الانتخابات السودانية … بعيون أفريقية (1)

 


 

 



بالرغم مما تحفل به تصريحات المسؤولين عندنا عن علاقاتنا الوثيقةا بأفريقيا ، إلا أن الحصيلة النهائية لهذه العلاقات تبدو دون الطموحات. يعود ذلك لعدة أسباب يتعلق بعضها بطبيعة الأوضاع السياسية وتطوراتها بالسودان ، بينما يعود البعض الآخر لضعف اهتمام السودانيين حكومة وشعباً بالصلات والوشائج التي تربط بينهم وبين ما يسمونه القارة الأم. لا شك أن لمشكلة الحرب الطويلة في جنوب السودان ، وضعف الاهتمام بالمكون الأفريقي في الشخصية السودانية دور كبير في ذلك. كان من الطبيعي في ظل هذه الأوضاع أن يكون اهتمام الاعلام الأفريقي بما يجري في السودان محدوداً وأن تكون المقالات التي تتناول الشأن السوداني في الصحافة الأفريقية بأشكالها المختلفة أوفر قليلاً من" لبن الطير". والإعلام الأفريقي يعتمد عادة في نقل أخبار السودان على وكالات الأنباء الأجنبية ويندر أن يوجد بالخرطوم مراسلون أو مكاتب فرعية لمؤسسات الإعلام الأفريقية المختلفة ولا أدري كم من الصحف الأفريقية أرسلت مراسليها لتغطية الانتخابات الأخيرة في بلادنا ، غير أنني أعتقد أنه قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة إذا استثينا دول شمال أفريقيا. سنحاول هنا الإشارة للقليل الذي تناولته بعض أجهزة الإعلام ، ومراكز الدراسات الأفريقية من تعليقات حول الانتخابات العامة التي جرت مؤخراً في بلادنا ، وسنسعى بقدر الإمكان لنقل الصورة كما وردت دون تدخل من جانبنا إلا لتوضيح بعض الحقائق أو إضافة بعض الحواشي إن دعت الحال.
ظلت صحيفة "الغارديان آند ميل" الصادرة في جنوب أفريقيا تتابع الانتخابات التي جرت في السودا مؤخراً بشئ من الاهتمام وبتركيز واضح على الانتخابات الرئاسية وإعادة ترشيح الرئيس البشير وفوزه "الكاسح" بالمنصب. جاءت أول الإشارات لهذا الأمر في عدد الصحيفة الصادر في 26 أكتوبر 2014 عندما أوردت على لسان الدكتور إبراهيم غندور قرار حزب المؤتمر الوطني باختيار الرئيس البشير مرشحاً له في انتخابات الرئاسة بتأييد 266 من جملة 522 عضواً ، بما يعادل 51% من جملة عضوية الحزب. الغريب في الأمر أن النسبة التي حصل عليها الرئيس في الانتخابات العامة جاءت أعلى بكثير مما حصل عليه داخل حزبه ، مما يؤكد أن الجو داخل الحزب ربما كان أكثر حرية ، وكان التنافس أكثر حدة من التنافس على المستوى القومي. كما نقلت الصحيفة عن الدكتور غندور قوله أن الرئيس لم يكن يرغب في إعادة ترشيح نفسه إلا أنه ملزم بالقرار الصادر عن الحزب. ولم تنس الصحيفة أن تشير إلى أن الرئيس البشير أجرى مؤخراً عمليتين جراحيتين مما ألقى بالكثير من ظلال الشك حول حالته الصحية وسرت العديد من الشائعات حول عدم رغبته في إعادة ترشيح نفسه مرة أخرى. كما أشارت الصحيفة إلى أن الدكتور غندور نفسه سبق أن أكد في مارس 2014 أن قرار الرئيس بعدم وضع اسمه على قائمة المرشحين قاطع ولا رجعة فيه.
تناولت الصحيفة قرار الرئيس بالمنافسة على المنصب بالرغم من تأكيداته بعدم الرغبة في ذلك ، في إطار الظاهرة المتكررة في العديد من الدول الافريقية ، فتحدثت عن عدد من الرؤساء المخضرمين الذين لا زالوا يتشبثون بالمقعد مثل رئيس بوركينا فاسو بليز كامباوري الذي يسعى حزبه نحو تعديل الدستور بما يسمح له بإعادة ترشيح نفسه بعد أن استنفد فرصه تحت ظل الدستور الحالي. وتقول الصحيفة أن قرار الرئيس كامباوري قاد للعديد من الانشقاقات داخل الحزب الحاكم نفسه وقوبل بالكثير من الرفض والاعتراض من جانب المواطنين عامة. أما في زمبابوي فإن الصحيفة ترى أن المعركة لخلافة الرئيس روبرت موغابي بدأت منذ الآن بالرغم من أنه قد أعيد انتخابه مؤخراً لخمس سنوات إضافية ، فالجميع هناك لا يتوقعون أن يكون اسمه على التذكرة الانتخابية للحزب بعد خمس سنوات من الآن بسبب تقدم سنه حيث احتفل مؤخراً بعيد ميلاده التسعين. غير أن زوجة الرئيس موغابي لا تخفي رغبتها في الترشح لخلافته حماية لمصالح العائلة بالرغم من وجود منافسين أقوياء مثل نائب الرئيس ووزيرالعدل. ويبرز ذلك التنافس الواضح بين المرشحين الثلاث في التغطية الإعلامية لتحركاتهم ، بالرغم من أن أياً منهم لم يعلن حتى الآن رغبته في المنصب. كما تناولت الصحيفة في مقالها إصرار الرئيس الزامبي الراحل مايكل ساتا للبقاء بالمنصب بالرغم من تدهور حالته الصحية ، ومن المعروف أن الرئيس الزامبي توفي بعد نشر المقال المذكور بيومين فقط. أما الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة فقد فاز بالمنصب مع أنه عجز تماماً عن إدارة حملته الانتخابية واضطر للإدلاء بصوته من على كرسي متحرك ، ويتشكك الكثير من المراقبين حول مقدرة الرئيس بوتفليقة على تسيير الأمور بالبلاد في الوقت الحاضر ، خاصة وأن فترات غيابه عن الأنظار أضحت متكررة وطويلة.
