إشكالية العلاقة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى “والكلام المسكوت عنه”

 


 

 


تحليل تاريخى سيكلوجى

د. حسين آدم الحاج
helhag@juno.com
الحلقة (1/7)
مدخل:

    لفهم طبيعة العلاقات الإجتماعية والتاريخية وقياس مستوى الإنسجام بين مكونات مجتمع الوطن الواحد يمكننا النظر إلى ثلاثة مدارس بحث متباينة فى تناولها لهذه المسألة, لكن قبل توضيح ذلك نود تعريف عبارة "مستوى الإنسجام الإجتماعى" بين المكونات والتركيبات الإجتماعية لمجتمع وطن ما بأنها درجة التناغم والتفاهم وعمق التعاون والإختلاط ومستوى الإحترام والثقة المتبادلة بين هذه المكونات ويمكن قياس ذلك بمستوى نسبة الجرائم ذات الجذور العرقية ومظاهر الشعور بالكراهية والتعالى والإزدراء المتعمد والتنافر المبنى على أساس قبلى أو دينى أو تاريخى أو جهوى, ومستوى التداخل الزيجى, بالإضافة لنوع سياسات المجموعات المتسلطة على السلطة إزاء جماعات أخرى ودرجة إنصافهم لهم فى برامج الدولة الإقتصادية والإجتماعية ومدى إشراكهم فى دوائر السلطة وإتخاذ القرار على المستوى القومى للدولة.
    أول تلك المدارس تعتمد منهج التحليل الكلى الذى ينظر إلى المجتمع نظرة كلية أو ككتلة واحدة, دون التقيد بفئة أو فئات معينة فى تركيبها, ثم يقيس مستوى عمق الإنسجام بين كل المكونات مجتمعة بمقياس عريض, هذا المنهج يفيد غالباً فى تحليل المجتمعات ذات المكون الواحد تقريباً المنسجم عرقياً أو دينياً مع تضاؤل الفوارق الإقتصادية والثقافية بين تركيباته وطبقاته ومثال على ذلك المجتمع السورى مثلاً والمجتمع المصرى إلى حد كبير.
أما منهج المدرسة الثانية فتنزع إلى تحليل تأثير المكونات الكبيرة والتى لها الغلبة العددية والمستحوذة على جلَّ الثروة ومراكز السلطة والمسيطرة على الكيانات الصغيرة الأخرى, خاصة إذا صاحب ذلك فوارق واضحة فى الثراء والتعليم وفرص النجاح فى الحياة, هذا المنهج يتناسب فى تحليل مجتمع دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث تتعدد الفوارق الإثنية لكن تظل الغلبة دائماً لسلالة البيض ذو الأصول الأنجلوسكسونى القابضين على مفاصل الدولة وتسيير دفة المجتمع ولا يجد الفئات الصغيرة إلا الفتات أو ما يسمحون به لهم من أجل إضفاء هالة مصطنعة للعدالة والمساواة الإجتماعية.
منهج المدرسة الثالثة يتجه إلى تحليل سمات الإلتقاء والإفتراق بين المكونات الإثنية المتعددة فى الدولة من خلال تحليل مداخل وإفتراضات تاريخية وجغرافية تركت أثراً فى تكييف مظاهر سيكلوجية فى فهم تلك المكونات لبعضها البعض, خاصة إذا صاحب ذلك شعور زائف لبعضها تجاه آخرين مثل النقاء العرقى أو الإستعلاء الدينى. هذا المنهج يتناسب فى تحليل علاقات المجتمع فى الدول النامية, خاصة الأفريقية والعربية منها, حيث يكثر التعدد الإثنى والإختلاف الدينى داخل حدود الدولة الواحدة وتغول النفوذ القبلى إلى مستوى التأثير المباشر على سياسات الدولة الإجتماعية والتنموية, ويمثل دول مثل نيجيريا والسودان أبرز أمثلة لتطبيق هذا المنهج. وبناءًا على ذلك يمكننا إستخدام هذا المنهج الثالث فى تحليل طبيعة العلاقات بين المكونات الإجتماعية فى السودان من خلال إستخلاص المؤثرات التاريخية والسيكلوجية لتحليل سياسات الدولة المركزية السودانية تجاه المجتمع السودانى, متخذين من إقليم دارفور نموذجاً, مع محاولة فهم الدوافع التى عملت على تغييب هذا الإقليم تماماً فى معادلات التنمية الإقتصادية والإجتماعية والمشاركة العادلة فى مجالى السلطة والحكم. ونود بداية أن نشير إلى أن مفهوم الدولة المركزية السودانية فى هذا التحليل يتضمن الإدارات الإستعمارية والوطنية على السواء والتى سيطرت على مقادير حكم السودان من المركز. وإن كانت الإدارات الإستعمارية قد تمثلت فى التركية المصرية سابقاً ثم الإنجليزية المصرية لاحقاً إلا أن الإدارات الوطنية بعد إستقلال البلاد ظلت حكراً على أبناء وسط شمال السودان النيلى وفشلت فى أن تعكس مرآة للقومية السودانية الممتدة بل وظلت بصورة خاصة, ومن خلال سيطرتها الدائمة على السلطة, تمارس تعسفاً مقصوداً ومبرمجاً تجاه أهل دارفور بالذات مواصلة للسياسات الإستعمارية التى سبقتها فى هذا المجال.
    أعترف بداية بأن مجرى هذا المقال قد يكون عسيراً على البعض خاصة وأنه سيركز على الكلام المسكوت عنه فى بعض جوانب السياسة والعلاقات بين دارفور والسلطة المركزية السودانية, وقد يسارع البعض بإتهامى بإثارة العنصرية وضرب الوحدة الوطنية والذى ظللنا نسمعه دائماً حيثما يتعلق الأمر بدارفور و حقوقه, لكن ذلك لا يهمنى البتة إستصحاباً لمبدأ "لا حياء فى الدين", فالأمر الأهم عندى والعزاء يتمثل فى أن السكوت عن تلك الحقائق هو ما سيفرق بين فئات الشعب السودانى, جرياً على مقولة ذلك السياسى الجنوبى الحكيم, إن أفضل طريقة لتفريغ الإحتقان فى البثور النتنة هى نبشها ونكأها من أجل إزالة الصديد والخبث وتطهير الجرح ليتعافى بصورة سليمة وكاملة, ولذلك كانت لجنة البحث عن "الحقيقة والمصالحة فى جنوب أفريقيا" برئاسة الأسقف دزموند توتو, لم تهدف لنكأ جراح الماضى المؤلمة للمجتمع الجنوب أفريقى بلا غرض بل من أجل إزالة الأورام والتشوهات التى حدثت بفعل سياسة الفصل العنصرى والتهميش, وردمها خلف الذاكرة حتى يستقيم مسار المجتمع الجديد وبناء دولة العدالة والمساواة.

فرضيات العلاقة بين دارفور ووسط السودان النيلى:
    فى خضم المشاكل والحروب الدائرة الآن فى دارفور, وما قد يثير ذلك من تكهنات وتساؤلات عديدة حول دوافعها وأسبابها, تجدر الإشارة بل التأكيد على أن ما حدث فى الماضى و يحدث اليوم ما هو إلا إنعكاس لترسبات تاريخية وثقافية شكلت وإلى حد كبير إطاراً معقداً من التفاهم ما بين دارفور من ناحية ووسط السودان النيلى (أو قوام الدولة السودانية منذ الإستقلال) من ناحية أخرى. إن عدم محاولة خلق أرضية مشتركة للتفاهم سواءٌ خلال العهود الإستعمارية المختلفة أو فترات الحكم الوطنى ما زادت الأمور إلا تعقيداً مما أدت إلى خلق عوازل سيكلوجية ظلت وبإستمرار تحول دون بناء جسور التقارب, تطورت لاحقاً إلى إشكالات حقيقية فى العلاقات بينهما لعب التاريخ دوراً مباشراً فى قولبتها وأكملت سلطة الوسط المركزى المتمثل فى المستعمر والوطنى على السواء ترسيخها فى شكل سياسات معتمدة وثابتة لم تساعد مطلقاً فى إرساء دعائم البناء الوطنى السليم.
إن ترسبات بعض الأحداث التى تراكمت فى قاع ذاكرة التاريخ تسربت بقوة إلى قيعان ذاكرة بعض الجماعات وطفحت فى شكل ثقافات, وإن كانت محلية, إلا أنها توطدت بفعل عامل الزمن وأدت بتلك الجماعات, والتى سيطرت على السلطة المركزية لاحقاً, لإنتهاج سياسات نحو دارفور قد تحمل قدراً هائلاً من سمات الإنتقام كرد فعل لإرث التاريخ وإسقاطات الماضى. إن كل التحاليل والمقالات التى تناولت موضوع دارفور فى الآونة الأخيرة لم تحاول الإشارة إلى هذا الجانب بل وتجنبت صراحة أن تضع أصابعها على كبد الحقيقة مخافة من الإتهام بخلق فتنة أو ربما مواربة عن الإعتراف بالحقيقة المرة حول الظلم الفاضح الذى تعرض له دارفور وأهله, وما زالوا, من جانب الذين سيطروا على مقاديرالقرار والسلطة المركزية السودانية.
    إن الحقيقة التى نود أن نقررها إبتداءًا فى صدر هذا المقال هو أن العلاقات بين دارفور ووسط السودان النيلى لم تكن سمحاً ومنسجماً فى غالب الأحيان بل وظلت متوترة على الدوام تشوبها الشكوك المتبادل منذ فجر العلاقات المباشرة بينهما, عمَّق ذلك إنعزال كل منهما عن الآخر, فبينما إنعزلت دارفور بتاريخها وجغرافيتها ولم تتطلع شرقاً إلا لماماً ظلًّ وسط السودان النيلى بمنأى عنها, ولذلك عندما حاول أهل دارفور الإندماج فى مجتمع ذلك الوسط الجديد عليهم, بدءًا من عهد الدولة المهدية, نتج عن ذلك رفضاً لهم و تطور إلى صراع كان عنيفاً فى أغلبه. إن معظم سياسات السلطة المركزية السودانية الجائرة على دارفور اليوم تتمدد جذورها إلى حقبات تاريخية محددة ساد خلالها صراع إجتماعى جهوى مثل تلك التى تحدث دائماً فى مجتمعات الدول حديثة التكوين.

