الأستاذ خضر سيد أحمد مكاوي (1938-2021): “مات قبل أن يكتب الفصل الأخير من ذكريات الفتى المعهدي”
مهلاً يا "هادم اللذات"، فإنَّ ذكريات الفتى المعهدي لم تكتمل بعد؛ لأنها بدأت بلحظة الميلاد في "غرفةٍ عارية الستائر، عامرة بالحب والبشائر"، كما وصفها صاحب السيرة نفسه، بقرية الكشواب التحت بجزيرة قنتي عام 1938، وذلك في خريف العام الذي زار فيه السيد علي الميرغني المنطقة. وبعد ذلك الميلاد الفريد تسلسلت فصول السيرة الذاتية، التي طالعها القارئين بإمتاعٍ ومؤانسةٍ على صفحات "قنتي الأم" على الفيسبوك، وطالبوا بالمزيد، بل أن بعضهم ظل يحدوه الأمل أن تُطبع ذكريات الفتي المعهدي في ثوب قشيب، بعنوانها ومقدمتها وفصولها وخاتمتها، ويعلو اسم المؤلف صفحة غلافها الأمامي: الأستاذ خضر سيدأحمد مكاوي. ومن هؤلاء الفضلاء الصديق الأستاذ صلاح أحمد الكجم، الذي يرى أن "فكرة التوثيق المتكامل لتاريخ قنتي أمر استراتيجي؛ لاستمرار ثقافتنا، وتراثنا، وفلكلورنا، ونشاطنا الاقتصادي، والأهم في ذلك، المعرفة بين الاجيال الحالية والمستقبلية." ثم تساءل الكجم قائلاً: "كم فقدنا من ذاكرة عشيرتنا خلال السنوات القليلة السابقة؟ وسيستمر فقدنا، وذهاب كبارنا بوتيرة أسرع." نعم أنَّ الوتيرة أسرع ورحيل الكبار-أوتاد الأرض مؤلم، فها نحن اليوم الأربعاء الموافق 13 يناير 2021م نودع علماً من أعلامهم البارزين، وشيخاً من مشايخ التاريخ الشفوي في المنطقة، والذين تذخر صدورهم وعقولهم بتاريخ قنتي غير المكتوب والمسكوت عنه أحياناً. وإلى جانب ذلك كان المرحوم أستاذ الأجيال خضر سيدأحمد شعلة من النشاط الممتد في كل فضاءات الحياة العامة، ونذكر منها ثلاثة فضاءات جديرة بالعناية والتوثيق.
أولها فضاء التعليم والتعلم، الذي نبغ فيه طالباً نجيباً ومعلماً كفوءً. إذ بدأ مسيرته التعليمية بخلوة الشيخ مصطفى سيدأحمد بابوش بقنتي بحري عام 1945م، ثم انتقل إلى خلوة العونية 1946م، بعد أن دمَّر فيضان عام 1946م خلوة الشيخ مصطفي، ثم انتقل للخلوة النظامية عام 1947م بعد أن أُعيد تأسيسها في مكان الخلوة القديمة، ثم مدرسة قنتي الصغرى عام 1948م. وفي العام 1950 التحق الطالب خضر بمعهد كورتي الديني، الذي عقد مقارنة طريفة بين تلاميذ المعهد من أبناء جيله وتلاميذ المدارس النظامية في كورتي آنذاك، قائلاً: "كنا نراهم يجلسون على الكنبات ويأكلون على السفرة، ونحن نجلس على الحصير، ولكنا كنا نباهي بالعلوم التي ندرسها، وباندماجنا في مجتمع كورتي... كنا نحفظ الأجرومية، ونقرأ شرح الشيخ خالد في النحو، ونحفظ العشماوية، ونقرأ شرح الصفتي في الفقه، وكنا نحفظ متن الخريدة للشيخ الدرديري في التوحيد، وكان شيخ المعهد آنذاك الشيخ عبد الفتاح أحمد عبد العاطي، نجل العالم النحرير الشهير أحمد وديابو." وبعد أن أكمل السنة الثانية بمعهد كورتي واصل الطالب خضر دراسته معهد ود مدني الأوسط، وهناك عاصر محمد أحمد البشير، ومحمد الأمين مصطفى، والرشيد إبراهيم مكاوي، ومحمد أحمد أزرق، وعلي ود هاشم (الزعيم)، وعبد اللطيف ضرار. وإلى جانب مواد المعهد الدراسية كان مولعاً بقراءة الصحف المصرية، مثل الأهرام، والمصور، وآخر ساعة. وبعد أن أكمل تعليمه الأوسط بالسودان، شد