البشير والمرجعية (النازمافيوية)!!

 


 

عبدالله مكاوي
27 December, 2022

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
اجد صعوبة بالغة في الاستماع او مشاهدة، البشير والبرهان وحميدتي وترك وقيادات تحالف الموز وما يسمي خبراء عسكريون، وقبلهم جميعا لكم كانت لزوجة ومكر الترابي تسبب لي عسر استماع ومشاهدة. والحال انه لولا اللعنة التي اصابت البلاد برهن مصيرها لهؤلاء المجردون من الفضائل وما يفيد الوطن والمواطن، لما اهتم لامرهم احد. اما ما يجعل الصعوبة مشوبة بالغثيان، ان اهدافهم ودوافعهم واضحة للعيان، وهو ما يحيل ادعاءاتهم وتبريراتهم الي محض ابتذال اقوال وخداع مكشوف.
وسبب هذه (الرمية) ان معظم مصادر معلوماتي عن هؤلاء، اتحصلها عبر ما يذكر عنهم، وكان الله في عون من تجبره ظروف مهنته علي تتبع اخبارهم واستقصاء اقوالهم ومطاردة تصريحاتهم، بكل ما فيها من كذب ودجل وجهل وعنجهية.
ولحسن الحظ ان محاكمة البشير التي حاول ان يحولها الي خطبة سياسية دفاعا عن انقلاب ونظام الاسلامويين، واحتال فيها للحصول علي دور البطولة والشهامة، ارتدت عليه وبال، بالتكذيب لاقواله والتعرية لشخصه ودوره وتاريخه وسجله الملطخ بالجرائم ضد الدولة وشعبها ومواردها وتاريخها وجغرافيتها وماضيها وحاضرها ومستقبلها. وعموما البشير نفسه يمثل حالة انموذجية لافلاس المؤسسة العسكرية والادلوجة الاسلاموية.
وافلاس المؤسسة العسكرية يتعدي تخريج ضباط قليلي المواهب والكفاءة ومتدنيِّ الوعي (نموذج الخبراء العسكريين، رغم حيازتهم ارفع الرتب!)، الي تجاوز حتي ما يتباهون به، وهو الانضباط، بدلالة ادمان ضباطها الانقلابات والانقلابات المضادة.
واذا كان ما سلف يتصل بالضباط كافراد ينقصهم كل يتطلب توافره. فان الاسوأ يتعلق بعلاقة المؤسسة العسكرية بالدولة والمجتمع.
فمن ناحية الدولة، تعدت علاقتها بالدفاع عن الدولة الي الاستيلاء عليها، ومن ثمَّ توظيفها لصالح كبار الجنرالات! اما من ناحية المجتمع، وعوض عن الايفاء بقسم الحماية للمجتمع، نجد ان تاريخ المؤسسة العسكرية منذ الاستقلال، هو تاريخ الانقلاب علي المؤسسات السياسية والحكومات الديمقراطية والحياة المدنية! وشن الحروب علي مجتمعات الاطراف بحجة قمع التمرد! من دون التساؤل ولو مرة واحدة عن اسباب التمرد؟
المهم، اذا كانت حروب المؤسسة العسكرية وانقلاباتها اصالة عن نفسها او بايعاز من احزاب سياسية، فالمحصلة واحدة، وهي هتك النسيج الاجتماعي واهدار الموارد واعاقة بناء الدولة وتعطيل المسار الديمقراطي. وهذا وحده كافٍ لوضع اكبر علامتي استفهام وتعجب حول هذه المؤسسة العسكرية؟!
والحال كذلك، ليس هنالك ادل علي هشاشة انضباط، وعدم احترافية المؤسسة العسكرية، من سهولة انقيادها لاغراء الانقلابات علي الحكومات المنتخبة وتمزيق الدستور الحاكم والحنث بالقسم، وكذلك سهولة اختراقها من جانب القوي السياسية ذات الطبيعة العقائدية.
