الأثر الشيوعي في السياسة السودانية (1-2):

 


 

 


بأجندة من تدير الحركة الشعبية معركتها السياسية ؟


 

Obeid51@hotmail.com

 

 

      في سبتمبر من العام 2002م ، وبعد أن أكملت ترتيبات انتقالي الى دولة الامارات العربية المتحدة ، بعد أن تم تكليفي بمهمة تأسيس وادارة الملحقية الاعلامية للسودان ومقرها  مدينة دبي ، ذهبت الى وزارة الخارجية السودانية  لوداع الوزير ، والتزود بنصائحة ، كما يقتضي العرف الدبلوماسي ، وفقا لما قيل لي ؛ وقد تصادف أن كان الوزير وقتها ، الدكتور مصطفى عثمان ، في واحدة من أسفاره الكثيرة ، وكان ينوب عنه في تصريف أعباء الوزارة ، وزير الدولة حينها ، شول دينق ألاك .

    كان شول دينق ، أحد القادة المؤسسين للحركة الشعبية ، وتولى فيها لزمن طويل قيادة الكلية الحربية ، أو مدرسة تخريج الكادر ، وكان أن اختلف ومعه آخرون ، مع قيادة الحركة فتعرضوا للسجن  في معتقلات الحركة سنين عددا ، وبعد سقوط نظام الرئيس منغستو هايلي ماريام في أثيوبيا ، وارتباك الشأن الاداري في الحركة ، تمكن بعض هؤلاء السجناء من الهرب وتسللوا حتى وصلوا يوغندا ، وأبلغوا بعض المنظمات الدولية الحقوقية بوجدوهم فشكل ذلك لهم حماية من بطش الحركة ، أما البعض الآخر فلم يخرجوا  من معتقلاتهم  الا بضغط  سياسي نتج عن تداعيات الانشقاق الذي قاده الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول في 1993م  ضد قيادة الحركة الشعبية ممثلة في الدكتور جون قرنق ، وأسسوا على اثره مجموعة الناصر ، فاضطر التيار الرئيسي في الحركة أن يطلق على نفسه مجموعة توريت .

     بعد خروجهم من السجن ، بفترة ليست بالقصيرة ، كتب خمسة من السجناء السياسيين من القيادات السابقة في الحركة ، أبرزهم شول دينق ألاك ، وأمون مون وانتوك ، وآرثر بنجامين ، مذكرة شهيرة كان عنوانها : ( نحو حركة شعبية وجيش شعبي قويين ، ما الذي ينبغي عمله ؟ ) وفي تلك المذكرة تحدث القادة عن تأسيس الحركة الشعبية والمراحل التي مرت بها ، والأخطاء التي وقعت في مسيرتها ، والخطوات التي يتعين اتخاذها  لتلافي تلك الأخطاء  ، كل ذلك من واقع تجربتهم ، ووفقا لمرئياتهم بالطبع ، ولاقت تلك المذكرة رواجا معتبرا بين كادرات الحركة الذين يترددون على العاصمة الكينية نيروبي  حيث انتقل هؤلاء السجناء للاقامة هناك ، وكنت من واقع اهتمامي ومتابعتي لشأن الحركة الشعبية قد اطلعت على تلك المذكرة بعد أن بعث بها الي صديق عزيز .

    لم أجد أنه من المناسب سؤال الوزير شول دينق عن خبر تلك المذكرة ، على الرغم من كونه ترك الحركة الشعبية ، وقتها ، وانضم الى مجموعة اتفاقية الخرطوم للسلام  الموقعة في 1997م ، وحصل على منصبه الوزاري وفقا لمقتضى تلك الاتفاقية ، لكني قدرت أن أستفسره عن رؤيته لاتفاق المبادئ الذي كان قد تم توقيعه حديثا ، وعرف باتفاق مشاكوس ( وقع في يوليو 2002م )  وما اذا كان يرى أن السلام قد بات وشيكا ، ثم خطر لي أن أسأله عقب ذلك سؤالا مباشرا : ما اذا كان مقتنعا أن قيادة الحركة الشعبية ، ممثلة في  الدكتور جون قرنق ، هي قيادة وحدوية  ؟ وعلى غير ما توقعت ، كانت اجابته ، أن قرنق رجل وحدوي ، حيث لم تفلح استدلالاتي اللاحقة في ثني الرجل عن موقفه !!

   بعدها اقترحت على السيد  الوزير أن يزورنا  في دولة الامارات للتبشير بالسلام الذي بدى لنا وشيكا ، ولتعريف الرأي العام ووسائل الاعلام هناك بطبيعة المشكلة السودانية بين  الشمال والجنوب ، لكن تصاريف القدر والسياسة ، أخذت شول دينق بعد ذلك  سفيرا للسودان في موسكو ، وعاد منها فترك وزارة الخارجية وعاد أدراجه الي الحركة الشعبية ، بعد توقيع اتفاق السلام الشامل ، ملتحقا برفقاء النضال السابقين ، وذهبت أنا للامارات وعدت بعد توقيع اتفاق السلام الشامل ، لكن سؤال ما اذا كانت الحركة الشعبية هي حركة وحدوية ، تريد أن تؤسس سودانا يقوم على ترسيخ قيم الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة ، ما زال في ذهني بلا اجابة ، وأظن أن آخرين كثيرين يشاركونني نفس الحيرة ، ذلك أن أقوال الحركة ظلت شيئا وأفعالها شيئا آخر !!