رحاله إلى قاهرة المعز، وعمره لم يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً، حيث درس بمعهد القاهرة الثانوي (1952-1954م)، وكلية الدراسات العربية بجامعة الأزهر (1954-1960م)، ثم معهد الإعداد والتوجيه بجامعة الأزهر (1960-1964م). وفي القاهرة شهد الطالب خضر بدايات ثورة يوليو 1952م، ونهل من أدبيات التيارات السياسية المختلفة، وكان أكثر ميلاً وإلماماً بأطروحات اليسار الجاذبة آنذاك. وبعد أن استقام ميسم دراسته الجامعية بجامعة الأزهر عاد إلى السودان، وعمل بالمؤسسات الارشادية والتعليمية الآتية. والتي بدأها بقسم الوعظ والإرشاد بقرية قلي بمنطقة كوستي، والتابع لمصلحة الشؤون الدينية (1965م)؛ ثم انتقل إلى رئاسة قسم الوعظ والإرشاد بالخرطوم (1965م)؛ ومنه إلى معهد طوكر العلمي بالبحر الأحمر (1965-1968م)؛ ثم معهد تنقسي الأوسط بالولاية الشمالية (1968-1969م)؛ ثم معهد عطبرة الأوسط (1969-1970م). وبعد ذلك انتقل إلى للتعليم الأوسط، حيث عمل بمدرسة العمال الثانوية العامة بعطبرة (1970-1971م)؛ ومدرسة الكرو الثانوية العامة بنات (1971-1973م)، ومن الكرو انتقل مترقياً إلى مدرسة كورتي الثانوية العليا للبنين (1973-1975م). وبعد هذه الخبرة التدريسية الطويلة المتراكمة هاجر الأستاذ خضر للعمل في حقل التدريس بالجماهيرية العربية الليبية (1975م). وبعد عودته من ليبيا عمل بمعهد تدريب معلمات الدامر (1976م)؛ ومدرسة عطبرة الثانوية للبنات (1976م-1981م)، ومدرسة أمدرمان الأهلية (1981م)، ثم أخيراً ختم حياته التعليمية والتدريسية بمدرسة المقرن الثانوية (1981-1982م). وبعد المعاش الاختياري آثر العمل التجاري الحر بسوق الخضار بالخرطوم (1982-1992م)، حيث "ضاع التاريخ الدقيق"، وأضحت قيمة الزمن قيمة اجتماعية أكثر من أنها رياضية. وفي اثناء فترة الزمني الاجتماعي غير المحسوب رياضياً، راوده الحنين إلى حقل التدريس، حيث عمل بداومٍ جزئي في مدارس ابن بيضاب، ومدارس الهندسيين، ومدارس قناديل العطاء الخاصة، وإدارة التعليم الخاص بمحلية كرري، كما تعاون في مجال تدريس اللغة العربية مع جامعة الجزيرة، وجامعة السودان المفتوحة، وجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا. ويبدو أن أجمل تجاربه التدريسية كانت بمدرسة كورتي الثانوية، التي كتب عنها قائلاً: "في كورتي وجدتُ المدير عبد الله محمد خير قد حجز لي ديوان عمر الحسن كمبال المواجه لسوق كورتي، وليس بعيداً عن المدرسة. وبدأت رحلتي مع مدرسة كورتي الثانوية رئيساً لشعبة اللغة العربية، وجدت بالمدرسة مجموعة من الأساتذة لم يتكرر أمثالهم في هذه المدرسة، فقد أحرزوا نتائج متقدمة في أول دفعة تتخرج من المدرسة رغم ضعف المعينات، ثم المرتبة الأولى في القسم الأدبي في العامين التاليين، وقد خذلهم عدم حضور أساتذة العلوم التطبيقية في الوقت المناسب، وعدم وجود المعامل. وهذا ما دفع تلميذي النجيب المكي عبد القادر أن يتحول إلى القسم الأدبي في منتصف العام الدراسي؛ ليحرز المرتبة الرابعة على مستوى السودان"، ويذكر الأستاذ خضر من أمثال تلميذة المكي عبد القادر، "الدكتور علي حسن طه، مدير مركز تطوير أبحاث الإبل التابع لجامعة الخرطوم، والدكتور محمد أحمد الفيل عميد كلية الزراعة، والمصرفي بابكر علي الصويلح، مدير الاستثمار ببنك المزارع، والدكتور عبد الباقي عبد الله المكي، مدير الأحياء البرية." وتقديراً لعطائه المتفرد في مدرسة كورتي الثانوية، رثاه أحد تلاميذه النجباء، الأستاذ الشاعر إبراهيم خالد أحمد شوك (العفَّاض)، قائلاً:
