التطورات السياسية التي أدت إلي تقديم مذكرة الجيش في 20 فبراير 1989م
بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور / المعتصم أحمد علي الأمين
بسم الله الرحمن الرحيم
التطورات السياسية التي أدت إلي تقديم مذكرة الجيش
في 20 فبراير 1989م
الدكتور / المعتصم أحمد علي الأمين*
مقدمة:
تهدف هذه الورقة إلي دراسة حقبة هامة من تاريخ السودان الحديث تم فيها وأد التجربة الديمقراطية الثالثة 1986م- 1989م ووصول الإسلاميين بواسطة أنصارهم في الجيش إلي السلطة منفردين نتيجة للإختلاف الكبير بين الحزب الإتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية بسبب تفاهم الميرغني – قرنق في 16 نوفمبر 1988م أو ما يعرف بإتفاقية السلام السودانية حيث عدتها الجبهة الإسلامية مناورة سياسية من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان لتمزيق الجبهة –الداخلية عبر إغراء الحزب الإتحادي الديمقراطي بالتوصل إلي إتفاق سلام قبل الإنتخابات ينص صراحة علي تجميد العمل بقوانين الشريعة الإسلامية، وإلغاء إتفاقيات الدفاع المشترك مع الدول العربية ، وتحديد موعد لإنعقاد المؤتمر القومي الدستوري المرتقب.
بينما عدّها الحزب الإتحادي الديمقراطي سانحة طيبة من أجل وقف الحرب وتوحيد السودان علي أسس السلام دون التطرق لمسالة الإنفصال ، كما أن العمل بقوانين سبتمبر( الشريعة الإسلامية) مجمد العمل بها أصلا منذ الإطاحة بالرئيس نميري ، وأن الدول العربية التي ترتبط بإتفاقيات دفاع مشترك مع السودان كفت منذ وقت طويل علي التدخل لنصرة الجانب الحكومي خوفا علي مصالحها المستقبلية ، ومنها ما يدعم الطرف الآخر!!.
وفي غمرة ذلك النزاع العميق بين الطرفين الذي انحاز فيه حزب الامة القومي لرؤية الجبهة الإسلامية القومية ، وتم إسقاط التفاهم في البرلمان فبرزت مذكرة الجيش للضغط على حكومة حزب الامة والجبهة الإسلامية القومية لتسليح الجيش وإعداده للحرب سريعا أو الموافقة علي تفاهم الميرغني قرنق!!!.
وتعتبر مذكرة مجموعة ضباط الجيش السوداني وعلى رأسهم القائد العام الفريق فتحي أحمد على إلى السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء في مارس 1989م من أهم التطورات السياسية التي عجلت بنهاية الديمقراطية الثالثة في السودان 1986 – 1989م، وذلك لرفض بعض الأحزاب السياسية لمحتوى هذه المذكرة واعتبارها تدخلاً مباشراً من الجيش في الحياة السياسية المدنية والديمقراطية التي تراضت عليها الفعاليات السياسية بعد سقوط نظام الرئيس جعفر محمد نميري عن السلطة طوال ستة عشرة عاماً من الحكم الشمولي(1).
صحيح أن مذكرة الجيش دعت إلى تصحيح الأوضاع المتردية للجنود في مناطق العمليات بجنوب السودان، وإمدادهم بالذخائر والتموينات الغذائية، وغيرها بيد أن إعلان مثل هذه المطالب، أو مساندة تفاهم الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان يعني وضع الحياة السياسية الحزبية بين خيارات صعبة !وكان يمكن إرسال مثل هذه المطالب بالطرق التقليدية للجيش،لأنه شجع إرسال هذه المذكرة عزم بعض الفعاليات الحزبية إلى المراهنة على الجيش بدلاً من الجماهير في حسم الخيارات التي ترى أنها الأفضل لمستقبل السودان وحاضره.
العلاقة بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية:
شكلت مذكرة السلام السودانية بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية لتحرير السودان 16 نوفمبر 1988م منعطفاً مهماً للحزب الاتحادي الديمقراطي حيث قدر إنه بواسطة هذا التفاهم أن يتسّيد الساحة السياسية السودانية، وأن يتقلّب على حزب الأمة القومي منافسه التقليدي لتوصله إلى اتفاقية سلام عجزت كثير من القوى المحلية والإقليمية في التواصل إليها، وبالتالي عمل على حقن دماء السودانيين شمالاً وجنوباً، وهو مما لاشك فيه إنجازٌ كبيرٌ سيضاف إلى رصيد الحزب الاتحادي الديمقراطي، ويسهم في تماسك عناصره الداخلية خصوصاً بعد أن بدأت في التفكك والتآكل مع غياب مشروع سياسي معلوم يتبناه الحزب الاتحادي الديمقراطي، ويسير على خطاه بعد أن نجح مشروع الاستقلال وتحرر السودان من الهيمنة الانجليزية والمصرية بفضل تضحيات وجهود رجالات السياسة السودانية وعلى رأسهم الاتحاديون الديمقراطيون ، بيد أن مشروع الاستقلال مضى عليه أكثر من أربعين عاماً عند بدايات الديمقراطية الثالثة 1986م وأن العديد من رجالات الاستقلال انتقلوا إلى رحاب الله ، كما أن الاهتمامات تغيرت ولم يعد أمر الاستقلال والحصول عليه في الذاكرة المباشرة خصوصاً عند الأجيال الجديدة واعتباره أمراً طبيعياً من الماضي ومسلماً به.
لذلك عمل الحزب الاتحادي الديمقراطي على تجديد خطابه السياسي عبر الدعوة إلى توقف الحرب بين شمال وجنوب السودان باعتبارها القضية الأكثر إلحاحاً على الواقع السياسي خصوصاً وأن الانتخابات التي من المفترض إجراؤها كانت قد اقتربت مع بدايات العام 1990م لذلك فمن المتوقع أن يدعم التوصل إلى سلام الحزب الاتحادي الديمقراطي ويزيد من أسهمه ، ويستطيع أن ينافس حزب الأمة غريمه الأساسي في كل الانتخابات الديمقراطية السابقة بعد أن اختل ميزان التوازن بين الطرفين إثر التفوق الواضح لحزب الأمة الذي فاز بأكثر من مئة وثمانين مقعداً مقابل مئة وخمسة مقاعد للحزب الاتحادي الديمقراطي ، وخمسة وخمسين مقعداً للجبهة الإسلامية القومية التي جاءت في مجملها خصماً على دوائر الحزب الاتحادي الديمقراطي التقليدية(2).
