إكراهات “الحراك”: وتبخر الحزب الذي كان “حاكماً”

 


 

 

 

(1)

مثلما أن التاسع عشر من ديسمبر الماضي كان علامة فارقة مشكلاً ضربة البداية في مسيرة الدعوة للتغيير الشامل بفعل الحراك الشبابي المتواصل الذي لا يزال محتفظاً بعنفوانه، فشأن السودان بعد هذا التاريخ لن يعود إلى ما قبله بغض النظر عن المدى الذي ستأخذه تفاعلات تبعات وتداعيات هذا التطور الأهم في تاريخ السودان الحديث لتؤتي أكلها، فمن المؤكد كذلك أن الأمور بعد خطاب الرئيس عمر البشير في 22 فبراير الماضي لن تعود إلى سابقتها أيضاً في معادلات السلطة وحساباتها الداخلية التي مكّنت النظام الذي أسسته الحركة الإسلامية السودانية بانقلابها في العام 1989، من البقاء لثلاثة عقود ضمن حزمة مسلّمات معينة سادت طوال الحقبة الماضية، فقد فعل الحراك فعله ونجح في فرض تأثيره على تغيير قواعد لعبة السلطة كلياً.

(2)

وعلى أهمية خطاب الرئيس البشير في تلك الليلة، والإرهاصات التي سبقته، إلا أنه مع ذلك لم يجد ما يستحقه من قراءة فاحصة تتجاوز المسلمات السائدة، إلى سبر أغوار تأثير أبعاده الحقيقية وجدواه السياسية وديناميات تبعاته، لا سيما على صعيد معادلات السلطة الداخلية الراهنة، فضلاً عن انعكاساتها على الفضاء السياسي العام. فأهمية الخطاب تأتي من كونه يمثل أول ردة فعل سياسية على مطالب الحراك الشعبي الاحتجاجي، وقد ظلت ردة فعل السلطة مقتصرة على استخدام العنف المفرط الذي ثبت عدم جدواه في إطفاء جذوة مطالب التغيير، وجاء هذا الخطاب ليؤكد نجاح الشباب الثائر في تحقيق نصر معنوي كبير حين أدركت قمة هرم الحكم أنه لا مجال لإيقاف هذا السيل المندفع إلا بخطاب سياسي يطرح ما يمكن وصفه ب مبادرة البشير تحت إلحاح إكراهات الحلحلة في محاولة للاستجابة لمطالب الشارع وإيقاف نزيف سطوة السلطة المتراخية، وهذا إنجاز مهم للحراك وإن لم ترتفع إلى مستوى سقف مطلب الاحتجاجات العالي الذي تجاوز محطة الإصلاح إلى التغيير الجذري.

(3)

لا شك أن الخطاب الرئاسي جاء متأخراً، من حيث الإقرار الواقعي لا اللفظي فحسب بقوة تاثير الحراك وقدرته ونجاحه في خلط أوراق الطبقة الحاكمة، وما استتبع ذلك من فرض قراءة الملعب وإعادة الحسابات وتشكيل الأجندة على وقع هذا التطور المزلول، فقد تأكدت أن الحراك الشبابي لم يكن مفتعلاً، كما ذهب تحليل السلطات بادئ الأمر، وقد اضطرت للإقرار متأخرة بأنه نتاج موضوعي لإنسداد الأفق أمام جيل بات يمثل غالبية الشعب يتطلع للخروج من النفق المظلم، ولكنه يبقى نصف اعتراف على أي حال لأنه لم يمض إلى نهايته المنطقية في تشخيص أسباب المأزق الوطني الراهن للاعتراف بأن إنسداد الأفق الذي أدخل البلاد في نفق مظلم على الصعد كافة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لم يأت من فراغ، بل هو حصيلة تطبيق نموذج المشروع السياسي للإنقاذ وحصاده على مدار ثلاثة عقود هيمنت فيها الحركة الإسلامية بتمثلاتها المختلفة على البلاد، ومارست فيها احتكاراً غير مسبوق للسلطة والثروة، وصنعت طبقة حاكمة أخضعت حاضر البلاد ومستقبلها لأجندتها الذاتية الضيقة، بلا مشروع نهضوي حقيقي، وفشلت في تحقيق حالة وطنية قادرة على وضع البلاد على مسار الاستقرار والسلام والتقدم، وما كان انفجار هذا الحراك من واقع إجتماعي مأزوم بشدة لانتفاضة الجيل الجديد إلا دليلا على أنه لم يعد ممكناً ببساطة استمرار هذه الحالة المأزقية بعد استنفدت الطبقة الحاكمة كل حيل الرقص فوق كل المتناقضات للإمساك بقواعد لعبة السلطة .

