البشير وسلفاكير يعيدان الأمور إلى نصابها

 


 

جمال عنقرة
11 October, 2011

 



الرئيسان حسما الموقف لصالح الوطن والمواطن في البلدين
ويبقى النشيد ذاته بعد الإنفصال.. لا شمال بلا جنوب ولا جنوب بلا شمال

gamalangara@hotmail.com
أدمعت عيون سودانيين كُثر، وهم يشاهدون الرئيس المشير عمر البشير يستقبل الفريق أول سلفاكير ميارديت بصفته الجديدة رئيساً لحكومة دولة جنوب السودان، ولم يسل هذا الدمع إستنكاراً لاستقبال رئيسهم رئيس دولة أُخرى، فهذا أمر طبيعي ومعهود، ولكنها دموع الحسرة على السودان الذي صار إلى دولتين في حين غفلة من أهله، وهو إنفصال رغم مشروعيته وحضارية إجراءاته، لكنه يظل مراً لا يستساغ.
ومع ذلك جاءت زيارة رئيس دولة جنوب السودان على قدر عالٍ من الأهمية، وهي زيارة فتحت الطريق أمام عودة أمور شتى إلى نصابها بعد أن ضل بها البعض الطريق القويم بما سلكوا من سلوك مشين وبما فعلوا من أعمال خارجة على القيم والأخلاق والسلوك الوطني.
وتأتي أهمية الزيارة أنها جاءت في أكثر وقت شهدت فيه علاقات الجنوب والشمال توتراً حاداً، وهو توتر لم يكن له ما يبرره لولا أن بعض منسوبي الحركة الشعبية من الشماليين فقدوا الإتجاه بعد أن ضاعت منهم البوصلة فأوشكوا أن يقودوا البلاد كلها إلى محرقة مهلكة بما قادوا من تمرد في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، ولولا يقظة وبسالة القوات المسلحة، وحكمة المواطنين، وجسارة الحاكمين من بعد فضل الله تعالى لحدث مالا يحمد عقباه.
وحتى بعد أن حاصرنا الفتنة عسكرياً وسياسياً، فإن بعض الموتورين من اخواننا في الشمال والذين يضمرون بغضاء لأهلنا في الجنوب بلا مبرر حاولوا استغلال تورط بعض منسوبي الحركة الشعبية في حكومة الجنوب في دعم المتمردين في الولايتين ليتخذوا من ذلك مدخلاً لقيادة حرب مع دولة الجنوب الشقيقة، ولقد أعلن بعضهم ذلك صراحة حينما دعوا الى إسقاط حكومة الحركة الشعبية في جنوب السودان وهذا قول غير مستقيم وغير معقول ويفتقد الى الحكمة والمنطق.
إن العلاقة بين الجنوب والشمال لم تستقم أبداً منذ استقلال السودان، وظلت على الدوام تقوم على رؤى قاصرة، ومعالجات فطيرة، وليس انحيازاً للنظام الذي نواليه ونقف معه وندعمه، ولكن لم تكن هناك رؤية واضحة، وسياسة مستقيمة تجاه الجنوب إلا في عهد الإنقاذ الحالي، فلما جاءت الإنقاذ الى الحكم في الثلاثين من يونيو عام 9891م كانت مدن السودان تتساقط الواحدة تلو الأخرى في أيدي المتمردين الجنوبيين، وكان الجيش السوداني الوطني يقاتل بلا عدة ولا عتاد، وكانت الحكومة الإتحادية مشغولة بصراعاتها الحزبية غير آبهة بما يجري في الجنوب، وبما يصيب المقاتلين، ولئن نسي الناس فلا ينسون سياسياً مرموقاً غفر الله له ورحمه عندما هاجمه البعض بسقوط مدينة الكرمك في عهدهم قال بلا اكتراث «ما تسقط الكرمك لو سقطت، ما برلين سقطت قبل كده».
