قبائل البقارة ليس فقط للقضاء على حملة بولاد بل وللمضى قدماً فى إبادة القبائل الأفريقية عموماً حيث أشارت بعض المصادر إلى حقيقة تبنى نظام الإنقاذ خطة لتمزيق إقليم دارفور خاصة بعد أن توصل الدكتور الترابى عام 1992م (بعد حسم حملة بولاد والذى كان متأثراً بحادثة إنسلاخ النائبان البرلمانيان عن الجبهة) لإستنتاج مفاده أنَّ: "الإسلاميين من القبائل الزنجية صاروا يعادون الحركة الإسلامية, وتهدف خطة الجبهة إلى تأييد القبائل العربية بإتباع الخطوات التالية: التهجير القسرى للفور من جبل مرة  وحصرهم فى وادى صالح ونزع سلاحهم كلياً, وإعادة توطين الماهرية والعطيفات والعريقات (من القبائل العربية الأبالة) فى منطقة جبل مرة, وعدم إعادة السلاح للزغاوة وتهجيرهم من كتم إلى أم روابة (ولاية شمال كردفان) وتسليح القبائل العربية وتمويلها بحيث تكون نواة للتجمع العربى الإسلامى" (السودان, حروب الموارد والهوية. صفحة 382). إذن يكون النائبان فاروق أحمد آدم وعبدالجبار آدم عبدالكريم والمرحوم داؤد يحيى بولاد محقين أولاً فى شكوكهم تجاه نوايا الجبهة الإسلامية القومية حيال دارفور ثمَّ محقين ثانياً عندما خرجوا عنها مغاضبة أو عليها مقاتلة لنصرة أهليهم من الترويع والتهجير.
مثل هذه السياسات تمثل أبرز دليل على سياسة حكومة الإنقاذ القائمة على ضرب القبائل بعضها البعض, وخلق الفتنة فيما بينها من أجل تحقيق أهداف سياسية تسترخص معها أرواح الأبرياء فى سبيل تحقيقها, ولا تخدم إلاَّ مصالح ضيقة ضاربة بأسس الوحدة الوطنية ومبادئ التعايش السلمى عرض الحائط, ثمَّ إنها تمثل على نحو ما نعرف أول محاولة رسمية ومنظمة من جانب الحكومة السودانية لدفع قبائل من دارفور لقتال قبائل أخرى من دارفور ذاتها نيابة عن نفسها, وهى بذلك تكون قد سنت سنة خبيثة ستتحمل وزرها إلى يوم القيامة, ثمَّ إنها ستتحمل تبعاتها من إزهاق الألوف من الأرواح البريئة وحرق المئات من القرى وتشريد المواطنين وتغذية روح العداوة والتعالى العرقى فى منطقة ظلَّ سمات التعاون والتواصل القبلى تمثل روح بقائها على مر العصور. لقد إتبعت حكومة الإنقاذ نفس تلك السياسة بين القبائل الجنوبية حتى يقال أنَّ عدد الذين ماتوا من خلال الحروب القبلية الجنوبية الجنوبية تفوق أولائك الذين ماتوا فى الحروب بين الحركات المسلحة الجنوبية والحكومة السودانية.  
    إن كانت الحضارة أخلاقاً ومعاملات فإنَّ قبيلة الفور تظل واحدة من أرقى القبائل حضارة فى أفريقيا تستند فى ذلك إلى تاريخ ضارب فى القدم وسلطنة ذات إرث وتقاليد ما زالت تمثل إحدى ركائز الحضارات السودانية ليس فقط فى سودان اليوم بل وعلى طول قطاع السودان الجغرافى الأفريقى, لقد مضت سياسة حكومة الإنقاذ, حتى بعد إعتقال بولاد وإعدامه, إلى تصنيف قبيلة الفور المسالمة كقبيلة متمردة يجب محاصرتها بكل السبل الممكنة, ولذلك فقد جرت إعتقالات تعسفية لبعض مثقفى أبناء الفور خلال محاولة القضاء على حملة بولاد أبرزها إعتقال الأستاذ يوسف بخيت إدريس, أمين حكومة إقليم دارفور خلال السنوات الأخيرة من حكم النميرى والخبيرالإدارى بوكالة الأمم المتحدة بالخرطوم فيما بعد, والذى تصادف إن كان فى إجازة عادية وسط أهله فى مدينة الفاشر, فقامت سلطات الأمن بإعتقاله وحبسه فى سجن الأمن شرقى المدينة دون توجيه أى تهمة ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد تدخل ممثل الأمم المتحدة بالخرطوم فبعثت له بطائرة خاصة أقلته من الفاشر.

سياسة فرق تسد بين القبائل وتدمير الإدارة الأهلية:
كل ذلك يبقى هيِّناً إزاء سياسة أخرى أكثر لؤماً إتبعها نظام الإنقاذ تمثلت فى ضرب القبائل والجهويات فى دارفور بعضها ببعض وتدمير الإدارة الأهلية. فبعد إستخدام جحافل فرسان البقارة لتصفية حملة بولاد العسكرية, عام 1992م, بدت وكأنَّ الحكومة قد يئست من أى خير فى الفور والقبائل ذات الأصول الأفريقية إطلاقاً, ومضت فى سياسة تقريب القبائل ذات الأصول العربية لجانبها وتجييرها لدعم مشروعها الحضارى الإسلاموى العروبى, فتبنت وفق ثمن سياسى رخيص, سياسة فرق تسد بين قبائل الإقليم وتعمدت إبتداءاً غضَّ الطرف عن محاولات القبائل العربية الرعوية إجتياح المناطق الخضراء فى مناطق جبل مرة ووادى صالح ووادى أزوم ووادى كجا والإستقرار فيها, ثم مضت فى تطبيق خطة جامحة هوجاء نزعت إلى تحريض قبائل ضد أخرى وتسليح بعضها ونزعها السلاح من أخرى فساد سياسة التطهير العرقى بمساعدة وإيعاز منها حتى بدت وكأنها تقف موقع المدافع عن أفعال وتصرفات تلك القبائل المعتدية, ثم لا تتردد أن تتدخل إذا أنهزم الطرف الذى تدعمه لتعلن على أثرها عن مؤتمرات صلح قبلى برعايتها غالباً ما ينتج عنها فرض توطين قبائل غريبة, غالبيتها القبائل المعتدية, داخل ديار قبائل أخرى مقيمة ومستقرة مما يعنى زرع بؤر متجددة دوماً للصراع, ولأن الحكومة لا تريد أصلاً حلاً لتلك المشاكل,  لكيما تظل سياسة الفرق تسد قائمة, وأن تبقى الفتنة قائمة وقابلة للإنفجار, لاتلتزم بتفيذ بنود الصلح, خاصة ديات الأرواح التى أُزهقت بلا ذنب, لتتكررالمأسأة مرة أخرى بإندلاع الصراع والحروبات مجدداً وبصورة أكثر عنفاً ودماراً, ولذلك تعددت مؤتمرات الصلح القبلى فى المنطقة الواحدة دونما طائل, فعقب كل منها يندلع القتال مرة أخرى وبصورة أشدّ فتكاً, إضافة إلى ذلك فإن زرع قبائل غريبة فى ديار قبائل مقيمة وإقتطاع أجزاء من مراكز أو محليات وإضافتها لأخرى هى فى حد ذاتها مبعثاً للغبن وإثارة للضغائن.
