استشهاد ضابط سوداني بكمبالا
بسم الله الرحمن الرحيم
الشهيد هو النقيب (استخبارات عسكرية) توفيق محمد عبد الحليم علي طنطاوي، والمشهد في كمبالا بيوغندا في الأسبوع الأخير من يوليو 1971، وقد تم اقتحام سيارته المرسيدس ذات اللوحة الدبلوماسية بواسطة مجموعة مسلحة متمنطقة بملابس مدنية، في لحظة خروجه من ناد ليلي مع ساعات الفجر الأولى، وتمت تصفيته وسحب جثمانه من السيارة والهروب به إلى جهة غير معروفة حتى الآن. وبعد مرور عام، وتحديداً بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972 بين حكومة نميري وقوات الأنيانيا بقيادة جوزيف لاقو، وعلي إثر ما طرأ على العلاقات السودانية اليوغندية من تحسن، قام النميري بزيارة لتلك الدولة الملاصقة لجنوب السودان، واعتذر له واعترف عيدي أمين بمقتل النقيب توفيق على يد الاستخبارات اليوغندية بالتعاون مع ثلة من عناصر الأنيانيا. ويبدو أن الرئيس السوداني قد اكتفي بذلك الإعتذار وطوى صفحة الشهيد توفيق طنطاوي ولم يرد ذكره بعدئذ، لا في الصحف السيارة ولا في مسارب الرأي العام السوداني، كأن شيئاً لم يكن.
غير أن تلك الحادثة ظلت تؤرقني طوال هذه السنوات، في الصحو والمنام، وظللت أؤجل الكتابة حولها يوماً بعد يوم حتى انقضت سبع وأربعون سنة، وبلغت من العمر عتيا، ولم يقبل ضميري أن ألاقي المنية قبل أن أشرك القراء في ما لامسته من أمر الشهيد الشاب البشوش الحفي توفيق طنطاروي، ابن الأستاذ محمد عبد الحليم علي طنطاوي، من أهالي بربر، الذى كان ضابط تعليم بالدامر حوالي 1967، ومن شندي كانت أم توفيق سليلة أسرة الحاج بروزة، ومن شندى كانت زوجه كذلك، ولعله كان عريساً جديداً عندما تم اغتياله بواسطة العسس اليوغنديين وصحبهم جندرمة الأنيانيا. وقد تخرج توفيق في الكلية الحربية ضمن الدفعة 18 في عام 1966 على الأرجح، وسرعان ما دفعت به القوات المسلحة إلى أتون الحرب الدائرة بالجنوب، ضابطاً بالاستخبارات العسكرية؛ وما كاد يستقر بالجنوب حتى تم انتدابه في مهمة سرية إلى يوغندا، تحت غطاء مدقق حسابات، أو كفني إلكترونيات منوط به صيانة أجهزة الإتصالات التابعة للسفارة السودانية بكمبالا، أو شيء من هذا القبيل. بيد أن المرحوم توفيق ارتكب خطأً تكتيكياً أودي به في النهاية، في غالب الظن، والعلم عند المولى عز وجل علام الغيوب ومدبر الآجال، وهو أنه ومنذ حلوله بكمبالا في بداية يوليو 1971 أقام بالفيللا الفخيمة المخصصة تاريخياً للملحق العسكري، وامتطي السيارة الدبلوماسية المرسيدس المعروفة بكونها سيارة الملحق العسكري السوداني بكمبالا. وكان الجو في يوغندا أيام عيدي أمين مشحوناً بالإرهاب والبطش العشوائي والقتل ذات اليمين وذات اليسار والعنف الرسمي المنفلت بسبب وبلا سبب، وكانت العلاقات مع السودان في ذروة توترها وتجاذبها، مع وجود إعلامي ملموس ومحسوس للأنيانيا (ما تسمي مليشيا التمرد الجنوبية) التى كانت تسعي بنابها وظلفها لتعكير سماوات العلاقات بين البلدين حتى تستمر في استخدام يوغندا كقاعدة رئيسة للتدريب وتشوين الأسلحة وإخفاء الكوادر المقاتلة وإطلاق المفارز التى تتسلل إلي شرق وغرب المديرية الإستوائية لزرع الألغام وللالتحام هنا وهناك بدوريات الجيش السوداني. وقبل يومين من مقتل الشهيد توفيق عليه رحمات الله توقف الإرسال فجأة بتلفزيون يوغندا الرسمي، وطالعنا شخص قيل إنه من ضباط الأنيانيا، أذاع بياناً ندد بالسفارة السودانية واتهمها بإيواء عنصر أمني جديد بدعوى أنه فني مدني، وهو مجرد جاسوس للحكومة السودانية، وتوعد بالتعامل معه بالطريقة المناسبة في الوقت المناسب، كما ذكَر المشاهدين بأن الحكومة اليوغندية كانت قد طردت الملحق العسكري السوداني السابق الرائد إسحاق محمد إبراهيم. وكان السفير أيضاً جديداً، أتي قبل توفيق ببضع شهور، وهو المرحوم الأستاذ الصحفي المعروف محجوب عثمان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني ووزير الإعلام في أول أيام حكومة النميري؛ وما أن استقر محجوب وتوفيق بالسفارة حتى داهمتهما أحداث يوليو 1971 العاصفة، حيث غادر الأول كمبالا إلى نايروبي في يوم عشرين يوليو، بعد يوم من انقلاب هاشم العطا، إذ تم استدعاؤه بواسطة النظام الجديد ليتبوأ موقعاً متقدماً، حيث أن السفر من نايروبي للخرطوم أكثر سهولة وسرعة؛ وبعد ذلك ببضعة أيام استشهد الثاني (توفيق) مأسوفاً على شبابه.
