الإذاعة السودانية: لعنة الميلاد
mahjoub.basha@gmail.com
قد لا يصدق الكثيرون من هواة الاستماع للراديو على أيامنا هذه أن المواطنين الأمريكيين كانوا يعتقدون في بداية القرن الماضي أن الموجات الكهربية المنبعثة من هذا الجهاز يمكن أن تسبب بعض الأمراض للأطفال. بل إن عدداً من المتشككين في التكنولوجيا الجديدة عندئذٍ كانوا يعتقدون أن الإرسال الإذاعي يمكن أن يؤدي إلى جفاف ضروع الأبقار ، أو انقراض العصافير. لذلك لم يكن من المستغرب ان يواجه تطبيق هذه التكنولوجيا شيئاً من المقاومة كما هو الحال بالنسبة لكل جديد يسعى لتغيير حياة الناس. غير أنه لم تمض عشر سنوات على بداية البث الإذاعي حتى أدرك الناس أهمية هذا الصندوق السحري ومدى خطورته في التأثير على الأفكار والمعتقدات. ولعل أهم ما جذب الانتباه لأهمية الراديو والإذاعة في ذلك الزمان هو السرعة التي ينقل بها الراديو الأخبار متفوقاً بذلك على الصحافة المقروءة التي كانت المصدر الأهم للأخبار حتى ذلك الوقت ، مما جعل الكثيرين يلجأون لاستقاء معلوماتهم عما يجري حولهم من الجهاز الجديد. أصبحت نشرات الأخبار منذ ذلك الزمان ظاهرة مرتبطةً بالراديو ، إلى أن أدى التطور التكنولوجي لاحقاً إلى ظهور العديد من أشكال نقل الأخبار بالسرعة والشكل اللذين ينافسانه. غير أن غرام الناس بسماع الأخبار يعود لزمان أبعد بكثير من زمان الصحف والراديو ، إذ أن بعض النحوت في المعابد المصرية القديمة تؤكد أن الفراعنة كانوا ينقلون الأخبار وبصفة خاصة قرارات الحكومة عبر منادٍ يعمل على إذاعتها في أماكن التجمعات الشعبية وهو أمر ظل سائداً في العديد من أنحاء العالم لعدة قرون بعد ذلك. ولعل أسلوب المنادي ظل معنا حتى سبعينات القرن الماضي فقد كانت دور السينما في كسلا وربما في غيرها من المدن تعمل به للإعلان عن الأفلام الجديدة التي تقوم بعرضها.
وصل البث الإذاعي للسودان في مطلع الأربعينات من القرن الماضي عندما تم إنشاء إذاعة أم درمان بواسطة السلطات الاستعمارية بغرض خدمة المجهود الحربي للحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية ، وكانت الإذاعة تعتمد في ذلك الوقت المبكر من حياتها على التمويل الذي يأتيها من بند الدعاية الذي خصصه الحلفاء بغرض كسب الرأي العام لجانب المجهود الحربي ومواجهة الحملات الدعائية الألمانية. ثم انتقلت ملكية إذاعة أم درمان بعد نهاية الحرب لحكومة السودان التي كانت تسيطر عليها النخبة الاستعمارية الانجليزية لتعمل من أجل ترويج الدعاية الاستعمارية في مواجهة الحركة الوطنية التي نفخ فيها "ميثاق الأطلسي" روحاً جديدة ، مما جعلها تضع حق تقرير المصير على رأس مطالبها. ومع أن الإذاعة شهدت الكثير من التطور والتوسع منذ ذلك الوقت ، وبالرغم من أنه قد تعاقب على إدارتها عدد من المديرين الأكفاء الذين تركوا بصماتهم الواضحة على العمل الإذاعي واجتهدوا في الارتقاء به قدر المستطاع ، إلا أن ظروف النشأة الأولى جعلت منها إذاعة رسمية تعبر بصورة أساسية عن وجهة نظر الحكومة. لم تتمكن الإذاعة بالرغم من التطور التكنولوجي الهائل الذي شهدته أجهزتها المختلفة أن تتخلص من هذه السمة التي رافقتها منذ الميلاد ، وقد كان ذلك أمراً طبيعياً إذ أن السودان ظل ومنذ استقلاله يحكم بواسطة أنظمة شمولية كانت ترى في الإعلام الرسمي بوقاً للحكومة وليس صوتاً للجماهير. ولعل مما يؤسف له أن هذه الظاهرة انعكست على كل أجهزة الإعلام السودانية ، بما في ذلك الصحف والإذاعات الخاصة. فالمتابع لهذه الأجهزة يجد أنها غارقة حتى أذنيها في اهتمامات مجتمع العاصمة المثلثة الذي تعتبر الحكومة القائمة بمثابة محوره ، حتى أن أحد رؤساء تحرير الصحف الخرطومية الشهيرة كتب في عموده اليومي يعتذر للقراء لأنه كان سيتحدث في ذلك اليوم عن مدينة القضارف.
