التعبئة العامة دعوة لتوسيع رقعة الحرب

 


 

 

في أول أيام عيد الأضحي المبارك دعا الفريق عبد الفتاح البرهان في رسالته المتلفزة، الشباب السوداني القادر علي حمل السلاح أن يهبوا للدفاع عن الوطن بنصرة القوات المسلحة، وذلك بالتقدم لأقرب مركز لها لتسليمهم السلاح ولتدريبهم عليه. وكانت ردة الفعل الاولي لعدد كبير من المعلقين هي كيف يجرؤ البرهان علي مثل هذه الدعوة وهو الذي سلط القوات النظامية علي شباب الثورة لضربهم وقتلهم وهم يتظاهرون سلميا وصدورهم عارية. كيف يطلب من نفس الثوار الآن أن يهبوا لنجدته ودعمه ونصرته علي الدعم السريع – الوحش الذي تعهده هو نفسه بالرعاية وسمح له بالتمدد، والكل محتار كيف تم ذلك (هل بالاتفاق أم بالرشاوي أم بالطمع في تحقيق نبوءة الوالد في حكم السودان؟). كيف يجرؤ علي ذلك بعد أن استحل دماء نفس الشباب علي مدي أعوام، ومنذ فض اعتصام القيادة في يونيو 2019 بالعنف الشديد والقتل/او الإغتيال بواسطة قناصة مدربين علي ذلك . خلاصة ردة الفعل الأولي تلك هي تحذير شباب الثورة من عدم الاستجابة لتلك الدعوة.
أود هنا أن أنبه الي أن هنالك زاوية هامة أخري للنظر الي هذه الدعوة الخالية من الداوفع الوطنية. في تقديري هنالك علي الاقل ثلاثة مجموعات أخري من المواطنين، من غير شباب الثورة، قد يرغبون في انتهاز هذه الفرصة للتسليح ويتقدمون لمراكز الجيش لاستلام السلاح ، لأسباب أخري ليس من بينها نصرة جيش البرهان علي الدعم السريع.
أول هذه المجموعات المواطنون الغاضبون ،عن حق، مما ارتكبه أفراد الدعم السريع من جرائم بشعة من احتلال منازل المواطنين في الخرطوم وسرقة ما وجد فيها من ممتلكات (نقد، ذهب، عربات الخ) اضافة الي الترويع والقتل والاغتصاب، كما تواتر في عدد من التقارير وافادات المواطنين، وكأنما تحولت مهمة الدعم السريع من حرب ضد "الكيزان" وجيش "الكيزان" الي حرب مع المواطنين. رغبة هؤلاء في تملك السلاح، هورغبة مشروعة لحماية انفسهم وممتلكاتهم (بعد فشل الجيش والشرطة في ذلك) -رغم من ما في ذلك من خطورة عليهم كمدنيين.
ثاني هذه المجموعات هم المتفلتون وأصحاب سوابق النهب وتسور المنازل للسرقة بالسلاح الابيض. عند هذه المجموعة إقتناء سلاح مرخص هو تحقق أمنية كانت مستحيلة لأن شروط الترخيص لم تكن لتنطبق عليهم، ومنها الدخل السنوي وخلو صحيفة طالب السلاح من السوابق الاجرامية.وتحت غطاء دعوة "هبوا لنداء الوطن" فسوف تتحول تلك الاسلحة الفتاكة لاستعمالها في السرقات المنزلية والنهب المسلح والاستيلاء علي سيارات المواطنين نهارا جهارا وجرائم أخري لم تكن تخطر علي بال أحد.
المجموعة الثالثة وهي الاهم والاكثر خطورة علي السلام الاجتماعي ، هي مجموعة شباب القبائل في كل أو أغلب بقاع السودان. والسبب في ذلك هو صيغة الدعوة التي لم تقتصر علي القادرين علي حمل السلاح في الخرطوم فقط وانما كانت شاملة لكل السودان. وحيث أننا نشهد الان تصاعد وتيرة خطاب الكراهية الداعي الي حسم الخلافات والإختلاف في الرؤي السياسية عن طريق العنف، وبعضه الآخر الداعي الي كراهية الآخر ومحاولة استئصاله لاختلاف انتمائه الجهوي عن سكان المنطقة. وعليه فالمتوقع -خاصة في الارياف- أن يتسلح شباب القبائل إما بقصد الهجوم او بقصد التحوط. والنتاج الطبيعي لذلك أن تتحول الخلافات الصغيرة الي صراع، وسيشتعل