العزلتين الجغرافية والتاريخية:
    إن عزلة دارفور تاريخياً عن بقية مناطق السودان الحالى لم تكن أمراً إختيارياً منها بل خلقتها عوامل كثيرة أهمها الطبيعة الجغرافية ثم غياب شبكة التداخل وإنعدام العلاقات التى تنشأ بين المجتمعات والتى دائماً ما تؤدى فى النهاية إلى تمازجها وتناغم ثقافاتها فى أراض ومساحات مشتركة تنسجم مع بعضها البعض. تاريخياً لم يحدث ذلك بين دارفور ووسط السودان النيلى.
    لقد عزلت الطبيعة دارفور من ثلاث جهات ولم تجد منفتحاً لها إلا من جهة الغرب ذلك أن الصحراء الليبية تتمدد فى شمالها إلى كثبان رملية شاسعة وجرداء نادرة الحياة والخضرة شكلت حاجزاً منيعاً لأى هجرات أو هجمات عسكرية ويتبين حقيقة ذلك من معاناة القوافل التجارية التى تسلك دروب الصحراء فى الماضى إذ كانت تحتاج إلى شهور وليالى لقطع تلك الصحارى أشهرها درب الأربعين الذى كان ينطلق من كوبى والفاشر إلى أسيوط بصعيد مصر وتواصل سيرها بمحاذاة النيل إلى القاهرة حيث تحتاج القوافل إلى أربعين يوماً من السير والحراك ناقلةً التجارة بين دارفور ومصر إذ غالباً ما تتكون كل قافلة على ما يزيد عن عشرة ألف جمل من الحمولة وقد يصل بعضها إلى خمس عشرة ألف جمل. لقد لعب ذلك الدرب دوراً فاعلاًً فى إنتعاش علاقة دارفور بمصر فى كل المجالات تقريباً لكنه لم يجد الدراسة والبحث اللازمين وياليت لو إلتفت مؤرخونا لمثل هذه الجوانب المنسية من تاريخنا القومى.
أما من الناحية الشرقية لدارفور فقد شكل كثبان التلال الرملية التى ترقد بعمق على طول حدودها الشرقية, وإلى يومنا هذا, وإمتدادات سهول كردفان الواسعة من ورائها, حاجزاً طبيعياً أدى إلى صعوبة التواصل بين دارفور ووسط السودان النيلى اللَّهم إلا من تواصل مبتسر مع دولة الفونج فى فترات السلام القصيرة التى تسود بينهما, وإنتعاش طريق الحج فى المواسم السلمية التى تسمح بتنقل الحجيج بأمن وسلام خاصة أولائك القادمين من ممالك غرب أفريقيا الإسلامية.
    من ناحية الجنوب عزلتها بحر العرب والغابات الإستوائية الكثيفة والحشرات المؤذية للإنسان والحيوان إضافة إلى القبائل الشرسة والتى شكلت حاجزا مستعصياً للتمدد والإنفتاح جنوباً أو حدوث أى تداخل إجتماعى أو ثقافى رغم المبادلات التجارية الكثيفة المتمثلة فى الحصول على العاج (سن الفيل) والمنتجات الإستوائية الغنية.
    وأخيراً تبقى المنطقة الغربية هى الأهم لدارفور نسبة لأنها منطقة مفتوحة ليست بها موانع طبيعية سواءًا كانت جبلية أو رملية أو مائية مما ساعد فى تواصل سلطنات دارفور مع البلدان التى تقع وراء تلك المنطقة مثل سلطنات ودَّاى وباجرمى والكانم والبرنو ونتيجة لذلك كانت منطقة الشريط المحاذى لحدودها الغربية مسرحاً مفتوحاً للتدخلات المستمرة بينها وسلطنة ودَّاى وظلت تخضع دائماً للمؤثرات السياسية والقوة العسكرية والتفاعل القبلى إذ لم تشكل الحدود السياسية, وإلى يومنا هذا, مفهوماً عميقاً لتحركات القبائل جيئة وذهاباً عبر تلك المنطقة.
    إن موقع دارفور على هذا النحو جعلها موقعاَ جغرافياً مهماً, إذ أصبحت منطقة عبور و وصلة بين ممالك غرب ووسط أفريقيا ومنطقة وسط السودان النيلى من خلال ما كان يُعرف بدرب السودان (طريق الحج), ثم ربط مصر ودول شمال أفريقيا بالأدغال والغابات الإستوائية عن طريق القوافل ودرب الأربعين ولذلك فقد تعرضت للتأثيرات الثقافية والعرقية بدرجات متفاوتة وطبعتها بطابع خاص بعد أن أصبحت ميداناً تقابلت فيه الهجرات وطرق القوافل. ومن خلال ذلك فقد تمكنت تاريخياً من بناء صلات مختلفة بممالك ودول أحاطت بها من معظم جهاتها, فمن جهة الشمال كانت توجد سلطنة الزغاوة ودول ما وراء الصحراء مثل مصر وليبيا وقرطاج ومراكش وموريتانيا والخلافة الإسلامية بإسطنبول, ومن الغرب ممالك ودَّاى والكانم وبرنو وما وراءها من ممالك السودان الغربى مثل مالى والتكرور والهوسا وغانة, ومن الجنوب بحر الغزال والكنغو وأواسط وجنوب أفريقيا, ومن الشرق الممالك النوبية المسيحية وسلطنة الفونج, ولعل المفارقة هنا هو حدوث علاقات قوية وهجرات ضخمة من مناطق غرب ووسط أفريقيا إلى دارفور, خاصة القبائل العربية الرعوية, وجد التشجيع والترحيب من سلاطين دارفور من أجل تعمير الأراضى الشاسعة المترامية جنوبى السلطنة, تقابلها عكس ذلك تداخلات مبتسرة بينها وبين منطقة وسط السودان النيلى إذ كل ما كان يفد منها لدارفور قليل من التجارة وبعض العلماء ظلت محدودة التأثير ولم تترك أثراً ذات شأن فى حياة وثقافة الناس المحليين. فحتى وإن كانت التجارة بين المنطقتين مثلت أبرز العلاقات المباشرة فإنها فى جملتها تبقى ضئيلة فى تأثيرها مقارنة بحجم التجارة مع مصر ودول شمال الصحراء عن طريق درب الأربعين وطرق القوافل الأخرى التى تتقاطع فيها بين دول شمال وغرب ووسط أفريقيا.
    من ناحية أخرى فقد ظل سلاطين الفور يشجعون هجرة العلماء لسلطنتهم والإستقرار بها لتعليم الناس أمور دينهم وكانوا يقطعونهم الإقطاعيات (الحواكير) تشجيعاً لهم, وبالرغم من وصول بعض العلماء من سلطنة الفونج ووفود بعض علماء الجوامعة حيث أقطعهم السلطان محمد الفضل منطقة "جديد السيل" شمال شرقى الفاشر, نجد أن أغلب العلماء من الذين وفدوا إليها كانوا من مناطق شمال وغرب أفريقيا و كان لبعضهم نفوذ كبير مثل الفقيه يوسف بن على الفوتاوى وإبنه الإمام مالك الذان أوقدا نار القرآن فى منطقة كريو جنوبى الفاشر تعلم فيه السلطان عبدالرحمن الرشيد الذى نصَّب الأخير وزيراً فى ديوان السلطنة بعد مساعدته له فى الصعود لكرسى السلطان بعد وفاة السلطان تيراب فى كردفان وأقطعه وذريته "حاكورة"  كبيرة فى منطقة "شاوا" جنوب الفاشر. وقد وفد إلى دارفورأيضاً الكثيرمن العلماء الشناقيط من موريتانيا ومراكش, أو ما يُعرف بالمغرب اليوم, ولعل المسنين من أهل دارفور اليوم ما زالت بعض العبارات مثل "العالم الشنقيطى" و"فاس الما وراها ناس" ترد على ألسنتهم دليلاً على أثر الشناقيط فى ثقافة أهل دارفور العلمية والدينية, وأبرز دليل آخر على ذلك هو دخول الطريقة التجانية لدرفور قادمةً من مراكش بالمغرب العربى حيث ظلت مدينة الفاشر تمثل أبرز معاقل هذه الطريقة على مستوى السودان يقابل ذلك خلو دارفور تقريباً من مظاهر الطرق الصوفية المتعددة التى إنتشرت فى وسط السودان النيلى وكانت لها شأن أيام سلطنة الفونج.
    نخلص من خلال هذا السرد الموجز إلى أن علاقات دارفور التجارية والثقافية والعرقية مع مناطق شمال وغرب ووسط أفريقيا قد فاق فى حجمها وأهميتها لسلطنة دارفور تلك التى نشأت بينها ومنطقة وسط السودان النيلى, وبالرغم من علاقات الدين واللغة العربية اللتان تجمعهما معاً إلا أن تلك العلاقات ظلت باردة إذ لم يكن أى منهما حقيقة فى حاجة للآخر فى أمور مصيرية وعاشتا شبه معزولتين عن بعضهما البعض بسبب البعد الجغرافى وإختلاف الأوعية الثقافية, فبينما ظلت منطقة وسط السودان النيلى متفاعلاً مع نفسه وعلاقاته مع مصر ودول شرق أفريقيا والجزيرة العربية عبر البحر الأحمر ظلت دارفور قانعة بعلاقاتها مع مصر ودول شمال وغرب ووسط أفريقيا بوجه عام وقد أسفرعن ذلك علاقات كانت طبيعتها الصراع.

بداية الصراع:
    يقول علماء العلاقات الدولية إنه ما من دولتين جارتين طوال التاريخ إلا ونشب بينهما الصراعات والحروب وتصدق هذه النظرية, إن صحت, على العلاقة بين دارفور ووسط السودان النيلى, ففى ظل العزلة التى عاشتهما حدث أول توتر حقيقى بينهما فى عهد السلطان تيراب بن السلطان أحمد بكر (1768-1787م) وهى الواقعة الحربية مع جيش العبدلاب حيث تقول الروايات أن المسبعات, وهم أبناء عمومة للفور, خرجوا من دارفور, بعد أن خسروا عرش السلطنة لأبناء عمومتهم الكنجارة, وإبتنوا لهم سلطنة فى كردفان ظلوا يحكمونها بسلام بجانب سلطنة الفور إلا أن سلطانهم هاشم, وكان محبَّاً للحروب والغزوات, سولت له نفسه الإنتقام والسيطرة على عرش سلطنة الفور فقام بشن الغارات على الأجزاء الشرقية منها ولم يرعو بالرغم من إصطبار السلطان تيراب عليه ومحاولات ردعه بالحسنى عبر رسائله الشخصية المعنونة إلى "إبن العم المكرم السلطان هاشم سلطان كردفان أعزَّه الله". ولمَّا لم يثن ذلك السلطان هاشم, بل لم يزده إلا تماديا,ً أجابه السلطان تيراب للحرب وقاد جيشاً عرمرماً قاصداً به كردفان, ولمًّا علم السلطان هاشم أن السلطان تيراب يقصده بجيش لا قبل له بمحاربته و قد تفرق أغلب رجاله عنه وكانوا خليطاً من الدناقلة والكبابيش والرزيقات فرًّ بحاشيته وإلتجأ إلى ملك دنقلا فطلبه السلطان تيراب هناك وسار فى أثره حتى وصل شمال منطقة أم درمان الحالية فقابله جيش العبدلاب, نيابة عن ملك الفونج, قاصدين منعه من النزول إلى النيل, وهنا يحدثنا نعوم شقير فى مؤلفه الضافى "جغرافية وتاريخ السودان" (طبعة بيروت 1967م) فيقول: "فأوقع بهم السلطان تيراب واقعة عنيفة وكسرهم شرَّ كسرة ففروا طالبين النجاة فتبعهم جيش السلطان تيراب يقصد الإستيلاء على نحاسهم المنصورة فدافع العبدلاب عنه بأنفسهم دفاع الأبطال حتى قتل منهم سبعون رجلاً وفاز تيراب بنحاسهم فسُرَّ به سروراً فائقاً حتى إنه طلاه بالذهب من الداخل والخارج" (صفحة 452). إن الإستيلاء على نحاس العدو فى عادة أهل ذلك الزمان كان يعد أكبر عار ووصمة فى جبين الدولة المنهزمة, ولذلك ظلَّ ذلك النحاس, وآخر مثله غنمته جيوش سلطنة الفور من مملكة ودَّاى وإسمه "البيضاء", محل إهتمام وتقدير كبيرين من كل سلاطين الفور يحتفل بهما الخلف عن السلف دليلاً على قوة السلطنة وتعبيراً عن هزيمة الشرق والغرب معاً, ولذلك جعلوا لحفظهما وزير خاص وكانوا فى كل سنة يجددون تجليدهما بموكب حافل يجتمع فيه أهل السلطنة بقيادة السلطان ووزارؤه وقواد الجيوش والعلماء وعامة الرعية, وداموا على ذلك إلى أن سقطت السلطنة بيد الزبير ود رحمة تبعها ضم دارفور لدولة الحكم التركى و أُرسل النحاسان للقاهرة ولا ندرى مصيرهما إلى اليوم, وعليه يجب على إدارة متحف السلطان على دينار بالفاشر ومصلحة الآثار والمتاحف السودانية السعى لردهما حفاظاً على التاريخ والثروة القومية السودانية.
    يقال فى تراث سلطنة الفور أنَّ السلطان تيراب واصل تعقبه للسلطان هاشم بعد قضائه على جيش العبدلاب وسار بجيشه شمالاً إلى أن وصل منطقة المتمة الحالية ولم يستطع عبور النيل إلى الضفة الأخرى, إذ لم يكونوا أهل بحر, وهنا توسل إليه أهله بالإكتفاء بما تحقق لهم من نصر والعودة إلى ديارهم بعد أن إبتعدوا عنها لأكثر من عام كامل, وبعد تفكير ومراجعة للموقف قرر العودة وقال كلمتة المشهورة "هذه هى متمتنا" (أى نهاية فتوحاتنا) فسميت تلك البقعة "بالمتمة", وهى المدينة الحالية, إذا صدقت تلك الرواية تكون حدود سلطنة دارفور قد بلغت مداها من جهة الشرق فى عهد السلطان تيراب لتشمل منطقة وسط وشمال كردفان والأجزاء الجنوبية من ولاية نهر النيل الحالية عند أطراف ديار الجعليين إضافة إلى المناطق الشمالية من ولاية الخرطوم الحالية. علاوة على ذلك فإن مدينة المتمة تكون قد شكلت مفصل محورى فى العلاقات بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى فبجانب هذه الحادثة نجدها قد مثلت محور خلاف أ شد فى عهد الدولة المهدية على نحو ما سنرى لاحقاً فى هذا المقال.
    لقد مثلت حادثة هزيمة جيش العبدلاب طعنة عميقة وأحدثت شرخاً غائراً فى علاقة سلطنة الفور بمملكة الفونج وتبعاً لذلك صارت منطقة كردفان دار حرب بين الجانبين يسيطر عليها من كان أقوى عسكرياً قبل أن يستعيدها الآخر وإن ظلت فى أغلب الفترات تحت سيطرة الفور إلى أن إنتزعها الدفتردار للحكم التركى بعد هزيمة الأمير مُسَلَّم عامل سلطنة دارفورعلى كردفان فى معركة بارا صباح يوم 16 أبريل 1821م. لقد كان العبدلاب, وهم شركاء الفونج فى قيام سلطنة الفونج, يسيطرون على الأجزاء الوسطى من تلك السلطنة وهى منطقة شمال الجزيرة والخرطوم اليوم, وعاصمتهم فى "قرِّى" الحالية, وبذلك تمثل هزيمتهم أمام قوات الفور أول صدام مسلح بين دارفور ووسط السودان النيلى لابد أنها تركت شيئاً عالقاً فى النفوس من جانب النيليين, يدل على ذلك الإكرام والحفاوة الذان وجدهما السلطان هاشم أينما حلًّ خلال رحلة فراره. وفى هذا يقول أحمد عبدالقادر أرباب فى كتابه "تاريخ دارفور عبر العصور" (1998م) بأن السلطان هاشم لجأ إلى ملك دنقلا أولاً ثم إتصل بالملك صبير ملك الشايقية الذى أكرمه وأحسن وفادته وفيما بعد زوجه إحدى كريماته لتوطيد العلاقة بينهما, بعد ذلك لجأ إلى ملك السعداب بشندى محاولاً كسب صداقته ثم أنتهى به المطاف إلى بلاط الفونج طالباً العون لإسترداد عرشه, لكنه لم ينجح, رغم المحاولات الجادة التى قام بها وظل يتنقل داخل بلاد الفونج إلى أن مات بها (صفحة 99-100).
من خلال هذا الحراك الدرامى نجد أن السلطان هاشم لم يكتف بما جرًّ للعبدلاب والفونج من مأساة بل تمكن أيضاً من إيغار صدور الدناقلة والشايقية والجعليين ضد سلطنة الفور وإلاَّ فما معنى ذلك الترحاب الدافئ الذى وجده منهم ومحاولتهم الحثيثة لمساعدته لإستعادة سلطنته المفقودة؟ إذاً نخلص من هذه الحادثة إلى حقيقة أن صراع السلطان تيراب مع إبن عمومته السلطان هاشم قد تحول من صراع دارفورى كردفانى محدود بين أبناء العمومة الواحدة إلى مواجهة مبكرة بين سلطنة دارفور وأهل وسط وشمال السودان النيلى بصورة عامة, ويمكننا تبعاً لذلك من أن نفترض عن وجود علاقة بين الإسقاطات التاريخية والسيكلوجية نتيجة لتلك الحادثة وتطور الأحداث فى فترات لاحقة كما سيجيئ ذكرها.
    بعد سقوط كردفان فى يد الدفتردار لم يسع لضم دارفور إلى السودان الجديد آنذاك إذ إضافة إلى بعدها ومشقة الوصول إليها فإن إغتيال صهره إسماعيل باشا فى ديار الجعليين أجبرته للعودة شمالاً والفتك بهم وبكل من قابله فى طريقه نحو شندى. لذلك ظلت دارفور مستقلة عن السودان التركى المصرى ولأكثر من نصف قرن حتى أسقطها الزبير باشا ودرحمة.

