إطلق حماسك!! لا للإحباط … نعم للأمل وإرادة التغيير …
قراءة في المشهد السياسي:
كل شيئ أو لا شيئ
مباشرة بعد انقلاب 30 يونيو 1989، إنخرطت القوى المعارضة لنظام الإنقاذ في دراسة وبحث الآليات والوسائل الضرورية والملائمة للإطاحة بالنظام. وقد توصلت تلك القوى، وتحديدا في التجمع الوطني الديمقراطي، إلى تبني حزمة متكاملة من التاكتيكات المعارضة تمثلت في مفاهيم الانتفاضة المحمية والكفاح المسلح والحصار الدبلوماسي والحل السياسي التفاوضي. وكان واضحا أن مسألة التوصل والتوحد حول تاكتيكات العمل المعارض ليست مجرد عملية فنية وتقنية، وإنما هي قضية سياسية وفكرية ما كان من الممكن أن تتبلور ملامحها إلاَ بعد الاتفاق على مواثيق وبرامج وأهداف التجمع الوطني الديمقراطي. وأعتقد من الضروري هنا الإقرار بأن تلك المفاهيم، ولفترة طويلة، كان يشوبها الكثير من الغموض وعدم الوضوح عند كل أو معظم أطراف التجمع، بحيث ما كان من الممكن القول أن رؤى كل فصائل العمل المعارض حول هذه المفاهيم كانت واضحة ومحددة. ومن ناحية أخرى، لم تكن المسألة مرتبطة بأفضلية هذا التاكتيك أو ذاك، وإنما ترتبط بعملية التغيير نفسها ومحصلتها النهائية التي ستنتج عنها، وما إذا كان التغيير سيتصدى للأزمة ويعالجها بما هو أعمق من سطحها السياسي، علماً بأن محصلة التغيير ترتبط بالضرورة، وبهذا القدر أوذاك، بنوعية الوسيلة المستخدمة لتحقيقه. وفي الحقيقة، وفي صبيحة إنقلاب الإنقاذ، بادرت جماهير الشعب السوداني، بشكل مباشر وعفوي، بطرح سؤال البديل: ما هو البديل، وهل ننتفض لتعود الأزمة مرة أخرى؟. ومن الواضح أن ذاك السؤال لم يكن بحثا عن إجابة غير معروفة أو تائهة، بل كان يحمل في طياته إجابة شافية تعبر عن رغبة جماهير الشعب السوداني في التخلص ليس فقط من نير الديكتاتورية، وإنما التخلص من خناق الأزمة الممتدة منذ فجر الاستقلال في بلادنا. كما أن الجماهير لم تتناول هذا السؤال من زاوية المتفرج أو المراقب السلبي، وإنما انخرطت طيلة العشرين عاما المنصرمة في نضال بطولي بذلت فيه تضحيات جسام يعجز المرء عن وصفها، من أجل الديمقراطية والسلام والعيش الكريم.
وإذا كان تاكتيكا الإنتفاضة المحمية أو العمل المسلح يتسقان مع فكرة المقاطعة التامة والشاملة لنظام الإنقاذ ومؤسساته تماشيا شعار "الإقتلاع من الجذور"، فإن آلية الحل السياسي التفاوضي، تعنى بقاء نظام الإنقاذ، بشكل أو بآخر، ليكون جزءا من البديل القادم. لكن مجموعات كثيرة لم تكن تهضم هذه الفكرة، لذلك كانت ترى في الحل السياسي التفاوضي منزلقا وهزيمة للعمل المعارض. وبالطبع غاب عن هولاء، أن المسألة لا تحدد بالرغبة أو ما إذا كانت هنالك عصارات كافية لهضم الفكرة، وإنما بميزان القوى في اللحظة المحددة، وبتوفر الظروف الموضوعية والظروف الذاتية التي من ضمنها إستعداد وقدرة قوى التغيير على إقتناص الفرص.