وهذا الارتباط بين المؤسسة العسكرية والاحزاب العقائدية ليس مصادفة، ولكنه وثيق الصلة بالتصور الشمولي وامتلاك الحقيقة والواجب المقدس، الذي يصدر عنه كلاهما. وهذا بدوره يترك اثره علي من ينتمي اليهما. بمعني، هنالك حالة انفصام او انفصال تصيب الشخصية بعد انتماءها سواء للمؤسسة العسكرية او اعتناقها العقائد الخلاصية.
لذلك وبمجرد دخول الشخص المؤسسة العسكرية يتم اعادة صياغته ليتحول من مواطن الي عسكري، يحمل علي عاتقه مهمة عظيمة، تحيله الي شخصية عظيمة، بحكم انتماءه لمؤسسة عظيمة! وما يترتب علي ذلك من استحقاق امتيازات ووظائف ومهام تتتلاءم وهذه العظمة! اما ما يبرر هذه الاوهام، فهي تبرر نفسها، اي العسكرية عظيمة لانها عسكرية، والعسكري عظيم لانهُ عسكري! اي نحن لسنا حيال جدل، ولكن بالاحري حيال كجر!!
وبما ان هكذا وعي فقير وزائف هو بطبعه وعي متجاوز او يملك خاصية التحليق في كل الفضاءات وملء كل الفراغات، فهذا ما افرز واقعة الوصاية علي البلاد وشعبها، ومن ثمَّ خلق وظيفة يتم تقديسها وخطوط حمراء يمنع تجاوزها. اي اصبحت مؤسسة فوق النقد وعصية علي المساءلة، غض النظر عن ما تقوم به وينعكس اثره علي حياة الشعب ومستقبل البلاد. وعليه، كونك عسكري وتنتمي لمؤسسة عسكرية تحتكم علي السلاح، وتملك عنف الدولة، فانت الدولة، وبصورة اكثر ذكورية انت تجسد شرف الدولة! لتتحول المؤسسة العسكرية بكل بساطة الي ابتلاء علي كيان الدولة، وسوط عذاب مسلط علي الشعب ومؤسساته السياسية وحياته المدنية.
والمفارقة ان المؤسسة العسكرية التي تفاخر بحماية البلاد ويمازج ضباطها شعور الخيلاء، نتج عن تضخم دورها وغزوها لكل المجالات من السلطة للسياسة لدنيا المال والاعمال للعلاقات الخارجية...الخ، اضعاف لدورها الاساس وهو واجبها العسكري، ليشغل هذا الدور جهاز الامن علي ايام سطوة قوش، وراهنا مليشيا الدعم السريع تحت سطوة حميدتي! والاخيرة تعاظم دورها بطريقة اخطبوطية علي ذات النهج الذي اختطته المؤسسة العسكرية! والمدهش ان ذلك تم تحت بصر وبمساعدة كبار جنرالات المؤسسة العسكرية، وعلي راسهم البشير سابقا وبصورة اكبر البرهان راهنا! لدرجة تسليم مليشيات الدعم السريع مقرات للجيش وجهاز الامن بعد انحسار دوره! وهذا غير تمركزها في كل الاماكن الحساسة بالعاصمة، بل واحاطتها احاطة السوار بالمعصم من خارجها! اي باختصار اصبح لمليشيا الدعم السريع حق الفيتو علي كل القرارات المصيرية داخل الدولة.
وصحيح ان اوهام العظمة تجبر ضباط المؤسسة العسكرية علي المغالطة والانكار، ان ذلك يشكل تهديد للبلاد والمؤسسة العسكرية ذاتها! وبدل الصراحة واخذ الاحتياطات نجد ان كبار الجنرالات يسارعون للهروب للامام برمي اللوم علي السياسيين بحجة الاساءة للقوات المسلحة، وكذلك التشكيك في الثوار والاساءة للمدنيين والتحريض علي الناشطين، علي الرغم من الاخيرين هم الاحرص علي بناء مؤسسة عسكرية احترافية، لان ذلك يشكل جزء اساس من عملية بناء دولة مواطنة حديثة. كما انهم الاحرص علي ازالة كل ما من شانه ان يقود الي اثارة فتنة ما بين القوات المسلحة ومليشيا الدعم السريع، لان ذلك ببساطة يعني دعوة مفتوحة لجحيم الحرب الاهلية التي لا تبقي ولا تذر.