أشارت الصحيفة لعدد من الدراسات لتأكيد النظرية التي طرحتها في مقالها ، حيث قالت أن الدراسات التي أجريت حول ما يزيد عن المائة حالة من حالات انتقال السلطة في أفريقيا أكدت أن عدم إعادة ترشيح الرئيس نفسه تؤدي في الغالب لفوز المعارضة ، فبينما فاز الرئيس الحاكم في 93% من الانتخابات التي نافس فيها ، فإن المرشحين الآخرين من جانب الحزب تمكنوا من الفوز في 52% فقط من الحالات. وربما يكون ذلك أحد الأسباب التي تجعل المسؤولين في الحزب الحاكم نفسه يصرون على إعادة ترشيح الرئيس حتى وإن اقتضى ذلك ممارسة الضغوط عليه في حال ممانعته.  ويعود ذلك في الكثير من الأحيان إلى أن عملية انتقال السلطة داخل الأحزاب الأفريقية لا تتم عادة بصورة سلسة ، ويزداد الأمر تعقيداً كلما طالت فترة بقاء الرئيس على كرسي الرئاسة.
في مقال لها بعد إعلان نتيجة الانتخابات السودانية تحت عنوان "نصر انتخابي على الطريقة القديمة" أشارت الصحيفة إلى أن النسبة الكبيرة التي حصل عليها الرئيس عمر البشير تعيد للأذهان ذكرى الانتخابات التي كانت تجري في القارة الأفريقية في ثمانينات القرن الماضي. قارنت الصحيفة بين النسبة التي حصل عليها الرئيس البشير وما حصل عليه عدد من الرؤساء الآخرين في القارة الأفريقية ، مؤكدة أنه حتى في حالة ناميبيا حيث لا يوجد حزب منافس للحزب الحاكم "سوابو" الذي قاد نضالاً قاسياً وطويلاً من أجل تحرير البلاد فإن الرئيس لم يحصل إلا على 86% فقط من جملة الأصوات. وتمضي الصحيفة للقول أن الأمر تكرر في العديد من الدول التي لا زالت حركات التحرير ضد الاستعمار تحكم فيها ، حيث لم يتمكن أي من رؤساءها من تحقيق ما حققه الرئيس البشير بالرغم من تاريخهم النضالي المعروف خلال فترة حروب التحرير. ففي جنوب أفريقيا حصل الرئيس جيكوب زوما على 62.2% من نسبة الأصوات بينما حصل الرئيس فيليب نيوسي مرشح الفريليمو في موزمبيق على 59% فقط من الأصوات. أما في نيجيريا حيث جرت انتخابات أكثر ديمقراطية وحرية فقد خسر الرئيس الحالي غودلك جوناثان أمام منافسه محمد بخاري الذي حصل على 53.95% من جملة أصوات الناخبين بينما بينما لم يتمكن  الرئيس جوناثان إلا من الحصول على 44.96% فقط من أصوات الناخبين.ولعل الرئيس الأفريقي الوحيد الذي تفوق على الرئيس البشير هو الراحل ملس زيناوي الذي حصل في آخر انتخابات خاضها في عام 2010 على نسبة 99% من جملة أصوات الناخبين
أشارت الصحيفة إلى أن مقاطعة المعارضة السودانية للانتخابات كانت هدية من السماء بالنسبة للرئيس البشير. إلا أنه وبالرغم من ذلك فقد لجأت حملته الانتخابية لبعض الحيل القديمة ومن بينها مضايقة المنافسين الآخرين مما جعل من الصعب عليهم إدارة حملة انتخابية حرة يمكن أن تشكل خطراً على فرص الحزب الحاكم. كما شككت الصحيفة في حياد اللجنة القومية للانتخابات نفسها مما جعل النتيجة محسومة سلفاً على حد قولها. وتختم الصحيفة مقالها بالقول أنه بالرغم من الفوز الكبير والنسبة غير الطبيعية والمثيرة للشك فإن ما جرى في السودان يعتبر خطوة للأمام ، فمجرد إجراء الانتخابات في السودان يؤكد أنه حتى الرئيس البشير الذي يقبض على مفاصل الأمور داخل البلاد بيد حديدية كان في حاجة لنوع من الانتخابات التي يستطيع من خلالها إكساب حكمه نوعاً من الشرعية. ويبدو أن الصحيفة تشير بذلك إلى أنه لم يعد بإمكان الحكام الأفريقيين في ظل الأوضاع السائدة ممارسة الحكم المطلق كما كان الحال في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.

mahjoub.basha@gmail.com
//////////////

 

آراء