الزبير باشا:
    ينطبق على الزبير باشا المثل الشعبى القائل "التسوى كريت فى القرض تلقاها فى جلدها", وما فعله الزبير بسلطان دارفور الشاب إبراهيم قرض بقتله وإزالة سلطنته إرتدَّ عليه سواسيةً بإسقاط ملكه الذى إبتناه فى مناطق بحر الغزال الغربية زيفاً ومقتل إبنه ثم الإنتهاء به أسيراً منفيَّاً فى جزيرة جبل طارق. لقد أسقط الزبير سلطنة ظلت قائمة ومتمتعة بإستقلالها لقرون عديدة وأهداها إلى المستعمر التركى لكنه لم يجن من ذلك سوى الخسران والندامة.
يرجع نسب الزبير باشا إلى فخذ الجميعاب من قبيلة الجعليين, وهو من منطقة الجيلى شمال الخرطوم حيث ما يزال أحفاده يقيمون فيها. قام فى مقبل شبابه بمرافقة البحارة تجار الرقيق إلى منطقة بحر الغزال ونشط معهم حيث تمكن من تكوين ثروة عظيمة مكَّنته من إنشاء أقطاعية ظلَّ يحكمها مستقلاً عن أى سلطة خارجية نسبة لبعدها ووعورة الوصول إليها, لكنه, ومع تطور الأحداث بعد الإحتلال التركى للسودان, أظهر لاحقاً الخضوع والإمتثال لسلطان الحكومة التركية فى الخرطوم مخافة من أن يفقد ملكه وأمواله. لكن السبب الحقيقى كان أقوى من ذلك وهو أنَّ الدول الأوربية كانت تضغط بشدة على محمد على باشا وخلفائه من بعده على إبطال تلك التجارة اللعينة, "تجارة الرقيق", ومحاربة الذين يتَّجرون بها, وبناءًا عليه فقد أيقن الزبير والبحارة الذين معه, وهم خليط من الدناقلة والجعليين والشايقية, أنهم مواجهون بخيارين إما محاربة الحكومة, وهو شيئ غير مضمون العواقب على المدى الطويل, أو التعاون ومحاولة خلق نوع من التعايش معها فكان إن أختار الزبير الخيار الثانى ونتيجة لذلك عفا عنه الخديوى وعينه مديراً لمديرية بحر الغزال أملاً فى الإستفادة من قوته ومعرفته التامة بأمور تلك البلاد فى تثبيت سلطة الحكومة والمساعدة فى إبطال تجارة الرقيق مما يسمح لها بالتفرغ لضم سلطنة دارفور إلى بقية السودان كهدف ظلت تفكر فيه منذ حملة الدفتردار على كردفان.
ويقال أن خلافاً نشب بينه وبين قبيلة الرزيقات الذين كانوا وقتها يتمتعون بإستقلال إسمى عن سلطنة الفور. فبعد إتهامه لهم بقطع طريق قوافله التجارية بين بحر الغزال وبقية أنحاء السودان قام بمحاربتهم وإحتل حاضرتهم "شكا" حيث فرَّ مشائخ الرزيقات بعدها ولجأوا إلى سلطان دارفور إبراهيم بن محمد الفضل, الملقب بقرض, الذى تولى العرش لتوه وهو شاب فى مقتبل العمر, حيث طلبوا الإستجارة به مقابل أن يعلنوا خضوعهم التام للسلطنة ويعترفوا بالسلطان سلطاناً رسمياً عليهم. ذلك العرض أغرى السلطان الشاب, كيف لا وهو يرى أن سلطانه يتمدد دون أن يبذل قطرة دم واحدة, ثمَّ إنه من العار تسليم شخصاً إستجار به إلى عدوه, ولذلك رفض فى إباء طلب الزبير تسليمه أولئك الشيوخ مما أدى الى تصاعد وتيرة الحرب. فى نفس الوقت قررت حكومة الخديوى فتح سلطنة دارفور وخططت بأن يكون الغزو من جهتين حيث أوكلت للزبيرالهجوم من الجهة الجنوبية بعد أن أمدته بقوات إضافية مكتملة التسليح وأن يقوم الحكمدار إسماعيل من كردفان بغزو السلطنة من جهة حدودها الشرقية عن طريق أم شنقة.
تطورت الأحداث سراعاً تمكن الزبيرخلالها من هزيمة جيش السلطان فى موقعتين ثم طلب منه الإستسلام عبر رسالة جاء فيها "تلقينا جيوشكم ونصرنا الله عليهم ودخلنا مدينة دارة وصار القصد الآن إدخالكم أنتم وبلادكم تحت طاعة الحكومة الخديوية, فيا حضرة الأمير إن كنت تحسب نفسك عبداً لله وموقناً أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده فبادر بخلع الملك عن نفسك بالتسليم إلى ولى نعمتنا الخديوى المعظَّم". بالطبع لم يرد السلطان على تلك الرسالة الوقحة فدارت الحرب وسقط السلطان شهيداً فى معركة منواشى, فى منتصف المسافة تقريباً بين الفاشر ونيالا, فى 25 أكتوبر 1874م, مدافعاً عن سلطنة توارثها أجداده صاغراً عن كابر فكيف به أن يسلمها طائعاً مستصغراً. ثم دخل الزبير الفاشر فى 3  نوفمبر 1874م سابقاً القوات التركية المتقدمة من جهة الشرق حيث لحقت به بعد نحو أسبوع ما لبث أن ضُمت دارفور بعدها إلى دولة السودان التركى المصرى بعد نحو 53 سنة من دخول الأتراك السودان لأول مرة.
 فى هذا يقول المؤلفان عبدالعزيزحسين الصاوى ومحمد على جادين فى كتابهما "الثورة المهدية مشروع رؤية جديدة" (1986م): "أنه وبسقوط سلطنة الفور قامت أول وحدة بين أطراف السودان إلا أنها كانت وحدة قسرية لم تترك على الواقع الوطنى لقبائل السودان وطوائفه الأثر الذى كان يمكن أن تتركه لو كان تطوراً داخلياً طوعياً" (صفحة 226).
إن ما يهمنا من خلال هذا السرد التاريخى المبتسرلقصة الزبير باشا مع دارفور هو تحليل الجانب النفسى حول دوافعه لفتح دارفور حيث يمكننا إجمال ذلك عبر النقاط التالية:
أولاً: إن لجؤ شيوخ الرزيقات عند سلطان دارفورلا يجب أن يشكل سبباً كافياً للدخول فى حرب مع دولة فى حجم سلطنة الفوراللَّهم إلا إذا كانت هناك أهداف شخصية إتخذ الزبير من تلك الحادثة وقيعة لتحقيقها.
ثانياً: هدف الزبير من محاربة السلطنة ليس حكمها بل تسليمها للحكم التركى, وتلك كانت محاولة منه لإثبات ولاءه المطلق للخديوى والحكومة التركية المسيطرة على البلاد, ويبدو ذلك جليَّاً فى رسالته لسلطان دارفور إبراهيم قرض بضرورة التنازل عن ملكه وتسليم نفسه وسلطنته للخديوى "ولى نعمتنا المعظَّم"!
ثالثاً: لقد كان الزبير على علم ومتابع لضغوط الدول الأوربية لتحريم تجارة الرقيق ولقد شاع إسمه شخصياُ فى مصر وإنجلترا وبلجيكا وإيطاليا وبقية البلاد الأوربية (حقاً كان أم باطلاً) كأكبر نخَّاس على مستوى السودان يمارس تلك التجارة اللاإنسانية, وإنه شخصياً قد يكون أصبح هدفاً فى ذاته وملكه وأمواله من خلال تلك الحملة, ولذلك كان لابد عليه, والحال كذلك, من القيام بعمل كبير يعكس من خلاله توبته وتنظيف إسمه ولا يوجد فى تلك الفترة عمل أكبر من فتح سلطنة دارفور كهدية ووسيلة تقربه من الإدارة الخديوية ثم الدوائر الأوربية المتنفذة.
رابعاً: أسلوب التهديد والتصغير الذى إتبعه الزبير فى رسائله لسلطان دارفور يعكس درجة حطيطة من الإزدراء والصفق المتعمد كأن يدعوه بلقب الأمير ويطلب منه التنازل عن الملك وهو يعلم تمام العلم أنه يخاطب سلطاناً سليل سلاطين لسلطنة إمتدت حكمها لحوالى أربعة قرون من الزمان لم تعادلها سلطنة أخرى بالبلاد آنذاك غير سلطنة الفونج.
خامساً: أصول الزبير وإنتمائه لقبيلة الجعليين قد يكون لعب دوراً فى تشكيل مفاهيمه عن أهل دارفور وبقية الطوائف غير العربية من أهل السودان للدرجة التى دفعته لإسترقاقهم والتحكم فيهم, ولذلك فليس ببعيد أن مثل ذلك الشعور هو ما شجعه لإجتياح السلطنة مستفيداً من سلاحه النارى المتقدم وجيشه المنظم تنظيماً جيداً إضافة إلى المعونة العسكرية والسلاح المتدفق من الحكمدار التركى بالخرطوم.
سادساً: لم يؤد ضم دارفور الى السودان التركى المصرى, فى أول سابقة من نوعها لأن تكون دارفور جزءاً من الدولة السودانية, إلى تمازج قبائله ومجتمعه فى مجتمع الدولة الجديدة وظلت معزولة ومشغولة بثوراتها ضد المستعمر الدخيل.
سابعاً: للمرة الثانية نلحظ توتراً فى العلاقات ما بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى, وتحديداً مع قبيلة الجعليين, وهى ظاهرة سنلاحظها بإستمرار منذ ذلك العهد البعيد إلى طبيعة العلاقات اليوم.
لم يدم الحكم التركى لدارفور لأكثر من 9 سنوات وإنهارت تحت جحافل قوات الثورة المهدية وسيطرتهم على الفاشر فى 15 يناير 1884م.







إشكالية العلاقة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى
"والكلام المسكوت عنه"
تحليل تاريخى سيكلوجى

                                                                       helhag@juno.comد. حسين آدم الحاج

الحلقة (2/7)