ويبدو أنَّ نظام الإنقاذ ومن لحظاته الأولى قد قرر الإنحياز للقبائل العربية حيث عقد مؤتمراً للصلح بين العرب والفور فى نهاية يوليو 1989م, بدأ التخطيط له منذ شهور قبل الإنقلاب العسكرى الذى نفذته, وبالرغم عن ذلك نسب قادته قيام المؤتمر نجاحاً لهم وإعتبروه دليلاً على حرصهم فى توطيد سلطة الدولة والقانون, لكن لم يمض عام واحد على تنفيذ مقررات لجان الصلح التى إنبثقت عن ذلك المؤتمر إلا وتحركت الحكومة وإعتقلت 90 قيادى من قبيلة الفور فى يونيو 1990م وأودعتهم فى سجن شالا, بالقرب من الفاشر,  بحجة أنَّ قبيلة الفور كثفت من عمليات التسليح لمليشياتها وإستقطبت من أجلها ضريبة من كل أبناء القبيلة (جريدة الحياة 11/6/1990), ثم واصلت الحكومة قمعها للمواطنين فجردت فى العام التالى 3000 جندى من أسلحة المشاة والمدرعات ودعم من سلاح الطيران فى "حملة التأديب والردع" منتصف عام 1991م عبر محورين تحركت الأولى من الفرقة 6 بالفاشر والثانية من اللواء 9 بنيالا وإقتحمت منطقة وسط دارفور والسهول الشرقية من جبل مرة راح ضحيتها الكثير, خاصة من أبناء قبيلة الزغاوة والفور, و شكلت مصدراً لإنزعاج العديد من دول الجوار والمنظمات الدولية والجاليات الدارفورية فى المهجر وإستخدمتها المعارضة لتركيز هجومها على الحكومة من الخارج (جريدتى الشرق الأوسط والحياة 27/9/1991, جريدة الأهالى: حكومة الجبهة الإسلامية تشعل حرب إبادة بدارفور 16/9/1991, 2/10/1991م).  

لقد ظلت الإدارة الأهلية فى دارفور تعمل بكفاءة نادرة تمكنت خلالها ولعدة قرون من دعم تماسك النسيج الإجتماعى والقبلى المتنوع لشعب دارفور بصورة مذهلة, وكما ذكرنا سابقاً فإن الإنجليز عندما فتحوا دارفور وضموها إلى السودان ظلوا ولمدة 6 سنوات يفكرون فى كيفية حكم هذا الإقليم المترامى, فلم يجدوا أفضل من الإدارة الأهلية فباركوها وتركوها قائمة بعد إجراء تعديلات طفيفة عليها لم تمس جوهرها أو تنتقص من سلطاتها, وكان المدير الإنجليزى بالفاشر يقوم بتكريم سلاطين وملوك وشراتى ونظار القبائل كل سنة ويهدى كل واحد منهم كسوة مميزة أحمر اللون وعليها نياشين براقة لا يلبسوها إلا فى المناسبات الخاصة وظلَّ الكثير منهم يلبسوها فى المناسبات الوطنية بعد إستقلال السودان وربما إلى اليوم, لقد كان زيًَّا, وما يزال, مهيباً يجبر الناس على إحترام لابسها ودليلاً على سمو مكانته وزعامته بينهم, ولذلك فقد ساد الأمن ونعمت الإدارة الإنجليزية بحكم دارفور من خلال العرف الأهلى المتوارث عبر القرون والمفهوم للقاصى والدانى من أهل دارفور, فماذا فعلت الحكومات الوطنية التى إستلمت حكم السودان بعد زوال الإستعمار؟ لقد تلقت الإدارة الأهلية فى السودان عموماً, وفى دارفور خصوصاً, ضربة فى مقتل من خلال تطبيق قانون الحكم الشعبى المحلى لعام 1971م, خلال النظام المايوى, والتى هدفت لإزالة الإدارة الأهلية عن الوجود, بعد أن صاغتها قوى يسارية لم تر فيها سوى آليات للتخلف والجهل والرجعية, فبادرت بتحطيمها وإن كان هدفها الأساسى هو ضرب نفوذ الأحزاب الطائفية (الأمة والإتحادى), أكبر كتلتين سياسيتين على عرض البلاد. لكن الإدارة الأهلية فى دارفور, بجانب تلك الضربة, تلقت ضربة أخرى فى عهد الإنقاذ كانت أكثر وبالاً وكارثةً على أهل الإقليم من خلال نظام "الأمارة", التى صدرت عام 1994م, والتى نسفت فعلياً أى وجود للإدارة الأهلية من الناحية الرسمية.
 لقد هدفت حكومة الإنقاذ من خلال نظام "الأمارة" القول بأنَّ الأرض فى دارفور ملك للدولة وألاَّ يجوز لأى قبيلة أن يكن لها داراً تتمتع بها وحدها دون سائر القبائل الأخرى, وهى بذلك تشيع الأرض, وتلغى مفهوم الديار, والتى تعتبر جزءاً لا يتجزأ من حياة القبائل نفسها, لكنها وقعت فى خطأ قاتل إذ تولد عن ذلك إستقطاب فورى وحاد أدَّى إلى تمترس القبائل الكبرى ذات الديار المعترف بها تاريخياً بديارها, منذ ما قبل عهود سلاطين الفور, بينما إندلعت بعض القبائل الرعوية العربية, خاصة الأبالَّة رعاة الإبل, بإشعالها حرباً على ديار القبائل الغير عربية, أو ما تُعرِّفها وسائل الإعلام بالقبائل الأفريقية, ومحاولة فرض وجودها والسيطرة على أراضيها بالقوة المسلحة, متخذة من قانون الحكومة صكاً رسمياً ومن الدين ستاراً بأنَّ الأرض لله يورثها لمن يشاء من عباده! فهل هدفت حكومة الإنقاذ حقاً إلى خلخلة النسيج القبلى بدارفوروضرب وحدتها وتاريخها المشترك بإزالة العناصر الغير عربية, المناوئة لها, وإستبدالها بالعناصر العربية المنحازة إليها؟ إن لم يكن الأمر كذلك فإنَّ الأفعال والنتائج على أرض الواقع لا تشير إلا إلى تلك الحقيقة.
فى جوهرها, هدف نظام "الأمارة" إلى تحقيق أهداف عدة هى: (1) إزالة النظام التقليدى للإدارة الأهلية متمثلةً فى هيكليتها البنيوية المتدرجة على مستوى السلاطين والملوك والنظار والشراتى والدمالج والعمد, (2) إلغاء وطمس مفهوم الدار وفرض شيوعية الأرض, (3) إعادة توزيع دار القبيلة الواحدة إلى وحدات صغيرة تستوعب القبائل الجديدة الوافدة حديثاً, أو تلك التى إستولت على الأرض بقوة السلاح وفرض الأمر الواقع, بجانب القبيلة الرئيسية المستقرة صاحبة الأرض, مع إطلاق وصف "أمارة" على كل وحدة من تلك الوحدات الصغيرة و"تعيين" حاكم أهلى لها بصفة "أمير", وأن يلقب السلطان أو الملك أو الشرتاى, الحاكم الأهلى السابق على كل الدار, بلقب "أمير الأمراء"! (4) تجيير ولاء تلك المجموعات العربية والقبائل الأخرى المستفيدة من تلك الخطة لصالح برنامجها السياسى, (5) تفتيت وحدة القبائل الكبرى وخلخلتها بقبائل وبطون صغيرة وافدة كى يسهل  السيطرة على كل منطقة الدار بقرارات سلطوية فوقية, و (6) تمكين الحكومة من الإستيلاء على الأراضى الخصبة وتوزيعها على محاسيبها فى شكل مشاريع زراعية ضخمة. وعلى ذلك ظنت النخبة الحاكمة من سلطة الإنقاذ أنها, ومن خلال تطبيق تلك السياسة الجديدة بدءاً من عام 1995م, تكون قد كسبت ولاء القبائل العربية الراحلة لصفها وأنصفتهم لكنها ما درت أنها بذلك قد فتحت باب جهنم لحروب أهلية لا تبقى ولا تذر, فتحولت أرض دارفور الطاهرة إلى مراتع للقتل الجائر والسحل وحرق القرى والإبادة الجماعية فى مناطق جبل مرة ووادى صالح ودار المساليت وكتم وجبل سى وغيرها من المناطق العامرة بالسكان الوطنيين من غير العرب, ولم يألُ نظام الإنقاذ نفسه أن ترفع تلك الظلامات التى أفرزتها سياساته بالدرجة الأولى وأطماعه الحزبية الضيقة, بل زاد الطين بلة بدعمه بعض القبائل المعتدية بالسلاح ومليشيات "الجانجويد" العربية وقوات الدفاع الشعبى, حتى شاع فهم أوحى بأن الحكومة ومن ورائها دول أجنبية تخطط لإبادة القبائل الأفريقية وإحلال القبائل العربية محلها من أجل تحويل منطقة دارفور إمتداداً للمد العروبى جنوبى الصحراء, ومهما يكن من أمر فإن سلوك الحكومة تجاه حمامات الدم فى دارفور وتساهلها مع المعتدين يبعث الكثير من الشكوك تجاه أهدافها الحقيقية نحو أهل الإقليم, فالجدير بالملاحظة أنَّ معظم حمامات الدم تلك وحرق وتدمير القرى قد حدثت فى مناطق القبائل الغيرعربية, خاصة مناطق دار المساليت ووادى صالح اللتان يندى الجبين لمعرفة بشاعة القتل الجماعى الوحشى الذى ألَّم بهما.