سَبَقْتَ خُطاكَ سَعْيَاً للمَعالِىْ *** (ومَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خُطَاً مَشَاهَا)
نَهَلْنَا مِنْكَ نَبَعَ العِلْمِ حِكَمَاً *** ولُبُّكَ شَذَّبَ الأَنْفَسْ رَوَاهَا
غِراسُكَ مَدَّ وَعْدَاً يَحتَوينَا *** وَمَلَأَ نَعِيْمُهُ رُوحَاً وفَاهَا
رَفِيقٌ لِلْمَكَارِمِ لَا يُضَامُ *** رِيَاضُ الحُسْنِ تَكْسُو مَنْ رَعَاهَا
فمِثْلُكَ خَالِدُ الذِّكْرَى ويَسْمُو*** بِسِيرَتِكَ النَّبيلةِ مُحْتوَاهَا
يَفُوزُ مَنِ اسْتَقَامَ عَلَى الصِّرَاطِ *** أَثَابَ النَّفْسَ عَنْ زَلَلٍ نَهَاهَا
أَيَا اللَّهُ فِى الْفِرْدَوْسِ بَيْتَاً *** وَرَحْمَةَ مِنْكَ لايُنْجِى سِوَاهَا
وثاني الفضاءات التي شغلت مساحة واسعة في حياة أستاذ الأجيال خضر سيدأحمد مكاوي هو فضاء العمل المجتمعي في قنتي وبين أبناء قنتي في العاصمة القومية، والذي استهله منذ فترات دراسته الباكرة، والدليل على ذلك قوله: "في العطلة الصيفية شاركت مع زملائي في إقامة أول اتحاد لطلاب قنتي العام 1954، وكان عدد الطلاب حينها فقط 34 طالباً أو قل تلميذاً. لأن الاتحاد حينها تكون من تلاميذ المدارس والمعاهد الوسطى والثانوية، ولم يكن يوجد من تخطى إلى الجامعات. وتكونت لجنة الاتحاد من أحمد العمدة رئيسًا، وحضر سيدأحمد نائباً للرئيس، وعثمان إبراهيم سكرتيراً، وأحمد عبدون نائباً السكرتير، وموسى محمد موسى، أميناً للمال. وكانت الاجتماعات تتم في ديوان شيخ مصطفى أو في ديوان العمدة. وأول عمل قمنا به أن فتحنا فصولاً لمحو الأمية في ثلاثة مواقع، الأول منها في ديوان شيخنا مصطفى؛ والثاني في دكان ود إدريس، والثالث في دكان حاج بكري." ويؤكد هذا النص المقتبس من مسودة ذكريات الفتي المعهدي أن مسيرته في العمل العام تُقدر بأكثر من ستة عقود، شملت مساهماته الفاعلة في لجنة نادي قنتي التأسيسية بالخرطوم، ولجنة مستشفى التضامن، ولجنة دعم المشروع الزراعي بقنتي، ولجنة درء أثار فيضان عام 1988م. وكان يتمنى أن يكون لنادي قنتي بالخرطوم دور رائد في نهضة قنتي الأم، لإيمانه بأن للأوطان في دم كل حرٍ يد سلفت ودين مستحق. ويتجلى ذلك في الرسالة التي بعثها في 21 أكتوبر 2019 عبر حسابه على الفيسبوك من خارج الخرطوم إلى كل أبناء قنتي باختلاف أجيالهم، وكان موضوعها عن ترشيح اللجنة التنفيذية لنادي قنتي الثقافي والرياضي بالخرطوم. أما بعض فقرات نصها فتقرأ هكذا: "وعشمي وأنا بعيد أن يتم التوافق على لجنة فاعلة، يكون قوامها الشباب، ويمثل فيها كل نواحي قنتي، والتركيز على الفاعلين، وأن تضم من لهم اهتمام بالرياضة؛ لنرى نشاطاً مثل ما حدث بداية اللجنة السابقة. وأن يمثل فيها طلاب قنتي حملة مشاعل مستقبل قنتي... أملي أن يكون الحضور شاملاً، وألا يتأخر أي فرد؛ لأن هذا الاجتماع أهم من الجمعية العمومية. عمكم خضر سيد أحمد مكاوي."