(4)

والملاحظة الأكثر حضوراً في دفتر هذا الحراك أن الطبقة الحاكمة، في الحزب والحكومة والحركة ، أو ما يُعرف في دوائر الإسلاميين ب الحاءات الثلاثة وقفت متفرجة، أو ربما عاجزة عن فعل مضاد لمسار الحراك، نحو ما ذهب إليه قانون نيوتن الثالث (لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار ومضاد له في الإتجاه)، ولئن صح في الفيزياء فهو يصلح أيضاً في قياس معادلات القوة السياسية، أو لعل شعار تسقط بس يقع لها في جرح ، فظاهره يمس الرئيس بشخصه ومطلب موجه له في ذاته، وليست مسألة تتعدى رمزيته إلى النظام بكامله وتركيبته التي أسسه وشكّله في واقع الأمر وحقيقته مشروع الحركة الإسلامية السياسي الذي ظلت تدور فكرته المركزية حول طلب السلطة الذي ارتهنت نفسها لبلوغه ولو تغلباً بزعم أن السلطان يزع ما لا يزعه القرآن.

(5)

والحال هذه فدور البشير لا يعدو أنه جزءاً من هذه المشروع وثمرة له، ولكن بالتأكيد ليس صانعه الوحيد ليبوء بأوزاره جميعاً وحده. ولعل ضغط الحراك المتزايد وتبعاته المحتملة المؤذنة بذهاب ريح السلطة المحتكرة بكل المصالح المتشابكة التي تأسست على قواعدها بنية الطبقة الإنقاذية الحاكمة، أوحت لها بأن الإجابة السهلة على سؤال الحراك الصعب الداعي لتغيير لجذري هو تمني تحقق ظاهر مطلب الحراك بذهاب رأس النظام وبقاء جسده، بحسبان أنه بات عبئاً مكلفاً على بقاء مشروع الطبقة الحاكمة السلطوي لتقدمه كبشاً لفداء فشلها، ولتبقى هي من بعده تبحث عن مساومات تؤمن لها الاحتفاظ بما تيسر مما حازت من مكاسب وامتيازات السلطة المطلقة المحتكرة لثلاثة عقود.

(6)

وفي حين غابت الطبقة الإنقاذية الحاكمة في الحاءات الثلاثة عن الحضور الفاعل في الفضاء العام لتتصدى دفاعاً عن مشروعها المحاصر بالفشل، وهو على أي حال ليس اكتشافاً جديداً فقد أظهرت حقيقة عجزه حالة التشرذم وتفكك تماسكها الداخلي بفعل الانقسامات المتوالية وسطها وانسحاب الأغلبية الصامتة في غياب أي مشروع إصلاح جدي، فضلاً عن أن شرائح شبابية مهمة مقدرة من اصلابها أدركت استحالة إصلاح مشروع معطوب إلى درجة لا يُرجى فآثرت الانخراط في مشروع التغيير الكبير خارج القيود الحزبية لتنضم لحراك جيلها العابر للأيدولوجيات وللحزبية الضيقة.

(7)

ومع هذا الغياب عن الفضاء العام فقد شكّلت أطراف الطبقة الحاكمة في المقابل حضوراً كثيفاً في وسائط التواصل الاجتماعي لا سيما مجموعات الواتساب المغلقة لتفصح عن حالة إنعزال أكثر إنغلاقاً تشكو لبعضها مخاوف داخلية تساورها من الإقصاء لمجرد منادة البعض بشعارات غاضبة مناوئة، وفي وسط تفشي حالة دفاع مستميت عن النفس قادت لأن تغزّي الرأي الغالب بينها فيما يشبه الإجماع فكرة أن واجب الساعة وطريق الخلاص يكمن في التخلص من الرجل نفسه الذي كان تهفو إليه الأفئدة حتى قريب وتعبّد له طريق القباء في السلطة إن رغبة في مكاسب أو رهبة من مخاطر، هكذا ببساطة دون أن تكلّف نفسها تحمل قسطها من المسؤولية عمّا آل إليه الحال، متحللة من أعباء واختلالات تكريس احتكارها وهيمنتها الكاملة على السلطة والثروة طوال ثلاثة عقود، دون استعداد لاجتراح أي مسار إصلاحي مهم صغر أو استعداد لتحمل دفع ثمنه وتبعاته.