نظام "الأمارة التى طبقتها الإنقاذ فى دارفور هى بالأساس نسخة مكررة طبقتها قبلاً فى منطقة جبال النوبة بجنوب كردفان تولد عنها نفس حمامات الدم بين قبائل النوبة صاحبة الأرض من جانب وعرب المسيرية والحوازمة من جانب آخر, ولقد كشفت التحقيقات اللاحقة أنَّ الأهداف الحقيقية من حروب جبال النوبة هى إجلاء الأهالى الوطنيين من أراضيهم الخصبة وإجبارهم على الفرار والإحتماء برؤوس الجبال على أن تهيمن الحكومة ومناصروها من جلابة الشمال على الأراضى الخفيضة الخصبة وتوزيعها إلى مشاريع زراعية ضخمة فيما بينهم, ولقد تم التصديق لبعضهم بمساحات شاسعة بلغت أحياناً مليون فداناً و لأشخاص لم يرو المنطقة فى حياتهم أبداً! وحتى لا نطلق الحديث جزافاً عن هذا الموضوع يمكن للقارئ الرجوع إلى الدراسة الضافية التى قام بها الدكتور محمد سليمان محمد والتى وثَّقها فى كتابه "السودان, حروب الموارد والهوية" (دار كمبردج للنشر, 2000م), أمَّا ما يهمنا فى هذا الجانب هو الإشارة إلى نزعة نظام الإنقاذ المصلحية فى إستغلال علاقات الأرض والمجتمع فى غرب السودان من أجل تحقيق مصالح ضيقة حتى ولو أدى ذلك إلى إزهاق أرواح كل سكان تلك المناطق.
وكمثال للفتن التى ظلَّ نظام الإنقاذ يزرعه بين القبائل فى دارفور هو أنَّ نزاعات كانت قد إندلعت بين قبيلتى الفور والزغاوة من جهة و القبائل العربية من جهة أخرى فى وسط دارفور خلال عام 1994م, وشهدت المنطقة قتالاً حاداً بين الجانبين كانت الأسباب فيها أنَّ القبائل العربية إنتهكت شروط الصلح الموقعة قبلاً وتوغلت فى المنطقة مدعومة بقوات الدفاع الشعبى!! فى مناطق المهاجرية مروراً إلى منطقة شعيرية ومنها إلى منطقة مرشنج بشرق جبل مرة (وكلها مناطق الفور والزغاوة) معتدية على المزارع حيث قضت على المحاصيل قبل الحصاد (جريدة الإتحادى 1/11/1994م). ويبدو أنَّ الحكومة قد إستمرأت هذه النزاعات بفعل سياساتها ففى عام 1998م إنفجرت الأوضاع بين القبائل العربية المترحلة وقبيلتى المساليت والتاما المستقرة بسبب الأرض والمسارات وأسفرت عن 20 قتيلاً بالأضافة إلى أعداد مضاعفة من الجرحى وأضرار مادية تعادل 375 ألف دولار (جريدة القدس 19/3/1998م), وشهدت المعارك ذروتها فى الأسبوع الأخير من يناير 1999م بتصفية عدد من العمد والمشايخ من القبائل المستقرة كانت تقوم بدور الأجاويد وتثبيت آلية للتفاوض مع الرعاة العرب (جريدة الخرطوم 25/1/1999).
إستخدام الأرض فى دارفور ظلَّ ومنذ قديم الزمان حقاً مكفولاً لكل أهل دارفور وبمختلف قبائلهم من خلال العرف ورعاية الإدارات الأهلية, وظلت مسارات القبائل الراحلة نحو مناطق المراعى أثناء فصول الجفاف مفتوحة وبإحترام كبير من عامة الرعية قبل شيوخ القبائل, وفى سنوات الجدب الشديد غالباً ما يقوم بعض أفراد القبائل المترحلة بترك بعض قطعانهم كأمانة لدى أفراد القبائل الأفريقية المستقرة لترعى مع حيواناتهم جنباً لجنب فى المناطق الخضراء بأمن وسلام ثم يعودون إليها العام التالى ليجدوها قد تناسلت وتكاثرت فيستلمونها دون أن تكلفهم شيئاً, ومن ناحية أخرى فإنَّ تداخل هذه القبائل ببعضها قد أوجدت مصالح مشتركة فيما بينها خاصة فى مجال التجارة إذ تحتاج القبائل العربية لشراء الحبوب والملابس وأدوات الزينة ومتطلبات الحياة الأخرى مقابل بيعهم المنتجات الحيوانية كالسمن والعسل والألبان والجلود وأعمال الجلود وغيرها إلى القبائل الأفريقية المستقرة, ولذلك ظلَّ مجتمع دارفور متوازناَ ومنسجماً ومؤمناً بضرورة التعاون والمنفعة المتبادلة, ولم يحدث قط وإلى مطلع السبعينات من القرن الماضى, أن تقاتلت هذه القبائل من أجل المراعى أو أستخدام الأرض للزراعة والسكن أو الحصول على الماء إذ ظلَّ حكماء دارفور من شيوخ وقادة الإدارة الأهلية يعالجون المشاكل قبل وقوعها أو تفجرها نحو الأسوأ. نعم حدثت حروبات قبلية محدودة راح ضحيتها خلق كثير لكن كان ذلك بسبب موضوع آخر أكثر عمقاً متمثلاً فى جانب معقد من "مفهوم الدار", أو السيادة, وهو موضوع صعب سنتناوله فى مقال منفصل عن الإدارة الأهلية فى دارفور.