المهم في الأمر، لم ينتبه أحد لبيان الأنيانيا التلفزيوني أو يأخذه مأخذ الجد، كما لم يستشعر طاقم السفارة خطورة العاصفة التى بدأت تهب صوبهم، ومنهم بالإضافة للأستاذ محجوب السفير عمر يوسف بريدو (القنصل) وآخرون؛ وربما كان ذلك لأن طبيعة نظام عيدي أمين العشوائية المتقلبة لا تجعلك تتبين هل انت في عين العاصفة أم في ظهرها، وقد يصطفيك النظام صديقاً صدوقاً ذات يوم، وينقلب عليك فجأة في اليوم التالي لتصبح من ألد الأعداء، كأنك تتعامل مع صعاليك زئبقيي المزاج أو أشخاص مصابين بالشيزوفرانيا الحادة (انفصام الشخصية). أم لعله القدر الذى لا ينفع معه الحذر.
قبل ذلك ببضع أيام، وبالتحديد يوم 17 يوليو، قدمت ليوغندا في مهمة خاصة كلفتني بها وزارة شؤون الجنوب التى انتدبت لها من وزارة التربية والتعليم لأعمل ضمن وحدة الإعلام والنشر مع الدكتور محمد مراد وآخرين، وكانت المهمة تتعلق بمواصلة الحوار مع بعض رموز الأنيانيا ومثقفيها الذين دخل معهم الراحل جوزيف قرنق في تواصل مثمر، ونجح في إقناعهم بالحضور للسودان للمشاركة في إرساء قواعد التطورات الديمقراطية المنداحة بجنوب السودان إنطلاقاً من بيان 9 يونيو 1969. وكان دوري بالتحديد هو تسهيل اللوجستيات المتعلقة ب"مخارجة" أولئك الرموز وسفرهم من يوغندا، ومن أبرزهم الزعيم العم أزبوني منديري. ونزلت بفندق متواضع في قلب كمبالا، وكان معي صديق من مدني هو الأستاذ أمين عمر أحمد الذى كان في عطلته السنوية قادماً من قطر، وأراد أن يصطحبني لشرق إفريقيا التى لم نزرها من قبل، كما نزل معنا بالفندق أحد معارفي إسمه محمد شوربجي وصديقه القاضي أبو بكر. وفي اليوم التالي قمنا بزيارة السفارة، وجلست مع السفير لوحدي لبضع دقائق وأطلعته على مهمتي التى كان ملماً بها أصلاً، وزودني بالتفاصيل الخاصة بأزبوني – مسكنه والحانة التى يتواجد فيها، وحدثني عن توفيق، تمظهره وحقيقته؛ ومن هناك دلفت على الفور إلى تلك الحانة في وضح النهار، ووجدت العم أزبوني وعرفته بنفسي وأبرزت له ما جعله يثق في، واتفقنا على أن أرتب له المغادرة للخرطوم بطائرة الخطوط السودانية خلال يومين.