الدولة المهدية:
    بقيام الدولة المهدية دخلت دارفور عهداً جديداً فى علاقتها بوسط السودان النيلى, ولأول مرة صارت لها علاقات وطيدة ومباشرة مع تلك المنطقة, إذ مثلت فترة الدولة المهدية أول محاولة جادة وحقيقية لإدماج دارفور بكل ثقافاتها وتاريخها وقبائلها فى كتلة الدولة السودانية الناشئة, وكحقيقة تاريخية فإن من إيجابيات الدولة المهدية أنها تمكنت من صهر معظم القبائل السودانية فى بوتقة واحدة, ممثلة فى مجتمع أم درمان, التى تلاقت فيها تلك القبائل وتداخلت فيما بينها مختلف الأعراق فى تمازج نادر كانت الأولى من نوعها فى تاريخ السودان. وبالرغم من تلك السانحة إنقسمت دارفورعلى نفسها إزاء ذلك إلى قسمين بائنين تجاه الثورة المهدية, فئة أيدتها بحماس وتصدت لنصرتها وفئة أخرى ما رأت فيها إلا فرصة للتخلص من الضم القسرى إلى السودان بواسطة الأتراك وإمكانية الإستقلال عن ذلك بإعادة السلطنة التى ما تزال الأشواق إليها غائرة فى النفوس. ولقد لخص المرحوم المؤرخ موسى المبارك الحسن كل تلك المشاعر فى بحثه التاريخى القيَّم "تاريخ دارفور السياسى" (1973م) عاكساً معلومات دقيقية وموثقة عن موقف كل قبيلة من قبائل دارفور من الثورة المهدية, ومهما يكن من أمر إلا أن كل ذلك لا يقدح فى السند العظيم الذى دعم به أهل دارفور قيام الثورة وبناء الدولة, ولذلك كانت نظرة الإمام المهدى واقعية وردَّاً للجميل فى تسليم راية خليفته الأولى للخليفة عبدالله بن محمد تورشين الساعد الأيمن للإمام والذى تمكن من تفويج قوى مقدرة من أهل دارفور لنصرة الثورة وقيادتها حتى دخول الإمام للخرطوم. وفى إسم الخليفة يقول المؤلفان الصاوى وجادين فى نفس كتابهما سابق الذكر أنَّ تورشين ليس إسماً بل لقب منسوب إلى والد الخليفة عبدالله كناية عن البأس والقوة يعكس إرتباط حياة القبيلة برعى الأبقار. والكُنية شيئ ما زال شائعاً فى ثقافة قبائل البقارة وأهل دارفور على العموم.
    لقد لعب الخليفة عبدالله دوراً محورياً فى نجاح وإرساء دعائم الدولة المهدية, ويبدو أنه ومنذ صغره ظل مقتنعاً ومهيأً للعب دور خليفة المهدى حيث يقال أن والده أخبره يوماً بأنه سيصبح خليفة المهدى المنتظر, ولذلك عندما سمع بسطوع نجم الزبير باشا قصده للبيعة لكن الزبير خيب أمله. يقول دكتور مكى شبيكة فى كتابه "السودان عبر القرون" (طبعة 1991م, دارالجيل, بيروت) أن الخليفة كان بخلاف إخوته الذين توجهوا لدراسة القرآن وعلوم الدين كان شخصية عملية تهتم بشئون الحياة الإجتماعية وتتطلع لدور تاريخى فى الحياة العامة منذ نشأته الأولى, ويصفه المرحوم عصمت زلفو فى كتابه الشهير "كررى" (1973م, دار الطباعة, جامعة الخرطوم) بأنه عُرف بالإنضباط والإحساس بالمسئولية منذ صغره, ويصفه الأب أهرفالدر, الذى كان سجيناً لديه فى حوزة الملازمين, بالحيوية والذكاء وبأنه موهوب فى إدارة الرجال, كل تلك الصفات بجانب شجاعته النادرة وصلابة تحمله ثم قوة شكيمة القبائل التى خرج منها أقنعت الإمام المهدى بإختياره كخليفته الأول ضد رغبة أهله الأشراف الذين عارضوا فكرته معارضة لا هوادة فيه, إذ كانوا يفكرون فى إنشاء مملكة لهم بعد وفاة المهدى, لكن الإمام إستنكرهم ذلك وأضطر لأن يصدر منشوراً هاماً فى مطلع عام 1883 م جاء فيه "أيها الأحباب إن الخليفة عبدالله, خليفة الصديق, المقلد بقلائد الصدق والتصديق, هو خليفة الخلفاء, وأمير جيوش المهدية المشار إليه فى الحضرة النبوية, فذلك السيد عبدالله بن السيد محمد" ألخ.

حركة الأشراف:
    بالرغم من الأمر الصارم للإمام المهدى بتثبيت رايته الأولى للخليفة عبدالله لم يتراجع الأشراف حيث لم يعجبهم صعود نجم الخليفة ولذلك برزت منافسة بينه وبين الخليفة شريف بعد سقوط الأبيض حين طلب الأشراف من الإمام المهدى صراحة رفع الخليفة عبدالله عن الخلافة لكن المهدى رفض طلبهم وعنفهم ووجههم بوجوب الطاعة والولاء للخليفة الأول لأنه أحق رجال المهدية بها, لكن ذلك لم يثن الأشراف أيضاً مما دفع بالمهدى قبل وفاته لأن يخاطب أهله الأشراف مباشرة غاضباً ومتبرءاً منهم فى جمع من المصلين قائلاً "أيها الناس, أنا قد أكثرت من النصائح إليكم وتعبت من كثرة المشاكل مع الأشراف الذين بالغوا فى السخف وظنوا أن المهدى لهم وحدهم" ثم نفض ثوبه ثلاث مرات قائلاً "أنا بريئ من الأشراف ولتكونوا شهوداً بين يدى العلى القدير". فى ظل تلك الأجواء إنتقل الإمام المهدى إلى الرفيق الأعلى وبعد تكتيك فائق الذكاء من الخليفة تمت مبايعتة كخليفة للإمام المهدى لتولى السلطة وإدارة الدولة زادت معها مؤامرات الأشراف, أو أولاد البلد, للإطاحة بالخليفة فى سلسلة من الأحداث عُرفت تاريخياً بحركة الأشراف أو بصراع أولاد البحر ضد أولاد الغرب.
    قبل أن ندخل فى تحليل ذلك الصراع, والذى أدّىَ كثيراً إلى إضعاف الدولة المهدية وهى ما تزال وليدةً, يجدر بنا أن نتساءل عن أسباب معارضة الأشراف لإختيار الخليفة غير أنهم أهل الإمام المهدى وأرادوها ملكاً بعد رحيل صاحب الدعوة! ونتعجب أكثرعندما نكتشف بأنهم لم يفعلوا شيئاً مقدراً يجارون به أهل الغرب فى دعم وصعود نجم الدولة المهدية, فهم ليسوا أكثر عدداً أو أقوى شكيمة عن قبائل الغرب الذين تربوا على الشدة والجهد والشجاعة وقوة العزيمة والتحمل وإلى يومنا هذا, يشهد لهم حروب الجنوب منذ عام 1955م, ولو كان الأشراف فيهم خيراً لما تركهم الإمام عند بدء دعوته وإتجه غرباً يبحث عن أنصار له! هنا تبرز معضلة تقبُل أهل وسط وشمال السودان النيلى لأهل دارفور فبالرغم من الدور المحورى الذى قاموا به فى مساندة الثورة بالروح والغالى والنفيس يريد آخرون كانوا فى مؤخرة الصفوف جنى قطاف النجاح والتمتع بخيرات الحكم, ولعلَّ هذه الظاهرة موجودة إلى يومنا هذا فمعظم الإنقلابات العسكرية التى نجحت فى السودان كان وقودها أبناء الغرب ثم ما أن تنقضى سويعات على إذاعة البيان الأول إلا ويخرج آخرون منعَّمون يبتسمون أمام الكاميرات. لقد دفع الصادق المهدى والجبهة الوطنية بالآلاف من أبناء دارفور وكردفان فى محاولة محمد نور سعد الإنقلابية عام 1976م, والتى أطلق عليها نظام مايو المرتزقة, فنجحت المحاولة فى بادئ الأمر وصمد العسكريون لثلاثة أيام فى إنتظار القيادة السياسية التى فشلت فى اللحاق بها والسيطرة على مقاليد الحكم, وعندما تم إجهاض المحاولة و بدعم مقدر من القوات الجنوبية إحتراماً لإتفاقية أديس أبابا للسلام, أُبيد المئات من تلك القوات الإنقلابية ودفنوا فى مقابر جماعية فى مناطق الغابة. عند عودة الصادق المهدى للسودان عند المصالحة الوطنية, عام 1979م, لم يكلف نفسه دقيقة واحدة للوقوف والترحم على أرواح أولئك الذين دفعوا حياتهم رخيصة من أجل شخصه وخططه السياسية وبدلاً عن ذلك راح يبحث عن قبر عمه الإمام الهادى علية رحمة الله ربما لشيئ فى نفسه لتأكيد خلو منصب الإمامة!

    على هذه الخلفية نفهم لماذا حاول الخليفة الإستقواء بأهله وعشيرته لا لتأمين مركزه فحسب بل ولحمل الوصية والمهمة الصعبة التى تركها الإمام المهدى وديعة فى يديه وأمانة فى عنقه, وإستأمنه مستقبل دولته الوليدة والقيام بشئون الدولة والدين والفتح. و مع الإقرار بأن الخليفة ورهطه غرباء دار فى منطقة الوسط النيلى إلا أنه لولاهم, بعد عون الله, لما كانت هنالك دولة يتنازعونها مع أهل تلك الديار, والمهم فى ذلك أن تلك الدولة لم تكن إغتصاباً بل حق عزيز بٌذل من أجلها الدماء زكية ومهرتها القلوب والأفئدة المتوهجة بنيران القرآن. بل وحقيقة إن الإمام نفسه من أقاصى شمال السودان وجاءهم مستضعفاً فأعانوه ثم حملوه على حدقات عيونهم وأفئدتهم إلى مصاف قادة العالم وكبار شيوخ الدين لكفيل بهم أن يبذلوا الغالى والرخيص من أجل حماية الدولة بعد رحيله. ولذلك فإن صراع الأشراف لم يكن سوى محاولة عنصرية من جانبهم لأجل إنشاء ملك لهم وطرد أبناء الغرب إلى مناطقهم البعيدة التى جاءوا منها بالرغم من أنهم هم صانعى تلك الدولة. تلك كانت هى حقيقة الصراع نقررها هنا دون مواربة وعلينا أن نتساءل عن حقيقة العنصرية التى ظل أهل وسط وشمال السودان النيلى يشهرونها فى وجوه أهل دارفور بمناسبة وغير مناسبة.  
    يشير المؤلفان الصاوى وجادين إلى نقاط قوة الخليفة عبدالله فى مواجهة الأشراف إلى أنه كان يستند على مكانته البارزة وتاريخه الطويل والمشرف فى الثورة المهدية وإلى تزكية المهدى شخصياً ووصيته له بالخلافة. فإذا كان الأمر كذلك, كما قرره المؤلفان وغيرهما من المؤرخين السودانيين والأجانب, والدولة الوليدة بدأت تواجه جبهات عديدة فى الداخل والخارج, إضافة إلى العداوة الصريحة من أهل الدار, فما الذى كان على الرجل أن يفعله سوى الإستنصار بأهله ودعوتهم للهجرة إليه لنصرة الدين والدولة؟
    لقد أنهكت حركة الأشراف دولة المهدية منذ ولادتها وظلت متفاعلة إلى أن تمكن الخليفة من إطفائها, فبعد أن قضى على المحاولة الإنقلابية للأشراف بقيادة الخليفة شريف عام 1887م,  ثم القضاء عليهم نهائياً بعد ثورتهم عام 1891م فى حركة يائسة منهم بعد سجن خالد زقل, والى إقليم دارفور المعزول, تبعها تجريد الخليفة شريف من أسلحته وعتاده ورايتة الحمراء, راية أهل الشمال والجزيرة, وضمها بمن فيها وما فيها إلى رايته الزرقاء مستخدماً فى ذلك حيلاً ومهارات سياسية مختلفة لكنها حققت أهدافها,  ران على الجو هدؤ ثقيل ليكتشف الخليفة خلالها أنه لا يمكنه الإعتماد على الأشراف وأولاد البحر فى المحافظة على الدولة المهدية التى تركها الإمام المهدى وصية بين يديه, وأنه يستحيل عليه أن يبلغ رسالة المهدية لكل أركان المعمورة حسب الإستراتيجية التى رسمها الإمام قبلاً, ولذلك فقد بادر الخليفة, وهو مجبور, إلى خلق طبقة حاكمة من عشيرته التعايشة, وفى هذا يقول المؤرخ العسكرى عصمت زلفو فى كتابه كررى "فتعيين حكام المناطق فقادة الجيوش من أبناء عشيرته لا يمكن أنكار أن المقصود منها أولاً تأمين النظام, بعد أن أحسَّ الخليفة بثقل التآمر عليه" (صفحة 103). وقد لازم ذلك سياسة صارمة إنتهجها الخليفة وهى تهجير أهل الغرب, خاصة دارفور, إلى أم درمان لتأمين وضعه وحشد عاصمته بالجنود لحماية الحكم, لكن المؤرخ زلفو يرى أن أسباب الهجرة غير ذلك إذ يعزوها إلى خطة بعيدة النظر هدفت لتمدين أهل الغرب ووضع العصاة منهم تحت رقابته المباشرة فى حوزة الملازمين إضافة إلى إنشاء مناطق حشد قريبة من العاصمة أم درمان تكتظ بالمقاتلين الذين يمكن نفرهم على وجه السرعة إلى جبهات القتال. تلك إستراتيجية عسكرية حديثة على أهل ذلك الزمان وتتمثل فى مفهوم "القواعد العسكرية" بلغة أهل اليوم, لكن للأسف فقد تم كل ذلك على حساب دولته وقوة جبهته الداخلية بعد أن عجز أن يجد مخرجاً لمؤامرات الأشراف, ومنذ ذلك التاريخ بدأت الدولة فى التراجع خاصة مع التكالب الإستعمارى نحو أفريقيا وتصميم الخليفة لتنفيذ وصية الإمام المهدى بضرورة تصدير الثورة ونشر الدعوة المهدية لخارج حدود السودان.
    إذاً تمرد الأشراف على الخليفة عبدالله ومحاولتهم الإنقلاب عليه هو السبب الرئيسى الذى دفع بالخليفة دفعاً للإستنصار بأهله وإستنفارهم للهجرة إليه, هذه حقيقة يجب أن تؤخذ فى الحسبان عند تحليل سياسة الخليفة الداخلية, وعليه فإن السؤال الذى يفرض نفسه هنا هو ماذا كان على الخليفة أن يفعل غير ذلك؟ وعلى وجه المقارنة هل فعل الخليفة شيئاً مغايراً, من حيث الهدف, لما قام به سيدنا أبوبكر الصديق فى وجه المرتدين ورافضى دافعى الزكاة؟ ألم يتساوى الموقفان من حيث الخطورة والحرج بالنسبة لرسالتين تقومان على نفس الأسس والركائز؟ فلولا تلك الوقفة الصارمة للخليفة الأول أبوبكر الصديق فإن الله وحده يعلم إن كان الإسلام سيصل إلينا اليوم كما نزل فى أوله. وبنفس الدرجة من الأهمية إذا فرط الخليفة عبدالله, خليفة الإمام المهدى الأول, أمام تلك المؤامرات التى ظل ينسجها الأشراف للإطاحة بالدولة المهدية وإنشاء ملك لهم لإنطفأت منارتها وهى لم تشب بعد. وحقيقة لم يبادر الخليفة إلى تصعيد المواقف مع الأشراف فالبرغم من سياسة الحزم الذى إضطر إلى إستخدامه حيال بعض المواقف حسب ما تقتضيه ظروف الحكم وإدارة الدولة إلا أنه لم يسع لتوسيع الخصومة وإراقة الدماء بل إنه كان كثيراً ما يعتمد على الخليفة على ودحلو التدخل لحقن الدماء وذلك إعتماداً على مكانته ونفوذه الدينى والسياسى, ويؤكد المؤرخ ضرار صالح ضرار ذلك فى كتابه تاريخ السودان الحديث ويشير إلى أن الخليفة عمد دائماً إلى سياسة عدم إراقة الدماء وعدم توسيع الشقة بإثارة الأحقاد والرغبة فى الأخذ بالثارات بينه وبين خصومه.

