الأزمة بين أكتوبر وديسمبر أو “سجن كوبر في كل العهود”

 


 

محمد بدوي
19 December, 2022

 

في حوارات عديدة مع أصدقاء ومهتمين بالشأن السوداني كثيراً ما تم التعرض إلى الواقع ودور الأمر الذي يمثل جوهر للأزمة تاريخياً، ولعل الأحداث خلال الأسبوعين المنصرمين حفز النظر إلى غياب السياسات، حيث يتطلب الأمرإلى دور الانتظار والمؤسسات العقابية السوداني، الأمر الذي يكشف بأنه منذ الاستقلال وإلى الراهن ظلت هذه المراكز والمؤسسات تستقبل معتقلين سياسيين وآخرين تحت الحبس، بموجب قانون الطوارئ أو لأسباب غير معلنة حتى وصل الأمر إلى تخصيص أجزاء من السجون لتخضع لإشراف جهاز الأمن أو لاستضافة معتقلي قانون الطواري، اشتهرت سجون كوبر بالخرطوم بحري بورتسودان بالبحر الأحمر وشالا وزالنجي بولايتي شمال ووسط دارفور بهذه الاقسام تاريخيا إلى جانب سجون أخري بالطبع، اتفقت جميعها فى بيئتها المتراجعة هذا دون الخوض فى التعامل وحضورها المتجدد فى ظل حكومات بعد الاستقلال ظلت توثق إلى أن ذات مراكز مر بها أغلب القادة السياسيين فى فترات متعاقبة، الراهن يشهد على المحاولات المستميتة للتحايل على البقاء بتلك المراكز والاحتماء بمرافق صحية من قبل لرأس النظام السابق المخلوع عمر البشير وقيادات الحركة الإسلامية وجناحيها السياسيات المؤتمرات الوطني والشعبي، وهي السلطة التي التصق بها القمع بل تعتبر التجربة الأقسى والأسواء والأوسع نطاقاً فى سلب الحريات وانتقاص الكرامة فى سياق تجربة إهمال تلك المرافق التي شاركت فيها كآفة الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، يطول سجل الشواهد، لكن أجدني اقتبس بوست للصحفي عادل ابراهيم " كلر" الذي كتب عقب اعتقاله فى يناير ٢٠١٨ بمعية آخرين منهم الأستاذ صالح محمود المحامي، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، وواقع وطلبه لدواء داخل المعتقل بسجن كوبر، والذي احضر له البديل بحجة عدم توفر ما طلبه، ليغلق " كلر" على تناقض الحال موجها إياه لإدارة المعتقل " انتو قايلين الناس ديل محتجين على شنو ما على الدواء المافي" بل فلو نظرنا إلى حال الرئيس المخلوع البشير و إحالته المتكررة إلى مستشفى علياء فهو يشير إلى السجل الراهن لأوضاع السجون ومراكز الانتظار، ولكثرة من مروا من خلف تلك الأسقف والأبواب فلا أعتقد أنه سيتذكر شجاعة الراحلين، الدكتور أمين مكي مدنى والاستاذ فاروق ابوعيسي وحرمانهم فى ٢٠١٤ من الرعاية الصحية هما فى عمر لاقاه سنينا وثباتا على سوء الحال والمرض معا بل إنَّ الفترة الانتقالية مع وقف التنفيذ بفعل انقلاب ٢٥ اكتوبر٢٠٢١ لم تكن استثناء، حيث شهدت اعتقالات لقادة الحكومة المدنية وتحالف قوي الحرية والتغيير فى ظروف أحاطت بها فقر بيئة الاعتقال التعسفي، وهو ما يثبت أن نسق التفكير المرتبط بغياب السياسات بشكل سمه مستمرة فى المشهد.
ذات السجل عزَّز من سؤال حال دور الانتظار داخل المنشآت العقابية والخدمات الصحية، فقد كشفت جائحة كورونا غياب التنسيق بين مصلحة السجون، النائب العام، ووزارتي الصحة والداخلية، حيث تعرض العديد من النزلاء للإصابة بالعدوى وانتهي بعضهم بمفارقة الحياة.
غياب السياسات لا تزال تباعد النظر من اصلاح ببيئة الاحتجاز ومكانها فى اجندة الأولويات لأنها عنوان للعدالة وسيادة حكم القانون هو ما أثبتته وسائل الإعلام التي تغطي وقائع محاكمة محمد ادم توباك وآخرين فى قضية مقتل العميد شرطة علي بريمة، مما جعل قاضي المحكمة الموقرة يوجه النيابة المختصة بفتح بلاغ فى مدير سجن كوبر الاتحادي لعدم تنفيذه أوامرها، فلولا الاهتمام الإعلامي بالقضية وكونها جاءت فى فترة انتقالية نسبية لحال بينها والإعلام مقص الرقيب وأدواته، إذن ماهي ظروف الاحتجاز للآخرين فى الحالات الجنائية والمدنية؟ هذا يقود إلى فتح ملفات ارتبط بفترة السلطة السابقة وهي كثيرة تجربة مقايضة عقوبة السجن مقابل المشاركة فى القتال فى الحرب الأهلية فى جنوب السودان فى مواجهه الحركة الشعبية آنذاك بالقتال، قد لا يمكن الوقوف على مثلها فى التاريخ الحديث المرتبط لنشأة الدول، حيث حملت المقايضة تخفيض عشر سنوات من السجن مقابل سنة من المشاركة فى الحرب الجهادية، يتطلب بالضرورة التحقيق و المحاسبة والتعويض على الأقل لأنها رسخت للقتال المرفوض ضميرياً لدى البعض .
بحثت عن إصلاح المنشآت العقابية ودور الانتظار والاحتجاز فى ثنايا مسودة دستور اللجنة التسيرية للمحاميين التي قضى القضاء السوداني بإعادة النقابة السابقة مكانها فلم أجد ما يرتقي لواقع الحال، فيبدو أن الذاكرة كما أشرت تسيطر عليها الرؤية السياسية والحزبية للأحداث في ظل استمرار محنة غياب السياسات التي كلما لاح أفق لتسوية أطل وسطائها تارة بتكريم شخصيات فى السلطة، وتارة أخري بالسعي علنا بمقترحات لموانئ جديدة ومشاريع تصب فى مصالح فردية ودولية دون خشية أو مواربة أو حتى مجرد التفكير فى المصلحة العامة .
ختاما: المصلحة العامة تقتضي البدء بإصلاح المنشآت العقابية وبيئتها فربما قد تتغير فلسفتنا فى النظر إلى قيمة وكرامة الإنسان السوداني، بما يدفع إلى تعميد النظر نحو فلسفة لصون الكرامة والعدالة وإصلاح الإرث المرتبط بسجل سلب الحريات وتعزيز النظر نحو الوطن، عبر حزم منهج السياسات لتعليم من ترسيخ المصلحة العامة قبل التفكير فى الأنا وتخصيص الموارد للأفراد والحلفاء الدوليين، فهاهو الحال رغم الفارق الزمني أن ما بين ظهور البشير مبتسماً فى قصة قميص ميسي الرياضي وتكريم مفوضية حقوق الإنسان، وتسريبات ميناء ابوعمامة يبصم بأن جرأة الوسطاء تجاوزت مخرجي أفلام الأكشن.

badawi0050@gmail.com

 

آراء