وكانت معظم المؤشرات تدل على أن الجبهة الإسلامية القومية من المحتمل أن تفوز بدوائر أكبر في الانتخابات المقبلة على حساب الحزب الاتحادي الديمقراطي لو ظل الحزب على جموده وانقساماته الخاصة، وعدم تطور برنامجه السياسي الداعي للوحدة مع مصر منذ عدة عقود، لذلك شكلت مبادرة السلام السودانية طوق نجاه للحزب وخطوة إستراتيجية يمكن أن تضخ فيه عوامل حياة جديدة خصوصاً بعد غياب معظم كوادره الفاعلة وعلى رأسهم الشريف حسين الهندي، وتردد كثير من القوى الشبابية الجديدة، الانضواء تحت ظل الطريقة الختمية مثلما فعل آباؤهم وأجدادهم الذين شكلت لهم الطريقة الختمية ملاذاً وحماية بعد زوال دولة المهدية وخصوصاً في عهد الخليفة عبد الله التعايشي الذي تشكل لهم عامل سيطرة مهيمنة من قوى لم يعتادوا الخضوع لها من قبل، كما أن الاحتكاكات مع قبائل شمال ووسط السودان إبان حكم الخليفة عبد الله التعايشي شكلت أكبر عامل من عوامل انضواء الأجداد في سلك الطريقة الختمية ومن ثم في حزبها الاتحادي الديمقراطي بمسمياته التاريخية المتعددة(3).
ومن جهة أخرى نجد أن حزب الأمة القومي لم يشكل تهديداً مؤثراً للحزب الاتحادي الديمقراطي بقدر ما شكلت الجبهة الإسلامية القومية، وذلك لتقاسم الولاءات الحزبية التقليدية والجغرافية بين حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي ، وانفراد كل حزب بدوائر انتخابية خالصة لنفوذه في مناطق معروفة في شمال ووسط وشرق السودان بالنسبة للاتحاديين ومناطق كردفان ودارفور والنيل الأبيض بالنسبة لحزب الأمة، بينما نافست الجبهة الإسلامية القومية ضمن نطاق الدوائر التقليدية للحزب الاتحادي الديمقراطي لذلك كانت الحساسية أشد ما يكون بين الحزبيين الآخرين مقارنة بحزب الأمة.
كذلك تاريخياً نجد أن الجبهة الإسلامية القومية كانت أقرب وجدانياً لحزب الأمة عن الحزب الاتحادي الديمقراطي ، وذلك لتبني الإسلاميون الشعارات الإسلامية التي ارتكزت عليها المهدية مثل تطبيق الشريعة الإسلامية وإعلان الجهاد وغيرها من قضايا، ويعد الإسلاميين تاريخ الثورة المهدية جزءاً لا يتجزأ من تاريخهم الخاص، وبما أن الحزب الاتحادي والطريقة الختمية كانوا في الاتجاه المضاد للمهدية فقد عدوا على الدوام الجانب المستهدف، والمعادي لطموحاتهم التنظيمية والعقدية(4).
كما أن المصاهرة والعلاقات الاجتماعية ربطت بين كثير من قيادة الفريقين في حزب الأمة والجبهة الإسلامية القومية، كذلك جمعت العمليات العسكرية بين حزب الأمة والجبهة في الجزيرة أبا واستشهاد إمام الأنصار السيد الهادي المهدي مع عدد مقدر من قيادات الجبهة الإسلامية وعلى رأسهم الشهيد محمد صالح عمر، صحيح أن الاتحاديين شاركوا في معارضة نظام مايو وعلى رأسهم الشريف الهندي إلا أن ارتباط الحزبين كان أكبر من ارتباطهما بحزب الشريف الهندي خصوصاً بعد المصالحة التي أشركت حزب الأمة القومي والجبهة الإسلامية القومية في الحكومة المايوية بينما رفض الشريف الهندي العودة مجدداً للسودان إلى أن أدركته المنية خارج السودان في العام 1982م.
جمعت المناهضة للسياسة المصرية تجاه السودان حزب الأمة القومي والجبهة الإسلامية القومية ، وذلك لأن حزب الأمة دعا إلى الدوام إلى استقلال السودان عن مصر بعد إسقاط التحالف الانجليزي المصري للدولة المهدية والقضاء عليها في خواتيم القرن التاسع عشر، أما الجبهة الإسلامية القومية فقد جاء رفضها للسياسات المصرية باعتبارها امتداداً للسياسات المصرية التي أضعفت الأخوان المسلمين في مصر وأذاقتهم مر العذاب في العهد الناصري؛ لأن الجبهة الإسلامية كما لا يخفى على أحد تعتبر امتداداً طبيعياً للأخوان المسلمين في السودان، لذلك يمكن القول أن جذور العداء وعدم الانسجام كانت واضحة منذ وقت مبكر بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية.
محاولات التقارب بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية:
بعد سقوط النظام المايوي وقبيل الانتخابات العامة في 1986م توصل الحزب الاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية القومية إلى تفاهم ما ينص على عدم المشاركة في أي حكومة جديدة ما لم يشارك فيها الطرفان بالإضافة إلى بعض البنود الأخرى التي تحض على التنسيق والعمل سوياً، وكان هدف الحزب الاتحادي فيما يبدو الاستقواء بالإسلاميين في وجه الند التقليدي حزب الأمة القومي، حيث كانت فرص فوزه أوسع من الاتحاديين وذلك لعدة اعتبارات أهمها الأحداث الدامية والأليمة التي ألمت بالحزب في بدايات مايو الأولى وعلى رأسها اغتيال رئيس الحزب وإمام الأنصار على الحدود السودانية الإثيوبية 1970م بعد معارك الجزيرة أبا وحي ودنوباوي بأمدرمان بالإضافة إلى محاولة غزو الخرطوم والإحاطة بالنظام المايوي انطلاقاً من الأراضي الليبية في يوليو 1976م، وكانت معظم القوى البشرية تنتمي لحزب الأمة طلباً لثأرات الإمام(5).
ومن جهة أخرى صحيح أن الصادق المهدي مالبث أن تصالح مع النظام المايوي في 1977م إلا أنه لم يندمج أو ينخرط فيه وسرعان ما غادر النظام عقب تأييد المايويين لاتفاقية كامب ديفيد 1979م.
لكل هذه العوامل مجتمعة كانت صفوف الأنصار أكثر تماسكاً واندماجاً مع قياداتها التاريخية بالرغم من خروج بعض آل المهدي وخصوصاً السيد أحمد المهدي وولي الدين الهادي المهدي ابن الإمام الغائب إلا أن ذلك لم يؤثر في النتيجة النهائية وتصويت الناخبين للسيد الصادق المهدي.