    وعوداً على بدء, إذا مثلت حملة السلطان تيراب وهزيمته لجيش العبدلاب قبل نحو قرن من الزمان من قيام الثورة المهدية وتخليد ذلك الإنتصار فى إحتفالات الفورالسنوية بنحاسهم المنصورة وما تولد عن ذلك من إحتقان جهوى فى صدور أهل وسط وشمال السودان النيلى نحو دارفور, فمن المؤكد أن حادثة الأشراف ضد الخليفة تتمدد بجذورها لتلك الحقبة ولم تفعل شيئاً سوى أن صبت المزيد من الزيت فى نيران الكره المشتعل سلفاً وبضراوة ضد كل ما هو "غرباوى". على تلك الخلفية نشأت عبارة "العنصرية" التى جلست على طرف شفاه أهل وسط وشمال السودان النيلى لا يترددون فى أن يرموا بها أهل دارفور كلما بدر منهم تعبيرعن المظالم التى يتعرضون لها, أو إذا عنَّ لهم أن يطالبوا بحقوقهم المشروعة فى مواعين السلطة والثروة القومية فى سودان ما بعد الإستقلال, ولم يجتهد عامة الناس, بل والمؤرخون على السواء, من فهم وتفسير حركة الأشراف فى إطارها الزمانى والمكانى والسيكولوجى, إضافة إلى الظروف التى نشأت فيها وصاحبتها بتلك الصورة الدرامية, بل ظلَّ توجيه لفظ "العنصرى" ضد كل من هو دارفورى يتم بصورة عشوائية حقاً كان أم باطلاً, ومع مرور الزمن تغير الهدف من إستخدام تلك العبارة من سُبَّة وتسفيه إلى سلاح فتاك يُشهر أمام حقوق أهل دارفور وإخراس الذين يرفعون أصواتهم مطالبين بحقوقهم المكفولة لهم بحكم الوطن والمواطنة. إستخدام عبارة "العنصرية" على هذا النحو يشبه عبارة "عداء السامية" (Anti-Semitism) التى إتخذها اليهود سلاحاً ماضياً مرهوب الجانب ضد كل من يقف فى وجه رغباتهم أو حتى يتجاسر على نقدهم, وهى كذلك تشبه عبارة "الإرهاب" ((Terrorism التى يستعملها الإمريكان اليوم ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة, والهدف المباشر من ذلك هو إغتيال الشخصية, ومع مرور الزمن وترديد تلك العبارة على شكل واسع, سواء فى وسائل الإعلام أم شفاهة المجتمع, تنداح معنى العبارة من مجرد فرية إلى شبه حقيقة يتعامل بها الناس دون مواربة وهذا ما يحدث اليوم تماماً بعد إنفجار الأوضاع فى دارفور حيث لا يتردد الكثيرون من أبناء وسط شمال السودان النيلى من إطلاق صفة العنصرية فى وصفهم لثورة الأهالى هناك.

إذا نظرنا إلى حقائق التاريخ البسيطة فى حركة الأشراف سوف يتكشف لنا سريعاً الجانب العنصرى فى صراع الأشراف مع الخليفة من خلال النقاط التالية:
أولاً: إستحق الخليفة عبدالله جدارته بمنصب الخليفة الأول بناءًا على مواهبه و مؤهلاته الشخصيه من صلابة وشجاعة وقوة تحمل وإيمانه المطلق فى المهدى والرسالة المهدية إضافة إلى ميزته فى معرفة إدارة الرجال ولذلك فقد كان رجل دولة على مستوى القيادة.
ثانياً: من خلال نفوذه وسط قبيلته ومنبعه وسط قبائل البقارة خاصة, ودارفورعامة, الذين يتمتعون بالشجاعة وشدة البأس, فقد وفَّر للإمام المهدى ينبوعاً يتفجر بالرجال الجاهزين لحمل الرسالة خاصة وأن منهم من سبق لهم الخدمة فى جيش الزبير باشا (مثل القائد حمدان أبوعنجة) وتدربوا على إستخدام السلاح النارى وإتقان فنون الحرب وذلك ما كان الإمام فى حاجة ماسة إليه.
ثالثاً: وثوق الإمام المهدى غير المحدود فيه وإختياره لمرتبة خليفته الأول فوق أهله الأشراف وتبرُءه منهم واصفاً إياهم بالسخف والفساد.
رابعاً: كان على الخليفة أن يقوم بإكمال بناء الدولة ونشر الرسالة حسب تعليمات الإمام ولكنه كان غريب دار بادره أهلوها بالعداء والمؤامرات وسعوا للإنقلاب عليه لتأسيس مملكة خاصة بهم مستخدمين قرابتهم للإمام المهدى.
خامساً: خلال صراعه مع الأشراف كان أمام الخليفة أمرين إما أن يتنازل عن الخلافة ويضرب بوصايا المهدى عرض الحائط ويذهب فى التاريخ مغضوب عليه ومتخاذل وإما أن يستنصر بالذين كانوا على إستعداد لبذل أرواحهم فى سبيل بناء الدولة وحمايتها فكان هذا إختياره.
سادساً: لقد كان الخليفة ذو خبرة بإدارة الرجال وكان يعرف أنه مهما وثق فى الأشراف فإنهم لا محالة ضاروه طال الزمن أو قصر ولذلك فمن الحكمة ألاَّ يركن إليهم.
سابعاً: عداء الأشراف للخليفة وأهل الغرب بصورة عامة سببه الرئيسى كراهية عرقية ضد هؤلاء الغرباء الذين أتوا ليحكموهم فى ديارهم متناسين أن صاحب الرسالة هو الذى قدمهم عليهم وأنهم إستحقوا تلك المكانة بقدراتهم وإنجازاتهم بل إنَّ تلك الدولة قد قامت أساساً على أكتافهم.
ثامناً: جانب آخر لتلك الكراهية ذو أسباب تاريخية يعود جذوره لحادثة العبدلاب ومحاولات الدناقلة والشايقية والجعليين والفونج مساعدة السلطان هاشم فى حربه ضد سلطنة الفور.

    مهما يكن من أمر وما نتج عن صراع الخليفة مع الأشراف فقد أعقبتها حادثة أخرى عمَّقت من مرارات الماضى والحاضر ضد أهل دارفور وظلت أشَّد أثراً وأيلاماً فى مخيلات أهل شمال السودان متمثلاً فى حادثة المتمة.

حادثة المتمَّة:
    جاءت حادثة المتمَّة فى ظروف بالغة التعقيد والخطورة وفى أثناء تقدم الجيش الإنجليزى المصرى تجاه أم درمان, أى أن الدولة كانت فى حالة حرب! لقد حدثت الواقعة بين قبيلة الجعليين بقيادة أميرهم عبدالله ود سعد وجيش الخليفة بقيادة الأمير محمود ود أحمد, فى يوم الخميس 1 يوليو 1897م, أثناء تقدم الجيوش الغازية بقيادة السردار كتشنر متوغلة جنوباً بعد هزيمة جيش الأمير عبدالرحمن النجومى فى توشكى ثم هزيمة جيش الأمير محمد ود بشارة وإحتلال دنقلا, ولذلك فقد إعتقد الخليفة وأركان حربه أن الجيش الغازى سيتبع طريق جيش حملة الإنقاذ (التى حاولت إنقاذ غردون باشا من قبل) عبر صحراء بيوضة إلى المتمة مباشرة ثم متابعة مجرى النيل إلى أم درمان. كان الموقف دقيقاً وحرجاً لهذا الحد وإنَّ آخر ما كان ينتظره الخليفة, أو أى حاكم فى محله, أن يحدث ما يعكر خططه الدفاعية, والتى قامت على رمى الأعداء بمحمود ود أحمد وكل جيوش الغرب الضاربة على أساس أن يتمركز بالمتمة وملاقاة العدو هناك. ولذلك فقد قرر مجلس شورته بأنه من الناحية العسكرية يجب إخلاء المدينة وترحيل سكانها من الجعليين إلى مدينة شندى عند الضفة الشرقية من النيل حتى يتسنى لجيوش محمود ود أحمد إنشاء خططاً دفاعية وإستحكامات حصينة وتأمين حياة وسلامة المواطنين بترحيلهم بعيداً إلى الضفة الأخرى, وقد كان ذلك أمر الخليفة لعبدالله ود سعد أمير الجعليين.
هنا تتعدد الروايات فى كيفية أمرالخليفة لعبدالله ود سعد بإخلاء المتمة, فيشيرالمؤرخ مكى شبيكة فى أنَّ الخليفة إستدعاه وإستفسره عن حقيقة إتصال التجارالجعليين بجيش العدو المتمركز بدنقلا يحملون لهم مختلف الأطعمة ويقايضونها بمختلف أنواع البضائع فلم يكذِّب عبدالله ذلك وإعترف به, وبالرغم من غضب الخليفة الجامح من مثل ذلك التصرف, وفى تلك الظروف تحديداً, إلا أنه ركن إلى قرار مجلس شورته الذى قرر بأن يُولَّى عبدالله بالضفة الشرقية عند شندى وأن يُسند المحافظة على المتمة والجانب الغربى لمحمود ود أحمد, فأظهر عبدالله الرضاء لكنه قرر التمرد فى دخيلة نفسه, وعندما رجع إلى أهله عرض عليهم الأمر فأشار بعضهم بالرضوخ ورفض آخرون بينما أشار عليه بعضهم باللحاق بالجيش الغازى فى دنقلا والإحتماء به ريثما ينجلى الموقف.
أما نعوم شقير فيقول بأن الخليفة قد إستدعى عبدالله ود سعد وفرض عليه عدداً معلوماً من أهله يستنفرهم للجهاد وقدراً معيناً من المؤنة يقدمها للجيش المنوى إرساله إلى المتمة فثقل الطلب على عبدالله ود سعد فعقد النية على عصيانه لكنه أظهر الطاعة وعاد إلى المتمة فجمع كبار قومه وأسرَّ إليهم ما نوى فمن وافقه ضمه إلى جيشه ومن لم يوافقه إستحلفه على الكتمان فأجتمع إليه نحو 300 رجل من أهله الأدنين وأرسل فى طلب المدد من الجيش الغازى فى دنقلا!
أما على المهدى فيذكر فى تحقيقه الشخصى (جهاد فى سبيل الله, صفحة 208) عن هذه المقابلة أنَّ الخليفة طلب من عبدالله ود سعد إخلاء المتمة والرحيل شرقاً فأجاب بالموافقة ظاهراً لكنه أضمر العصيان, إلاَّ أن موافقته تلك لم يبدد من شكوك الخليفة فى ولائه فأمره أن يبقى فى أم درمان وأن يرسل إلى أهله من ينوب عنه لكن ومع إصرار عبدالله ود سعد على الذهاب سمح له الخليفة بعد أن وصَّاه.
وبينما تذكر روايات أخرى أن المقابلة كانت قصيرة وودية إلا أن تشرشل خالف كل الرواة فى كتابه "حرب النهر" (صفحة 319) وذكر بأن الخليفة كال الشتائم لعبدالله ود سعد وقبيلته. وعلى العموم تختلف معظم الروايات مع هذه الرواية لكنها تتفق فى حقيقة أنَّ محمود ود أحمد لم يستعجل لحسم تمرد الجعليين وظلًّ فى أم درمان يرتب أمور جيشه مما حدا بالخليفة بأن يستعجله عدة مرات لحسم الأمر لأن الأعداء و بعد أن أخذوا راحتهم فى دنقلا قد يبادروا بالتقدم جنوباً فى أية لحظة. عندئذ غادر محمود أمدرمان بكامل جيوشه قاصداً المتمة بينما قامت القوات الغازية بإرسال بعض الأسلحة والذخيرة من دنقلا إلى عبدالله ود سعد لكنها لم تصله.
أما عن اللحظات الأخيرة من تمرد الجعليين فيقول مكى شبيكة أن خبر عصيانهم لم يُعرف إلا بعد تحرك محمود ود أحمد من أم درمان وقد تأكد له ذلك حين أشرف على مدينة المتمة ورأى حالة العداء, وهنا نترك المؤرخ عصمت زلفو يروى لنا النهاية بقوله "ثم بدأ الإستعداد لمواجهة محمود من داخل بيوت المتمة وحشد (عبدالله ود سعد) أغلب أسلحته النارية فى الجهة الجنوبية التى كان يتوقع منها تقدم محمود على أن يوجهوا نيرانهم من داخل مزالق أسوار المنازل. وفى صباح الخميس تقدم محمود بكل جيشه نحو بيوت المتمة وفتح عليهم المدافعون النيران من مدى مؤثر وتساقط حوالى خمسون قتيلاً من موجات الهجوم فى اللحظات الأولى, إلا أن المعركة غير المتكافئة سرعان ما حُسمت وتمكن محمود من إقتحام المنازل وبدأت مجزرة المتمة الأليمة وحسمت فى ربع ساعة حسب تقدير محمود نفسه" (كررى, صفحة 230).
ويضيف نعوم شقير بأنه لما رأى أنصار عبدالله ود سعد بأنهم هالكون لا محالة أشاروا إليه بالفرار والإحتماء بالجيوش الغازية فى دنقلا فقال "دعونى من الفرار وعاره فإنى كلما ذكرت حادثة المك نمر وفراره من وجه الدفتردار ضاقت علىَّ الأرض بما رحبت وتمنيت الموت فلنمت هنا أو نحيا هنا". (جغرافيا وتاريخ السودان, صفحة 1225), بينما ذكر عصمت زلفو أنَّ عبدالله قال حينما رفض تلك الفكرة "حارقانى قومة نمر من شندى" فصار مثلاً شعبيياً. (كررى, صفحة 229).