إن النخبة الحاكمة من أبناء وسط شمال السودان النيلى, ومن خلال سلطة الإنقاذ, قد آمنت بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة", حتى وإن تعارض ذلك مع الحرمات المغلظة وأساسيات الدين الإسلامى, ذات الدين الذى بنوا عليه مشروعهم الحضارى, وإن تصادف ذلك شعور بالكراهية والتعالى تجاه قوم ما تكون الحلقة قد إكتملت لتطبيق كل أنواع الذل والقهر والظلامات عليهم. ولم يدرك هؤلاء أن بفعلتهم تلك فى تدمير الإدارة الأهلية فى دارفور قد هدموا تراثاً فى الحكم ظلَّ فاعلاً لأكثر من أربعة قرون أم أنهم أذكى من الإنجليز؟ الذين وبعد دراسة أخذت منهم ست سنين حسوما لم يخلصوا إلاَّ بنجاعتها وحسن تركيبتها وفاعلية تطبيقها فى بيئة معقدة بجغرافيتها وإنسانها. فبالنسبة لتداخل القبائل لم يعرف هؤلاء عن وجود تقاليد وأعراف تحكم تنظيم هذه العلاقات القبلية وتفتح مسارات للرعاة وفق ممرات محددة سلفاً وفي مواقيت معلومة, فعمدوا دون فهم عميق لعلاقات الأرض والقبيلة بدارفور يعيثون فيها فساداً وتدميراً بمفاهيم غريبة على الأرض والناس ما لهم به أوعليه من فهم أو سلطان, فكانت النتيجة الواقعية أن ينقلب كل ذلك خسراناً مبينا, وإن كانت مثل هذه السيناريوهات قد تكررت لردح من الزمان إلاَّ أن أهل دارفور قد أدركوا الآن ماتسعى إليه الحكومة وهى أن تجعلهم يتقاتلون فيما بينهم لتجعل الحكومة شعار الأمن ذريعة وتمتنع بطريقة مخيبة للآمال عن تقديم أى خدمة لإنسان دارفور, سواء للذين تدعمهم بالسلاح ضد قبائل أخرى أو الذين تريد إبادتهم, وبالفعل عمدت إلى طرح مثل تلك الفكرة علانية حين صرَّح بعض مسئوليها خلال الأحداث الراهنة بالإقليم إلى أن نصيب دارفور من أموال التنمية قد تذهب لصرفها للإحتياجات الأمنية إذا لم تهدأ الأوضاع فى الإقليم! إذاً لا غرابة إن أصبح الإنسان الدارفورى يعانى ويلات الحروب المصطنعة من قبل الحكومة ثم يتحمل جرائرها, فلا تنمية ولا صحة ولا تعليم ولا أمن فأصبح البلد حظيرة كبيرة لاشئ فيها, ومن سخرية القدر أن يظل إنسان دارفور همه الأول فى القرن الواحد والعشرين هو الماء فما بالك عن باقى ضروريات الحياة والخدمات بعد إن إنهارت الطبيعة وعانى من ظروف الجفاف والقحط والتصحر, وبالرغم عن ذلك يظل يرى ما تبقى له من حقوق تهدر أمام عينه بإستهتار بالغ, وأمواله تستحل بالنهب الصريح المسنود بآلية الدولة, وخيرات أرضه تستقطع منه, وحرمات أراضيه تنتهك وتضاف إلى مناطق بعينها كأنه لا يستحق أن يكون له شيئ فى هذا السودان, حتى حقه المالك له, فماذا يفعل الدارفورى تحت ظل هذا الظلم الصريح؟

المفاصلة السياسية والعسكرية الثانية بين دارفور ونظام الإنقاذ وإشتعال الثورة فى دارفور:
    لم يفاجأ المراقبون والمتابعون للأمور فى دارفورأبداً بإشتعال الثورة هناك بل إنَّ بعضهم قد أشار إلى تأخرها كثيراً, وهم إن كانوا صادقين فى حدسهم لحتمية ذلك الإنفجار إلاَّ أن أغلبهم قد جانب كبد الحقيقة فى تحليل أسبابها الحقيقية ودوافعها الكامنة, صحيح أن إنعدام مدخلات التنمية فى ذلك الإقليم الواسع, وجور الطبيعة عليه خلال العقود الأخيرة, وما تولَّد عن ذلك من إحتكاكات بين القبائل الرعوية والمتوطنة بشأن المرعى والنزوح, وتوفر السلاح, والتدخل الخارجى, كلها تندرج فى جملة الأسباب آنفة الذكر لكن للأسف لا تشملها حصراً, أو تتلمس مفاصل حسَّاسة, منها كما ظلَّ الصحفيون والسياسيون على السواء يتداولونها فى معرض آرائهم, ولم يشذ عن ذلك سوى الكاتب الدكتورالطيب زين العابدين حين أشار إشارة عارضة إلى جوهر المشكلة فى مقال له بعنوان "الأقاليم ونظام الحكم", والذى نشرته صحيفة الرأى العام بتاريخ 14/5/2003م, جاء فيه أنَّ من أهمَّ الحقائق فى تلك المشكلة هى: "أنَّ اقليم دارفور له خصوصية تاريخية وثقافية وسياسية تجعله يطمح فى تولى إدارة نفسه وفى مشاركة أكبر فى السلطة والثروة خاصة وهو يعانى فى الوقت الحاضر من تدهور الخدمات وضعف التنمية وتفشى الفقر والعطالة وإنفلات الأمن وإستشراء النهب المسلح وتفاقم الصراع القبلى. إن المطالب التى ترفعها حركة التمرد الحالى فى غرب البلاد تجد تأييدا واسعا من أبناء دارفور حتى أولئك الذين يشاركون فى السلطة لأنهم يعتقدون أنها مطالب عادلة لم تجد من حكومات الخرطوم المتعاقبة سوى التسويف والازدراء. فإن لم تجد هذه المطالب التفاوض الجاد والإعتبار الكافى من قبل الحكومة فالمتوقع أن يزداد التأييد لحركة التمرد وترتفع وتيرة عملياتها العسكرية ويتكرر سيناريو الجنوب فى دارفور." (إنتهى), وذلك تماماً هو الواقع الآن.
    دعونا نقرر هنا أنَّ ما يحدث فى دارفور اليوم من رفع للسلاح ضد الحكومة المركزية ليست له أية علاقة بجماعات النهب المسلَّحة كما دأبت حكومة الإنقاذ تنعتهم بها وبإصرار غريب تستبطن فى طياتها عدم أى إعتراف بحقوق هؤلاء القوم وهى بالتالى تتنائى عن تحمل حل مشاكل مستعصية ظلت تعقدها بسياساتها الأحادية طيلة الأربع عشرة سنة الماضية, ثمَّ هل حدث يوماً أن قامت مجموعة من عصابات النهب "أوالهمباتة" بإصدار مناشير أو برامج تدعو للعدالة والحرية والمساواة؟ إن فعلت ذلك فإنها قطعاً تدين نفسها إبتداءاً وفاقد الشيئ لا يعطيه. إذاً وصف الحكومة لحاملى السلاح فى دارفور بأنهم قطاع طرق ليس إلاَّ, وهى تعلم جيداً كذبها, محاولة يائسة لم يحالفها التوفيق بل ومسعى عقيم لدفن الرؤوس فى الرمال ومجافاة التمعن فى عين الحقيقة.
    ثانياً, ما يحدث فى الإقليم ليس تمرداً من حيث التعريف الصريح للتمرد. فالتمرد يعكس مفارقة جزء من الكُل الواحد وخروجه عن طوعهم مغاضبة وبطريقة عنيفة تستبطن روح المؤامرة ثم التمترس بما يعتقدون به والدفاع عنه بكل السبل, وعليه فإنَّ الذين رفعوا السلاح فى دارفور فى وجه الحكومة, وهم من الأهالى العاديين الذين ليست لهم ناقة ولا جمل فى حصص السلطة والثروة ليسوا بمتمردين, وإذا كان الأمر كذلك فالسؤال الذى يطرح نفسه بداهة هو أنهم متمردون على ماذا؟ طالما هم ظلوا يعيشون فى الهامش بعيداً عن دوائر الجاه والرفاه؟ إنَّ الذى حدث فى توريت بجنوب السودان عام 1955م, أو تلك التى أعقبتها فى بور عام 1983م, يحق تسميتهما بالتمرد لأنهما شكلتا إنشقاق أجزاء من جيش الحكومة الواحد والخروج عليها بطريقة سافرة مقاتلة بالقوة المسلحة رغم ما يحملونها من مطالب عادلة. إذاً إستخدام الحكومة لفظ عصابات قطَّاع الطرق ووصف الإعلام جانباً مما يجرى فى دارفور بالتمرد كلاهما قد جانبه التدقيق فى وصف الحالة.