أما دوافع الجبهة الإسلامية القومية للتحالف مع الحزب الاتحادي الديمقراطي فقد كانت تتمثل في الرغبة في البقاء في الساحة السياسية والاعتراف بها بعد أن ووجهت بهجوم واسع من قبل الأحزاب الأخرى باعتبارها شريكاً أساساً وفاعلاً للنظام المايوي بعد المصالحة في 1977م، وأنها خالفت الأحزاب الأخرى التي صالحت النظام المايوي بغرض تقويضه من الداخل لا من أجل بناء نفسها تنظيمياً وسياسياً ومالياً كما فعلت الجبهة الإسلامية، وأنهم شركاء رئيسيون في دفع النظام إلى تطبيق تجربة إسلامية أقل ما يقال عنها إنها مليئة بالمآخذ والنقصان ، وإن الإسلاميين هم من دفع الرئيس المايوي لإعدام محمود محمد طه وغيرها من مزاعم(6).
وقد اشتدت هذه الحملة الإعلامية على الجبهة الإسلامية قبيل الانتخابات البرلمانية حتى ظن البعض أنها ربما لن يسمح لها بالمشاركة فيها بالرغم من أن الجميع بصورة أو بأخرى قد شاركوا في الحقبة المايوية، لذلك كانت هذه العوامل من أهم دافع الجبهة الإسلامية في إمضاء مذكرة تفاهم مع الاتحاديين، بالإضافة إلى السعي لتغيير المعادلة الحزبية الديمقراطية التي عادة ما تصنع حكماً ائتلافياً بين الحزبين التقليديين اللذين سرعان ما يتشاكسان مع بعضها البعض لحين وثوب انقلاب عسكري جديد.
بيد أن مذكرة التفاهم هذه سرعان ما تجاوزها الطرفان وخصوصاً الحزب الاتحادي الديمقراطي عندما شكل حكومة ائتلافية مع نده التقليدي حزب الأمة متجاهلاً مذكرة التفاهم، وربما ينبع ذلك الفراق من تبيّن الاتحاديين أن زيادة توسع مقاعد الجبهة الإسلامية القومية في البرلمان جاءت على حساب الدوائر التقليدية للحزب الاتحادي الديمقراطي ،ولم تمس دوائر حزب الأمة بشيء. ومن هنا ثارت ثائرة الحزب على الإسلاميين بالرغم من أن فوز الجبهة الإسلامية القومية بخلاف دوائر الخريجين جاء أغلبه نتيجة لتصارع الاتحاديين أنفسهم داخل الدوائر الانتخابية الواحدة، وعدم تنازل الأطراف الاتحادية المتنافسة لبعضها البعض، ودخول جماهير الحزب في حيرة انتخابية، وعدم قدرة الحزب ومؤسساته التنظيمية على حسم الخلاف مما أفاد الإسلاميين الذين كانوا أكثر تنظيماً في حسم الأمور لصالحهم.
من عوامل إخفاق الديمقراطية الثالثة:
يعتبر خسران عقد التنمية في إفريقيا 1970- 1980م الذي استفادت منه كثير من الدول الأخرى في تطوير نفسها من أهم عوامل إخفاق الديمقراطية في السودان ،وذلك للنتائج المؤثرة على الحياة الاقتصادية السودانية وبالتالي الحياة السياسية، ومن أهم نتائج ذلك التدهور الاقتصادي الهجرات الواسعة للسودانيين إلى دول الخليج العربي والدول الغربية فيما بعد، وقد تركزّت هذه الهجرات بصورة خاصة بين الفئات المتعلمة والمؤهلة لتطوير التنمية والاقتصاد السوداني، حيث عملت السلطات المحلية ربما منذ قبيل الاستقلال على الاستثمار في مجال التعليم بتأهيل متعلمين في مختلف المجالات بمهنية وتخصصية عالية وأن لم تكن بصورة واسعة في بدايتها الأولى وإن كانت قد تزايدت وتيرتها فيما بعد.
هذه الطبقة المؤهلة كان من المفترض أن تقود التنمية الاقتصادية في السودان بتنشيط الإدارة والصناعة عبر الاحتكاك الخارجي وتقديم المشورة والدراسات المعمقة لإنجاح مختلف مشروعات التنمية إلا أنها سرعان ما غادرت البلاد مع التدهور الاقتصادي عقب تصاعد أسعار الوقود إثر حرب أكتوبر 1973م وتنامي الثروات الخليجية التي كانت في أشد الحاجة لخبرات فنية متخصصة في مختلف المجالات مما جذب أكثر من 90% من الكوادر المتعلمة إليها طوال النصف الثاني من السبعينيات والنصف الأول والثاني من الثمانينيات وقد ترتبت على ذلك نتائج خطيرة أبرزها التدهور الاقتصادي الذي ضرب مختلف المجالات بسبب غياب القيادات المؤهلة مما أدخل البلاد في صعوبات جمة بالإضافة إلى الجفاف والتصحر الذي عم كل الساحل الإفريقي في بدايات الثمانينيات من القرن العشرين.
كل تلك النتائج الكارثية أسهمت في سقوط النظام المايوي لترثها خليفته وهي حقبة الديمقراطية الثالثة 1986-1989م حيث ورثت قضايا معقدة وتدهوراً اقتصادياً كان لا يمكن حله في فترة وجيزة ما لم تتضافر الجهود الداخلية والخارجية ووضع خطط بعيدة المدى لوقف هذا التراجع الاقتصادي ، وهذا لم يكن متوافراً في حقبة الديمقراطية الثالثة مما عجل بنهايتها.
ومن الأسباب الأخرى التي أدت إلى نهاية الديمقراطية الثالثة استمرار الحرب الأهلية في جنوب السودان بالرغم من المناشدات والمساعي المحلية والإقليمية والدولية للحركة الشعبية لتحرير السودان بوقف إطلاق النار لحين التوصل إلى تفاهم خصوصاً بعد سقوط النظام المايوي الذي خرجت عليه الحركة ومعها جماهير الشعب السوداني بمختلف انتماءاتها وأصولها العرقية مما وفّر أرضية طيبة لسماع صوت الحركة الشعبية والتجاوب مع مطالبها إلا أنها أصمت أذنها عن كل هذه المطالب بمختلف الدعاوي مثل أن المجلس العسكري الانتقالي ما هو إلا وجه من وجوه مايو القديمة، أو أن الانتخابات أجريت قبل التنسيق وإشراك الحركة التي لم توقف حربها في أي وقت من الأوقات ضد الجيش السوداني والحكومة المركزية داخل نطاق الجنوب أو المقاطعات المحاذية شمالاً(7).