بالرغم من تعدد الروايات عن هذه الحادثة إلاَّ أنها إتفقت على كونها تمرداً صريحاً من قبيلة الجعليين بقيادة زعيمهم عبدالله ود سعد على سلطة الدولة فى أحلك اللحظات وهى تواجه عدواً غازياً يهدف لإزالتها عن الوجود. ولم يتوقف الأمرعلى التمرد فقط بل إمتد ليشمل ما بدا وكأنه شكَّل طابوراً خامساً للقوات الغازية من خلال موالاة الجعليين لهم وإستنجادهم بطلب الأسلحة والذخائر منهم ومدهم بالأطعمة والإتجار معهم بل وتفكير بعضهم فى الإلتجاء إليهم ضد سلطة الخليفة وإفشاء أسرار الدولة. وعليه يجدر قراءة هذه الحادثة, أى حادثة المتمة, بعيون مفتوحة وعقول واعية خاصة وأنها شكلت حجر الزاوية فى تنامى الجفوة بين الجعليين خاصة, وأهل الشمال عامة, ضد أهل دارفور مكمِّلةً سلسلة من الحوادث التاريخية بدأت بموقعة العبدلاب مروراً بالزبير باشا وإسقاطه لسلطنة الفور ثم حركة الأشراف والمواجهة بين أولاد البحر وأولاد الغرب وأخيراً حادثة المتمة, وفى كل من هذه الحالات الأربعة نجد أنًّ هناك مواجهة مباشرة وعنيفة بين أهل دارفور من ناحية وأهل وسط شمال السودان النيلى من ناحية أخرى, بل ونجد أن قبيلة الجعليين تحديداً قد شكلت طرفاً ثابتاً فى تلك المفاصل الأربعة, هذا إذا تجاوزنا مشاركة معظم قبائل الشمال مشاركة مباشرة فى القتال بجانب القوات الغازية فى معركة كررى على نحو ما نرى لاحقاً.      
لقد نعت مكى شبيكة حادثة المتمة بنكبة المتمة ووصفها بأنها مثلت أشًّد ما نُكبت به مدينة, من القضاء على الرجال وسبى النساء وخراب الديار, وللمرة الثانية فى تاريخها تحل بها كارثة, والأولى هى حملة الدفتردار الإنتقامية, أما عصمت زلفو فيشير إلى أن محمود عندما إنتهى من أمر التمرد كان قد خلَّف ألفى جثة. ويذكر نعوم شقير أن بعض نساء المتمة قد ألقين بأنفسهن فى النيل وفضلن الموت على حياة الفضيحة والعار لكن لم يتأكد ذلك من أى مصدر محايد ولم يؤكده حتى المؤرخون السودانيون الذين أرَّخوا لتلك الحادثة خاصة إذا تكشف لنا أنحياز المؤرخون الأجانب الحاد ضد الخليفة من أجل تشويه صورته وإغتيال شخصيته فى عقول السودانيين كواحدة من إستراتيجياتهم لطمس هوية المهدية فى وجدانهم, وعليه بعد تبيان هذه المعلومات نود أن نعالجها عبر النقاط التالية:
أولاً: إن ما بدر من عبدالله ود سعد كان تمرداً صريحاً ضد الدولة فى أحلك لحظاتها فقد أظهر الطاعة لكنه أضمر العصيان مما يستوجب التعامل معه بحزم, ويؤكد مكى شبيكة ذلك بقوله "ولكن مما لا مجال للشك فيه أن عبدالله قد ثار على الدولة وعلى الدولة أن تعاقب الثائر" (صفحة 445).
ثانياُ: سلوك الجعليين وإستمرار إتصالهم بالقوات الغازية والتجارة معهم والإستنجاد بهم للحصول على الأسلحة ثم التفكير فى الفرار والإستجارة بهم يُعتبر بكل المقاييس القديمة والحديثة خيانة للدولة وإستهتاراً بأمنها القومى, وخذلاناً للوحدة الوطنية التى إكتملت بقيام الدولة المهدية.
ثالثاً: لقد رفع الجعليون السلاح ضد الدولة وإستحصنوا بالمتمة وبدأوا فى إطلاق النارعلى قوات الدولة, والحال هكذا فقد أعلنوا الحرب على الدولة, التى كانت أساساً فى حالة حرب, فأوردوا أنفسهم مورد الهلاك.
رابعاً: قرار إخلاء المتمة قرار حربى إستراتيجى إتخذه مجلس الشورى وصادق عليه الخليفة والهدف الأساسى منه هو وقف تقدم الجيش الغازى نحو العاصمة أم درمان وتأمين حياة سكان المدينة وعليه كان من الأوجب تنفيذ القرار دونما تردد أو مقاومة.
خامساً: لم يبرز الجعليون أو أميرهم سبباً واحداً مقنعاً لمخالفة قرار مجلس الشورى القاضى بإخلاء المتمة ولم يحتجوا عليه حتى عندما رجع إليهم أميرهم وعرض عليهم الأمر بل تحول إجتماعهم ذلك من مجلس شورى إلى مجلس حرب.
سادساً: فى نهاية الأمر يتحمل الجعليون وأميرهم عبدالله ود سعد مصير ما حاق بهم من هلاك فى تلك الظروف الحرجة إذ لم يحسنوا قراءة الواقع ولم يقدروا قوتهم تقديراً سليماً فى مواجهة قوات دولة تأهبت بكل قواها للدفاع عن وجودها أمام قوات أجنبية غازية.
سابعاً: إن التحليل السيكولوجى لموقف قبيلة الجعليين ضد الخليفة عبدالله يدل على أن ثورتهم كانت إمتداداً لحركة الأشراف أو إنعكاساً لها فى أبسط الحالات.
ثامناً: معارضة الجعليين وبعض قبائل الشمال للخليفة عبدالله والتمرد ضده كانت واجهة رمزية لموقف أكبر هو الموقف العنصرى تجاه أبناء دارفور خاصة والغرب عامة.
تاسعاً: حادثتى الأشراف والمتمة دفعت قبائل كبيرة من شمال السودان إلى التعاون مع الجيش الإنجليزى الغازى, ومدهم بكل ما يحتاجون إليه من مؤن ومعلومات, بل وإنضمت إليهم قبائل عديدة مشاركة بقواتها لقتال جيش المهدية فى موقعة كررى حيث يشيرعصمت زلفو بأنًّ ذلك قد مثل أكثر الجوانب مأساوية للخليفة بقوله: "وقد بلغت المأساة ذروتها فى عصر يوم 1 سبتمبر 1898 عندما أشرع رجال الجعليين الذين قاتلوا تحت قيادة ميجور ستيوارت ورثلى أسلحتهم فى وجه من كانوا يقاتلون فى صفوفهم إلى عهد قريب, وتجسمت فى الدقائق القليلة التى إستغرقتها المعركة كل الظلال الثقيلة للأحداث العنيفة التى سادت فى تلك الأعوام الثلاثة عشر التى إنقضت منذ وفاة المهدى وإلى يوم معركة كررى" (صفحة 89).

    لقد شكلت حادثة المتمة مفصلاً محورياً فى نظرة الجعليين والعديد من قبائل الشمال نحو أهل دارفور وإنداحت فى تراثهم وثقافتهم الشعبية بنبرات حادة ولغة غير توافقية البتة أُستخدمت فيها كلمات مثل "العبيد" فى حق أهل دارفور, وما زال البعض يستعملها حتى اليوم, وكمثال لذلك يقول شاعرهم عندما علم بمصرع الثلاثمائة فارس من بنى قومه, إضافة إلى زعيمهم عبدالله ود سعد, الذى شبههه بالأبيتر (أى الثعبان), أنشد حزيناً:

يوم الخميس خبر الأبيتر جانا
وكتلة دار جعل قط والله ما عجبانا
البت (البنت) القبيل تتاقى فى بيبانا (أبوابها)
ساقوها العبيد ناس قرجة جيب أخوانا
(والإشارة هنا لأحد قادة المهدية محمد عثمان أبو قرجة)

    يقول الأخ محمود عثمان رزق فى مشروع كتاب له عن الرق فى السودان (لم يُنشر بعد) أن لمعركة المتمة وما صاحبها من قتل وسبي لنساء الجعليين أثر كبير فى تباعد أهل الشمال والوسط النيلى من أهل غرب السودان, ويتابع "ولا نشك لحظة أنَّ تلك الموقعة قد هدمت الجسر الثقافى والعرقى الذى بناه المهدى بين الطرفين قبل فتح الخرطوم, وبعد إنتهاء المعركة وجد الجعليون فى صدورهم شيئاً كثيراً على الخليفة وعشيرته والقبائل التى ناصرته فطفقوا يشنون عليهم حرباً كلامية ونفسية عنيفة ترميهم بكل أذى وتستخدم كل المفردات ذات المدلول العنصرى وكل ذلك إنتقاماً لما أصابهم من قتل وسبى" (إنتهى). وهذا ما ظلَّ يحدث وإلى اليوم, فكاتب وروائى عالمى فى مقام الأستاذ الطيب صالح تعرض للخليفة بسخرية ونقد لاذع عدة مرات فى بعض كتاباته وأحاديثه, ولقد تساءل الدكتور حسن مكى فى إحدى مقالاته بصحيفة الرأى العام ذات مرة عن كيف سيكون حال السودان لو إستمر حكم دولة المهدية! وهناك الكثير من الصحفيين ممن لا يترددون من إشهار نقدهم اللاذع للخليفة لا لسبب إلاَّ لحادثة المتمة, فالكاتب الصحفى ورئيس تنظيم حركة حق الحاج ورَّاق كتب فى عموده "مسارب الضي" فى عدد يوم 25 يونيو 2003من جريدة الصحافة, وهو يرد على أحد قادة الإنقاذ تمنى الشهادة على غرار ما فعل الخليفة عبدالله قائلاً: "والخليفة عبدالله, برغم إيمانه، وحماسته، وإخلاصه لم يحسن استخدام نعمة العقل. اختزل الثورة في القبيلة,  فالعشيرة، ثم في البيت، وما أوسع الثورة وما أضيق البيت! وكان تحوّل القاعدة الإجتماعية من السعة الى الضيق تعبيراً وعنواناً لتحوّل آخر ـ أكثرغوراً وأشد إيلاماً ـ تحوّل الجزء الى الكل ، والوسيلة الى غاية ـ تحوّل المهدية الى جهدية! وهكذا تكاثر أصحاب (الغبائن)، ولم يجد الإستعمار مشقة في أن يستزلم وطنيين الى ادلاء! ولم يدّخر الخليفة عبدالله ـ عليه الرحمة ـ وسعاً في تنمية تلك (الغبائن) في أشد اللحظات ـ حرجاً ـ حين كانت جيوش الغزاة تطبق على الدولة، فقد أرسل تجريدته المشهورة لديار الجعليين تذل وتذبح وتسبي!.. وبالنتيجة كان الطريق الى ام درمان سالكاً!", وحتى لا نتهم بالتحيز فى الرد على ذلك نطرح رأى المؤرخ البريطانى هولت, والمتخصص فى تاريخ السودان, فى الخليفة عبدالله وطبيعة المشاكل التى واجهته, يقول: "هناك جانب أهمله الكتاب والمؤلفون الذين إنحصرت نظراتهم المركزة على فظائع وأهوال عهد الخليفة عبدالله ألا وهو جانب الإنجازات والإنشاء والتعمير, فلم يكن عهد الخليفة يمثل فترة مخيبة للآمال أعقبت فترة سنى الثورة الذهبية فقط, بل كانت أيضاً فترة تنظيم وتعمير برز خلالها توازن دقيق للقوى والعوامل المختلفة, عكست إرادة الخليفة القوية  ومقدرته التنظيمية والإدارية على الرغم من ضآلة الخبرات المتوفرة, وأغلب الفشل الذى أصاب إجراءاته يعزى فى المكان الأول لقصور الأداء والوسائل المستخدمة"(Holt, P. M., The Mahadist State in the Sudan, Oxford, 1958)

    الأبيات الشعرية الحزينة التى أوردناها أعلاه وغيرها لم تنحصر فى قبيلة الجعليين فقط بل إمتدت لتجد لها مواقع ومساحات فى ثقافات القبائل المجاورة وغيرها من قبائل وسط وشمال السودان التى تعاطفت مع الجعليين فى محنتهم حتى أنها إمتدت لتشمل دياراً بعيدة نسبياً, مثل قبيلة الشكرية, إذ يقول شاعرهم الحردلو الذى تبرم من قبائل غرب السودان على عهد المهدية فإستنجد بالإنجليز وبملك الحبشة (النقس), قائلاً:

ناس قباح من الغرب يوم جونا
جابوا التصفية ومن البيوت مرقونا
أولاد ناساً عزاز متل الكلاب سوونا
يا يابا النقس والإنقليز ألفونا (أى ألحقونا)

يتجلى هنا بوضوح الأثر النفسى العميق الذى خلفته حادثة المتمة إذ جنح الجعليون والقبائل التى تعاطفت معهم إلى التنفيس عن غبينتهم عبر الكلمات والثقافة الشعبية الجارحة ويؤكد الكاتب محمود عثمان رزق ذلك بالإشارة إلى أنَّ موقعة المتمة أدت أساساً لتطور ظاهرة العنف اللفظى فى السودان, وشكلت أساساً لطلاق بائن بين قبائل وسط وشمال السودان النيلى وقبائل غرب السودان بعد أن قربهم المهدى من بعضهم بعضاً. هذه ملاحظة ذكية إذ يمكن على أساسها تفسير الكثير من السياسات الجائرة بحق أهل دارفور اليوم بعد أن وجدت ذات القبائل من شمال السودان نفسها على قيادة الوطن بعد مغادرة المستعمر فمارست سياسات محددة نحو دارفور يمكن تفسيرها كسياسات إنتقامية نبعت بفعل إسقاطات الماضى وإرث التاريخ ليس إلاَّ.