(8)

وهكذا غابت الحاءات الثلاثة تماماً عن الحضور تفاعلا مع الواقع المتحرك بشدة، مؤثرة الاختباء والانكفاء على الذات تتخذ لها حوائط مبكى في الوسائط الاجتماعية لتتحول إلى كائنات اسفيرية بامتياز تأتمر لـ إنقاذ طبقتها المتحكمة، لا لتنقذ البلاد والعباد من المأزق الذي حشرتهم فيه، ولعل حماسها الظاهري الذي كان إلى وقت قريب يبدو منفعلاً لصالح إعادة ترشيح البشير في 2020، لم تنطفئ جذوته فحسب، بل رافقه تباطوء بإتجاه إنجاز استحقاقين مهمين مرتبطين بها، أولهما تمرير التعديلات الدستورية في المجلس الوطني التي كان أوكل إلى لجنة برلمانية السهر عليها فنامت عنها بحجج واهية، والاستحقاق الثاني قيام المؤتمر العام للحزب الحاكم لاختيار رئيسه ومرشحه بالضرورة في الانتخابات، فقد بدا أن التيارات التي قاومت لحين هذه المسألة قبل أن تستسلم عادت لتنشط من جديد، وتستعد مستفيدة من المناخ الراهن لوضع العصي على دواليب المؤتمر العام المقبل لتغير مسار الأحداث من داخله مدفوعة بتأثير انعكاسات الحراك على معادلات الطبقة الحاكمة الداخلية لتفرز تفاعلاتها تغيير قواعد اللعبة الراهنة لتطيح ب صاحب الوقت .

(10)

ومع اقتراب موعد الاستحقاقين خلال أسابيع محدودة في شهر أبريل المقبل، بدأت تتضح أكثر فأكثر ملامح المعركة المقبلة وميدانها، فمسرحها ليست تلك الدائرة في الشارع بين النظام و الحراك ، بل هي داخلية بأمتياز داخل حوش الطبقة الحاكمة ، فقد نجحت موجة الاحتجاجات في إحداث تطورات هي الأهم على مدار سنوات الإنقاذ الماضية، بإحداث إختراق داخل الطبقة الحاكمة بات يختبر بجدية للمرة الأولى على الأقل خلال العشرين عاماً الماضية من المفاصلة الشهيرة تماسكها الداخلي، فالمعادلة التي استقرت خلال العقدين الماضيين باتت على المحك، ولم تعد المسلمات التي قامت عليها هي ذاتها والتي جعلت موقع الرئيس ومكانته محسومة بلا جدال، وبات اضحاً أن تسقط بس الذي رفعه المحتجون في الشارع شعاراً يعمل رفاقه في دوائر السلطة على تنفيذه واقعاً.

(11)

بدا الأمر أوضح ما يكون حين دعا المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الصحافيين ليطلعهم على فحوى خطاب الرئيس، وكان السؤال الحائر لم وفيم العجلة؟ والخطاب نفسه سوف يذاع بعد نحو ساعتين فقط، وبين هذا اللقاء ولقاء القصر المبثوث على الهواء اجتماع المكتب القيادي للحزب الحاكم المفترض أنه صاحب الكلمة الأخيرة في قرارات الرئيس المنتظرة!. وكانت الرسالة التي وصلت للحاضرين من صحافيين مرموقين يصعب معه تصور أن الأمر قد إلتبس عليهم، واضحة إلى درجة المسارعة ببثها في فضاءات الإعلام المختلفة، أن الرئيس بصدد حل الحكومة، وإعلان حالة الطوارئ، ومفارقة الحزب الحاكم، وإيقاف التعديلات الدستوربة بما فُهم بوضوح أنه تعهد بعدم الترشح في الانتخابات المقبلة. وجاء الخطاب أدنى وضوحاً مما أبلغ للصحافيين في لقاء مدير المخابرات، وذهب البعض إلى أن تعديلاً على الخطة حدث بفعل ضغوط مورست في اجتماع المكتب القيادي للحزب الحاكم، ولكن لا شئ من ذلك في الواقع قد حدث، فقيادة الحزب كما أثبتت التطورات اللاحقة لم تكن تملك من أمرها شيئاً، أو بالأخرى كانت آخر من تعلم، وحتى محاولة جهاز المخابرات تصويب تصريحات مديره العام سرعان ما سُحبت كخبر رسمي، فقد كان ما قاله مأذون به من الرئيس استباقاً لاجتماع لمكتب القيادي حتى لا يُظن أنه صاحب قرار بالفعل فيما عزم على إعلانه، والأمر الثاني تأكيد تجاوز حالة كونه حزباً حاكماً، والأمر الثالث الإبقاء على هامش مرونة لتسويق للأجندة الرئاسية فيما هي مقبلة عليه من تفاوض بشأن مبادرته التي دعا فيها جميع القوى السياسية المعارضة للحوار من منصة قومية لا حزبية .