ما يجرى اليوم فى دارفور هى "ثورة" بكل ما تحمل الكلمة من معانى, هى ثورة ضد الظلم المتوارث, والتهميش المنظم, والترصد المسبق, والعداء المبطن التى تنبعث من نظرة الإستعلاء والترفع ونبذ الآخر بالعبودية والعنصرية. والثورة ضد التسلط والقهر ليست بشيئ جديد فى تاريخ أهل دارفور, فقد إمتلأ ماضيهم بسجل حافل من الثورات ضد الدخيل والأجنبى إبتداءاً بالزبير باشا والذى قام بحرب الثوار فى شعاب شرق جبل مرة وكبكابية تكليفاً من الحاكم التركى المصرى, ومروراً بعهد الدولة المهدية خاصة ضد سياسة التهجير القسرى التى إتبعها الخليفة عبدالله لتمكين الدولة الوليدة, ومواصلة بمقاومة السلطان على دينار والفكى السحينى من بعده للإستعمار الأنجليزى المصرى, ثم الثورء الوطنية التى أدَّت لحرق العلم البريطانى بمركز الفاشر عام 1952م كسابقة غير معهودة فى التاريخ تواجه الإستعمار الإنجليزى بالسودان.  
لم يفهم أبناء ومثقفو وسط شمال السودان النيلى أنَّ أهل دارفور أهل عز وكرامة, أهل سلطنة كانت لها راياتها وجيوشها ونظم إدارتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية الممتدة من قبل تشكيل سودان اليوم (سودان محمد على باشا) بقرون عديدة. ولذلك, وحقيقة, فإن الإدارات الإنجليزية المتعاقبة التى حكمت دارفور بعد سقوط السلطنة (1916-1956م) قد أبدت قدراً كبيراً من الإحترام لذلك التاريخ وإرث الحكم وثقافة الأهالى بل وإستصحبتها فى رسم سياسة حكمها وإدارتها للمنطقة أكثر مما أبدتها الإدارات الوطنية التى تسلمت حكم البلاد بعد خروج المستعمر. إن الثورة الناشبة الآن فى ربوع دارفور هى, وإن كانت فى ظاهرها تحمل سمات المطالبة العادلة فى مواعين السلطة والثروة, إلا أن دخيلتها تستبطن الشعور بالغبن والإزدراء والتمييز العنصرى والإحتجاج ضد الحقيقة المُرة التي ينكرها أبناء وسط شمال السودان النيلى, والتي يصعب الهروب منها, وهى إزدراءهم لأهل دارفور وتسفيه حقوقهم, وأنَّ مظالم دارفور التى ظلت متراكمة منذ الإستقلال والى يومنا هذا سببها أن كل الحكومات الوطنية التى تقلبت على حكم السودان منذ الإستقلال ظلت منسوبة حكراً لأولاد البحر والجلابة وإستبعدت مبدأ أى مشاركة ذات معنى لأبناء الهامش عامة وأبناء دارفور خاصة.
سوف لن نسترسل فى تتبع أحداث الثورة الحالية بدارفور فهى مستمرة على أية حال وتكتسب زخماً متعاظماً كل يوم مع تفهم محلى و دولى متصاعد لحقيقة دوافعها, وكل السودانيون حول العالم والعديد من دول الجوار والقوى العالمية المهتمة بالشأن السودانى يتابعونها عن كثب عن طريق وسائل الإعلام المختلفة والإنترنت لما تحمل من دلالات هامة, لكن ما يهمنا هنا هو تحليل موقف الحكومة منها و بطريقة لا تؤدى إلاَّ إلى تعقيدها لا أكثر. إن قيادة نظام الإنقاذ لا تود فقط الإعتراف بوجود مشكلة بل تكابرت بلؤم وأخذتها العزة بالنفس لترمى الثوار الشرفاء طالبى الحقوق المشروعة بكل نعت خبيث, فوصفه لهؤلاء المظلومين بالنهابين وعصابات قطع الطرق ما هو إلاَّ محاولة رخيصة للهروب إلى الأمام و دفن الرؤوس فى الرمال, ولذلك فبدلاً من أن يلهث رئيس الجمهورية فى رحلات محمومة بين ليبيا وتشاد ومصر يستهلك أوقات رؤساء تلك الدول بالأكاذيب والإفتراءات عن طبيعة الثورة فى دارفور, ويسعى أركان نظامه بإتهام إرتريا وإسرائيل والحركة الشعبية لتحرير السودان بالضلوع فى إشتعالها, كان سيوفر على نفسه ونظامه كل ذلك العنت وكشف الحال لو أنه إحترم هؤلاء المساكين وجلس يستمع إليهم, ويتحسس أوجاعهم, ويداوى جراحهم, فمن أجل ذلك خُلقت القيادة, وتلك مهمة الذين يتصدون لها بالأفق الواسع والقلب الكبير, وقبل هذا وتلك بإحترام النفس والغير, خاصة أفراد الرعية, إلا إذا إعتبر الرئيس نفسه سجاناً وأنَّ مواطنيه مساجين لديه.
لقد ظلَّ أهل دارفور يرفعون مطالبهم المشروعة بكل الطرق السلمية والحضارية والمشروعة منذ فجر الإستقلال فما وجدوا أذناً صاغية تستمع لهم, ولم ترجع إليهم شكاويهم وأنَّاتهم ولو فى شكل صدى, وحتى عندما قدموا حلال أموالهم  بعد خيبتهم فى أموال الحكومة, ولهم حق فيها معلوم, مدت إليهم الحكومة لسانها, إذاً ماذ يفعلون؟ لقد أجبرتهم حكومة الإنقاذ على السير فى إتجاه واحد ليس فيه عودة إلى الوراء, هم قادرون عليها بكل ثبات, فلتثبت الحكومة إلى نهاية الطريق!
إنَّ سلوك نظام الإنقاذ نحو دارفور فاقت فى وحشتها رعونة الأنظمة التى سبقتها لأنها عمدت وبجرأة لإضافة بعداً سياسياً للمشاكل المتفاقمة أصلاً عن طريق إتباع سياسة ما حسبوه إعادة صياغة المواطن, وإعادة التركيبة الإجتماعية, وخلق إدارات جديدة, ودعم قبائل ضد أخرى, وتدريب المواطنين على إستخدام السلاح النارى, سواء في إطار الدفاع الشعبي أو في أُطر سرية أخرى, مما أدى إلى خلق أوضاع جديدة داخل الإقليم، هذا بجانب الخلخلة الإجتماعية, وكأنَّ كل ذلك لم يكف فسعت لتجريد دارفور بكاملها من مشاريع التنمية وهي مشاريع جبل مرة التى تمت تصفيتها وكذلك مشاريع تنمية غرب السافنا ومشروع الغزالة جاوزت وأم بياضة ومشروعات المياه، ثم جاءت حادثة طريق الغرب لتدق آخر مسمار فى نعش الثقة المتهالك أصلاً بينها وأهل دارفور, وبالرغم من صراخ الناس هناك وكل الحادبين على مصلحة الوطن بضرورة معالجة تلك القضايا بحسم وتحمل الحكومة مسئوليتها بحزم فى معاقبة المفسدين والبحث عن تمويل خارجى لبناء ذلك الطريق القارى إلا أنَّ الحكومة سدَّت هذه بطينة وتلك بعجينة, وسفهت كل تلك النداءات وتعاملت معها وكأنَّ الأمر لا يعنيها. إنَّ الحكومة تدرى جيداً تجاوزها للكثير من الخطوط الحمر فى حق أهل دارفور وإذا كان ذلك كذلك فلا يجب عليها أن تلومنَّ إلاَّ نفسها.
