إشكالية العلاقة بين دارفور ووسط شمال السودان النيلى
"والكلام المسكوت عنه"
تحليل تاريخى سيكلوجى

                                                                       helhag@juno.comد. حسين آدم الحاج

الحلقة (3/7)

دارفور والإستعمار الإنحليزى المصرى:
عقب سقوط دولة المهدية إثر موقعة كررى فى 2 سبتمبر 1898م وبسط الحكم الإنجليزى المصرى سيطرته على السودان تركت الإدارة الجديدة دارفور لحالها, بل إن السلطان على دينار قد سبقهم إليها وبعث سلطنة الفور مرة أخرى ثم دخل فى مفاوضات مع الحاكم العام فى الخرطوم يقتضى إعتراف متبادل بسيادة كل منهما على منطقة حكمه, لكن الإنجليز فرضوا عليه دفع جزية إسمية سنوية مقدارها 500 جنيه ورفع العلمين الإنجليزى والمصرى كرمز للسيادة على أن يتركوه وشأنه فى حكم دارفور, فرفض الشرط الثانى, وبعد تأنى وافقت الإدارة الإنجليزية على دفع الجزية المتفق عليها وتركوه وشأنه مستقلاً بسلطنته فى دارفور. حقيقة لم يكن للإنجليز الرغبة البتة فى ضم دارفور ذلك الإقليم البعيد المستعصى المترامى الأطراف وهم فى ذلك إنما إتبعوا وصية شهيدهم غردون باشا الذى كان قد إقترح لإسماعيل باشا خديوى مصر تولية دارفور لواحد من أبنائها وتركها فى حالها نسبة لبعدها عن وسط السودان وشراسة أهلها فى مقاومة الحاكم الغريب, ولذلك لم يبادر الإنجليز لضم دارفور إلا عام 1916م بعد أن تبين لهم حقيقة المراسلات التى كانت تتم بين السلطان على دينار والخليفة العثمانى فى الأستانة, والذى كان متحالفاً مع الألمان ضمن دول المحور فى الحرب العالمية الأولى ضد إنجلترا وحلفائها, فبدا الأمر وكأن السلطان يتآمر ضدهم وقد يشكل مصدر تهديد لسلطتهم فى السودان ككل, ولذلك قرروا فتح دارفور ودخلوا الفاشر فى 15 مايو 1916م بعد هزيمة قوات السلطان فى معركة برنجية على الهضبة شمال شرقى المدينة أعقبها ضم دارفور رسمياً للسودان الحالى فى 1 يناير 1917م.
بعد إستتباب الأمر للإنجليز بدارفور ظلوا ولست سنوات يخططون لكيفية حكم ذلك الإقليم الواسع الغنى بإنسانه وتاريخه وتراثه, ولذلك فإنَّ أول ما قاموا به هو رسم خريطة جغرافية طبيعية وقبلية دقيقة لكل الإقليم, إذ لم يكن ذلك متوفراً أيام حكم السلطنة, وأعتمدوا عليها فى تقسيم الإقليم إلى 6 مراكز هى: مركز شرق دارفور ومركزها أم كدادة, مركز الفاشر ومركزها الفاشر, مركز شمال دارفور ومركزها كتم, مركز غرب دارفور ومركزها الجنينة, مركز جنوب غرب دارفور ومركزها زالنجى, ومركز جنوب دارفور ومركزها نيالا, وعلى رأس كل مركز مفتش ثم إتبعوا سياسات صارمة فى سبيل السيطرة على سلوك القبائل من خلال إدارات أهلية قوية لم تختلف كثيراً عن تلك التى كانت فاعلة أيام السلطنة, ومن خلال تلك الإدارات تمكن الإنجليز من السيطرة على حركة القبائل ولم يتدخلوا مباشرة فى التعامل مع المواطن العادى إذ كانوا يعلمون نفورهم من التعامل مع الأجنبى بل تركوا ذلك لسلاطين القبائل والشراتى والنظار والعمد والشيوخ, وسنتعرض بالتفصيل فى دراسة قادمة لنظام الإدارة الأهلية فى دارفور ماضيه وحاضره والكوارث التى نجمت عن حلها تحت نظامى مايو والإنقاذ بعد أن تمكنت من المحافظة على النسيج الإجتماعى والقبلى لدارفور منذ ما يزيد على أربع قرون من الزمان.
تلك من ناحية السياسات الخاصة بإدارة إقليم دارفور محلياً, أما بالنسبة لدمج دارفور فى بقية المجتمع السودانى العريض فلم يحاول الإنجليز ذلك البتة وعملوا جهدهم لبقاء دارفور منعزلة عن بقية السودان, مثلما كان الأمر فى ماضيها, خاصة بعد صدور قانون المناطق المقفولة عام 1922م حيث تقرر الفصل الكامل لعدة مناطق فيها ومنع دخولها إلاَّ بإذن, ومن بينها الفصل الكامل بين إقليم دارفور ومركز بحر الغزال فى راجا وإجبار سكان قرية كفيَّا كينجى النزوح إلى الشمال حيث الإسلام ولم يتوقفوا عند ذلك بل قاموا بحرق القرية تماماً بعد مغادرة سكانها حتى لا تسول نفس أى منهم بالعودة إليها مرة أخرى. ثم قاموا بتطبيق نفس السياسة فى مركز كُتم بشمال دارفور حيث كان مفتشها المستر مور مشهوراً بالقسوة والتعسف فى إذلال البشر وللأهالى المحليين قصصاً مثيرة حول ذلك. لقد كان الرجل قسيساً بجانب كونه إدارياً وتبعاً للأهداف السرية لقانون المناطق المقفولة فقد قرر تنصير قبائل الزغاوة الذين يتبعون له إداريا,ً وإتبع فى ذلك سياسة ظنَّ أنها ستقربه إليهم فأغدق على سلاطينهم وشراتيهم العطايا والهدايا والكساوى فى الأعياد الرسمية ولما إطمئن إليهم دعاهم لإجتماع وحدثهم كيف إنه يحبهم وأنه ما جاء حاكماً عليهم إلاَّ ليرفعهم ويصلح من أحوالهم وسيساعدونه أكثر إن تحولوا من الإسلام إلى المسيحية إذ فى هذه الحالة سوف يفتح الكثير من المدارس لتعليم أبناءهم ويساعدهم فى التوسع فى الزراعة وتربية الحيوانات وسيرسل زعماءهم لزيارة الخرطوم لتحية الحاكم العام وسيبتعث المتعلمين منهم لمواصلة دراساتهم فى بريطانيا. لقد فات على الرجل أنَّ الزغاوة من أكثر قبائل دارفور تمسكاً بالإسلام, فعقب تلك المقابلة طلب منه أولئك الزعماء أن يذهبوا ليتشاوروا فيما بينهم ثم يرسلوا إليه الرد, ثم إجتمعوا وقرروا الرفض رفضاً باتاً, وبالفعل أرسلوا رسولاً منهم ليقول له إنه كافر نجس ولا ينبغى من الأساس أن يحكمهم وأنهم سوف لن يستمعوا له أو يتحدثوا معه بعد ذاك اليوم. إشتط الرجل غضباً ورد عليهم بأنه سوف لن تكون هنالك أى تنمية فى منطقتهم أو خدمات لهم لمدة 25 سنة عقاباً على عصيانهم وتمردهم على عرضه لهم.
بالفعل لم تقم أي تنمية فى دار الزغاوة إلى اليوم إذ واصل الحكام الإنجليز الذين خلفوا المستر مور إنتهاج نفس سياساته الطائشة وسار على دربهم الحكام الوطنيون الذين حكموا دارفور بعد الإستقلال ولم يهتموا حقيقة برفع إنسان دارفور, بل لقد كان هناك قراراً سريَّاً بالقيادة الغربية بالفاشر منذ مطلع الإستقلال بعدم تجنيد أبناء الزغاوة بالجيش السودانى وهذا هو السبب الرئيسى فى ملاحظة عدم وجودهم فى الخدمة العسكرية.
لم يساعد الأنجليز أهل دارفور مطلقاً فى تنمية أنفسهم أو الحصول على أبسط المقومات للنمو والتطور فمثلاً فى مجال التعليم تم إفتتاح أول مدرسة أولية فى دارفور كلها عام 1936م, أى بعد عقدين من الزمان بعد إحتلالهم لها وثمانية وثلاثين سنة من دخولهم السودان, هى مدرسة الفاشر المزدوجة, وإمتنعوا عن فتح أى مدرسة متوسطة فقام الأهالى عبر مؤتمر الخريجين بإنشاء مدرسة الفاشر الأهلية الوسطى عام 1945م, كأول مدرسة وسطى فى دارفور كلها تبعتها الحكومة يإنشاء مدرسة الفاشر الأميرية الوسطى عام 1958م, ولم تُفتح أي مدرسة ثانوية إلاًّ فى عام 1958م وهى مدرسة الفاشر الثانوية للبنين ثم لاحقاً مدرسة الجنينة الثانوية كأول مدرسة للبنات عام 1965م.
هكذا ظلت دارفور معزولة عن السودان سواءٌ بفعل الطبيعة أو سياسات المستعمر, ثم جاء عدم ربط الإقليم بوسائل مواصلات فعالة تربطها ببقية أنحاء السودان لتزيد من العزلة عزلتين, ولم تتكرم عليها الأنظمة الوطنية بعد الإستقلال بأى مشروع هكذا إلاَّ فى مطلع الستينات حين أنشأ نظام الفريق إبراهيم عبود خط السكة الحديد من الرهد إلى نيالا. وبمناسبة الحديث عن المواصلات تستحضرنى هنا قصة رواها المرحوم الأمير عبدالحميد عباس بن السلطان محمد الفضل والذى كان يعمل باشكاتباً لمصلحة الأشغال بالفاشر لمدة طويلة منذ بداية الخمسينات, وهى أنه فى عام 1958م بدأت الحكومة فى رصف طريق الغرب (الفاشر- أم درمان), كأول طريق رابط بين المدن السودانية إطلاقاً, ونسبة للتلال الرملية الكثيفة التى تغطى مناطق شرق الفاشر ومن ورائها كثبان شرق دارفور وكردفان بدأ العمل بردم الصخور والحجارة الضخمة لخلق أساس لتأتى فوقها بقية الردميات والأسفلت, لكن لم يتم ذلك, وإمتد العمل لمسافة حوالى 14 كيلومتراً شرقى الفاشر ما زالت آثاره موجودة إلى اليوم وإن دفنت الأتربة وكثبان الرمال أغلبه, وحينذاك وصلت برقية من الخرطوم إلى مكتب باشكاتب أشغال الفاشر مفادها الآتى "أوقفوا العمل فى طريق الفاشر أم درمان إلى حين الإنتهاء من طريق الخرطوم مدنى على أن يتواصل العمل فى طريق الغرب بعد ذاك"!! كان ذلك قرابة نصف قرن من الزمان ومنذ ذلك التاريخ أصبح طريق الغرب مثل الأحجية تتناقلها الأجيال جيلاً إثر آخر قبل أن تقبره نظام الإنقاذ برصاصة الرحمة.

