إعفاء الوزراء للوكلاء: أليس من ضوابط ؟

 


 

 

منذ تكوين الحكومة الإنتقالية الجديدة قبل نحو أربعة أشهر تم إعفاء عدد كبير من وكلاء الوزارات يقارب عددهم العشرة في بعض التقديرات، كما تم أيضاً إعفاء عدد من مديري المراكز و المجالس و الوحدات الحكومية ، و بالمقابل تم إستبدالهم جميعاً بأشخاص من إختيار الوزراء الجدد ( ممثلي الأحزاب و الحركات المُسلحة المشاركة في الحكومة ). أهمية السؤال الوارد في عنوان المقال تأتي من ان الأمر متعلق من ناحية عامة بأهمية عدم تسييس الخدمة المدنية (إعادة الوضع لما كان عليه قبل الانقاذ) و بإستقرارها واستقرار قياداتها المنوط بهم تنفيذ خطط وبرامج الحكومة المتفق عليها في إطار إستراتيجية ذات أهداف قومية محددة.
من المعلوم ان الوكيل هو المسئول الإداري والفني الأول في الوزاره و المستشار الأول للوزير بها ، يرفع له التوصيات الفنية كملخص لآراء فنيى الوزارة وإداراتها المختلفة و يبّين له الخيارات المقترحة لمعالجة أي موضوع ، وأوجه المفاضلة بينها ثم يترك له القرار النهائي، والوزير لا يتدخل في أي قرار فني أو إداري في الوزارة، فتلك سلطة حصرية للوكيل. تأريخيا ، و بهذه الصفة و المهام فالوكيل هو أحد كبار مسئولى الدولة ويجب ألا يخضع لاستلطاف الوزير أو حزبه أو أى صفه أخرى غير حُسن الأداء أو عدمه. و لذلك فيجب أن تكون العلاقة بينهما واضحة ، يحددها القانون أو اللائحة ويحفظ لكل منهما حقه في حالة إختلاف الاراء ، بما في ذلك حق الوزير في طلب إعفاء الوكيل، و موجبات ذلك من أسباب ، و كذلك اجراءات الإعفاء والاستبدال. إن منصب الوكيل هو منصب فني يناله الموظف – في الظروف العادية- بالخدمة الطويلة (الممتازة) في الوزارة المعنية ، و بالمنافسة في آخر المطاف مع زميل أو اكثر، ولذلك كان المسمي في بعض الوزارات هو الوكيل الدائم (Permanent Undersecretary). و الوزير- بالطبع - منصب سياسي خاضع لتقلبات السياسة و تحالفاتها، أي أن وضعه مؤقت بعكس وضع الوكيل.
إن تغول الوزراء على صنع القرار كله في وزاراتهم و إدارة الوزارة كضيعة شخصية للوزير، هو إستثناء وسلوك إنقاذي بامتياز، استنَّته الانقاذ لتمرير أجندتها بطرق غير الأساليب المتبعة عامة في الخدمة المدنية في سلسلة اتخاذ القرار، وحتي لا يكون هنالك توثيق لآراء الفنيين التي يمكن أن تثبت أن رأي الوزير قد اتخذ دون مراعاة للرأي الفني و المصلحة العامة. وقد جلب ذلك النهج الفوضى وأدي الي ضعّف الإدارة في جهاز الخدمة المدنية بالتمكين ، لذوى الولاء، من متوسطي الذكاء و الخبرات الإدارية وبالإستغناء عن ذوى الجدارة ، الذين لُفِظوا لفظ النواة عن مواقعهم ، فأفادوا بخبراتهم وعلمهم و مؤهلاتهم دولاً أخرى عندما غادروا وطنهم وهم مكرهون علي ذلك. وعليه فإن صح أن مرسوم تنظيم أعمال الحكومة في نظام الإنقاذ قد تم تجديدة في الحكومة الانتقالية بنفس الإختصاصات والمسئوليات و أن الوزير هو مازال بنفس سلطات وزراء الإنقاذ ، بالإستغناء و جلب من يريد –من العامل للوكيل دون ضوابط - فتلك لا شك كارثة. وفي هذا الصدد لعل البعض ما زال يذكر حادثتي سعي الوزيره إشراقه (الإتحادي - جناح الدقير) لدى البشير و نجاحها في إعفاء إثنين من الوكلاء في وزارتين مختلفتين لتمسكهما باللوائح المالية. والحال كذلك ، وبافتراض أن مسؤلي الانقاذ قد تم استبدالهم في قيادة مؤسسات الخدمة المدنية في أول حكومة بعد الثورة، فالشئ الطبيعي هوأن يتقدم الوزير بحيثيات وافية حول من يريد استبداله ، من المسئولين الذين تم تعيينهم بقرارت من رئيس الوزراء أو تعيين جديد لمنصب رفيع ، لمجلس الوزراء أو-علي أقل تقدير رئيسه- وتتاح الفرصة للمسؤول المعني أن يدلي برأيه حول تلك الحيثيات. واذا استقر الرأي علي ذهابه يتم اختيار خلفه –بعد الاعلان عن ذلك- بواسطة لجنة مستقلة عن الوزير تفاضل وترشح للموقع –علي أسس واضحة ومقابلات شخصية - الشخص الأجدر، من بين قائمة مختصرة من ذوي المؤهلات المنافِسة والخبرة الكافية، مع إعطاء الاعتبار الكافي للتمييز الإيجابي للمناطق الأقل حظوة في التمثيل في الحكومة الاتحادية، وعلي أن يكون التسليم والتسلم بصورة لا تخل بالعمل، أي يدا بيد.