وفي تلك الأجواء الإنهزامية المشحونة بالصراعات الحزبية، ظهر ما يسمى بإتفاقية الميرغني قرنق، وكانت إتفاية تعبر بحق وحقيقة عن واقع تلك الفترة من انهزامية وشتات وصراع، ولقد حوت في مضامينها كل عوامل التفرقة والإنكسار، والتفريط في مكتسبات الوطن وشعبه، ولذلك عندما قامت الإنقاذ، وكانت هذه الأشياء بعض أسباب قيامها، عملت على تصحيح الأمور غير المستقيمة، فبمثلما حشدت لقتال المتمردين من دعم عسكري للقوات المسلحة ورفع لروحها المعنوية، وحشد للشعب للوقوف جنباً الى جنب مع الجيش للقتال دفاعاً عن عزة الوطن وسيادته وكرامته، بسطت يداً بيضاء للسلام على أُسسس واضحة ومعلومة، فلم توقف الحرب مساعي السلام، ولم تتوقف جهود الحكومة لتحقيق السلام في السودان إلى أن كللت هذه الجهود بتوقيع اتفاقية السلام الشامل المعروفة بإتفاقية نيفاشا في التاسع من يناير عام 5002م في العاصمة الكينية نيروبي، بعد سلسلة من التفاهمات والبرتوكولات وجولات التفاوض في بقاع شتى، فكانت اتفاقية نيفاشا العظيمة.
إن الذين حاولوا النيل من نيفاشا في وقتها بأنها منحت الجنوبيين حق تقرير المصير، إنما كانوا يساومون بذلك لأنهم يعلمون أن كل القوى السياسية السودانية بلا إستثناء كانت قد أقرت في اضابيرها ومواثيقها حق تقرير المصير لجنوب السودان، ولم يستثن من ذلك وقتها إلا الزعيم الراحل الشريف زين العابدين الهندي، وكل الدول الإقليمية المحيطة العربية والأفريقية، وكذلك الغربية البعيدة قد دعت إلى هذا الحق وساندته بإستنثاء مصر ولذلك فإن الإنقاذ لم تكن قد أتت بشىء من عندها ولكنها امتلكت الجرأة على التعبير صراحة عن قناعة الآخرين جميعاً.
اما الإنقاذيين الذين حاولوا أن يلقوا باللوم على الأخ علي عثمان محمد طه بإدعاء أنه كان مهندس الإتفاق، وأنه هو الذي منح الجنوبيين هذا الحق، فهذا أيضاً قول مردود، فالأخ علي عثمان كان واحداً من منظومة الحكم، لا يتميز على غيره إلا بالحكمة وفصل الخطاب، ويحمد له أنه إستطاع أن يقود سفينة التفاوض بجرأة وإقتدار إلى أن رست على بر السلام بفضل من الله ونعمته، ورغم أن السودانيين يقولون «حواء والدة»، لكنني لا أحسب أن أحداً غيره ممن نعلم كان من الممكن أن يقود التفاوض بمثل ما قاده به، ولو أن العالم كان منصفاً لمنحه أعلى جائزة للسلام، وهو لم يكن ينطلق من قناعاته الشخصية وحدها ولكنه كان يستند على مرجعية الحزب والدولة معاً، ولم يكن يستخدم تفويضه إستخداماً مطلقاً، ولكن كان دائم الإتصال بالسيد الرئيس عمر البشير راعي السلام وقائد الدولة، وكان يتصل أيضاً بمن هم دونه لأنه يعلم أنه لا خاب من استشار، ولم يترك خلال العام الذي قضاه في نيفاشا مفاوضاً أحداً يظن عنده الرأي ويطلب منه المشورة إلا دعاه إلى هناك لسماع رأية ولإطلاعه على ما يجري، فزار نيفاشا خلال ذاك العام الآلاف من السودانيين، ولم تقتصر المشورة على الحكومة وحزبها وحدهما، ولكنه كان يستمع إلى المعارضين أكثر مما يستمع إلى الحاكمين، وكان قد دعا أهل الفكر والرأي والثقل الإجتماعي والإقتصادي والسياسي والثقافي والديني والقبلي من كل أهل السودان.
ولذلك فإن نيفاشا جاءت معبرة عن كل هؤلاء، ولقد استقبلها السودان كله بترحاب شديد، ورحبوا كذلك بقرارها القاضي بمنح الجنوبيين حق تقرير المصير وهم يعلمون أن هذا الحق يمكن أن يؤدي إلى فصل الجنوب عن الشمال، وهو فصل رغم أنه لم يكن متوقعاً، ولم تكن له مبرراته، ولكن أهل السودان جميعاً قبلوا به لو أنه جاء برغبة أهل الجنوب.
