ارتباك الأولويات في القمّة الأفريقية

 


 

 

(1)
انعقدت في أديس أبابا القمة الأفريقية الـ36 بيـن 17 و19 فبراير/ شباط الحالي، وقد اعتمدت أمانة الاتحاد الأفريقي شعاراً لتلك القمّة لدعم جهود التبادل التجاري بين البلدان الأفريقية. ولقد تصدّرت الأخبار طرد ممثلة إسرائيل التي جاءت لتشارك في القمة بحكم قرار اعتمده رئيس المفوضية بصورة أحادية لم يجمع عليه أعضاء الاتحاد الأفريقي، بمنح دولة إسرائيل عضوية مراقب، غير أن تلك الواقعة، وإن غطت إعلامياً على مداولات تلك القمة، فإن الملاحظ عليها اعتمادها شعارا يدعم التجارة الحرّة بين البلدان المعنية، فرأى كثيرون، أنها في اضطراب أولوياتها، تجاوزت الأوضاع الأمنية والسياسية المتردّية في دول أفريقية عديدة، تلك التي وقعت فيها انقلابات عسكرية، فالسؤال الذي يقفز إلى الذهن: كيف يتم دعم التبادل التجاري الحر بين دولٍ تبدو أحوال مؤسّساتها على درجةٍ عالية من الاضطراب في قياداتها السياسية؟ وهل ينبغي أن تولى لمعالجة الأوضاع الأمنية والسياسية في بلدان الاتحاد الأفريقي أولاً، قبل أن تلتفت إلى تحسين مبادلاتها التجارية؟

(2)
وقعت في العامين المنصرمين عدة انقلابات عسكرية في وسـط القارّة الأفريقية وغربها. وقع انقلابان في مالي، وفي تشاد تولّى الجيش السيطرة على الأمور بعد مقتل رئيس البلاد إدريس ديبي. وفي غينيا قاد ضبّاط في حرس الرئيس ألـفـا كوندي انقلاباً عليه. أما بوركينا فاسـو فقد شهدت انقلابين في عام 2022. يضاف إلى جملة انقلابات العامين المنصرمين في القارة الأفريقـيـة تولّي الجنرالات في السودان السيطرة على الأمور، وفق توافق تمويهي مع القيادة المدنية للثورة الشعبية التي أسقطت نظام الإنقاذ الذي جثم على البلاد ثلاثة عقود. ولكن سرعان ما قام الجنرالات بانقلاب عسكري كامل التوصيـف، عجزوا بعـده، أكثر من عام، عـن المضي في تشكيل حكومة تدير أحوال البلاد. قام الاتحاد الأفريقي بإجراء روتيـني محض، بتعليق عضوية السودان في الاتحاد، وهو إجراءٌ ليس له من فعالية ملموسة. ولو نظرنا إلى شمال أفريقيا، فهي ليست أفضل حالا من بعض بلدان وســط أفريقـيا وغربها التي جئنا على ذكرها. ما زالت ليبيا في اضطرابٍ يهدّد تقسيمها إلى دولتين. وفي تونس، ينجـح انقلابٌ مدني في السعي إلى تحويل إدارة البلاد لتكون تحت نظام أشـبه بالأنظمة الشمولية. أما ما وقع بين الجزائر والمغرب منذ سنوات طويلة، فقد تفاقم الخلاف بينهما إلى مرحلةٍ لم يعُـد معها من جدوى لتدخلات من جامعة الدول العربية أو الاتحاد الأفريقي.
ذلك هو حال الاتحاد الأفريقي وبلدانه المضطربة، والذي لا يملك من قدرات للتدخّل، غير تعليق عضوية دول الانقلابيين من جهة، والعجز عن بذل أيّ جهود لحلحلة الخلافات الناشبة في عددٍ كبيرٍ من بلدان وسـط أفريقيا وغربها من جهة أخرى.