   

      في الخامس والعشرين من مايو الماضي ، كتبنا في هذه المساحة بمناسبة الذكري ( 26 ) لتأسيس الحركة الشعبية ، وقلنا أنه ربما كان من المناسب ، وقد مضى على تأسيس الحركة الشعبية أكثر من ربع قرنق من الزمان ، أن يتم فتح حوار عميق حول المفاهيم التي نادت بها الحركة ، وحاولت غرسها  ورعايتها  في عضويتها خاصة وفي المجتمع السوداني عامة ؛ ذلك أن الحركة ظلت تطرح نفسها – نظريا على الأقل – على مستوى السودان كله ، بدليل أنها أسمت نفسها بالحركة الشعبية ل (تحرير السودان) ، وأنها نادت بقيام ( سودان جديد ) !!

       وفقا لما جاء في دستور الحركة المجاز في مايو 2008م ، فان تعبير السودان الجديد   يعني   :  ( السودان المتسم بالحرية والعدالة ، والديمقراطية ، والعلمانية ، ونظام الحكم اللامركزي القائم على الارادة الشعبية الحرة ) ، كما أنه وفقا لمفهوم المخالفة ، فان السودان الذي كان قائما في الفترة بين 1983 م  تاريخ تأسيس الحركة ، و2005 م تاريخ توقيع اتفاق السلام الشامل ، وربما القائم حتى الآن ، هو سودان قديم ، لم تكن فيه حرية ولا عدالة ولا ديمقراطية ولا علمانية  ولا نظام حكم لامركزي (!!) واتساقا مع هذا فان الحركة الشعبية أصرت على حمل البندقية لأثنين وعشرين عاما بهدف احلال السودان  الجديد بدلا عن القديم ، ثم قررت استبدال النضال المسلح بالنضال السلمي في العام 2005م تحقيقا لذلك الهدف .

  في المنفستو الأول ( 1983م)  كانت الحركة أكثر وضوحا في تعريف السودان القديم ، فقد جاء فيه أن السودان الجديد ينبغي أن يقوم على أنقاض السودان القائم / القديم  ، وأنه لكي يقوم سودان جديد لا بد من القضاء على ركائز السودان القديم والمتمثلة في ازاحة  الطبقة  الحاكمة ذات الثقافة العربية والاسلامية ، وتفكيك القوات المسلحة السودانية ، التي طالما حمت هذه الطبقة وثقافتها ، وابعاد الدين الاسلامي من ساحة التأثير على منهج الحكم ؛ وعلى الرغم من أن الحكم في السودان عند تأسيس الحركة في مايو 1983م ووضع المنفستو ، كان علمانيا محضا ، الا أنه من الواضح أن  تلك العلمانية لم تكن هي التي تقصدها الحركة وتطالب باقرارها !!

  كذلك يمكننا القول أن الديمقراطية الشعبية القائمة على الارادة الحرة للمواطنين السودانيين عن طريق الانتخابات ، وصناديق الاقتراع ، لم تكن مطلبا جوهريا  للحركة ، بدليل أنه لما تحقق ذلك عقب الانتفاضة الشعبية في أبريل 1985م ، لم تضع الحركة السلاح ولم توقف اطلاق النار ، بل ظلت تحارب النظام التعددي ، تارة ، وتحاول جرجرته لالغاء قوانين الشريعة تارة أخرى ، حتى أسهمت في الاطاحة به بعد اربع سنوات !!

   الحركة الشعبية ، بحسب ما نفهم من أدبياتها ، وما نراه من سلوكها ، تريد أن تحرر السودان من نفسه ؛ تريد  أن تحرر السودان الجديد من السودان القديم  ، لكن المفاهيم التي صاغتها للتعبير عن هذه الارادة تساقطت كلها بفعل المنطق الا مفهوما واحدا ، وهو مفهوم أن تسيطر قوى ( الهامش ) على مقاليد الأمور في ( المركز ) وعلى الرغم من أن هذا المفهوم نفسه تعرض للتآكل بسبب ما تم انجازه  في اتفاقية السلام الشامل من قسمة للسلطة وتوزيع للثروة مكن الولايات والأطراف من الحصول على سلطاتها واستغلال ثرواتها والتمتع بها ، ونزع من المركز هيمنته المطلقة على مقاليد الأمور في الولايات ، الا أن الحركة تصر على ايقائه حيا ، وما تصريحات مسئول الاستخبارات السابق في الحركة ، ورئيس لجنة الانتخابات بها ، ادوارد لينو ، نهاية الاسبوع الماضي ، الا الدليل الأنصع على ما نقول .