وتحضرني في هذه اللحظة في يوم عودة الراحل الدكتور جون قرنق دي مبيور رئيس الحركة الشعبية بعد توقيع إتفاقية السلام، ولعل الناس يذكرون الملايين التي خرجت لاستقباله من أهل الشمال والجنوب معاً، ولهم أن يربطوا بين ذلك الإستقبال المهيب وبين حجم البغض والكراهية الذي كانوا يوجهونه له أيام الحرب، ولذلك أقول إن الإحتفاء كان بالسلام قبل أن يكون بالأشخاص، وكان بالأشخاص برمزيتهم لهذا السلام وليس لأية إعتبارات أُخرى، ولقد كان الدكتور جون قرنق يتحدث عن الوحدة والسلام بصدق وتجرد، واحسب انه كان صادقاً في ذلك.
ولما رحل الدكتور جون قرنق في تلك الحادثة التي لا أشك أنها كانت مدبرة وبفعل فاعل، فإن خليفته الفريق اول سلفاكير ميارديت لم يكن أقل منه حرصاً على السلام والوحدة، إلا أن الطابور الخامس في حزبه كان يخرج كثيراً عن طوعه، وفي تقديري أن حرص القائد سلفاكير على تماسك حزبه وحركته حال دون حسمه لكثير من الإنفلاتات التي تحدث من بعض قادته، وكانت تخصم من رصيد الوحدة.
ونحن بالطبع لا نبرىء جانبنا تماماً، فإن العنصريين الجاهليين الإنفصاليين في المؤتمر الوطني كان لهم دور سالب في دفع الجنوبيين نحو الإنفصال، فكان طبيعياً في ظل هذه الظروف أن يختار الجنوبيون الإنفصال، وهنا تجلت حكمة الرئيس البشير، الذي قاد بلا منازع ولا شريك لأن يأتي هذا الإنفصال حضارياً، وسلساً شهد له العالم كله.
والرئيس البشير فضلاً عن حرصه على الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه وحزبه وحكومته وأهل الشمال كلهم لإخوانهم في الجنوب، فإنه يعلم أن التواصل بين الشمال والجنوب لا خيار غيره، ويجب أن يكون هذا التواصل حميماً وايجابياً، لذلك قاد الإستفتاء ليتم بهذه الطريقة الحضارية، ومن بعده الإنفصال الذي سبق الناس جميعاً في الإعتراف بنتائجه، وهذا الإعتراف هو الذي قاد العالم للإعتراف بدول الجنوب، ولقد شهد الرئيس سلفاكير بذلك.
وبهذا التسلسل الإيجابي للأحداث كان طبيعياً أن تقوم علاقة إيجابية قوية حميمة مثمرة بين دولتي الشمال والجنوب، ولكن وكما أشرت في مدخل هذا المقال فإن الحسابات الخاطئة لبعض منسوبي الحركة الشعبية في الشمال وبمعاونة بعض المتطرفين في حكومة الجنوب قلب الأشياء رأساً على عقب، حتى أوشكت الأحداث أن تقود الى قطيعة شاملة بين الجنوب والشمال، ويمكن أن تقود إلى حرب كذلك.
وفي ظل هذه الظروف جاءت زيارة الرئيس سلفاكير إلى الشمال، والتقى الرئيس البشير وحسما التوجه العام للدولتين فقطع الرئيس البشير بعدم العودة الى الحرب مرة أُخرى، وأكد التزام دولة السودان بالسلام وتجاوز مرارات الماضي وفق حوار بناء يحقق الأمن والإستقرار، وربط ذلك بعدم تدخل أية دولة في شؤون الأخرى الداخلية، وحرص سلفاكير أيضاً على التأكيد على ذات المعاني وقال من يدعونا الى الحرب نعتبره عدواً مشتركاً ولا أجد من تشير إليهم هذه العبارة أكثر من قطاع الشمال في الحركة الشعبية، الذين هم يقودون الى توتر يمكن أن يقود الى حرب بين البلدين، وتصدق الإشارة كذلك الى الإنفصاليين الجاهليين العنصريين الشماليين أدعياء العروبة الزائفة.
إن السودان بعد إنفصاله الى دولتين في الجنوب والشمال يبقى كما هو ذات الإحساس وذات الوجدان، ويبقى الإنفصال دستورياً فقط، ويبقى عندنا ذات النشيد القديم «لا شمال بلا جنوب ولا جنوب بلا شمال».

 

آراء