إن من سمات الدولة الإنمائية أو من متطلبات بنائها ، كما في حال السودان ، أن تكون الخدمة المدنية غير مسيسّه و مستقرة و خاصة قياداتها، مع إجازة القوانين و اللوائح اللازمة لحمايتها من التغوّل السياسي . ويذكر تقرير التنمية البشرية لعام 2013 الذي تصدره الأمم المتحدة ، أن من سمات الدولة الإنمائية الفاعلة أن تكون لها نخبة غير سياسية هدفها الرئيسي تحقيق التنمية الإقتصادية في أسرع وقت ممكن ؛ وأجهزه إدارية ذات نفوذ و سلطة لتنفيذ الخطط السياسية المتفق عليها؛ والإحتفاظ بالكوادر المؤهلة في الخدمة ؛ بالاضافة الي استرشادها برؤية طويلة الأجل و قيادة سياسية نزيهة و قوية. فلماذا لا نقتفي أثر تلك الدول التي استحقت وصف الدولة الإنمائية الفاعلة. وعلى وزن قول الفرنجة " ما من داع لإختراع العجلة من جديد"، فإن المثل السوداني في مناطق غرب السودان- في حالة الطرق الوعرة – يقول: " أخوك كان قِدَّامك أخير من النعال الفِسلة".
نعود إلى رأس الموضوع و عدة أسئلة مشروعة و منها : هل تمَّ تعيين الوكلاء المعفيين أو غيرهم من شاغلي المناصب القيادية - بعد إعفاء مسئولى الإنقاذ –بصورة شفَّافة ؟ الإجابة-في تقديري- للأسف "لا" ، إلا في حالة واحدة حسب علمي وهي حالة مدير المركز القومي للإحصاء. أما الغالبية فقد تم ترشيحهم دون منافسة وعلي أسس شخصية ولا تخلو من سياسة في معظمها. لكن الخطأ لا يعالج بخطأ آخرمن جنس الأول وإلا لاستمرت الدائرة في تدمير الخدمة المدنية في بلاهة واضحة. بالإضافة إلى ذلك ، ورغم دغمسة التعيينات الأولى فإن الإفتراض بأنهم جميعاً (ما نافعين) ويحب استبدالهم، هو إفتراض غير صحيح ، و بشكل عام فقد ضجت الاسافير بكفاءة العديد منهم حين تم اعفاؤهم. أما كون الوزير يأتي بترشيحاته بالإستبدال من حزبه أو من اصدقائه / أهله الخ فهو فساد إداري لا شك فيه و قد يؤدي إلي فساد مالي أو انحدار بالمؤسسة إلى درك أسفل مما كانت عليه من الأداء ، خاصة في حالة انعدام الخبرة التام بعمل الخدمة المدنية ونظمها في اتخاذ القرار أو الخبرة بما يرقي بالقطاع المعني، كما في حالة بعض المستبدلين الجدد.
إن مفارقة دروب الإنقاذ و البِدَع التى ادخلتها على ممارسات العمل في جهاز الدولة ، ضروري / واجب إذا أردنا المشي في الطريق "العديل". كما أن عدم الشفافية في إختيار شاغلي الوظائف القيادية هو أول الأخطاء و الطريق المؤكد لتكرار الفشل وفتح الطريق للفساد الإداري و المالي. لا أقول مثلما قال دريد بن الصِّمَّة "أمرتهم أمري بمُنعرج الِّلوى --- فلم يستبينوا الرُشد إلا ضحي الغد" ، ولكن أقول كُنتٌ قد نبهت -من بين آخرين -إلى مثل هذا المصير (الإعفاءات بالجملة) كنتيجة مؤكدة لعدم الشفافية والتكالب السياسي علي المواقع القيادية. أنظر( " لجنة التفكيك وملء الشواغر: باب الشفافية واسع" وكذلك "شفافية الإختيار للوظائف القيادية"- سودانايل و الصحف الورقية 15 ديسمبر 2019 و 4 ابريل 2020)
وأخيراً فتقديري أن علي وزير شئون رئاسة مجلس الوزراء أن لا يقوم بتحويل أي طلب إعفاء من وزير لوكيله أوأي من كبار المسئولين الي رئيس مجلس الوزراء إلا باستيفاء شروطه ، وتقع علي وزيرشئون الرئاسة و مستشاري الرئيس الآخرين حمايتة من الوقوع في مثل هذه الاخطاء وتنبيهه الي خطورتها وآثارها السالبة علي أداء الحكومة.

صديق امبده
24 يوليو 2021

sumbadda@gmail.com

 

آراء