إشكالية العلاقة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى
"والكلام المسكوت عنه"
تحليل تاريخى سيكلوجى

                                                                       helhag@juno.comد. حسين آدم الحاج

الحلقة (7/7)

البعد النفسى فى العلاقة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى:
إنَّ أكثر ما يؤلم أهل دارفورهو تعنت النخب الحاكمة فى الخرطوم, وخاصة نظام الإنقاذ, فى الإعتراف بوجود مشكلة لديهم تتمثل فى وجود فارق تنموى كبير بين إقليمهم وبقية المناطق الأخرى بالسودان, فمع الإقرار بوجود فوارق تنموية بين جميع مناطق السودان الأخرى, و بدرجات متفاوتة, إلاَّ أن دارفور تظل الأقل نمواً وفى كل المجالات تقريباً خاصة الخدمات التعليمية والصحية والتنموية. وعندما يرفع أهل دارفور مطالبهم المشروعة إزاء تلك المشاكل يستنكرها عليهم أهل الإنقاذ ومثقفو وسط شمال السودان النيلى فتتحول إلى مظالم, وعندما ثاروا فى وجه الحكومة غضبت ووصفتهم بالعصابات المسلحة, ففى مخاطبته إحتفالا جماهيريا إقيم خلال شهر يونيو 2003م بمناسبة إفتتاح القرية 3 في مدينة الملتقي, القريبة من خزان مروي, صرح النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه أن البندقية لن تكون بعد الآن وسيلة لإنتزاع الحقوق, ووصف الذين ينتهجون هذا الأسلوب بأنهم نهابون وقطاع طرق, فى إشارة واضحة لثوار دارفور, وأضاف بأن الحكومة لا تعترف بالنهابين وقطاع الطرق ولكنها تعترف بالمنطق والحجة والعدل. وأهل دارفور بدورهم يتساءلون عن ماهية مفهوم ذلك العدل وأين هو منهم أو حقوقهم منه! كذلك أكد الرئيس عمر البشير في خطابه للامة السودانية من القصر الجمهوري نهاية يونيو الماضى بمناسبة الذكرى الرابعة عشر لإنقلابه بأنًّ سياسة حكومته ستقوم على أرضية ثابتة وقائمة على قواعد العدل والإنصاف, فأى عدل وإنصاف يا ترى؟ طالما ظل أهل دارفور يرون حقوقهم تهدر تحت بصر الحكومة ورعايتها. حقيقةً, كل ذلك تظل كلمات لا معنى لها وأن صداها لا تتعدى طنين البعوض ما لم تتبعها خطوات ملموسة نحو تنزيلها لأرض الواقع.
ولا يقتصر ذلك على الحكومة وحدها فقد درج بعض صحافيى السلطان يسخرون من مطالب أهل دارفور بل وينسبون إليهم ما لا وجود له إطلاقاً, فمثلاً أورد الكاتب راشد عبدالرحيم فى عموده "إشارات" بصحيفة الرأي العام السودانية, عدد يوم 14/5/2003م, أنَّ "الولايات الأكثر صرفاً عليها من قبل المركز سواء في السلطة أو الثروة هي الأكثر مطالبة, وإذا قمنا بجرد لحصة الجنوب ودارفور من مواقع الحكم حالياً ومشروعات التنمية لوجدناهما ينفردان بالكثير"! كلام غريب, والسؤال الطبيعى الذى يجب أن يُسأل عنه هذا الكاتب هو ما هي تلك المشروعات التنموية التي أقيمت في دارفور أو الجنوب خلال ال 14 عاماً هى عمر نظام الإنقاذ؟ فالحقيقة الثابتة هى أنَّ القليل من المشاريع التى كانت موجودة أصلاً قامت الإنقاذ بتصفيتها كما أسلفنا, وبذلك يكون من العجب أكثر أن ترد مثل تلك العبارة فى صحيفة عريقة وكبيرة فى حجم الرأى العام يطالعها الملايين من أبناء الوطن المنتشرين حول العالم كل صباح من خلال موقعها فى شبكة الإنترنت, مثل تلك العبارات ومغالطات الواقع هى ما تزيد من مرارة الغبن وتعميق الشعور بالإزدراء, ويبدو أنَّ بعض صحافيى الخرطوم لا يكلفون أنفسهم, أو حتى يحترمون أمانتهم الصحفية, ليستقوا الأخبار عياناً بياناً من مصادرها فيكتبون ما يحلو لهم بوعى وبدون وعى. أيضاً قبل فترة, وفى خضم الأحداث الجارية الآن فى دارفور, إدعت مجموعة مستضافة فى برنامج إذاعى أن دارفورأخذت نصيبها وزيادة فى مجالات التنمية والسلطة! هكذا.
إن كان التحليل النفسي السليم لا يُبنى على واقعة معزولة لم تتكرر فذلك صحيح أما إذا تكررت الوقائع والبينات بصورة متواترة فإنَّ ذلك يدعو إلى إستنتاج أنَّ هنالك ثمة مشكلة، وعليه فإنَّ تواتر المظالم والتعسف التى واجهها ويواجهها أهل دارفور يصلح لتناولها بذات المعيار لتقصى جذورها الحقيقية, وبنظرة سريعة لمعاناة أولائك الناس وإحباطهم المستمر من تعامل الأنظمة التى حكمت و تحكم السودان الآن من المركز فإنها تعكس أزمة نفسية كبيرة تقف أمام تجاوزهم لمرارات الماضى والحاضر, وبالأخص لنظرة أهل وسط شمال السودان النيلى نحوهم, أو حتى القبول بأطروحات تصالحية تحوم حولها كمية هائلة من الشكوك والأوهام مما يشير الى صعوبة بالغة في ردم هوة عميقة من الريبة تراكمت عبر عهود التاريخ, فإعتقاد الغالبية من أبناء دارفور نحو حكومة الإنقاذ مثلاً هو أنها قد أرادتها حربا عليهم لأنها تعتقد أنه بعد الجنوبيين فإنه لا توجد قوة أخرى فى السودان يمكنها أن تنازعها السلطة والثروة غير أهل دارفور, وعليه فيجب تحطيمهم اليوم قبل الغد! ولذلك فقد عمدت لضرب عصب ومفصل حساس لوجودهم وهو النسيج القبلى, فأشعلتها ناراً وتولت فتنتها خلال أربع عشرة سنة, تواطأ معها المسيطرون على الرأى العام السوداني من مثقفى وصحفيى النخبة الحاكمة, تلك هى الحقيقة وراء عدم ثقة أهل دارفور بنظام الإنقاذ نقررها هنا دون مواربة فما عاد السكوت يجدى, وربما تدرى الإنقاذ ذلك جيداً فقنعت منهم, كما فعل النميرى من قبل, ورمت بهم عرض الحائط.
إنَّ أهل دارفور يفتخرون بخصوصية تاريخهم وإرثهم الثقافى ويشعرون بثقل وزنهم قومياً ودورهم التاريخى فى بناء السودان الحالى فهم يمثلون قرابة 25% من مجموع مواطني السودان, إذا أخذنا فى الحسبان إمتداداتهم فى الجزيرة والنيل الأبيض والقضارف وأم درمان, كذلك يمثل دارفور 20% من مساحة القطر, كما أنهم يعتبرون دعماً حقيقياً للاقتصاد السوداني من حيث العمالة في القطاعين الزراعي والحيوانى والصناعي, وأنَّ إقليمهم يحتوى على إمكانيات هائلة من الثروات يمكنها أن تساهم إقتصادياً بجزء مقدر من الإنتاج والدخل على المستوى القومى لو وجدت العناية الكافية, وظلوا يمثلون منبعاً متفجراًً لمد القوات النظامية بنوعية صلبة من الرجال الأشداء, وتاريخياً فإنَّ دارفور هي التي أسست لإستقلال السودان الأول، سودان المهدية, وظلَّ أبناؤها يدافعون عن وحدة تراب الوطن من خلال الحرب فى جنوب السودان, ولقرابة نصف قرن من الزمان, حتى جاء من يدعو لفصل الجنوب نهاراً جهاراً وعلى مسمع وبرعاية من حكومة أبناء شمال السودان النيلى وكأنَّ الوطن قد صار ضيعة فى مضاربات الأراضى, أو إقطاعية فى سوق السماسرة, ولا عجب فهناك من قبل من كان يمسك بالمكسيم جوار كتشنر يحصد به أرواح الذين غزلوا رقعة هذا الوطن واليوم يأتى من لم يعجبهم ذلك الغزل طفقوا يبادرون بنقض عراها! كما إنَّ دارفور تمثل المنطقة الوحيدة في السودان التي كل أهلها من المسلمين وأن تركيبتها لا يمكن أن تكون لها توجهات إنفصالية, ومع كل هذه السيرة الذاتية المكللة بالذهب فإنَّ أهلها لم يشعروا أبداً بأنهم قد نالوا مكانتهم المستحقة على مستوى السلطة أو حقهم المقدر فى مواعين الثروة, وبناءاً على ذلك فإنهم قد وصلوا إلى شبه قناعة بأنهم سوف لن يحصلوا على أى شيئ من ذلك وإن إشتكوا لطوب الأرض, فطبيعى, والأمر كذلك, أن يتنامى مرارت السخط ويتراكم جبال الغبن والعمل برد الفعل, وما يدور الآن من ثورة هو رد فعل لفعل من النظام القابض على مفاصل الدولة, ماضياً كان ذلك أم حاضراً, إختلط بإحساس مرير بالظلم والتهميش و"الحقارة".