تشير بعض التحليلات إلى سبب عدم إنشاء الإنجليز لأى مشروع تنموى أو خدمى فى دارفور وعدم ربطه بأى وسيلة للمواصلات هو بُعد الإقليم ووعورة تضاريسه بجباله ووديانه الهائلة, لكن هناك من ينسب الأمر إلى سببين آخرين أولهما سياسة مبطنة تهدف لعدم تطوير أهل دارفور فى أى مجال إذ يمثل ذلك أفضل وسيلة للسيطرة عليهم من خلال تركهم يعيشون فى مراتع الجهل والفقر والمرض مما سيؤثر حتماً فى كسر شوكة نزعتهم التحررية وتخذيلهم فى التفكير لإعادة السلطنة حسب ظن الإنجليز, وإذا كان لابد من حكمهم بواسطة سودانيين فليكونوا من وسط وشمال السودان النيلى. لقد كان الإنجليز يعلمون أنهم قد إحتلوا سلطنة كانت قائمة ومن الطبيعى أن يحاول أهلوها إستردادها مرة أخرى وتاريخهم حافل بتلك المحاولات. أما السبب الثانى فهو أنه بعد إنشاء مشروع الجزيرة عام 1922م لإنتاج القطن كانت الحاجة ماسة لأيدى عاملة رخيصة لجنى القطن (عمال لقيط) ولذلك فقد قرر الإنجليز منذ التخطيط لإنفاذ ذلك المشروع أن تكون دارفور منطقة إنتاج لتلك العمالة الرخيصة مما يستوجب عدم تعليمهم أو تنمية مناطقهم إقتصادياً حتى يكونوا مضطرين للحصول على أى عمل ولو فى الحملات الموسمية للقيط القطن, ونتيجة لذلك فقد شكل الأهالى, وخاصة أولئك النازحين من الدول المجاورة عبر الحدود الغربية, مصدراً دائماً لتلك العمالة الرخيصة, ولعلَّ مد خط السكة الحديد إلى نيالا فى مطلع الستينات قد سارع فى نقل أعداد هائلةً منهم. إن وجود أعداداً كبيرة من سكان الجزيرة والنيل الأبيض اليوم من جذور دارفورية مردَّه إلى تلك السياسات, بإختلاف طفيف حول منطقة النيل الأبيض, إذ أن الهجرة إليها تمت لاحقاً تحت غطاء العمل فى مشاريع الإمام عبدالرحمن المهدى الزراعية والتبرك بالإقامة حول دائرة المهدى فى الجزيرة أبا, وقد مثل ذلك سبباً آخراً لا يقل فظاعة فى تخلف أهل دارفور, وربما تكون تلك السياسات قد هدفت أيضاً للضغط على أهالى دارفور للرحيل ببطء إلى داخل القطر طلباً للرزق فتنكسر شوكة أهليتهم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية مما يسهِّل التحكم والسيطرة عليهم مستقبلاً.
إن الجهل والتخلف اللذان يوصمان بهما أهل دارفور لم يكن بفعل أياديهم وإنماعبر سياسات مبرمجة كانت وما زالت تهدف لإذلالهم وإستغلالهم, بل إنه من المفارقة أن تتبع الحكومات الوطنية السودانية التى تسلمت أمور إدارة البلاد نفس تلك السياسات التى إتبعتها الإدارات الإستعمارية من قبل فى عدم تطوير الإقليم بالرغم من الخيرات الطبيعية الوافرة من الثروات الحيوانية والزراعية والمعدنية التى تتمتع بها. لقد كتب المفتش الإنجليزى بزالنجى, مركز جبل مرة, فى منتصف ثلاثينات القرن الماضى تقريراً إلى الحاكم العام, بالخرطوم عن طريق مدير مديرية دارفور بالفاشر, عن الإمكانات الطبيعية الهائلة بمنطقة جبل مرة وقدرتها لمد بريطانيا العظمى بأجود أنواع الفواكه والمنتجات الزراعية المختلفة, وقد وصف المنطقة بأنها يمكن أن تكون بمثابة مشروع الجزيرة الثانى للسودان  (Jebel Marra, the Second Gezira of the Sudan) من حيث المردود الإقتصادى لخزينة الدولة لو تم إستغلال تلك الموارد الطبيعية بصورة سليمة. لكن وللأسف, لا الحاكم العام المستعمر ولا رؤساء السودان المستقل إلتفتوا غرباً لينظروا إلى الجبل وبدلاً من أن تتحول تلك المنطقة النادرة إلى جنة الله فى الأرض تكاد اليوم أن تتحول إلى جهنماً ملتهباً فى سماء دارفور.
لقد إتبع الإنجليز سياسات مختلفة فى السودان تبعاً لتنوع السكان والقبائل وهم فى ذلك لم يكونوا عبطاء إذ أنهم شديدى الذكاء محنكى الخبرة فى إدارة الشعوب. لقد كان الأداريون والمفتشون الأوائل فى بدايات وأواسط العهد الإستعمارى يشكلون مجموعة من العلماء المتخصصين فى علوم الإدارة والتنمية والإجتماع والتاريخ والأجناس (الأنثرابوبوجى) والزراعة والبيطرة وكل ما يهم حاجات وشئون المجتمعات المتخلفة التى سيطروا عليها, إضافة إلى ذلك كان معظمهم من ذوى الخبرات العميقة ممن نالوا خبرات فى أماكن أخرى مشابهة حول العالم مثل الهند والصين وشرق أفريقيا, ولذلك عندما فتحوا دارفور أرسلوا إداريين متخصصين فى مجالات التاريخ وعلم الأجناس قاموا بإعداد دراسات وافية هدفها تحليل شخصية إنسان ذلك الإقليم وتحديد مكامن قوته وضعفه إنطلاقاً من تاريخه السلطنى وإرثه الثقافى ومحتواه القبلى, ولعلَّ تاريخ دارفور وسلطناته المختلفة قد وجدت إهتماماً خاصاً نظراً لصعوبة الفصل بينها وبين سيكلوجية الأفراد والقبائل التى تشكل نسيج المجتمع القائم على تلك الرقعة, ويمكننا هنا أن نقدر أهم مستخلصات تلك الدراسات والتقارير التى بنوا عليها سياساتهم المختلفة فيما بعد فى النقاط التالية:
أولاً: إن دارفور ظلت كياناً مستقلاً طوال تاريخها حيث لم تخضع لأى حكم خارجى مباشرعدا فترات قصيرة تمثلت فى الحكم التركى المصرى (9 سنوات) ثم فترة قصيرة تحت حكم المهدية (15 سنة).
ثانياً: لقد حكمتها طوال تاريخها ثلاث سلطنات عمرت كل منها لأكثر من قرن على الأقل تمثلت فى سلطنة الداجو (القرن الثانى عشر إلى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى), سلطنة التنجر (من النصف الأول من القرن الثالث عشر إلى النصف الأول من القرن الخامس عشر), ثم سلطنة الفور الكيرا (من النصف الثانى من القرن الخامس عشر إلى 25 أكتوبر 1874م, غزو الزبير باشا) هذا بخلاف عهد السلطان على دينار (نهاية عام 1898م إلى 6 نوفمبر 1916).
ثالثاً: إن سلطنة دارفور كانت لها شخصيتها الإعتبارية الدولية فقد كانت معروفة ومعترفاً بها ككيان سلطنى ثابت, وكانت بينها مراسلات مع الإمبراطور الفرنسى نابليون بونابرت عندما فتح مصر (السلطان عبدالرحمن الرشيد), ومع غردون باشا (السلطان محمد الفضل), ومع الخليفة العثمانى فى الإستانة والملك السنوسى فى ليبيا (السلطان على دينار).
رابعاً: إن سلطنة دارفور كانت لها علاقات تجارية واسعة خاصة مع مصر وليبيا ومملكات وسط وغرب وجنوب أفريقيا.
خامساً: ظلت تلتزم بالإسلام وتشارك فى كسوة الكعبة المشرفة بصورة سنوية عبر ما كان يُعرف "بمحمل الكعبة" من الفاشر إلى القاهرة و"بصرة الحرمين" من القاهرة إلى بلاد الحجاز.
سادساً: ظلت دائماً تشجع هجرة العلماء إليها وتقطعهم الإقطاعيات والحواكير كما كانت لها رواق فى الأزهر الشريف ظل يعرف "برواق دارفور".
سابعاً: إن أهل هذا الإقليم ينتمون إلى مجموعات كبيرة من القبائل المشهودة لها بالفروسية والشجاعة وشدة البأس وتاريخهم العسكرى يشهد لهم بذلك.
ثامناً: مثَّل أبناء الإقليم عماد الثورة المهدية وركائز دولتها ونال ثباتهم فى معركة كررى فى الدفاع عنها إعجابهم بهم, كما يشهد بذلك كتاب وينستون تشرشل "حرب النهر", وقد كان شاهداً على تلك المعركة كمرافق صحفى فى مقتبل شبابه حيث وصفهم "بأنَّ هؤلاء أشجع من وطئوا الأرض بأقدامهم".
تاسعاً: إن سلطنة المساليت التى مثلت الجزء الغربى الأقصى من السلطنة كانت سلطنة قوية تمكنت من هزيمة القوات الفرنسية ثلاثة مرات عندما حاولت التقدم شرقاً من منطقة تشاد الحالية تجاه السودان.
عاشراً: إن إنسان هذا الإقليم هو نتاج تاريخ طويل وإرث ثقافى عميق ذو أنفة وكبرياء ظل يتمتع بحريته ضمن هياكل سلطنته الإدارية وإنه غير مستعد لأن يخضع للذل والهيمنة من قبل الأجنبى وسيقاتل من أجل كرامته مهما كلفه من عنت, كما عُرفت منطقته بالمنطقة الوحيدة التى لم يدخلها الإستعمار فى أفريقيا قبل ذلك.

    لقد فهم الإنجليز سيكلوجية إنسان دارفور من خلال قراءة وتحليل تاريخه وعناصر تركيب مجتمعه, ولذلك فإن أول ما قاموا به بعد إحتلالهم للسلطنة هو تحطيم رموزها السيادية بمقتل السلطان على دينار وإزالة أركان سلطته على المستويات العليا فقط ثم تحويل قصر السلطان بالفاشر إلى مقر سكن المدير الإنجليزى الجديد المستر هدلستون إمعاناً فى السيطرة المطلقة, لكنهم كانوا أيضاً من الذكاء بحيث تركوا المستويات الوسطى والدنيا من الإدارة التى خلفها السلطان باقية على أشكالها القديمة وهى مستوى سلاطين القبائل والملوك والمقاديم والنظار والشراتى وما بعدهم من العمد و الدمالج فالشيوخ والخفر فى أسفل السلالم الإدارية, لقد تركوا تلك الهياكل سالمة وإستخدموها بحكمة فى تثبيت سلطاتهم وضبط حركة القبائل, وبعد أن دانت لهم الأمور وسكن الناس قرروا إهمال الإقليم تنموياً وتعليمياً وجعلوها تعيش على الحدود الدنيا من الخدمات الإجتماعية, صاحب ذلك سياسات باطشة لكل ما يصدر من المواطنين أو يشتم منه رائحة تحرر وطنى ومثال على ذلك سحق ثورة الفكى عبدالله السحينى عام 1921م وإعدامه شنقاً بسوق نيالا, ثم التعسف الكبير الذى أعقب ثورة مؤتمر الخريجين بالفاشر وحرق العلم البريطانى عام 1952م كأول حادثة لحرق علم بريطانيا العظمى حيث أنزلوه من ساريته بمركز الفاشر, لكنهم لم يمسوا العلم المصرى الذى كان يرفرف بجانبه. إن كثيراً من الذين شاركوا فى حرق ذلك العلم ما زالوا أحياءاً ولكم تمنينا منهم أن يقوموا بتدوين مذكراتهم كشهود عصر وأبطال فصل من فصول الحركة الوطنية السودانية.
    إنَّ السياسات التى إتبعتها الإدارة الإنجليزية فى دارفور إستندت على فرضية أن سكان هذا الإقليم ميَّالون للتمرد والخروج عن القانون وسيظلون يحلمون دائماً بإستعادة سلطنتهم المفقودة ولذلك فإنَّ السياسة الوحيدة التى تصلح معهم هى القمع وعدم التنمية وجعلهم قابعين فى محيط الجهل والتخلف والفقر, ونتيجة لذلك صار هَّم أى مدير لمديرية دارفور يتركز بصورة أساسية فى بسط الأمن وحفظ هيبة الدولة وعدم التردد فى إستخدام العنف الصريح إذا ما بدر من الأهالى ما يعكر صفو الأمن أو الخروج عن الطاعة. لقد كان إعتقادهم أن إبقاء هؤلاء الناس على درجات دنيا من التعليم والتنمية, وهدر طاقات الإقليم وقدراته المالية حتى لا يعود بالنفع فى المجالات المطلوبة, هو السبيل الفعَّال لإخضاعهم وإذلالهم نفسياً وكسر شوكة رغبتهم الجامحة لإستعادة السلطنة أو حتى التفكير فيها. هكذا ظلت سياسة الإنجليز تتراوح بين هذه المحاور ولا تتجاوزها, ولذلك كان مدير المديرية بالفاشر تصله الضرائب والعشور من مفتشى المراكز الستة, الذين يتحصلون عليها من شيوخ الإدارات الأهلية حيث يحددون لكل قبيلة ربطاً محدداً بناءاً على عدديتها السكانية وموارد دخولها وغالباً ما يقوم الشرتاى أو الناظر بدفعها من أمواله الخاصة جملة واحدة على أن يستعيدها براحته بعد ذلك من أفراد رعيته. لقد كان المدير يصرف القليل من تلك الموارد بما يكفى فقط لتسيير دولاب حكمه ثم يرسل الجزء الأعظم إلى الحاكم العام بالخرطوم ولا يعود شيئاً من ذلك للمواطنين فى شكل تعليم أو خدمات إجتماعية.
    إنَّ الكثير من هذه المفاهيم, وما قامت عليها من السياسات القابضة التى طبقها الإنجليز فى دارفور وجدت طريقها للأنظمة الوطنية التى تعاقبت على حكم البلاد منذ الإستقلال وإلى اليوم. وإن كان للمستعمر أسبابه فى ذلك فما بال الحاكمين من أبناء البلد ينتهجون نفس تلك السياسات وما الذى يدفعهم بإصرار نحو تقنينها فى شكل سياسات صماء  تبدو وكأنها مبيَّتة مع سبق الإصرار تتساوى فى ذلك الحكومات الدكتاتورية والمنتخبة على السواء!

 

آراء