هذا الموقف المصادم من الحركة الشعبية أدى فعلياً إلى سقوط الحقبة الديمقراطية خصوصاً مع تراجع الجيش السوداني وسقوط حاميات كبرى في جنوب السودان في يد الحركة الشعبية؛ مما أفرز إحتقاناً واسعاً بين صفوفه واتهامات بالتقصير عن دعمه مادياً ،ومساندته معنوياً؛ ليؤدي آخر الأمر إلى الإطاحة بالديمقراطية.
ومن الأسباب الأخرى التي أدت إلى إخفاق الديمقراطية ظهور الأصابع الأجنبية في العديد من الأحزاب السودانية من خلال الدعم المادي المباشر أو تبني إيديولوجيتها الفكرية بالكامل والخضوع لتوجهاتها دون إبراز الخصوصية المحلية والاستقلالية الوطنية، ولعل مسألة التمويل تعتبر من أهم أسباب الإخفاق لأن القانون لم يحاسب الأحزاب السياسية على مصادر تمويلها ودعمها ؛ مما جعلها تسقط أسيرة لحاجتها المادية، وتبدو متمولة خارجياً بوضوح من خلال غياب جمع الاشتراكات من عضويتها ومشاريعها الاقتصادية الذاتية ،وبالرغم من ذلك تنفق بسعة على أعضائها النافذين ومنشوراتها وكتبها ودعاياتها الحزبية وحملات مرشحيها التي تكلف غالياً ؛ مما يفهم منه أن هذه الأحزاب تعتمد على مصدر خارجي في التمويل سواء أكان من العراق(8) أو ليبيا أو أحد دول الخليج العربي أو جمهورية مصر العربية أو الولايات المتحدة مما يتبادر إلى الذهن عن المقابل الموضوعي مقابل هذا الدعم، وهذا بدوره أدى إلى تقليل ثقة بعض الناس والجيش في هذه الأحزاب، وكانت النتيجة المتوقعة رفض الناس للتصويت مثلاً لصالح حزب البعث العربي الاشتراكي فرع العراق بالرغم من إنفاقه السخي على حملاته الانتخابية.
عدم معرفة مصادر التمويل هذه بالإضافة إلى عدم ممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية التي تنادي بالديمقراطية الغربية، حيث لا يوجد أي حزب سياسي غربي إلا ويعقد مؤتمراً لعضويته ربما سنوياً بهدف إعادة انتخاب قيادته التي وصلت إلى مناصبها هذه عبر الكفاءة والاجتهاد، وفي حالة إخفاق هذه القيادات في الوصول إلى ثقة الأعضاء تتنحى فوراً عن قيادة الحزب مهما كان كسبها وعطاؤها لقيادة جديدة، هذا التقليد أدى فعلياً إلى تقوية الأحزاب السياسية الغربية عبر تطعيمها المستمر بدماء جديدة مع رؤاها الخلاقة، وهذا الشيء مفقود في قيادات الأحزاب السودانية بما فيها التي تتمسك بالحداثة، ومناهضة الأحزاب التقليدية التي تعتمد على الأسرة الواحدة، والولاء للطائفة أو القبيلة، مثل: الحزب الشيوعي السوداني ،والجبهة الإسلامية القومية، حيث ظلت قيادتهما تتوليان زمام الأمور ربما لأكثر من أربعين عاماً مثلهما في ذلك قادة الأحزاب الطائفية التقليدية.
كذلك من أهم أسباب إخفاق الديمقراطية الثالثة والديمقراطيات التي سبقتها والتي ميزّت وجه الحياة الديمقراطية السودانية عن كل ما عداها من ديمقراطيات في العالم عجز أي حزب سياسي سوداني عن تشكيل حكومة منفرداً ، وتحمل مسؤولياتها ما لم يكن مؤتلفاً مع حزب آخر!! وهذا بدوره يؤثر في استقرار الحكم الديمقراطي الذي يعاني من الشد والجذب بين الطرفين، ويخضع للمساومات ورغبة أي طرف في عدم تمكين الطرف الآخر من تحقيق أي مكسب سياسي يتغلب به عليه في الانتخابات المقبلة التي لم تأت مطلقاً بسبب الانقلابات العسكرية قبيل اكتمال مدة الأربع سنوات المقررة لأي حكومة منتخبة.
ومن أسباب إخفاق الديمقراطية أيضاً عدم رغبة دول الجوار في اكتمال التجربة الديمقراطية، وذلك لخلو هذه الدول من التوجه الديمقراطي ،واعتمادها أسلوب حكم شمولياً ديكتاتورياً في كثير من الأحيان مما يثير مخاوفها من تطبيق تجربة ديمقراطية حقيقية مهما كانت عيوبها في جوارها الإقليمي المباشر حتى لا يؤدي هذا إلى مطالبة شعوبها بتطبيق نموذج ديمقراطي في بلدانها وهذا ما تخافه وتعمل على محاربته ووضع العراقيل في طريقه، هذه المخاوف موجودة في دول الجوار العربي سواءاً كانت مصر أو ليبيا أو السعودية، وفي دول الجوار الإقليمي الإفريقي مثل إثيوبيا وخصوصاً في حقبة مانقستو هايلا ماريام، أو الإمبراطور هيلا سلاسى وكذلك زائير وكينيا ويوغندا وغيرها من دول الجوار(9).
وقد لوحظ أن الإثيوبيين وبمجرد وصول المايويين إلى السلطة أسهموا في التوصل إلى اتفاقية سلام 1972م مع المتمردين الجنوبيين بالرغم من أن الاتفاقية أصلاً تم التوصل إلى خطوطها العريضة في حقبة الديمقراطية الثانية بمفاوضات المائدة المستديرة، ولم تكن إتفاقية أديس أبابا إلا إنزالاً تلك البنود التي ارتضاها الطرفان في الماضي إلى أرض الواقع السياسي.
وكذلك أسهمت دول الجوار الإفريقي في التوصل إلى اتفاقية السلام الشامل في نيروبي 2005م في حقبة الإنقاذ الشمولية.