لكل ذلك تظل قضية مليشيا الدعم السريع هي اكبر واخطر قضية وجودية تواجه الدولة السودانية، ومؤكد معالجة هكذا قضية تهدد سلامة البلاد والعباد، تحتاج لدرجة عالية من الحكمة وضبط النفس، وتاليا اكثر ما يضر بها رفعها كرت للمزايدة او تبسيطها بدرجة مخلة او التهور بالدعوة لحسمها عسكريا. كما ان ذلك لا يعني ترك الحبل علي الغارب لمليشيا الدعم السريع لتتمدد علي هواها، كما تعودت تحت رعاية كبار جنرالات المؤسسة العسكرية المزيفين!
وللاسف ما جعل السودانيون يذوقون الامرين من انقلاب البشير/الترابي، وتشهد بلادهم خراب ليس له مثيل، هو كما سلف تطابق عقيدة المؤسسة العسكرية مع الايدلوجية الاسلاموية، التي يتوهم اصحابها بدورهم انهم اصحاب رسالة. وكونهم رساليون فهم ارفع شانا من بقية مكونات المجتمع. والحال كذلك، بمجرد التحاقك بالجماعة الاسلاموية تنقطع صلتك بمجتمعك كمواطن سوداني، لترتقي لمستوي ارفع يملك صاحبه قضية اسمي، تبيح له ليس الترفع علي الآخرين، ولكن الاسوأ الاستهانة بحاجاتهم ومطالبهم واولوياتهم، وصولا لانتهاك حقوقهم وحرماتهم! وليس مستغرب والحالة هذه، ان تتحول الدولة الي مسرح تجريب والمجتمع لادوات ذات التجريب! اما المأساة الحقيقية، ان التجريب لا يتصل بمشروع حقيقي يمكن ان يُختلف او يُتفق في شانه، ولكنه مجموعة خطرفات واوهام وتصفية حسابات مع عقد تاريخية وحضارية، وكذلك اشباع شهوات سلطوية وتلبية رغبات غريزية. اي باختضار المشروع الحضاري الذي تولي كبره شيخ الضلال الترابي، هو ليس اكثر من انتقام من الشعب المختلف مع تصوراتهم المريضة، وازدراء بمكتسبات الدولة الحديثة، ونهب ممنهج لثروات البلاد كرد فعل علي ماضي الفقر والحاجة.
اما ما ترتب علي تطبيق هذه الشعوذة الدينية، فهو معلوم بالضرورة، سواء علي مستوي الدولة او المجتمع، من تفكك وانحلال يصعب علاجه علي المدي الطويل ويستحيل علاجه في المدي القصير، ناهيك ان يطاله حلم تغيير! لانه ببساطة لسنا حيال مشاكل تحتاج لعلاج، وانما في مواجهة كوارث تهدد البقاء، ولكم نكون محظوظون اذا قدر لنا تحجيم ارتداداتها وحماية بلادنا من السقوط في حبالها.
اما مشكلتنا مع اللجنة الامنية وعلي راسها البشير سابقا والبرهان راهنا، ان اجتمعت فيهما اسوأ خصلتان المتا بالمجتمع والدولة السودانية، وهما الوصاية العسكرية ونزعة الاستباحة والاجرام الاسلاموية. واذا كانت الوصاية مصدرها الجهل وتدني نسبة الوعي، فنزعة الاستباحة والاجرام مصدرها الاستعلاء علي المجتمع و الاستهانة بحقوقه وتطلعاته.