فى عصر اليوم التالي (19 يوليو) استمعنا لبيان هاشم العطا من المذياع، وتوجهت لمنزل السفير محجوب، وعلمت أنه قد تم الاتصال به من الخرطوم وطلب منه العودة فوراً، لعله لاستلام حقيبة الإعلام، واتفقنا على الذهاب لنايروبي – هو بالطائرة وأنا ورفاقي بالبص. وفي نايروبي التقيت محجوباً بالسفارة يوم 21 وعرفت أنه قد وجد مقعدا بطائرة يوم 23، ووجه لنا القائم بالأعمال – عبد الماجد بشير الأحمدي، عليه رحمة الله – دعوة للعشاء بداره مساء 22 يوليو على شرف السفير الأستاذ محجوب. وكان الحضور بتلك الإحتفالية كل السودانيين بكينيا وهم بضع رجال أعمال يمتهنون (تجارة الحدود)، وطالب مبعوث بالجامعة للدراسة فوق الجامعية، والعديد من الدبلوماسيين والمراسلين الصحفيين الفرنجة. وبينما كنا نتبادل الأنخاب احتفالاً بحركة هاشم العطا وقرب تنصيب صديقنا محجوب وزيراً، أتت زوج الأحمدي مهرولةً على الدرج من الطابق العلوي وهي تولول: ( سجمكم ورمادكم! النميري رجع، وهسع بتكلم في التلفزيون وقال حينتقم من Something الكد وأمثاله!).
في اليوم التالي، قابلت محجوب بالسفارة وعرفت أن حكومة نميري العائدة طلبت منه الحضور فوراً للخرطوم، وكذلك الأحمدي، واتفقنا على أن يعود الأحمدي فهو لم يفعل (أكثر من برقية صغيرة لتهنئة هاشم العطا)، أما الأستاذ محجوب فقد رد لهم مموهاً بأنه بصدد العودة فوراً ولكنه أعد العدة لامتطاء طائرة الب إي أو سي المتوجهة إلى لندن رأساً، وطلب مني أن أذهب لكمبالا وأتولي نقل أغراضه الخاصة من ملابس وأوراق إلي بيت الأستاذ عبد الرحمن أبو زيد بجامعة ماكرري. وبالفعل ودعنا محجوب بمطار نايروبي أنا والأحمدي، ومن ثم توجهت بالباص إلى كمبالا؛ وهناك أخبرني حارس منزل السفير أن عبد الرحمن أبو زيد تصرف تلقائياً وبالفعل نقل الأشياء الخاصة بمحجوب لمنزله، وترك أثاثات البيت وأجهزته الكهربائية في مكانها. ونزلت بنفس الفندق الذى كنت فيه قبل أيام، وهناك وجدت تاجراً من جوبا إسمه محمد عثمان، تصادقنا على الفور وخرجنا للمشي بشوارع كمبالا ولتناول الطعام. وعندما عدنا للفندق أخبرنا موظف الإستقبال إن شخصاً إسمه توفيق طلب منا أن ننتظره. وبالفعل جاءنا توفيق بعد هنيهة وأصر أن نحمل أغراضنا ونذهب لنقيم معه، فهو لوحده ونحن سودانيون الحالة بيننا واحدة؛ وما كان أمامنا إلا أن نتبع توفيق حتى يجعل الله أمراً كان مفعولا. ومع تباشير المساء توافد علينا أصدقاء توفيق من السفارة، وطالبا دراسات عليا بجامعة ماكرري، وصدح جيمس براون من المسجل الضخم بركن الصالون، وتكاملت عناصر ليلة حمراء من ليالي ألف ليلة وليلة، مداماً وندامى ورقصاً وهجيجا. غير أن كل ذلك لم يشف غليل مضيفنا الأريحي المبتهج convivial فقرر أخذنا كلنا إلى المرقص (الكباريه) بعد منتصف الليل، وذهب جميع الحضور فيما عداي والتاجر محمد عثمان إذ أننا كنا في غاية الإرهاق والتخمة، فخلدنا إلى نوم عميق لنصحو صباح الغد على طرقات عمر يوسف بريدو وموظفي السفارة، الذين أخبرونا بأن الشرطة وجدت سيارة توفيق أمام المرقص ملطخة بدم كثيف، وتشير التحريات الأولية إلى أنه هوجم وضرب وربما اغتيل فوراً داخل سيارته ثم تم سحب الجثمان إلى جهة غير معلومة. وطلب منا عمر يوسف أن نغادر البيت فوراً ونبحث عن مكان آمن، فقد اعتقلت الشرطة الطالبين السودانيين اللذين كانا مع توفيق بالمرقص، وربما يحاول المحقق أن يلصق تهمة إغتيال توفيق بمن كان معه في تلك الليلة من السودانيين.