لكن، حال ما انتقل العمل المعارض من التاكتيك المسلح إلى تاكتيك الحل السياسي المتفاوض عليه، سقطت أحلام هذه المجموعات وتبدى احباطهم في استمرارهم في الرفض والمقاطعة مستندين على الممارسات المشينة لنظام الانقاذ بدءا بعرقلة التحول الديمقراطي انتهاءا بمهزلة الانتخابات، مرورا بإلتفافه على تنفيذ الإتفاقات الموقعة، وليدة الحل السياسي التفاوضي. وإذا كان من الصعب أن نتفق مع من يرفض الحل السياسي التفاوضي، فإن من الضروري الإقرار بأن مواقف هذه المجموعات الرافضة لم يكن كله خاطئا من زاوية أن الحل السياسي التفاوضي لم يكن مصحوبا بوسائل وبرامج وخطط للإنخراط في النضال الجماهيري اليومي، لا سيما وأن الجماهير لم يصلها من الاتفاقات الموقعة ما يرضي تطلعاتها ويلبي إحتياجاتها، في حين أن بعض قياداتها إكتفت بمقاعد السلطة...!
من بين هذه المجموعات، والتي هي حقا قلبها على الوطن، مجموعة لديها الكثير من الملاحظات والتحفظات على طرق ووسائل إدارة العمل السياسي المعارض، بما في ذلك الأحزاب السياسية نفسها. وتشمل هذه الملاحظات والتحفظات: الخطاب السياسي، التاكتيكات، البناء التنظيمي، القيادة....الخ. وهذه المجموعة لا تكتفي بإبداء الملاحظات النقدية فقط، وإنما تبادر بتقديم الحلول والبدائل والدعم.
في جدوى مقترح المائدة المستديرة
وصلتني رسالة من رجل أعمال ينتمي إلى هذه المجموعة، وينتمي، بلغتنا نحن الشيوعيون، إلى الرأسمالية الوطنية. وله مواقف، يتفق معي الكثيرون، على أنه يجب أن تسجل لتتعلم منها الأجيال القادمة كيف يمكن الموائمة بين تنمية رأس المال الخاص والمساهمة الفعالة في دفع عجلة تنمية الوطن. فهو إبن هذه البلاد يحلم بنمائها وتطور إنسانها ويبحث دائما عما يفرح البسطاء والمهمشين من سكانها. دخل عالم الصناعة مؤهلا بالعلم والنظرة الثاقبة لأولويات احتياجات الناس. وهو يرفض أي نشاط اقتصادي يتجاهل منفعة الفقراء، ولا يمكن أن يتسامح مع الأغنياء الجدد الذين راكموا ثرواتهم من نهب جهاز الدولة وعبثوا بقائمة أولويات التنمية في السودان. وهو ينظر بإستنكار للمفارقة العجيبة في قطاعي النقل والإتصالات في السودان، حيث التطور المذهل في تقنية الاتصالات عبر الهاتف المحمول، مقارنة بالحالة المزرية التي آلت إليها السكة حديد والنقل النهري وسودانير!.
في رسالته، يشكك رجل الأعمال في قدرة الأحزاب السياسية، معارضة وحكومة، على إدارة مؤتمر مائدة مستديرة ناجح خلال الستة أشهر الباقية من عمر الفترة الإنتقالية مستدلا بعجزها وفشلها خلال 15 عاما قضتها في المعارضة، وعدم إستفادتها من سنوات الفترة الانتقالية الخمس الماضية. وهو يعتقد أن أي مؤتمر مائدة مستديرة يعقد سيكون شبيها بمؤتمرات إتفاق جبوتي، اتفاق جدة، اتفاق أبوجا، اتفاق القاهرة، اتفاق التراضي وحتى محطة مفاوضات الدوحة الأخيرة. ويرى الرجل أن " القوى القاطنة مثلث حمدي غير مؤهلة للتغيير لأنهاغير مستعدة للتضحية، بينما جماهير المناطق المهمشة، لأنها صاحبة الوجعة الحقيقية، مستعدة لتقديم المزيد التضحيات من أجل تحقيق طموحاتها، وأنها هي الوحيدة المؤهلة لتحديد شكل علاقتها بالمركز، مدعومة من مناصريها. وإن المعالجة الحقيقية تبدأ بالتغيير في بنية المركز، حكومة ومعارضة".