والحال كذلك، اسلمة المؤسسة العسكرية وادلجة ضباطها احدث فيها تحول جوهري، وهو علي كل حال يُضم لقائمة الخراب التي طالت كل شئ، والمقصود كلما ترقي الضابط داخلها، كلما كان اقل احترافية واكثر فساد ودفاع عن المصالح الخاصة، وبما في ذلك العمل ضد القوات المسلحة نفسها، سواء بالقبول بتكوين قوات موازية لها تقاسمها اختصاصاتها (قوات الدعم السريع) او بزجها في صراع ضد مواطنيها (الشراكة اولا والانقلاب علي حكومة الثورة ثانيا)، او برهنها للخارج (تصدير مرتزقة)، طالما ذلك يصب في خانة الامتيازات التي يحوزونها من غير وجه حق.
لكل ذلك، اذا كان اسقاط منظومة الانقاذ بعد ازاحة رمزها البشير، هو ما عجزت عنه الثورة بكل زخمها واتساعها وابداعها ورفضها المطلق للمنظومة الانقاذية. فان مصدر الصعوبة الاكبر من ذلك والذي يواجه الثورة، تمثله المرجعية التي تقف خلف المنظومة وتمدها بسر البقاء. والمقصود بذلك وعي الوصاية ونزعة الاستباحة والاجرام. فهذه المرجعية (النازمافيوية) هي ما جعلت البشير ينقلب علي الحكم الديمقراطي ويفرض الحكم العضوض، وهي ما جعلت البرهان يغدر بالثورة ومطالب التغيير ويعيد عقارب الساعة لذات عهد الانقاذ المظلم! وهي ذاتها ما جعلت البشير مرة اخري يرفض الاعتراف بالخطأ ويستنكف الاعتذار عن كل الجرائم والاخطاء التي وسمت فترة حكمه! وهي نفسها ما جعلت الكيزان لا ينفكوا يسيطرون علي الدولة ومواردها ووظائفها بذات اساليب الانقاذ القذرة، دون ادني اعتبار للثورة والرفض الشعبي وتجربة ثلاثة عقود وثلاث سنوات من الاجرام والفساد والفوضي.
واذا صدق اعلاه، فالمسألة لا تتعلق بالتغيير الجذري او الاتفاق الاطاري، بقدر ما تتعلق بمنظومة ارهاب وتخريب ونهب، ترفدها مرجعية اكثر شمولية وعنف وتعفن وشراهة للنهب والتسلط. تغلغلت في مؤسسات الدولة، قبل ان تجرد المجتمع من كل سبل الحماية، ناهيك عن امتلاكه ممكنات النهوض.
وامام وضع كارثي كهذا، فمن الاستسهال بمكان تصور في ان امكان لجان المقاومة او اسلوب المواكب قادر علي معالجة كل هذا الدمار الراهن، وقبله ماضٍ لا يسر صديق منذ الاستقلال. ومن التنصل بمكان ترك كل هذا العبء عليها وحدها! وهذا بدوره لا يعني ان قوي الحرية والتغيير او الاتفاق الاطاري، هما العلاج الشافي لهذه الوضعية الكارثية. وذلك لان تحديات الخروج منها، يستوجب التصدي للمستفيدين من بقاءها، وهم علي كل حال من يسيطرون علي المشهد الراهن وانصارهم وداعميهم في الخفاء داخليا وخارجيا.
وكل هذا يستلزم كسر حالة الاستقطاب في الجبهة المدنية، والوصول لنقاط التقاء، اقلاه علي مستوي التواصل المستمر، والتنسيق كلما استدعت المصلحة المشتركة ذلك. والمسألة ليست بالصعوبة المتصورة، فقط اذا حدد كل طرف الاعداء الحقيقيين (رافضي التغيير) والمطالب المرحلية والاهداف المستقبلية.
واخيرا
التحية للدكتور مجدي اسحاق وهو يقدم مقاربات جديدة وثرية تضئ العتمة الراهنة، بمرجعية علمية ومنهجية، تستحق الاهتمام والاشادة، والاهم الاستفادة منها. ودمتم في راعية الله.
///////////////////////////

 

آراء