(3)
إذا كان ذلك هو حال الاتحاد الأفريقي في تجاهل ملفات أعضائه المضطربة في إقليمه، فلا يوليها أولوية تُذكر في قمته أخيرا، فمن تُتوقع منهُ استجابات إيجابية للتحدّيات الماثلة على المستوى الدولي؟ لقد شكلت الغزوة التي شنتها روسيا على أوكرانيا تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين، فصار العالم بأكمله مُهدّداً بما قد يفضي إلى حربٍ عالمية ثالثة، ولا تسل عن دورٍ للأمـم المتحدة. ها نحن نرى ليـسَ تسـابقاً للتسلح تورّط فيه العالم الغـربي فحسـب، بل أيضا إنهاكا للاقتصـاد العالمي، جـرّاء هذا الصّراع، فاضطربت أحـوال اقتصاديات الطاقة والغذاء في كل أنحاء المعمورة، والتي بات إعمارها بيدِ قادة سياسيين مولعين بتدمير العالم بأكثر مما تفعل الطبيعة، كما رأينا في زلازل تركيا وسورية.

(4)
فشل عصبة الأمـم القديمة التي أنشئتْ بعد الحرب العالمية الأولى عام 1920، ثمّ انهيارها بعد فشلها في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، إثر وقوع أحداثٍ وتطـوّراتٍ عسـكرية وسـياسية عديدة. تمثل ذلك الفشل في عجز تلك العصبة، حين أقدمتْ اليابان أولاً على غزو منشـوريا عـام 1932، وغزو إيطاليا ثانياً إثيوبيا عـام 1936، ثم ثالثاً جنوح ألمانيا الهتلرية إلى التوسـّع للسيطرة على العالم الغربي، فنشـبت الحـرب العالمية الثانية، والتي ما وضعتْ أوزارها إلا في عام 1945. تلك تجارب ودروس كان من المتوقـع أن تعيها أطراف المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
أما هيئة الأمم المتحدة أول سـنواتها فقد أثبتتْ قدرات خلال الفترة التي تلتْ تلك الحرب، وإن علقتْ بها أوشاب جرّاء الحرب الباردة وسباق التسلح. وهكذا، إن غاب الوعي وتراجعتْ الحكمة، فإنّ الأمـور مرشـّحة لإضعاف هيئة الأمم المتحدة، إذ بان عجـزها عن احتواء الحرب الدائرة في أوكرانيا، وها هي كلّ الدول الغربيـة في تورّطها في المواجهات العسكرية بين روسـيا وأوكرانيا تتجاوز دور المنظمة الأممية، وتتجاهل جميع الأطراف من دون أن تطرف لهم أجفان، جميع مقرّرات ميثاقها. لعلّ أكثر ما قد تؤول إليه أحوالها الماثلة أن تفضي بمنظمة الأمم المتحدة إلى انهيار، ولا يبقى لأمينها العام من خيارٍ سوى البحث عن مهمّةٍ أخرى غير إدارة أمانتها العامة. قد تصل الأمور في أقصى حالاتها إلى انتحار كوني، وفي أدناها قد تصل إلى ابتداع هيئة أممية جديدة تتولّى صياغة ميثاق بديل للميثاق الحالي، الذي أثبتت الأوضاع الدولية فشـله تماماً، كأنّ العالم يعيش من جـديد لحظة انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتهت معها عصبة الأمم، وبعدها صاغ ممثلو المجتمع الدولي ميثاق هيئة الأمم المتحدة عام 1945.

(5)
يعجب المراقب أن يرى الاتحاد الأفريقي في قمته أخيرا يطرح شعارات لتطوير التجارة الحرّة في إقليمه، بما لا يعكس توافقاً متوقعاً، ولا قراءة حصيفة لتطور الأحوال التي سادت حاليا في المجتمع الدولي، كما لا يبدو لها من توافقٍ مع التحدّيات الكونية الماثلة. الانهيارات المتوقعة على المستوى الدولي، وفي أقصى درجات التشاؤم، لن تعفي كيانات سياسية وأمنية واقتصادية عديدة، فمـا بالك بالكيانات الإقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي، الذي بدا وكأنه لا يرى إلا ما تحت قدميه، فيما أطراف المجتمع الدولي آيلة إلى تحوّلات جسيمة، إن لم يكن إلى انهيار كامل.
لعل قمّة الارتباك الأفريقي تلك لم تسفر عن شيء إيجابي ذي بال، إلا ما بثته القنوات الفضائية عن طرد ممثلة دولة إسرائيل، لعدم اعتماد منح بلدها صفة مراقب، فكانت تلك صفعةً للمهرولين للتطبيع العربي مع إسرائيل.

 

آراء