أما محمد عثمان فقد توجه للفندق الذي أتينا منه، وكما علمت لاحقاً، فإنه قد اعتقل مباشرة بعد ذلك وقضي حوالي أسبوعين بزنازين الأمن اليوغندي، في معية الطالبين، وتعرضوا لعمليات تعذيب أغرب من الخيال، إلى أن قام عمر ويوسف وقعد وتمكن في نهاية الأمر من إطلاق سراحهم وأخذهم على الفور للمطار ومن هناك بالطائرة السودانية إلى الخرطوم. ولقد أراد رجال الأمن أن ينتزعوا منهم إعترافاً بضلوعهم فيما حدث لتوفيق، وهم يعلمون الحقيقة جيداً، إذ كانوا هم – التحريات اليوغندية - (في صحبة الأنيانيا) المسؤولين عن تلك الجريمة البشعة.
أما شخصي الضعيف، فلقد ذهبت للفندق مع محمد عثمان، ومن هناك اتصلت بصديقي وابن دفعتي الفاتح أحمد حسن الذى كان منتدباً من الري السوداني كالمهندس المقيم بوحدة المراقبة ببحيرة ألبيرت، وكان يسكن في شقة صغيرة مع زوجته اليوغندية داخل مجمع خاص بالأمم المتحدة. وجاء الفاتح مسرعاً، فقد انقطعت عنه منذ المرة الأولي عندما قدمنا ليوغندا من الخرطوم، وكان قد نقلنا لإستراحة الري المطلة على البحيرة ، أنا وأمين وشوربجي وصديقه، وكان يأتينا بالطعام من بيته. ولقد حاولت أن أقيم هذه المرة بكمبالا لأنه يسكن بعيداً عن مركز المدينة (بعينتبي). ولكني في نهاية الأمر لذت بالفاتح الذى جاءني فوراً، وأخبرته بما حدث، وأخذني لبيته حيث اتفقنا على البقاء مختفياً هناك، بهوية تمويهية (كطباخ جديد لدي الفاتح)، وظللت هكذا بدار الفاتح لنيف واسبوعين. وفي هذه الأثناء، ذهبت للسفارة السوفيتية (حيث أنني كنت قد ذهبت في معية السفير محجوب للسفارة الروسية بنايروبي في أعقاب الردة التى حدثت يوم 22 يوليو، وتشاورنا في الأمر مع السفير السوفيتي، وأخبره محجوب بخط سيره وسيري، وطلب منه إخطار السفارة في كمبالا بأنني قد ألجأ لهم إذا حدث لي أي شيء في يوغندا)، وبالفعل وجدت السفير بكمبالا مدركاً لأمري ومستعداً لتقديم أي مساعدة ممكنة وخصص لي رجلاً إسمه ألكساندر، لعله مسؤول الكي جي بي بالسفارة، الذى جاء معي لمنزل الفاتح، ثم أخذ يزورنا كل مساء في صحبة رفيق له فارع الطول إسمه سيرجي، ومعهما الفودكا والكافيار الذى يشبه جنا الباباي (أو بعر السخلان)، كما رتب لي ألكساندر اسبوعاً بفندق ريفي خاص بالسواح، قضيت به أياماً طيبة علها تخفف من الهموم التى كنت أحملها. وأخيراً رتب لي الكساندر تذكرة للندن وإياب للخرطوم، ومصاريف جيبية، وتكفل بالتأشيرات اللازمة من السفارة البريطانية. وأخيراً أخذني ألكساندر ورفيقه العملاق ومعنا الفاتح وزوجه، وساروا معي حتى باب الطائرة، دون الوقوف لدي أي كاونتر، إذ تكفل ألكساندر بكل شيء؛ وودعتهم ودخلت إلى الطائرة التى ستأخذني إلى لندن لألحق بمحجوب والدكتور عز الدين علي عامر. وكان ألكساندر قد رتب لي اتصالا بهما وشاورتهما فيما أفعل وطلبا مني أن أحضر إلى لندن. وقد تم ذلك بالفعل.
ربما أكتب لاحقاً عن تجربتي في لندن التى أقمت بها لشهرين، وتوجهت بعدها لبراغ، تشيكوسلوفاكيا، حيث نظم لي الرفيق عز الدين الإلتحاق بجامعة سدمناس ليستيبادو الناطقة بالإنجيزية، وهناك أقمت لعامين عدت بعدهما للسودان في أغسطس 1973.
رحم الله الشهيد توفيق طنطاوي.
والسلام.
fdil.abbas@gmail.com