كذلك من أسباب إخفاق الديمقراطية في السودان وخصوصاً الديمقراطية الثالثة عدم دعم الدول الديمقراطية الغربية للحكومة السودانية بالرغم من توجهاتها الديمقراطية، وانحياز بعض هذه الحكومات لصالح الحركة الشعبية لتحرير السودان ذات التوجه الماركسي القديم، وربما نبع هذا الموقف من أن الدعوة إلى الديمقراطية وحرية الرأي والانتماء لم تكن دعوة ذات توجه صادق من قبل هذه الدول، وأن الرغبة على المزايدة على الاتحاد السوفيتي هي من زادت في الإلحاح على الديمقراطية لافتقار غريمها التقليدي للحياة السياسية الديمقراطية، وأن المحرك الأساسي للدول الغربية ليس الدافع الأيدولوجي بقدر ما هو دافع المصلحة الاقتصادية البحتة بدليل إقامة علاقات وثيقة ومتينة مع إبرز الحكومات الشمولية في المنطقة وعلى رأسها حكومات الخليج العربي وحكومة الشاهـ محمد رضا بهلوي قبل الإطاحة به في 1979م وغيرها من نماذج(10).
وأخيراً تمكنت أسباب الإخفاق في غياب مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة بالسودان، والتي تعمل بمعزل عن التأثيرات الحكومية ،وتأثيرات الطائفة السياسية أو القبيلة أوالنقابات، ولا تتوخى إلا الصالح العام حتى لو أدى ذلك إلى خسران بعض مصالحها، وربما يرجع أسباب الغياب إلى افتقار المجتمع المدني إلى الأمثلة والتجربة التاريخية ،والقيادة الملهمة التي يتفق عليها الجميع وغير المنحازة لأي طرف من الأطراف ،واعتماد المجتمع على مؤسساته التقليدية المنحازة في صميم توجهاتها الفكرية والعقلية.
دوافع اتفاقية السلام السودانية:
جاءت اتفاقية السلام السودانية في 16 نوفمبر 1988م بين الحزب الاتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية في وقت بدا فيه أن غالبية الشارع السوداني وأحزابه من أصحاب الوزن الجماهيري الكبير، مثل :حزب الأمة القومي، والحزب الاتحادي الديمقراطي، والجبهة الإسلامية القومية، قد توحدوا لأول مرة وكونوا حكومة وحدة وطنية في منتصف العام 1988م. وميزة حكومة الوحدة الوطنية هذه أنها وحدّت الشارع السياسي لأول مرة من خلال مشاركة الجبهة الإسلامية القومية بعد أن شكلت في الماضي معارضة قوية للحزبين التقليديين نتج عنها تصحيح كثير من أخطاء الحزبين وهذا هو دور المعارضة الأساسي إلا أنه عطّل بعض المسير الديمقراطي من خلال الانفلات الإعلامي الذي كانت تقوم به أحياناً بعض الصحف الموالية للجبهة الإسلامية القومية، وقد قيل فيما بعد إن من أسباب فشل الديمقراطية الثالثة (وهي عديدة) الحرية الواسعة للإعلام التي في بعض الأحيان قوضت استقرار الدولة وهيبتها من خلال السخرية المريرة من قياداتها العليا(11).
وكان أهم سؤال يدور داخل حكومة الوحدة الوطنية يومئذٍ كيفية مواجهة الانتخابات المزمع قيامها في 1990م، أي بعد عام ونصف بعد قيام حكومة الوحدة الوطنية، وكان هذا السؤال يدور أكثر في أذهان الاتحاديين لعدة أسباب أهمها شعورهم بضرورة تجديد خطابهم السياسي ، وتوحيد جماعاتهم المنشقة، والدفاع عن مواقفهم التاريخية فيما يثير اهتمام الأجيال الجديدة ويعبر عن تطلعاتها، إذ لا يكفي التمترس عند موقف إعلان الاستقلال من البرلمان في العام 1956م أي قبل أكثر من ثلاثين عاماً للدخول به كشعار انتخابي جديد خصوصاً مع بروز أجيال حديثة، ومنافسة الجبهة الإسلامية في دوائر الاتحاديين التقليدية.
وفيما يبدو أن الاتحاديين اختاروا الحرب في جنوب السودان كقضية أساسية في الانتخابات المقبلة، وأن بدايات طرقها المؤثر لم يكن عن طريق السلام ولكن الحرب ،وذلك بعد الغضبة المضرية التي أصابت الاتحاديين والقوى السياسية الأخرى ممثلة في قيادتهم التقليدية والروحية السيد محمد عثمان المرغني بعد سقوط مدينة الكرمك الإستراتيجية بأيدي الحركة الشعبية لتحرير السودان عندما سافر إلى العراق لطلب سلاح للقوات المسلحة حيث استطاع هذا السلاح دحر الحركة الشعبية ، وإظهار موقف القيادة الاتحادية بالصلب والمتشدد ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان.
بيد أن هذا الموقف سرعان ما تحول نحو السلام مع بدايات إرهاصات بدء المباحثات مع الحركة الشعبية التي تمخض عنها ميلاد التفاهم(12).
هذا الأمر أثار شكوك الجبهة الإسلامية القومية وأعلنت صراحة أن الأجهزة الدولية تقف وراء تحركات الحزب الاتحادي الديمقراطي الأخيرة والهدف منها تمكين الحزب من دحر الإسلاميين في الانتخابات المقبلة والدليل على ذلك أن السيد محمد عثمان المرغني انتهج نهجاً مقارباً لنهج السادات في تعامله مع إسرائيل حيث خاض أولاً حرباً ضدها في أكتوبر 1973م ثم مالبث أن نحى السلاح جانباً واتجه نحو المفاوضات برعاية أمريكية لحين الوصول إلى اتفاقية كامب ديفيد في العام 1979م، بالإضافة إلى أن إطلاق النار على منزل السيد محمد عثمان الميرغني عشية سفره لإثيوبيا لتوقيع التفاهم وهو أسلوب يشبه أساليب المخابرات الدولية حين تريد تلميع أحد الشخصيات وإكسابها هالة بطولية، بالإضافة إلى أن الطرفين يحتفظان بأرسخ علاقات منذ ما قبل سنوات الاستقلال الباكرة(13) .
كذلك شككت صحف الجبهة الإسلامية القومية في دوافع الحركة الشعبية لتحرير السودان بإبرم مشروع اتفاقية سلام مع الاتحاديين، وفيما يبدو أن من أهم دوافع الحركة الشعبية لتحرير السودان هو تخوفها من اتفاق حكومة الوحدة الوطنية(14) التي تضم أكبر قطاع جماهيري في السودان بحسب الانتخابات الديمقراطية الأخيرة وتعبئة الشارع والجيش السوداني في مواجهة شاملة ضدها وهذا الأمر ربما يلغي أى تعاطف وسند من قبل الدول العربية والإسلامية وسكوت الدول الغربية والإفريقية الأخرى لأن الحكومة مهما قيل عنها فإنها حكومة ديمقراطية جاءت عبر انتخابات حرة ولا تثريب عليها في اتخاذ كافة الإجراءات ضد الجهات التي تعتقد أنها خارجة على القانون.