وإلى جانب ذلك كانت للأستاذ خضر إسهامات خارج منطقة قنتي، وأذكر عندما كتبتُ مقالاً عن "طريق أمدرمان-القبولاب-دنقلا"، بعث إليَّ برسالة مفادها: " سرد رائع لرحلة هي جزء من تاريخ المنطقة. أما الطريق الذي سمي شريان الشمال، فاذكر جزءاً منه. لقد تكونت لجنة من الحادبين لإنشاء وتعبيد الطريق، أذكر أنها قامت بدراسات ووصف للطريق، وعمل خريطة لمسار الطريق باسم (طريق أمدرمان دنقلا)، أذكر أن أول لجنة بدأت هذا العمل كانت برئاسة سوار الدهب أحمد عيسى، من ابناء تنقسي، وسكرتارية محمد احمد مكي من ابناء قنتي، وكنت أحضر اجتماعات هذه اللجنة نيابة عن نادي قنتي. وبدأت اللجنة في البحث عن التمويل عن طريق مساهمة المواطنين بجوالات البلح وتبرعات المغتربين، وكان المصريون قد وضعوا علامات على مسار الطريق، أذكر أيضاً أن الفاضل بيضاب كان يناوبني في حضور اجتماعات نادي تنقسي، وأذكر أنه حين حدث انقلاب الانقاذ استولت على هذا العمل، وتكونت شركة ما يسمي شركة شريان الشمال، واستولت على المشروع بما يملك ناس الحاج عطا المنان. وحدث ما حدث، وأرجو الطلب من الأستاذ محمد احمد مكي أن يوفر معلومة تفصيلية أوضح مما ذكرت، وسوف أرسل لكم أول خريطة للطريق وضعتها اللجنة المذكورة."
وكان أيضاً مشغولاً بتطورات مشروع علي نارتي بالشرق وأراضي قنتي التي تمت مصادرتها عن طريق لجنة التمكين، فاقتراح أن تسجل في شكل مشروع تعاوني-زراعي. وفي آخر رسالة له بتاريخ 4 يناير 2021 على موقع "قنتي الأم"، رداً على رسالة بعثها إليه المهندس عبد الوهاب سلفاب، كتب الأستاذ خصر قائلاً: "تساءل الأخ عبد الوهاب سلفاب عن موضوع الأراضي التي لها علاقة بقنتي، وعلَّق بعض الإخوة بما لديهم من معلومات وجوانب هم طرف فيها، وسوف أفصِّل كل ما يتصل بهذا الأمر من خلال المعلومات المتوفرة لدي، بحكم متابعتي عن قرب بهذا الأمر إن شاء الله." لكن إرادة الزمن غلابة، ولكل أجل كتاب، توفي الأستاذ خضر بعد أقل من عشرة أيام من تاريخ هذه الرسالة.
ثالث الفضاءات التي لمع فيها نجم الأستاذ خضر فضاء التوثيق عن تاريخ قنتي وتراثها الفلكلوري، حيث رسم صورة بارونامية لحلال قنتي قبل فيضان عام 1946م، وذلك بدءً من دومة عبدون وانتهاءً بسيال ود علج، وكتب عن نمط الحياة التي كانت سائدة في قرية الكشواب التي وُلِد بين ظهرانيها. ووقف عند كثير من المعالم البارزة التي أصبحت أثراً بعد عين، ونذكر منها ديوان التاجر سيدأحمد ميرغني الذي بني من الطوب الأحمر في حلة اللقادرنجي، وبيوت الخواجات ومحالهم التجارية، والحاجة حسونة التي ينسب إليها (درب الحاجي) الذي يربط قنتي القديمة بقنتي صبر زين، وأصَّل لها الأستاذ خضر قائلاً: "إنَّ الحاجة حسونة بنت النور ود حاج جميل من العايداب ووالدتها من العفَّاض، وعمتها زينب بت حاج جميل والدة ود الففير، ووالدة بتول بت محمد أم الرشيد قرجة ومحي الدين قرجة، وأم الزلال قرجة والدة عبيد بخيت، وأم السارة قرجة والدة سيدأحمد علي كدر... وبعد أن توفي والدها وهاجر شقيقها، شمرت عن ساعدها، وعمرت ما تبقى لها من أرض. وكانت تزرعها بنفسها، وكانت تحج إلى بيت الله عاماً بعد عام، وأقامت على هذه الأرض غابة من النخيل، كانت تحضر بذورها من المدينة ومن بلاد الشايقية، وأضحت الغابة لاحقاً تُعرف بتمر الحاجي. وكانت تسكن داخل جنينتها هذه، وتمد الغادي والرايح بالماء والبلح، مما اكسبها هذه الشهرة. ويقال إنها أخرجت ثلاثة أمتار من أرضها، وقالت لمفتش الزراعة هذا مني ليكون درباً للمارة، رغم أن جيرانها كانوا يرون أن الدرب سوف يجر لهم الخراب، لهذا سمي درب الحاجي."