هل من إمكانية لتجسير الهوة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى:
نخلص من خلال هذا العرض التفصيلى الموَّثق لطبيعة العلاقة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى إلى أنَّ طبيعة المشكلة تنحصر فى جانبين: جانب نفسى وجانب تنموى, وإن كانت الثانية مقدورعليها بتفعيل الماديات الإقتصادية والتنموية فإن الأولى تكمن فيها عقدة المشكلة ومفاتيح الحل.
نعتقد بداية أنَّ أية محاولة للحل يجب أن تسبقها إعتراف بوجود مشكلة عميقة الجذور تتمثل في إنعدام الثقة الناتجة عن الظلم الإجتماعي والتهميش السياسي والإقتصادي الذي مارسته الأنظمة الحاكمة من المركز تجاه أهل دارفورعبر تاريخنا الوطنى الحديث, ولعلَّ أهل دارفور قد عانوا, وما زالوا, من تمييز عنصرى كريه ضدهم من جانب أبناء وسط شمال السودان النيلى عطفاً على مواقف تاريخية محددة حدثت خلالها مفاصلات عنيفة كما شرحنا آنفاً, وساد لديهم شعور بأنَّ مجموعات معينة من أبناء الشمال ظلوا يمارسون جلد الحاضر بسياط الماضى, إذاً فالمطلوب هو العمل علي إعادة بناء تلك الثقة, على المستويات الفردية والجماعية, بين كل قطاعات مجتمع الوطن السودانى الواحد, عبر وعى عميق بضرورة إحترام الآخر, والنأى عن مظاهر الإستعلاء الثقافى أوالنقاء العرقى, ولو تطلب ذلك تفعيل آليات القانون بصرامة كما هو الحال فى الدول المتحضرة, ثم المنع التام عن إستخدام الكلمات والعبارات المسيئة بحق الآخر, والمطلوب أيضاً المكاشفة والمصارحة بطبيعة المشاكل الإجتماعية ذات الجذور العرقية والإثنية بين مكونات الشعب السودانى, إن المسكوت عنه ودفن الرؤوس في الرمال هو أساس الداء والبلاء في السودان, لأن السكوت فى هذه الحالة لا يلغي المشكلة الأساسية والمتمثلة في الإستعلاء العنصري لدى البعض وإستخدامهم لبعض الكلمات البغيضة مثل "عبيد, أولاد كلب, عنصريين, غرابه مغفلين, مرتزقة"!! بحق أهل دارفور, ولذلك يلزمنا أن نعترف أولاً بوجود مثل هذه الإشكاليات ومن ثم مناقشة أسبابها وجذورها وتبعاتها ونوقف ممارسات العسف والغلو والنكران التى لن تفعل شيئاً سوى تعميق الأخاديد بين فئات المجتمع.
وبالنسبة لأهل دارفور فلسان حالهم يقول لقد إنتهي زمن الهمس الخافت إلي التفكير بصوت عال, هناك ثمة مشكلة عنصرية وتمييز قبيح يجرى ضدهم من فئات غير عابئة بقيم الإنسانية وأصول الدين التي تحرِّم التمييز بين الناس, وضد متغيرات العصر التي تؤكد علي إحترام الإنسان للإنسان دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الجذورأوالدين, وفي الوقت الذي نتتحدث فيه عن وحدة وطن وجغرافيا وأراض يجب أن تسبق كل ذلك وحدة قلوب ومواقف و فهم واعى لمصير مشترك, إنَّ الامر ليس بالبساطة كما قد يتصورالبعض إنما أسوأ بكثير مما قد لا يتردد المتضررون منه من التعامل معه بأى وسيلة سواء أكانت بلغة الكلمة أم بقرقعة السلاح, لذلك يتطلب الخروج من الأزمة مراجعة جذرية شاملة يبلور فيها النخب الحاكمة من أبناء وسط شمال السودان النيلى رؤية جديدة لأهل دارفور ومفاهيم عملية مغايرة تساعد على تمدد أطراف الوطن لتتسع للجميع, إذ أنَّ الممارسات التى يتبعونها الآن تنبئ عن قدر كبير من الإحتقار والإزدراء لأناس كانوا ذات يوم أهل عز وسلطنة, ثم إنه من الحكمة الإدراك أنه من أجل غسل أحاسيس الظلم عند الآخرين قد لا يكون بتقديم الحجج والمبررات والمكابرة التي تثبت عدم وجود تلك الظلامات لأن الظلم إحساس مثله والحب والكراهية والخوف لا يزول إلا بإحساس مضاد آخر سنده العدل والإنصاف والمساواة وحينها فقط يتحقق الإحساس بالعدل, فتلك عملية طويلة وشاقة تتطلب بناء الذات النفسية للسودانيين في مسلكهم الإجتماعي اليومي و قد يستغرق بعض الوقت, إن مشاركة أبناء دارفور في الحكم المركزي وبقوة فى وزارات السيادة وقطاع السلك الدبلوماسى يجب ألاَّ تكون منَّةً من أحد سوى معايير الكفاءة ثم مراعاة التوزيع العادل لمواعين السلطة وذلك حق مشروع طالما أنَّ هذا الوطن للجميع, وأخيراً تبقى حقيقة أكيدة وهى إنَّ التنمية والعمران وحدهما لا يحلا قضية دارفور بل يجب أن تمتد ذلك إلى تنمية الذات الوجدانية في وطن واحد كبير يحس فيه كل سوداني أنه مساهم بالأصالة فيه, وذلك هو وحده الذي يمحق الربا ويربي الصدقات: ربا الظلم .. وصدقات المواطنة السوية!! كما قال أحدهم.

خاتمة:
    أختم هذه الدراسة برجاء للقارئ الكريم هو أن يقرأها بعقل مفتوح وتجرد وموضوعية فالحقائق التى أوردناها هى حقائق ثابتة وموثقة لا مجال فيها للنفى والمكابرة, قد حدثت وعانى منها أهل دارفور ولا مجال لنكرانها, وهى كذلك تتحدث عن نفسها, ونسبة لتواترها من نظام لآخر, ومن المستعمر إلى الوطنى, فإنَّ الإفتراض الطبيعى يعكس شكوكاً كثيرة أحسبها سوء نية وقد تكون بقصد الإصرار. ولذلك فإنه يجدر بنا جميعاً كسودانيين أن نتعاون من أجل مستقبل هذا الوطن الذى إرتضينا أن نعيش فيه سواسية جنباً لجنب, والمدخل السليم الذى سيجعل ذلك ممكناً هو إشاعة روح العدل والإنصاف والإحترام المتبادل فذلك هو الذى سيحمى الوطن ليبقى ونبقى معه. وأخيراً أورد البيان أدناه لتجمع روابط أبناء دارفور بالجامعات والمعاهد العليا بالسودان, صدر فى منتصف شهر يوليو 2003م,  يعبر عن روح ناشئة دارفور فى روابطهم بالجامعات والمعاهد العليا السودانية لما فيه من دلالات هامة تعكس نظرتهم حول موقع إقليمهم فى سودان اليوم, وتطلعاتهم لسودان الغد, وتعكس هموم الأجيال الجديدة والصاعدة من أبناء دارفور, علَّ الذين يخططون لمستقبل هذا الوطن مراعاة ذلك ووضعه فى الحسبان, فما عاد السكوت يجدى ولا المسكوت عنه ينمحى من تلقاء نفسه.