أضف إلى ذلك ربما شعرت الحركة الشعبية باهتزاز الأرض تحت أرجلها في أواخر العام 1988م بعد التطورات الإقليمية والدولية التي تجري من حولها، فعلى المستوى الدولي على سبيل المثال جاءت إصلاحات السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي ميخائيل غورباتشوف لتقلب الدنيا على الشيوعيين، وعلى أثر دعوته هذه جاء سقوط الاتحاد السوفيتي بعد سقوط جدار برلين، وهذا الأمر أثر بشدة على الحركة الشعبية التي اعتمدت على اليسار منذ نشأتها الأولى سواء كان هذا الأمر صدقاً أم تكتيكاً سياسياً بحكم الضرورة لمعاونة الرئيس منقستو هايلاماريام للحركة الوليدة، أما على المستوى الإقليمي فقد بدأ واضحاً أن الداعم الأساسي للحركة الشعبية ساقط لا محالة مع الانتصارات المدوية للجبهة الشعبية لتحرير اريتريا ، وتقدمها حتى داخل الأراضي الإثيوبية نفسها ، والمجاعات الكبرى التي ضربت الاثيوبيين، وجعلت من الصعب على النظام الإثيوبي دعم أطراف خارجية.
من هنا فيما يبدو فكرت الحركة الشعبية واتجهت نحو تغيير إستراتيجيتها بالاعتماد على الغرب، ودعم الكنيسة بالإضافة إلى محاولة التفاهم مع الأحزاب الشمالية التقليدية ومن ورائها الدول العربية وخصوصاً جمهورية مصر العربية لأن من شأن ذلك نجاحها في قيام مشروعها (السودان الجديد) عبر التحالف مع أحد التيارات في الشمال في محاولة لإضفاء وجه جديد للحركة بعد أن نجحت صحف الجبهة الإسلامية وبعض الجهات المحافظة فى وصمة بالوجه العنصري الذي يهدف إلى تغيير وجه السودان التقليدي، ومن هنا كانت الضرورة لازمة لإنجاح تفاهم الميرغني قرنق.
نصوص الاتفاقية:
نصت الاتفاقية على عدة بنود أبرزها الوقف الشامل لإطلاق النار، ووقف الأعمال العدائية ، وإلغاء قوانين الطوارىء ، وإلغاء اتفاقيات الدفاع المشترك مع الدول العربية، وتجميد قوانين سبتمبر (الشريعة الإسلامية) لحين انعقاد المؤتمر الدستوري الذي يجب أن يعقد بعد أقل من شهرين من إجازة الاتفاقية في الجمعية التأسيسية(15).
اعترضت الجبهة الإسلامية على الاتفاقية لعدة أسباب من أهمها رفض إلغاء قوانين الطوارىء؛ والبلاد تواجه بمخاطر جسيمة تهدد وجودها الفعلي بالإضافة إلى رفض إلغاء اتفاقيات الدفاع المشترك بدعوى حاجة الجيش لهذه الاتفاقيات كي لا يختل ميزان القوى بين الطرفين وخصوصاً أن الحركة الشعبية تلقى دعماً واسعاً من قبل الدول الإفريقية المجاورة بالإضافة إلى إسرائيل وكوبا وغيرها، والاعتراض على تجميد قوانين الشريعة الإسلامية لأن القوانين السماوية لا يملك أحد تجميدها مهما يكن، وأن من يملك القدرة على تجميدها يملك القدرة على إلغائها آخر المطاف مع انعقاد المؤتمر الدستوري لذلك يجب أن لا يفتح مثل هذا الباب أبداً (16).
وكان رد الاتحاديين يتمثل في القول أن من المعروف أن أي اتفاقية عقدت بين طرفين متعادلين لا يمكن أن ينجم عنها إلا تنازلات متبادلة طالما لم ينتصر طرف على آخر ويملي عليه إرادته بالكامل، وأما ما يخص بالطوارىء فهذا أمر لابد منه لطمأنة الحركة الشعبية والتمهيد لها للانخراط في الحياة السياسية السودانية دون وجود قوانين استثنائية يمكن أن تطال منتسبيها، أما فيما يخص إلغاء اتفاقيات الدفاع المشترك فهذه اتفاقيات لا طائل من ورائها بدليل تمدد الحركة الشعبية شمالاً دون أن يحرك ذلك ساكنا من قبل هذه الدول خصوصاً جمهورية مصر العربية التي حرصت على الدوام على عدم التورط عسكرياً في جنوب السودان بهدف الاحتفاظ بعلاقة خالية من المرارات مع الجنوب السوداني للمستقبل، مع الاحتفاظ بحق التدخل في حالة وحيدة هي تهديد حصتها من مياه النيل الأبيض من قبل الجنوبيين أو من ينوب عنهم، والدليل على ذلك ذهاب السيد محمد عثمان الميرغني إلى العراق لطلب السلاح بدلاً من أن يتجه نحو جمهورية مصر الأقرب له تاريخياً ووجدانياً (17).
أما فيما يختص بقوانين سبتمبر فهي على المستوى العملي مجمدة منذ ما قبل سقوط نظام الرئيس جعفر نميري حينما انقلب على حلفائه الإسلاميين وزج بهم في السجون في مارس 1985م ومنذ ذلك التاريخ ظلت هذه القوانين في حالة ثبات شتوي، صحيح أنه لم تلغ رسمياً ولكن لم يعد يعمل بها نتيجة للشوائب والتطبيق المتعجل لها، وأن إعادة إحيائها بوجه جديد في المؤتمر الدستوري الذي سوف يعقد بعد شهرين فقط كفيل بأن يمدّها بحياة جديدة ويخلصها من التعدي الذي أصابها في أواخر الحقبة المايوية حين بدأ العمل بها بغرض الكسب السياسي ثم الانقلاب عليها مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب في مارس 1985م.
