الامام الهادي … بقلم: د. حامد البشير إبراهيم
د. حامد البشير إبراهيم
28 March, 2009
28 March, 2009
[مارس [1970
hamidelbashir@yahoo.com
فى زيارة للسودان خلال شهر مارس الحالي وبدعوة كريمة من اخوات واخوة اجلاء: الاستاذ نصر الدين الهادي المهدي، الاستاذ عبدالجليل حسن عبدالجليل والاستاذة بخيتة الهادي المهدي قمت بزيارة فى الصباح الباكر من يوم 9مارس 2009م الى كلية الامام الهادي الوليدة التى اتخذت من مدينة ود نوباوي بام درمان مقرا لها وقد تصادف ان يكون المقر بجوار مسجد الامام عبدالرحمن العتيق بود نوباوي. لقد كانت رمزيتا المشهد والحدث صخبا دراميا وعاطفيا فى مخيلتي وذاكرتي اعاد بي شريط الذكريات الى مارس من العام1970م حينما كنا يافعين لكن كان حجم الحدث وعمق الجرح اكبر من ان يفلت من ذاكرة رضيع ناهيك عمن كان فوق سن العاشرة.
ثلاثة احداث تنافست وتلاطمت على ذاكرتي بلا رحمة او اشفاق:
(1) ديكتاتورية مايو وجيشها الهمام يضرب بالدبابات مئات المصلين فى مسجد ود نوباوي فى نهار يوم حار من ايام الجمعة حيث تساقط فى الحال المئات حتى اختلط العرق بماء الوضوء وبدماء المصلين فى باحة المسجد العتيق فسالت الدماء قانية حمراء تظللها فى السماء حمم حمراء من جحيم القاذفات التى تلتهم الارواح قبل الاجساد.
وحصدت ذات الحمم وتلك الرصاصات الاطفال الدارسين والحيران فى خلوة المسجد وعشرات منهم من حفظة القرآن، وكذلك افواج من عشرات الاطفال ممن احبوا ذلك المسجد وزاروه مع امهاتهم واقرانهم لاداء صلاة الجمعة وهم يرتدون ازياءهم الزاهية البيضاء وصلاً بتاريخ كان ناصعا كبياض سرائرهم وعمائمهم الصغيرة المربوطة على رؤوسهم والموصولة بتاريخ اجدادهم وامتارها تكفى لتكون كفنا لشهيد. وحصد ذات الموت )الغادر) الشيوخ والنساء وذوي الحاجات الخاصة ممن تباطأت بهم قدراتهم وتأبت نفوسهم على الفرار حيث قد اختاروا خيار الاصرار. وقد تبارى القاتلون –بدم بارد- فى مهارات التصويب فى الراس ام فى القلب ام فى الخاصرة (او الخاطر) وهم يلاحقون (ركلا) لتكملة اجراءات الموت للذين سقطوا او انهاروا من هول الرصاصات القاتلة (اثناء الصلاة) ومن ازيز الدبابات حتى ليظن من يظن انها كانت بحق جيوش تحرير غاضبة تخوض حرب تحرير ضارية لجزء عزيز من الوطن مثل (حلايب) او (الفشقة) او غيرها مما يستحق التحرير او الاقتلاع. لكن لقد كان طيش القيادة قد اختار ان تكون (ارض القتل) هى بقعة مسجد ود نوباوي فى (البقعة) ام درمان-- مسكينة هذه المدينة التى اصبح قدرها المحتوم هو الموت والتقتيل على يد كتشنر وكتشنر آخر.