لعل المتابع لنشرة الأخبار في الإذاعة القومية أو في التلفزيون الرسمي يدرك منذ الوهلة الأولى أن هذه الأجهزة التي يمولها دافع الضرائب لا تتحدث إلا باسم الحكومة. ففي هذه الفترة التي تذخر بالأحداث المثيرة على المستويين الداخلي والعالمي قادني مؤشر راديو السيارة الأسبوع الماضي للاستماع لنشرة الأخبار في الإذاعة "القومية" ، وقد هالني ما سمعت. كنت أتوقع أن تتناول الإذاعة في صدر نشرتها كارثة الأمطار والسيول التي تهتز لها البلاد من أقصاها إلى أدناها ، أو التطورات الخطيرة التي يشهدها قطاع غزة في ضدر نشرتها. غير أن الإذاعة بدأت كما هي العادة بأخبار السيد رئيس الجمهورية ، تليها أخبار النائب الأول للرئيس ، ثم نائب الرئيس وتتوالى بعد ذلك أخبار الوزراء في هذه النشرة المراسمية. لا أشك في أن النشرة قد تحدثت بعد ذلك عن مآسي المواطنين الذين جرفت الأمطار والسيول بيوتهم مركزة بالطبع على زيارات المسؤولين المركزيين والولائيين لمواساة المتأثرين ، وربما شملت النشرة اخباراً عن البطولات التي يسجلها أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة إلا أن استماعي للإذاعة ذلك اليوم انتهى بنهاية مشواري ذلك ، والراديو لا زال يكرر أخباراً لا قيمة لها عن نشاطات الوزراء المختلفين الذين لا يكاد المستمع يتذكر أسماءهم بعد نهاية النشرة. ولا يظنن أحد أن الإذاعات الاقليمية قد نجت من اللعنة التي أصابت إذاعتنا القومية ، فأخبار الوالي هناك هي التي تتصدر كل النشرات مهما كان تدني قيمتها الخبرية ويليها بالطبع أخبار الوزراء والمعتمدين ، ولعل إطلالة سريعة على شريط الأخبار في القنوات التلفزيونية الإقليمية التي تشاهد الآن على الأقمار الصناعية مثل تلفزيون البحر الأحمر أو تلفزيون ولاية كسلا تؤكد هذه الحقيقة.
غني عن القول أن على "الإذاعة القومية" ، إن كانت تريد أن تصبح إذاعة قومية فعلاً لا قولاً ، أن تبذل المزيد من الجهد والاهتمام بأخبار الأقاليم البعيدة عن العاصمة ، والتخلي عن التركيز المخل على أخبار المسئولين عندما لا تكون قيمتها الخبرية مما يستحق النشر. وبالرغم مما قامت به الإذاعة من دور في السعي من أجل توحيد الأمة عبر بعض برامجها ، إلا أنها وللأسف تعتبر واحدة من حالات الفشل المتكررة التي عانت منها الحكومات المتعاقبة في الخرطوم والتي كانت سبباً في هذا التفلت الذي تعيشه البلاد في أطرافها. ولعل مما زاد من أزمة الإذاعة القومية أنها تعيش الآن في فضاء ارتفعت فيه درجة التنافس بصورة غير مسبوقة وازدحم بأعداد كبيرة من الوسائل الإعلامية المتنوعة. في ظل التقدم التكنولوجي الحالي أصبح في مقدرة أي شخص أو مجموعة من الأشخاص إنشاء إذاعات خاصة أو غير ذلك من وسائل الإعلام التي يمكن أن تجذب اهتمام المواطن بما تقدمه من مادة تثير انتباهه. أشك إن كانت الإذاعة القومية لا زالت تعمل على استطلاع آراء المستمعين حول المادة التي تقدمها وهي ممارسة كانت تقوم بها بصورة دورية في الماضي ، واعتقادي أنها إن كانت لا زالت تفعل ذلك فلا بد أنها قد لاحظت انصراف الناس عنها إلى مصادر أخرى من الأخبار مما يقتضي ضرورة مراجعة سياساتها وبصفة خاصة سياستها التحريرية في قسم الأخبار.