أما موقف حزب الأمة القومي فقد ظل باهتاً في محاولة لإمساك العصا من النصف، وذلك ربما لاستخلاص أكبر مكسب منها ، وعدم السماح لغريمه التقليدي بتحقيق مكسب تاريخي على حسابه، ومن ثم الظفر في الانتخابات المزمع قيامها؛ لذلك وافق حزب الأمة على نصوص الاتفاقية ولكن بعد توضيحات لابد منها، ومن ثم دخلت الحياة السياسية السودانية في مجادلات طويلة بخصوص ماهية هذه التوضيحات، ولعل الدافع الأساسي الذي حد من اندفاع حزب الأمة في الموافقة على الاتفاقية موقف بعض المنتسبين للحركة الشعبية بعد استهداف طائرة السيد وزير الدفاع الفريق عبد الماجد حامد خليل ومعه كبار رجال الجيش السوداني بعد يوم واحد من توقيع التفاهم الثنائي، وهذا الأمر أغضب حزب الأمة لأن مقتل وزير الدفاع كان سيحشد الجيش بأكمله ضد الاتفاق بالإضافة إلى أن السيد وزير الدفاع من المحسوبين على حزب الأمة ،وأن منصبه الحالى طالما شغله السيد الصادق المهدي بنفسه في دلالة على أهميته ورغبة الحزب في الهيمنة عليه، بالإضافة إلى الهجوم الضاري من قبل إعلام الجبهة الإسلامية على الاتفاقية والمسيرات المناوئة، ووجود تيار عريض داخل الحزب معارض لهذه الاتفاقية بالإضافة إلى عدم رضى قبائل البقارة الحليف الأساسي لحزب الأمة بتقديم تنازلات مؤثرة لصالح الحركة الشعبية التي طالما دخلوا معها في صراع عنيف عبر التخوم المشتركة.
كل هذه المواقف ورغبة بعض قيادة الحزب العليا في إبراز دور الحزب في تحقيق السلام أسقط التفاهم داخل البرلمان السوداني عند عرض الاتفاقية عليه، وبذلك أصبحت اتفاقية السلام السودانية (الميرغني قرنق) مرفوضة من قبل التيار الغالب داخل الجمعية التأسيسية؛ وعليه انسحب الحزب الاتحادي الديمقراطي من الحكومة، وتم تشكيل حكومة جديدة بقيادة السيد الصادق المهدي مع الجبهة الإسلامية القومية، ولعل هذه هي المرة الأولى في تاريخ الانتخابات والحكومات الديمقراطية التى لا يشترك فيها الحزبان التقليديان في تكوين حكومة مؤتلفة إذ استعيض عن الحزب الاتحادي الديمقراطي الجبهة الإسلامية القومية وبذلك تحققت أحد أبرز مخاوف الاتحاديين، وجعلهم يندفعون بلا هوادة في الطريق نحو التحالف مع اليسار والحركة الشعبية لتحرير السودان وسوف يستمر ذلك التحالف والتنسيق لأكثر من عشرين سنة قادمة أو ما يزيد .
مذكرة الجيش السوداني:
في مارس 1989م أرسل كبار قادة القوات المسلحة مذكرة علنية للسيد الصادق المهدي رئيس الوزراء تخيره ما بين القبول باتفاقية السلام السودانية والبدء في دخول مفاوضات جادة مع الحركة الشعبية ، أو دعم الجيش السوداني بالسلاح والعتاد والأغذية، لمحاربة الحركة الشعبية إذ من غير المعقول المحاربة دون معينات أو سلاح متطور وتدريب، والأسوء من ذلك غذاء !!والسماح بسقوط الحاميات العسكرية دون أن يحرك ذلك ساكناً عند القيادات الحزبية العليا والحكومة الائتلافية.
هذه المذكرة أثارت رفضاً واسعاً من قبل الجبهة الإسلامية القومية بدعوى عدم تدخل الجيش بالسياسية، وإلزام الحكومة المنتخبة بقبول تفاهم تم إسقاطه من قبل الأغلبية البرلمانية لأن ذلك ليس من شأن الجيش (18)، أما فيما يختص بالعتاد فإن الحكومة تبذل أقصى ما تملك لدعم الجيش لدرجة إطلاق حملة تبرعات علنية من قبل المواطنين لدعم الجيش ، وأن الحرمان تعاني منه البلاد ككل وليس الجيش وحده ؛ بسبب الموقف من اتفاقية السلام السودانية والإصرار على إنزالها لأرض الواقع بالرغم من رفضها في الجمعية التأسيسية، كما أن مطالب الجيش للجهات السياسية العليا يجب أن تكون سرية وبعيدة عن الرصد كي لا يؤثر ذلك على روح الجنود المعنوية، ويجعلهم يتخلون عن واجباتهم الأساسية طالما أن قياداتهم العليا تبين ذلك. وقد طلبت الجبهة الإسلامية الشريك الأصغر من السيد رئيس الوزراء فصل كل من وقعّ على هذه المذكرة وحسم التفلت وعدم الانضباط البادي داخل الجيش، ولو أدى ذلك إلى أصعب التحديات لأن إعلان الحرب والسلام فقط من اختصاص القيادة العليا والشرعية في البلاد(19).
هذا الموقف المبدئي للجبهة الإسلامية القومية فيما يبدو كان يستهدف الانضباط والأداء العسكري ،ولم يكن يستهدف أفراداً بعينهم بدليل الاستعانة بكثير من هؤلاء الضباط الذين وقعوا على المذكرة بعد إنفرادها بحكم البلاد، ولعل أحد أبرز الموقعين على الاتفاقية الفريق مهدي بابو نمر رئيس هيئة الأركان يومئذٍ كان من أبرز الوجوه المشاركة في حكومة المؤتمر الوطني بعد قيام حكومة 30 يونيو 1989م !!.
أما موقف حزب الأمة القومي وهو الموقف الأساسي بحكم الأغلبية البرلمانية فقد وافق على المذكرة ودعا إلى إنشاء حكومة وحدة وطنية موسعة والبدء بإنزال اتفاقية السلام السودانية إلى أرض الواقع . وكانت النتيجة انسحاب الجبهة الإسلامية القومية من الحكومة في 26 مارس 1989م وإنشاء حكومة ائتلافية جديدة ضمت بالإضافة إلى حزب الأمة والاتحاد الديمقراطي الحزب القومي السوداني والمستقلين والحزب الشيوعي السوداني واليساريين وغيرهم.
دوافع موافقة حزب الأمة القومي على مذكرة الجيش ربما نبعت من عدة أسباب لعل من أهمها موافقة أصدقائها أو حلفائها داخل الجيش على هذه المذكرة، وعلى رأسهم الفريق عبد الماجد حامد خليل بالرغم من استهدافه بعد يوم واحد من توقيع التفاهم في سماء واو بصاروخ سام7، ومعقولية المطالب بالنسبة لحزب الأمة وخصوصاً وأنها جاءت من قيادات عليا داخل الجيش كانت تستطيع أن تغّير الأوضاع السياسية كلها في أيام قلائل لو أرادت أن تستهدف الحكم ، وبالتالي دافعها إلى ذلك ربما يكون الرغبة في وقف التدهور الواسع في أحوال المحارب السوداني بعد أن عجزت القيادة السياسية مده حتى بالغذاء خشية أن لا يتطور الموقف إلى موقف آخر أكثر خطورة مثل حدوث تمرد واسع أو انهياره كلياً.