(2) بعد ابادة ود نوباوي كانت ذات الجيوش قد توجهت لتقصف الانصار براميات اللهب بطائرات سودانية (وقيل اجنبية ايضا) فى الجزيرة ابا فى وسط السودان، وكانت تحصدهم حصدا ويدفن بعضهم احياء فى مقابر جماعية بلا شواهد وبلا عنوان، لتسجل بذلك احدى اسوأ خيبات الديكتاتوريات الحديثة فى القارة الافريقية وابشع صور الديكتاتورية التى شهدتها بلادنا فى القرن العشرين وتليها بالطبع ديكتاتورية الانقاذ والتى ايضا ضربت كثيرا من اجزاء الوطن وحصدت مواطنيها بالراجمات والطائرات لثورات واحتجاجات داخلية محلية كان آخرها مجزرة الدولة فى دارفور التى اصمت الآذان وازكمت الانوف وصعب امرها على الاجاويد وعلى (الجنجويد ( ولكن ضحاياها لم يتعدوا (العشرة آلاف فقط لا غير).
ان مجزرة الجزيرة ابا فى مارس (1970م ستظل حنظلا مرا فى ذاكرة الشعب السوداني و ستظل (كربلاء) فى الذاكرة الجمعية للانصار الذين فقدوا فى احداث و دنوباوي والجزيرة ابا اكثر من عشرة الاف من الشهداء جميعهم قتلوا بدم بارد وبعضهم كان اثناء تأدية الصلاة وبعضهم اطفال خلاوي كانوا يتلون: "الحمد لله الذى خلق السموات والارض ثم الذين كفروا بربهم يعدلون..." فحصدهم الموت وهم فى (حضرة) قرآن الفجر ولم تشفع لهم طفولتهم اليانعة.
(3) وفى يوم الثلاثاء 31 مارس 1970م توج النظام المايوي مشروع الابادة الجماعية للانصار بان اغتالت رصاصاته الغادرة امام الانصار، الامام الهادي عبدالرحمن المهدي وصاحبيه محمد احمد مصطفي و سيف الدين الناجي قاصدا بذلك ان موت الرمزية الدينية يعني موت الهمة وكسر الخاطر.
لقد كان جورا وظلما عظيما ارتكبته الدولة الشمولية فى عهد جعفر النميري والذى يجسد بقاؤه الآن فى السودان حرا طليقا وبلا محاكمة عادلة لما اقترفه، يمثل خدشا فى جدية القضاء وفى الولاء للعدالة وفى ضمير الوطنيين المحبين لاحقاق الحق ولتأكيد سمو مكانة حقوق الانسان اينما كانت وكيفما كانت إذ لا يبج أن يفلت المجرمون من العقاب بالتقادم او بتواتر السنين. صحيح ان نظام مايو وقائده جعفر النميري قد حاكمه شعبه فى ابريل- رجب 1985م وقد حاكمه مجتمعه الذى وضع كل مقتنيات الماضي خلال عهده فى ثلاجة احزانه المتراكمة وسجلها فى دفتر خيباته وفشله القومي المتعاظم والتى توجت فوق ذلك بلعنة الاتقياء لهم فى الصلوات وفى الخلوات وفى آناء الليل واطراف النهار وبدعوات الارامل واليتامى و(محروقي الحشا) ممن نخر الجرح عميقا فى قلوبهم ونفوسهم وخواطرهم.
لقد قتل الامام الهادي ظلما وغدرا وجورا وقد كان قتلا مسنودا بالاعلام الغاشم كأداة تقتيل معنوي فى يد كل الديكتاتوريات تصوبها نحو الشرفاء ونحو الرموز . ولكن حقيقة لقد مات الجناة ولم يمت الامام حيث قد اتي من صلبه ومن محبيه بعد اربعة عقود من يقول ان الامام حي فى قاعات الدراسة وفى المكتبة وباحة الكلية وفى همة الطلاب وفى شموخ الاساتذة والمعلمين الاجلاء وفى تجرد الاداريين والموظفين والذين يخدمون باخلاص وتفاني اكثر من 4500 طالبة وطالب ينخرطون فى كلية الامام الهادي فى ودنوباوي بام درمان بجوار ذات المسجد الذى سقط فيه المئات من الشهداء والاطفال فى عام1970م.