  ومشكلة الحركة الشعبية لا تكمن فقط في  تساقط المفاهيم والشعارات التي نادت بها ، ولا في التباس هذه المفاهيم  ، ولكن تكمن أيضا في أنه برغم مضي أكثر من ربع قرن على تأسيسها ، فان كثيرا من تلك المفاهيم ما يزال يلفها الغموض ، ولعل أحد المفاهيم الغامضة التي أفرزها واقع تطبيق اتفاقية السلام الشامل هو مفهوم ( الوحدة الجاذبة ) الذي تضعه الحركة شرطا لبقاء السودان موحدا حينما يحين ميقات ممارسة الجنوبيين لحقهم في تقرير المصير !!

   لقد ظل خطاب  الحركة  الداخلي ، الموجه لمقاتليها طوال عشرين عاما ، هي سنوات الحرب ، يقوم على مفهوم ( التحرير ) الذي كان يعني عند المقاتلين ، طرد ( الجلابة ) والمستعمرين العرب من أرض الجنوب ؛ بينما ظل خطاب الحركة الموجه للمحيط الافريقي ، بلغة قريبة من ذلك ، تصور الشمال وكأنه يريد فرض ثقافته العربية والاسلامية على الجنوب ، أما الخطاب الموجه للعالم العربي فقد كان يركز على أن الحركة ليست  ضد  وحدة السودان ، وأن الحركة لا تطالب بسوى المساواة ، وتعمير أرض الجنوب ، بقسمة عادلة للثروة الوطنية ؛  وعندما جاء السلام ، وعلى الرغم من مضي أربع سنوات على توقيع الاتفاقية ودخولها حيز التنفيذ  ،  لم تباشر الحركة أي تعبئة باتجاه ( التعمير ) أو باتجاه الوحدة ، جاذبة كانت أم غير جاذبة ، فكيف يمكننا اذن أن نقتنع أن الحركة وحدوية ، فعلا وقولا ؟؟

   وفي مقال سابق أيضا ، قلنا ان الحركة تريد اعادة انتاج مواقفها التفاوضية ، وضربنا لذلك مثلا بموقف الحركة من قضيتي الانتخابات  وعلاقة الدين بالدولة ، وقلنا ان الحركة ، وهي تفاوض في نيفاشا  ، لم تكن ترغب في اجراء الانتخابات قبل الاستفتاء على تقرير المصير ، وأنها كانت تريد عاصمة لا تطبق فيها قوانين الشريعة الاسلامية ، بعد أن ضمنت أن الجنوب مستثى من قوانين الشريعة ، فالحركة كانت تريد  أن تكون الخمر والربا وما سواهما ، على أرفف المتاجر ونوافذ المصارف ، وفي قارعة الطرقات  ، في العاصمة القومية ، بحجة أنها عاصمة لكل السودانيين ، وينبغي أن يسمح فيها لأهل الجنوب بفتح البارات وشرب الخمر، وحينما قيل لها أن روح ونصوص اتفاق مشاكوس الاطاري لا تسمح بذلك ، تراجعت وقبلت بما جاء في اتفاق السلام الشامل ، ووقعت على ذلك ، ثم ها هي  تعود لنبش الاتفاق !!

      من الواضح  أن الحركة الآن تريد فرض رؤيتها تلك ، بعدما أفضى التفاوض الى غيرها ؛ وقد أثبتت الأيام سلامة هذا التحليل ، بدليل المواقف الملتبسة من موضوع الانتخابات ، والمواقف الصريحة من قيادة الحركة من قضية الوحدة ( الجاذبة ) وربط  أمر تحققها بتنازل الشمال عن هويته الاسلامية ، كما ورد في افادات وزير الخارجية دينق ألور مؤخرا ، وكما يفهم – بلا مواربة – من تصريحات قائد الحركة ، الفريق أول سلفاكير ميارديت ، في كنيسة كتور بجوبا مؤخرا ؛ وهي – الحركة – لا تريد أن تنتظر حتى موعد اجراء الانتخابات ، وقبول الشعب لبرنامجها ، فتفرض عليه ما تريد ، وانما تريد أن تلوي عنق الاتفاقية ، فتحملها ما لا تحتمل !!

    انه بوسع المرء القول بأن الاصرار على ربط مصير السودان ، وحدة أو انفصالا ، بفرض القيم العلمانية ، وتجاوز صيغة علاقة الدين بالدولة التي نص عليها اتفاق السلام الشامل ، أمر يصعب فهمه على أساس أنه  يمثل مصلحة وأجندة جنوبية خالصة ، فالمواطنون الجنوبيون لم يكونوا يوما ضد أي دين من الأديان ؛ ولهذا فالمنطق يسوقنا للبحث عن أصحاب الأجندة العلمانية أو اللادينية ، الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل السودان كافة ، من خلال الحركة الشعبية ؛ وذات المنطق يجعلنا ، نحاول البحث عميقا ، في الأثر الشيوعي على السياسة السودانية بوجه عام ، وعلى التربية الفكرية  الخاصة بقيادة الحركة الشعبية ، وهذا ما سنعود له في مقالنا القادم ، ان مد الله في الآجال !!

 

 

آراء