أما ثاني الدوافع لقبول مذكرة السلام الشامل ربما تورط بعض القبائل أو العناصر المحسوبة على حزب الأمة القومي في أحداث أليمة بمنطقة الضعين وكتابة بعض الأكاديميين السودانيين بأنفسهم حول هذه الأحداث ثم توسعها وأخذها رواجاً واسعاً حول العالم مما هدد باتخاذ إجراءات أكثر حدة ضد الحزب لذلك سعى الحزب إلى إبراز وجه جديد داعم للسلام وعامل من أجله لعل ذلك يخفف بعض الشيء من الضرر الذي أصابه من جراء تصرفات بعض مريديه.
أما الدافع الأخير فهو برهان الحزب أنه شريك مهم في عملية السلام وأن دوره لا يمكن أن يكون ثانوياً في أي توجه نحو السلام وانفراد حزب وحيد بالمجد كله.
ثم بعد ذلك استمرت المشاورات والإجراءات القانونية لإنزال الاتفاقية أرض الواقع طوال ثلاثة أشهر حاسمة حتى تم التغبير في 30 يونيو 1989م في الليلة التي كان من المزمع الموافقة عليها رسمياً داخل البرلمان على تفاهم السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق دي مابيور .
نتائج الدراســــة :
1- المراهنة على أصوات الجماهير ورغباتهم بدلا من المراهنة على مجموعات حزبية داخل القوات النظامية يؤدي إلي الإستقرار السياسي.
2- تدخل القوات النظامية لتأييد حزب سياسي دون الآخرين يؤدي إلي وأد التجربة الديمقراطية آخر المطاف.
3- تكوين جبهة وطنية عريضة للتفاوض مع حاملي السلاح ضد الدولة بدلا من مفاوضتها عبر أحزاب سياسية منفردة ضرورة وطنية.
4- ضغوط تحقيق الإنجازات السياسية قبل الإنتخابات يمكن أن تؤدي إلى تقديم تنازلات غير مبررة لحاملي السلاح ضد الدولة.
5- إعتماد بعض الأحزاب السياسية على المساعدات الاقتصادية الخارجية وعدم رصد ذلك في ميزانيتها السنوية يمكن أن يؤدي إلي تهديد حقيقي للأمن القومي على المستوي المتوسط والبعيد.
6- مجال العسكريين للعمل في الجوانب الأمنية والعسكرية ومن الأفضل أن يتركوا أمر التفاوض والسلام للحكومة المدنية المنتخبة .
7- تعتقد بعض الأحزاب السياسية العقائدية مثل الجبهة الإسلامية القومية أن بعض الإتفاقيات والتفاهمات موجهة ضدها في المقام الأول فتعمل على محاربتها بقوة ، وكان يمكن لها أن تعدّلها لصالح البلاد.
8- تفتقر الديمقراطية في إفريقيا على وجه العموم إلى إحترام الثوابت الوطنية وعدم تحديدها مما يؤدي إلى الإطاحة بها آخر المطاف.
9- عدم وجود دستور متفق عليه من جميع الأطراف أفشل التجارب الديمقراطية في السودان.
10-لا تستقيم التجربة الديمقراطية وتتواصل نجاحاتها في ظل الإضطراب السياسي والحرب الأهلية وعدم إتفاق النخب السياسية على أسس إدارة الدولة.
المصادر:
1- د. حيدر إبراهيم علي ، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في السودان ، إصدار مركز إبن خلدون القاهرة 1996م ، ص 41.
2- د . منصور خالد، النخبة السودانية وإدمان الفشل ، الجزء الثاني ، دار الأمين للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1993، ص 116.
3- طارق أحمد عثمان ، الطريقة الختمية في السودان ، مطبعة دار جامعة إفريقيا العالمية للنشر، الخرطوم1995م .
4- المصدر السابق ، ص 30.
5- فؤاد مطر ، المصالحة الوطنية الأولي في السودان إنتكسوها أم إنتكست ، المؤسسة العربية للدراسة والنشر ، الأردن ، 1999، ص 63.
6- منصور خالد ، النخبة السودانية وإدمان الفشل ، الجزء الأول ، دار الأمين للنشر والتوزيع ، القاهرة 1993 ، ص 640.
7- عمار الشيخ محمد أحمد ، معالجة الصحافة السودانية لقضية الحرب في جنوب السودان في الفترة من 1983م – 1989م، رسالة دكتورة غير منشورة ، مركز البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة إفريقيا العالمية ، الخرطوم ص 82 .
8- فتحي الضو محمد، السودان سقوط الأقنعة ، دار سوتير ، القاهرة ، 2006م ، ص 649.
9- عبدالوهاب الافندي ، الثورة والإصلاح السياسي في السودان ، الناشر منتدي إبن رشد، لندن 1995م ، ص 10.
10- محمد حسنين هيكل ، مدافع آية الله، قصة إيران والثورة ، ط ثالثة ، دار الشروق ، بيروت 1983م ، ص 105.
11- د.فضل الله علي فضل الله ، الديمقراطية في السودان أزمة حكام .. أم فلسفة حكم ، مطابع المختار الإسلامي ، الخرطوم ، دون تاريخ ، ص 156.
12- عمار الشيخ محمد أحمد ، مصدر سابق، ص 350.
13- د. بهاء الدين مكاوي محمد قيلي ، تسوية النزاعات في السودان – نيفاشا نموذجا ، إصدار مركز الراصد للدراسات ، الخرطوم ، 2006م، ص 233.
14- حيدر إبراهيم علي ، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في السودان ، إمصدر سابق ، ص 105.
15- محمد سعيد محمد الحسن ، السلام الممكن والمستحيل، أرقو للطباعة ، الخرطوم، 1989م ، ص 47.
16- حسن علي الساعوري ، السودان والبحث عن السلام ، المطبعة النموذجية، بدون مكان نشر ، 1990م ، ص 37.
17- عمار الشيخ محمد أحمد ، مصدر سابق ، ص 433.
18- المعتصم أحمد علي الأمين ، دور إتفاقيات السلام في تحقيق الإستقرار بالسودان 1988م- 1998م ، رسالة ماجستير غير منشورة ، مركز البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة إفريقيا العالمية ، الخرطوم 1999، ص 90.
19- المصدر السابق ، نفس الصفحة .