(12)

وقائع ما جرى بعد ذلك بات معلوماً بالطبع، ولكن السؤال ما أهمية خطوة الطلاق البائن بين الرئيس وحزبه الذي كان حاكماً، وما هي دلالات تسريحه بغير إحسان وتواتر بوادر فطامه من السلطة ، على مستقبل الأوضاع في السودان في ظل عامل الحراك المرشح للمزيد من الضغط على السلطة، ليس بفعل الصراع السياسي العارض، ولكنه لكونه تعبيراً عن مطالب موضوعية لها روافد من جذور اجتماعية عميقة في ظل حالة استقالة السلطة الفعلية وعجزها عن القيام بواجب إدارة الدولة كمشروع وطني ناجح قادر على الاستمرار في الحياة، فالاكتفاء بتوظيف عنف السلطة وقتها لن يقدم أي أجوبة في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية التي تجابهه البلاد، ليس فقط بتفاعلاتها الداخلية بل أيضاً بضغوط خارجية تتكاثف بشدة في عواصم القرار خشية انزلاق البلاد في حالة فوضى سيدفع الإقليم والعالم ثمنها أيضاً.

(13)

لا شك أن خطوة البشير بمغادرة المؤتمر الوطني، وإطلاق عملية فك ارتباطه العضوي بأجهزة الدولة بغض النظر عن الأسباب التي دفعت لذلك، ثمثل خطوة مهمة وضرورية ولازمة لإنجاح أي محاولة لتعبيد الطريق امام أية تسوية سياسية محتملة، فالحزب الذي هيمن على مقدرات الدولة تقوى بها ليبدو حزبا عملاقاً بلا ساقين سوى انتفاخ أوداجه بامتصاص دماء الدولة السودانية واستنزافها بلا حدود، فهو لا يعدو أن يكون تنظيماً أنشأته سلطة عسكرية وليدة تريد أن أن تصنع لها ذراعاً مدنياً، بلا فكرة ولا رؤية ولا مقدرات سياسية ذاتية فعلية ولا قيادات حقيقية صعدت سلم الترقي على رصيد نضالي، ولذلك عجز على مدار أكثر من ربع قرن أن يتعدى حالة كونه مصلحة حكومية يشغلها موظفون متشاكسون على ما تجود به السلطة المطلقة التي يستند عليها من مناصب أو مكاسب، وفشل في تبني أية أطروحات إصلاحية طوال هذه السنوات تجعل له شأناً، وحتى محاولة معارضة إعادة ترشح البشير لم تكن سوى مسرحية صراع بائسة بدعوى عدم دستوريتها، ودون أن يصحبها أي مشروع إصلاحي، وكشف عن انتهازية بينة فالدستور تخرقه السلطات كل يوم لا سيما فيما يتعلق بوثيقة الحقوق، ولم يسمع لأحدهم يوماً واحداً دفاعاً عنها أو احتجاجاً عليها، ولم يروا فيه إلا تلك المادة الوحيدة المقيدة للترشح.

(14)

لذلك فإن تفكيك القوة المتوهمة للحزب الحاكم المتطفلة على سلطان الدولة ، وإعادته إلى حجمه الطبيعي، وتحرير الدولة السودانية من احتكاره للسلطة والثروة بكل المفاسد التي أنتجها، وتجريده من هذه الأدوات التي استخدمها بغير حق وبلا مشروعية شعبية حقيقية في حشر البلاد في هذا المأزق، تبقى شرطاً لازماً لإعطاء صدقية لدعوة الرئيس البشير للقوى السياسية إلى الحوار والتي ستغدو بلا معنى إن استمرت هذه الطبقة المتمكنة تفرض سيطرتها، وبالتالي تعمل على إفساد أية محاولات إصلاح حقيقي للحفاظ على مكاسبها وامتيازاتها، لن تجد دعوة البشير آذاناً صاغية قبل أن يروا أن هذه الطبقة المتنفذة قد تم تفكيكها فعلا وإعادتها إلى مجرد طرف آخرين دون أن تملك أي فيتو لتفرض أجندتها على الوطن الذي نُكب بها ويكفيها ثلاثة عقود من العجز والفشل وإفساد الحياة السياسية وتوريط السودان في هذا الوضع المأزق.

صحيفة إيلاف

 

آراء