وما أجمل كتاباته في وصف أطعمة أهل القرية آنذاك، ملاح الكُرارة، والكربوج، والكُداد، ولسان الطير، والدقُوقية، والتُكَّاب؛ وألعاب الأطفال، مثل الطاب، والشد، وكعود، والرمة وحراسها، وقمر. وكذلك وصفه لنساء حلة الكشواب اللاتي كن يمثلن نمط من أنماط الحياة القروية والتمازج الاجتماعي، "فقد كانت عزاز الشيخ والدة محمد مكاوي من جزيرة امدرق؛ وزينب حاج جميل والدة ود الفقير من الكرد؛ وبت شريفي زوجة ود الشيخ من جزيرة الشاطراب؛ وآمنة مصالح من الابزيداب؛ وبتول بت محمد من الشفو والدتها من العايداب." بهذه الاقتباسات من مسودة سيرة الفتي المعهدي، قصدتُ القاء إضاءات كاشفة على طرفٍ من اهتماماته الكثيرة، التي تشكل في مجموعها صفحة من صفحات تاريخ قنتي غير المكتوب، وتجارب صاحب السيرة ومشاهداته عبر حقب وأمكنة مختلفة.
كان الأستاذ خضر عندما يشعر بأن النقاش قد أن انحرف عن الجادة في منتدى قنتي الأم، وأضحى أميل إلى الجدل البيزنطي غير المنتج، يلجأ إلى استراحات الفكاهة المخففة لغلواء الجدل والمكابرة، والتي يمكن أن تجذب انتباه القارئين إلى أن كثير من عاداتهم وتقاليدهم الفلكلورية قد أضحت في ذمة التاريخ غير المكتوب. ونذكر على سبيل المثال استراحته الفلكلورية التي نشرها في 17 أغسطس 2020، وقوامها الأسئلة النموذجية الآتية: ما الفرق بين الكليق والتبيق؟ وما الفرق بين الدفيق والشابيق والهرود والعجوك؟ وما الفريق بين الكادِّق والكبيق؟ وما الفرق بين البُتِّق والدوليق؟ وما الفرق بين الهمبكوتية والهوليقة؟ وما العلاقة بين سارنتود ومارنتود؟ وما العلاقة بين علي الماحي وعثمان الحلو ونورة بت سمعريت؟ وما العلاقة بين سيدأحمد ود زينبو وسيدأحمد مكاوي وسيدأحمد ود الفحل وسيد أحمد المدريس؟ وما العلاقة بين صلاح الكجم في المشاوين وأحمد الكجم فى قنتي المناصير وبابكر الكجم في قشابي؟
تؤكد هذه النماذج التراثية المنقولة من مسودة سيرة الفتي المعهدي أن الرجل كان يمتلك ذاكرة فتوغرافية خُرافية، وله إلمام واسع بتاريخ منطقة قنتي وتراثها، ومعرفة بأنسابها وصلات أهلها القرابية، وفوق هذا وذاك أن ثقافته الواسعة وخبرته التعليمية قد مكنته من تجاوز حواجز الأجيال الوهمية، ولذلك كانت له شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية، وقدرة فائقة على التواصل الإيجابي الذي يخدم المصلحة العامة، دون التعصب لرأي، أو التشرنق في وعاء جهوي، أو سياسي أو أسري، بل كان همه الوطني مقدماً على الهموم القطاعية، وشأنه الخاص مؤخر على الشأن العام. ولذلك عندما توفي كانت هناك ثلاث قضايا إشكالية تشغل باله، أولها انجاز ذكريات الفتي المعهدي ونشرها؛ لأن فيها توثيق لملاح من تاريخ قنتي وشذرات من سيرته الذاتية؛ وثانيها ضرورة توحيد أبناء قنتي حول هدف استراتيجي، يخدم المصلحة العامة، ويسهم في نهضة بلدهم الأم بعيداً عن التجاذبات غير المجدية؛ وثالثها، كيفية استثمار أراضي قنتي المصادرة من بعض الملاك غير الشرعيين، وكذلك مشروع علي نارتي في شكل شركة مساهمة زراعية-تعاونية. إلا رحم الله أستاذ الأجيال خضر سيدأحمد مكاوي رحمة واسعة بقدر ما قدم لأهله وعشيرته الأقربين، وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. إنا لله وإنا إليه راجعون.
ahmedabushouk62@hotmail.com