الانهيار الصحي في السودان 2-3

 


 

 


نواصل مسلسل المخازي والمآسي والمعاناة التي بلغت مرحلة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. وكل ذلك بسبب فئة باغية أعماها الباطل عن الحق. يحتار المرء في تشييد السدود والجسور والطرق مع الإهمال التام للإنسان كأهم عناصر التنمية؛ إن لم يحسبوا انه خليفة الله بما نفخ فيه من روحه. والمعلوم ان مشاريع البنية التحتية قد اُنشئت بقروض يقع تسديدها علي كاهل الأجيال القادمة.

ديسمبر 2010:
أعلنت وزراة الصحة بولاية الجزيرة أن هنالك نحو 35 ألف مريض في انتظار عمليات جراحية  تتعلق بأمراض القلب. واقر وزير الصحة بولاية الجزيرة، الدكتور الفاتح محمد مالك، في مؤتمره الصحفي يوم 27 ديسمبر 2010 بوجود "جملة من الاشكاليات والتردي في مستشفي ودمدني التعليمي من حيث المباني." ولحل هذه المشكلة، قررت حكومة الإقليم نقله الي مبني برج العمال. بيد ان مصادر طبية قد ذكرت بان تصميم البرج المذكور لا يصلح للعمل كمستشفي. إلا ان دكتور مالك قد نفي "وجود اي اشكالات بالبرج ليعمل كمستشفي." ثم كشف عن "تشكيل لجنة فنية لمعاينة برج العمال للنظر في صلاحيته من عدمها." (الصحافة 28\12\2010). إن اسلوب هذا الوزير - كالعديد من المسؤولين - لا يختلف عن اسلوب سماسرة السوق. فهو قد "أفتي" بعدم وجود اشكاليات في هذا المبني ليعمل كمستشفي، ثم ذكر سعادته ان هناك لجنة فنية قد شُكلت للبت في أمر صلاحيته! ثلاث كوارث يتضمنها هذا الخبر: تناقض الوزير، تدهور المبني الذي ربما يعود لعهد الاستعمار، وظاهرة مرض القلب. هذا مع ملاحظة ان هذا الرقم من المرضي يمثِّل ولاية واحدة من خمسة عشر ولاية.  

مارس 2011:
قرَّر ذوو مرضي الكبد والكلي الاعتصام داخل مباني وزارة الصحة، احتجاجاً علي عدم تنفيذ مناشدة اطلقوها لرئاسة الجمهورية، لإنقاذ مرضاهم من الموت (الصحافة 26\3\2011). هذا الخبر يتطلب وقفة عند المفردة "إنقاذ" التي تجسِّد المفارقة والتراجيديا وزيف الاسطورة، إذ قال لنا التتار بان دافع غزوهم عام 1989 هو إنقاذ البلاد والعباد من الفوضي والمعاناة، ولكي نأكل مما يزرعوا ونلبس مما يصنعوا، فإذا بهم يقودون حملة تشفِّي لا تبقي ولا تذر ولم تبدر من الغزاة والمستعمرين. وإذا هم يتفرجون علي جوعي ومرضي الدرن بينما تطعمهم منظمة الغذاء العالمية، لا تريد منهم طاعةً ولا جزاءً ولا شكورا. هؤلاء يطالبون بحق الحياة وهو حق طبيعي ومقدَّس كفلته كل الأديان والشرائع؛ كما انه حق يسبق كل الحقوق والواجبات لانه قد سبق وجود الدولة. وقال مدير المركز القومي لامراض وجراحة الكلي، الدكتور محمد السابق، ان عدد زارعي الكلي قد ارتفع الي 1432، وذكر ان عدد العمليات التي اُجريت خلال شهري ينائر وفبرائر المنصرمين قد بلغ 21 عملية، واقر بوجود خمسين مريضاً في انتظار اجراء عمليات اخري؛ أما العمليات المعقدة فقد ذكر بان هناك وفد طبي ايرلندي (سيصل) الخرطوم في مارس لإجراء عشر منها، منها خمس لأطفال مجاناً (المصدر السابق).