انا على يقين ان الرئيس (المخلوع) الذى ربما يقيم فى ودنوباوي او يزورها احيانا يكون قد شاهد جموع الطلاب جيئة وذهابا ناحية ذات المسجد بود نوباوي الذى قصفته دباباته وآلياته اثناء الصلاة فى عام1970م وكأن المصلين فيه كانوا (يهودا) اتوا من كوكب المريخ.
ان الطغاة يقتلون شعوبهم مرة واحدة لكنهم انفسهم يموتون مئات المرات فى كل يوم وفى كل لحظة خاصة حينما يمد الله فى اعمارهم وكأنه يمد لهم فى عذاباتهم ليروا نجاحات الضحايا ويروا بعثهم للحياة التى حاولوا قتلها وللضوء الذى حاولوا اخماده وللنار التى حاولوا اطفاءها وهم حولها كالفراش يكونون اول ضحاياها.
ان قاتلى الشرفاء فى اوطانهم لو يدرون انما صنعوا لهؤلاء الشرفاء حياة ابدية فى الدنيا وجنانا سرمدية فى الآخرة حيث يظل هؤلاء الشهداء ابطالا فى قلوب وفى عقول شعوبهم وحتما يمنهم الله الخلود من خلال الذرية الصالحة من البنات والبنين.
ان كلية الامام الهادي هى تجسيد لعرفان الابناء والانصار والمحبين الذين ابوا الا وان يقدموا شهادة وفاة للجلادين وللقتلة وشهادة حياة للشرفاء وللشهداء وللامام الهادي.
ان هذه الكلية ماهى الا ومضة وشعاع ضوء فى آخر نفق طويل، مبشرة بفجر قادم وبصبح ابلج يمسح احزان اربعة عقود من (عدم التوفيق) ومن الاحباط.
التحية والتقدير والثناء للاخت المناضلة ذات الهمة العالية الاستاذة بخيتة الهادي المهدي التى قادت مشوار تأسيس هذه الكلية باصرار معاند اختزنته منذ احداث وفاجعة مارس1970م وهى دون سن العاشرة.
والتحية والعرفان للاستاذ عبدالجليل حسن عبدالجليل لفكره العميق الصائب ولعمله الشاق الذى لا يعرف الانقطاع حتى اضحت الكلية بين رصيفاتها كائنا حيا يبعث على الفخر والاعزاز. والثناء اجزله للاخ والصديق السيد نصر الدين الهادي المهدي وهو الذى وضع كل امكانات قلبه وعقله ورأس ماله الاجتماعي فى تثبيت هذه الكلية وفى تنفيذ مشروع الجامعة الوليدة فى مقتبل الايام والتى تبشر بان هذا الكيان كطائر العنقاء لاتموت فيه الحياة ولا يموت فيه الامل ولا تموت فيه الهمة انه روح الشعب السوداني و(جبارته) ايضا.
التحية والتقدير والاجلال لاساتذة الجامعة الاجلاء ولطلابها النجباء الذين استضافوني فى رحاب جامعتهم وكليتهم فى صباح يوم عليل تجاذبتني فيه واجتاحتني معه ذكريات الاحداث الاليمة لمارس1970م.
والتحية لطاقم الاداريين الاكفاء وللاخ سيد احمد (مسجل الكلية (وللعمال، ونقول لهم: انتم الآن تصنعون التاريخ وتعيدون كتابته لو تدرون.
ان الامام الهادي المهدي قد خلدت ذكراه بملحمة الجزيرة ابا وبهذه الجامعة الوليدة التى تشرئب برأسها فى مدينة ام درمان لتدرس الآلاف من ابناء وبنات الوطن وكأنها تقول للطغاة: نحن ندرسهم القانون (الذى فلتم منه) وندرسهم التاريخ (الذى سقطتم فيه) والاجتماع (الذي جهلتم) والدعوة الاسلامية (التى شوهتم) وحقوق الانسان (التى حتما ستطالكم وان طال افلاتكم من العقاب).
الهزيمة واحدة لكن للنصر الف صورة
الموت واحد ولكن تتعدد ملامح الحياة...
مع مودتي
نقلا عن صحيفة السوداني