بسم الله الرحمن الرحيم
بيان من تجمع روابط دارفور بالجامعات والمعاهد العليا بالسودان
حول الأحداث الراهنة فى دارفور
في إطار السعي لحل مشكلة الحرب في السودان وإنطلاقا من الدور الفاعل الذي يجب علي التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني أن تلعبه في توضيح الرؤي تجاه القضايا الخلافية يرى تجمع روابط دارفور بالجامعات والمعاهد العليا بالسودان, والذى يضم أكثر من أربعين رابطة جغرافية وإثنية وجامعية و يبلغ إجمالي عضويتها أكثر من سبعة وعشرون ألف طالب وطالبة بالجامعات والمعاهد العليا, أن الحرب الدائرة الآن في دارفور لم تجد الحظ الوافي من التبصير علي صعيد المجتمع الدولي وللأسف فقد تم إختزاله بشكل مخل يهدد بنسف كل الجهود المبذولة من قبل الإيقاد و شركائها لحل قضية الحرب في السودان وذلك نسبة لإصرار الحكومة علي إيهام الرأى العام الداخلي والخارجي بأن الذين يحملون السلاح في دارفور قطاع طرق و خلايا إرهابية, وأن قصدها الحقيقى هو التغاضي وعدم التطرق للقضية الأساسية والتى تتمثل فى المظالم والتجاهل والتهميش والغبن التنموي, إنَّ ذلك قد يهدد بإنفجار واسع في إقليم يزيد سكانه عن ستة ملايين نسمة يعانون الفقر والجوع والمرض, فولاية بأكملها مثلا لا يوجد بها إخصائي توليد واحد, ويعمَّها الجهل حتى تبلغ نسبة الفاقد التربوي عشرون بالمائة في المدن و ستون بالمائة في الأرياف التى تأوي تسعين بالمائة من السكان, و من إجتاز ذلك بمعجزة و تلقي تعليما لن ينل حظه فى خدمة دولته فعند التقدم لوظيفة ما تقف أمامه عقبة خانة القبيلة التى تحويها كل إستمارة, فصار التوظيف علي أساس قبلى قبل الشهادة الأكاديمية.
أما على المستوى الإجتماعى فيعانى إنسان الإقليم من نيل أبسط حقوقه ولا تحفظ له أدنى مستويات الإحترام اللائق بإنسانيتة, فعلى مستوى العاصمة مثلاً فهم دوما أصحاب المهن الهامشية كبائعي الماء والتسالي والذين معظمهم من الطلاب الفقراء, إضافة إلي ذلك تسعى الحكومة جادة  لإبادة إنسان المنطقة مستغلة التباين العرقي فتقوم بخلق الفتن ودعم الحروبات القبلية وحملات الإبادة بواسطة الجيش في أسوأ أسلوب من غياب الضمير الإنساني والذى تمثل فى حرق القري ونهبها تحت زعم مطاردة عصابات النهب المسلح حتى صار ركوب الجمل جريمة تهدر الدم به دون فرصة للدفاع.
أما على صعيد البنية التحتية فلا يوجد بدارفور رغم مساحته سوي طريق واحد لم يكتمل الجزء الغربي منه نسبة لإهمال حكومة المركز. أما خدمات الكهرباء والماء فلا تتوفر إلا لقلة تسكن المدن الرئيسية الثلاث و بصورة غير منتظمة حيث ينقطع الماء لأيام عديدة والكهرباء أسوأ منه حيث تنقطع لشهور فى بعض الأحيان.
إن الأقصاء و التهميش والإستهداف لأهل الإقليم بات واضحا حتي علي مستوي تطبيق قوانين الدولة, فعلى مستوى الشريعة والمتمثلة في جرائم الحدود لم تطبق في عمر الإنقاذ إلا مرتين كانتا على أبناء دارفور فقط, ففي المرة الأولي قطع أطراف ستة أشخاص لسرقة حصان! و في الثانية صلب أربعة لنهب بنك نيالا, والغريب أن هناك آخرون نهبوا بنك أمدرمان الوطني وعوقبوا بعشر سنوات سجن فقط, إذ كان الإختلاف فى القضيتين تتمثل فقط فى نوع العربة التى تمَّ إستخدامها فى عملية النهب, وحتى مع صدور ذلك الحكم بالسجن فإنه لم يتم نسبة لأنَّ السجون كانت مليئة بالمجرمين فأوقف التنفيذ!
إن الذين يحملون السلاح اليوم في دارفور شباب في سن الدراسة وكان مكانهم الطبيعي هو الفصول والقاعات لولا الإستهداف من قبل نخب الإقليم الشمالي الذي دفع بهم إلي حمل السلاح من أجل دفع الإستهداف الجهوي و العرقي.
من مبدا حرصنا علي سلامة ووحدة البلاد و ضرورة مشاركة الجميع في صياغة سلام عادل يرضي جميع أطراف النزاع في السودان نحن طلاب دارفور نطالب بالاتي:
(1) إنهاء فكرة تقسيم السودان إلي شمال و جنوب ووضع إعتبار للمناطق الأخري, كغرب و شرق السودان, كمناطق تعانى من إشكالات لا تختلف عن جنوب السودان و جبال النوبة و أبيي والأنقسنا.
(2) القسمة العادلة للسلطة و الثروة علي أساس نسبي حتى يزيل الإنطباع بأن الشمال وحده يحكم السودان منذ عام 1956 م و يمارس الإقصاء والإبادة ضد الشرق والغرب بإعتبارهما جزء من الشمال الجغرافي.
(3) إدراج دارفور ضمن القضايا المطروحة في مشاكوس أسوة بالمناطق الثلاث.
(4) المطالبة بحكم ذاتي أثناء الفترة الإنتقالية حتى لا نلحق بالشمال, كما ألحقنا به بعد الإستقلال, و نسلم من سوء أخلاق أهل الشمال تجاه إتفاقيات السلام و نحافظ على خصوصيتناالمعروفة عبر التاريخ.
(5) عدم تحمل دارفور تبعات ديون حكومة نخب الشمال التى لم تصرف في تنميتنا.
(6) المطالبة بحق تقرير المصير بعد الفترة الانتقالية لخصوصية الإقليم ومعاناته و تعمد حسبانه جزء من الشمال.
(7)  التدخل السريع لمنظمات حقوق الإنسان لرصد الإنتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان وإيصال الغذاء لإنهاء حالة الجوع المستدامة في المنطقة.
(8) حماية مواطنى دارفور من تسلط حكومات الخرطوم الإسلاموية والتعسف في تطبيق الشريعة التى صارت لردع إنسان دارفور فقط.
(9) إرسال قوات دولية لحماية المدنيين من القصف الجوي وتصرفات القوات المسلحة ومليشياتها الرعناء من دفن الآبار وحرق القري والإغتصاب والتهجير فقد بلغ عدد الضحايا أكثرمن 3450 منذ مطلع 2003م فقط. و الإسراع بإعلان دارفور منطقة منزوعة السلاح.
(10) المطابة بعدم الزج بالمدنيين من أبناء القبائل في الصراع لإعطائه طابعا قبليا.
(11) المطالبة بوجود تمثيل دائم للمنظمات الدولية للتحقيق في حالات إستخدام الأسلحة الكيميائية من قبل الحكومة ضد الأبرياء.
(12) البدء فوراً فى إنشاء طريق الغرب والمساءلة القانونية والجنائية لأموال ذلك الطريق الذى جمعه أهل دارفور من حر مالهم.
(13) تعويض قبيلة المعالية في مناطق شارف والتبون نتيجة لفقدان أراضيهم جراء إستخراج البترول أسوة بتعويضات سد مروي.
(14) ضرورة وجود عاصمة قومية خالية من الإضطهاد العرقي والديني.

لجنة التنسيق
16/7/2003م

 

آراء