أبر يل 2011:
علي هامش مؤتمر الصيدلي العربي بالخرطوم، طالب أطباء وصيادلة بتوحيد وتسعير الدواء. وقالت اقبال أحمد البشير، وزيرة الصحة بولاية الخرطوم، ان هنالك مشكلة في تقنين اسعار الدواء بالنسبة للمواطن. وطالبت مجلس الأدوية والسموم بتفعيل لائحة تسعير الدواء حتي يتمكن المواطن من شرائه. وأفادت دراسة حول تقنين أسعار الدواء في السودان ان السكان الذين يحصلون علي الأدوية الأساسية اقل من 50%، وان 79% من الصرف علي الخدمات العلاجية من المواطنيين أنفسهم. وحذرت من ان حدة الفقر وانتشاره في السودان يعرضان شريحة كبيرة للمرض، وأشارت الي ان 44% من الأدوية غير مقدور علي شرائها، وقالت ان أسعار الأدوية في السودان هي الأعلي في إقليم شرق المتوسط، وتعادل 18 مرة السعر الدولي المرجعي، واكدت الدراسة ان 85% من سكان المدن بالولايات الشمالية تحت خط الفقر، وأن 93% من سكان الريف من الفقراء. وحذر نقيب الصيادلة السودانيين، صلاح سوار الذهب، من مغبة ارتفاع اسعار الدواء وإحجام المواطنيين عن شرائه بسبب زيادة الرسوم الحكومية، التي قال انها في زيادة مطردة نتيجة لتعدد الرسوم والضرائب والجمارك. (الصحافة 3\4\2011). هذا نظام تعوزه الأخلاق لانه يتاجر في مصائب شعبه ويضيف لسعر الدواء ضرائب وجمارك ورسوم، علماً بان الأتوات التي يدفعها المواطن في كل صغيرة وكبيرة قد فاقت ضرائب العهد التركي. ولا يوجد ظلم "إنسان" لإنسان اكثر من ان يُفرض علي المواطن سعر دواء يعادل 18 مرة السعر الدولي المرجعي، وهو الأعلي في شرق المتوسط، الذي يشمل دول تُعتبر عالم أول بالنسبة لهذا الوطن المنكوب. (الحل الحكومي الناجع لغلاء الدواء سنورده في الحلقة القادمة).

فبرائر 2011:
صرحت شركة ايبكس الطبية السعودية، المنفذة لعلميات زراعة ونقل الأعضاء البشرية، ان هنالك 450 طفل في حاجة الي نقل زرع كبد، وان هنالك اربع آلاف مريض مصابين بالفشل الكلوي. (الصحافة 13\2\2011). تجدر الإشارة الي ان هنالك مصادر تفيد ان هذه الشركة تعمل في تجارة الأعضاء البشرية. والذي يرجِّح صحة هذه المعلومة سببين، الأول: هو ان هذه شركة خاصة وليست فرع لمؤسسة صحية تابعة للحكومة السعودية، والمعروف أن دافع القطاع الخاص هو الربح والفائدة. الثاني: هو ان عمليات زرع الأعضاء باهظة الثمن، وبالتالي، ليس هناك جدوي اقتصادية لعمل هذه الشركة في السودان. ذلك لان مثل هذه العمليات تُعتبر ترفاً للفقرء الذين بلغت نسبتهم  93% في الريف و85% في المدن، وذلك لان نسبة المرضي الذين يحصلون علي الأدوية "الأساسية" أقل من 50%، حسب الدراسة الواردة أعلاه.

إلا ان تركيزنا لا ينحصر في هذا الجانب لان نفيه أسهل لدي المسؤولين لانه لا يتطلب جهد. وإن كان "المستشار الفني" لهيئة مياه ولاية الخرطوم، قد أتحفنا بأغلوطته عن شئ ثابت، كما ورد في الحلقة الاولي، فإن نفي هذه المعلومة أسهل. يقتصر تركيزنا علي ظاهرة تفشي "أمراض المشروع الحضاري"، التي تنبئ عن طامة كبري تتزامن مع إهمال تام من قبل المسؤولين. ولا أجدنَّ طامة أكبر من هذا العدد من الأطفال الذي يحتاج لزرع كبد، لان تلف أكبادهم لا يمكن ان يكون بسبب إدمان الكحول. قل لي بربك أيها القارئ - إن كان عمرك أربعين أو أكثر - هل سمعت بطفل مصاب بالسكر أو يعاني من فشل كلوي، أو يحتاج لزرع كبد قبل اكتساح التتار للخرطوم؟ قل لي بربك كم عدد الذين اصيبوا قبلئذٍ بالسرطان، أو الذين بُترت أطرافهم في حيك السكني، أو في أسرتك الممتدة، أو زملائك في الدراسة أو العمل؟ قل لي بربك هل كان آنذاك مريض يترقب الموت، بعد ان تقطعت به السُبل وعجز عن دفع ثمن العلاج، بحيث يناشد الرئاسة؟ هذا مع الوضع في الحسبان انه لم يكن هنالك دخل بترول، الذي بلغ دخله في خمس سنوات 39 مليار دولار.  

الذي يؤرقنا أن دولة كوبا  -  ولا نمل من ترديد هذا المثال -  ورغم شح مواردها مقارنة بالسودان، ورغم زوال الإتحاد السوفيتي، ما زالت توفر الخدمات الصحية المجانية لجميع مواطنيها، دون أن ينافق أو يكذب قادة ثورتها بانهم جاءوا لتطبيق شرع الله ليطبقوا شريعة المافيا وآل كابوني. ودون ان ينبطحوا وينكسروا لدولة الإستكبار بتنفيذ كل تعاليمها لرفع اسم دولتهم من قائمة الدول الراعية للإرهاب، كسجون سرية للمخابرات الأمريكية، وتعيين مبعوث يقرِّر زيارة ما شاء من أقاليم كوبا. ودون ان يصبوا علي شعبهم صوت عذاب من تشفِّي مبعثه مرض نفسي هو السادية.

يتبع
Babiker Elamin [babiker200@yahoo.ca]

 

آراء