عند قراءتي للرسالة، عصفت كثير من التساؤلات بذهني، بعضها يتعلق بجوهر قيمة الفعل النضالي وجدواه، سواء تاريخيا أو في لحظته الراهنة. وقدًرت أن إبراز هذه التساؤلات للقراء سيسهم في مناقشة عدد من القضايا السياسية ذات الطابع الفكري، التي لا تفترض الإجابات القاطعة ولا تقبل الحلول المطلقة. وعدم الوضوح حول هذه القضايا تسبب في إصابة الكثيرين بالإحباط وإقعادهم عن المشاركة في الهم العام، على الرغم من أن اللحظة الراهنة هي لحظة دقيقة وحرجة في عمر الوطن، ونحتاج فيها لجهد الجميع للحفاظ على وحدته. أعتقد من البديهي الإشارة إلى أن هذه التساؤلات تحمل في طياتها وجهة نظري حول القضايا التي تثيرها. والتساؤلات كانت حول:
- مفهوم تحقيق الهدف من أول وهلة، أو بضربة لازب، مقابل التدرج، بل المساومة أحيانا، لفتح الطريق أمام التقدم نحو الهدف الرئيسي.
- كيفية النظر لقضايا التطور الاجتماعي السياسي: الأفق المفتوح متعدد الاتجاهات مقابل الأفق الضيق ذو الاتجاه الواحد "multidimensional approach versus tubular approach"
- الإنفتاح على أدوات ومناهج عمل حديثة تؤسس لنفسها في المسرح السياسي.
- التغيير: قواه، دوافعه، الكيفية والوسائل، ولحظته التاريخية.
ضمنت ردي على رسالة رجل الأعمال ملخصا بهذه التساؤلات على أمل الحوار الواسع حولها عند أول لقاء. وأعتقد من البديهي الإشارة إلى أن هذه التساؤلات تحمل في طياتها وجهة نظري حول القضايا التي تثيرها. وسأقوم بطرح وجهة نظري هذه في عدد من المقالات، ابتداءا من المقال القادم.
عنوان المقال
خرجت بإنطباع، قد يكون خاطئا، من أن صاحب الرسالة مصاب بقدر من الأحباط بسبب الأوضاع الراهنة في البلاد. وفي الحقيقة فإن حالة الإحباط واليأس أصابت الكثيرين الذين يرون أن مقترح المائدة المستديرة جاء في الزمن بدل الضائع، وأصبحوا لا يرون فائدة حتى من جدوى الفعل السياسي البسيط: التضامن مع مجموعات متضررة، مناصرة قضية بعينها...الخ ناهيك عن المبادرة بنشاط ما. لذلك تعمدت استخدام عبارة إعلان "الببسي" في المونديال لتكون عنوان هذا المقال، وفي ذهني أن حماس الناس، المنظم والواعي، قادر على قلب الموازين في اللحظات التاريخية الحاسمة. فكأس العالم أذهلنا جميعا بقدرته على حشد الملايين من كل بلد، ونحن في السياسة نحتاج إلى مثل هذه الكرنفالات الإحتفالية وفرحة الانتصارات، بل وحتى دموع الهزائم المصاحبة لمباريات المونديال، لهزيمة اللامبالاة وحالات الإحباط، ولرفع رايات الأمل وشحذ إرادة التغيير. فبلادنا ظلت تعاني من أزمة مزمنة تمتد جذورها إلى فجر الاستقلال، تفاقمت وتعقدت بالممارسات والمعالجات القاصرة والخاطئة علي أيدي الأنظمة التي تعاقبت علي الحكم طيلة السنوات الماضية. وأن هذا التأزم بلغ أقصى مداه منذ إنقلاب الإنقاذ على النظام الديمقراطي الشرعي في يونيو 1989، فأصبحت البلاد على حافة التمزق والتفتت... لذلك، نحناج أن نطلق حماسنا، ولو في هذه اللحظات الأخيرة، من أجل التغيير الشامل الذي يزيل أسباب الحرب ويحقق السلام العادل ويعيد صياغة وبناء الدولة السودانية الموحدة على أسس جديدة تقوم على الشرعية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة والاعتراف بالتنوع والتعدد العرقي والديني والثقافي.
الشفيع خضر سعيد
ELSHAFIE kHIDIR SAEID [eksahmed@gmail.com]