كل الوطن، وتكون مكوناته في حالة حرب مع بعضها البعض، مما يعني الحرب الاهلية الشاملة في أسوأ اشكالها. وعندها ايضا سيصبح النهب المسلح (بالذخيرة الحية) ظاهرة عادية في أغلب الطرق خاصة القومية منها، ويا ويل التجارة الداخلية وأهلها، وتكلفة النقل وتأمينه. نتيجة ذلك سوف ترتفع اسعار السلع في كل السودان، بسبب عدم مقدرة قيام الجهات المركزية والاقليمية بمهام حراسة الطرق لاتساع رقعة السودان، وقلة الموارد اللازمة لذلك بعد أن تضع الحرب اوزارها بإذن الله. ومن بعد هل ستظهر جهات اوشركات خاصة أمنية تقوم بذلك انابة عن الحكومة؟ يعني "فاغنرات" و"بلاك ووترز" محلية؟ علم ذلك عند ربي ولكنه غير مستبعد. أم هل ستقوم القبائل بتكوين مليشيات لحراسة الطرق التي تمر ب"ديارها" ؟ أما ما يتبع ذلك من احتمالات تدخل أجنبي بحجة إيقاف الحرب في السوان حتي لا تجر الي عدم استقرار في منطقة القرن الافريقي واقليم البحيرات فهو تطور شبه مؤكد في حالة الانزلاق نحو الفوضي ، وهو ما قد يؤدي اليه مثل هذا القرار الأرعن.
في كل الدنيا، خاصة في الدول النامية والخارجة من النزاعات ، لا يستتب الأمن الا بنزع السلاح، ووفق التجارب فإن ذلك سوف يأخذ عددا من السنين لأن النزع نفسه له شروط منها توفر الأمن وشرط التأكد من عدم اعتداء الاخر الذي لم يسلم سلاحه، وبالتالي شرط تسليم السلاح بالتزامن مع للقبائل المتجاورة. هذا اذا لم نذكر حوافز جمع السلاح وصعوبة توفرها وغير ذلك من تعقيدات جمع السلاح المعلومة. إن ما يعنيه قرار التعبئة العامة بالضبط هو توسيع رقعة الحرب الحالية في الخرطوم ودارفور جغرافيا وتطويل امدها زمنيا، وهو للأسف يطابق ما أفصح عدد من قيادات اسلاميي الانقاذ في أقوالهم واشهرها "حتي لو يحرق السودان كلو" التي جاءت علي لسان اللواء (م) فتح الرحمن قائد البحرية السابق واللواء بكراوي نائب قائد المدرعات السابق.
إن من أهم مقومات السلام المجتمعي والاستقرار في أي دولة هو تجريم وتحريم حمل السلاح الناري الا لمن هم مرخص لهم قانونا بحمله من افراد القوات النظامية أو ممن تنطيق عليهم بعض الشروط من غيرهم ، وقد كان ذلك حال السودان حتي الأمس القريب مما جعله من أكثر الدول أمانا في منطقة القرن الافريقي. وفي دارفور التي تغلي الان ويقال أن بها حوالي مليوني قطعة سلاح، كان يمكن للمرء أن يقطعها علي ظهر اي دابة طولا و عرضا دون ان يحمل معه الا عصا أو سلاح ابيض يقيه شر الحيوانات المفترسة. كان السلاح الناري يشار اليه ب "الممنوع"، وكان نادرا الي حد كبير ويتوفر فقط عن طريق تهريبه بدرب الاربعين من مصر علي ظهور الجمال، أو بشرائه من بعض المغامرين الذين يقومون بسرقته من الجيش.
حدث الانفلات في توفر السلاح الناري، في دارفور تحديدا ، بعد مغامرة العقيد القذافي في محاولته الاستيلاء علي الجزء الشمالي من تشاد وفشل تلك الحملة. وعندما تشتت المحاربون الذين استقطبهم لتلك العملية وفروا بسلاحهم، توفر السلاح وباسعار زهيده نسبيا للراغبين فيه من مواطني شمال وغرب دارفور من كل القبائل. ولكن ظهور الفيلق الاسلامي بقيادة ابن عمر (تشادي الجنسية) واستقطابه لبعض قبائل التماس العربية والمتجولة بين تشاد والسودان، من المرجح أن يكون قد وفر لتلك القبائل العربية سلاحا أكثر من غيرهم، وقد تزامن ذلك مع ظهور "التجمع العربي" والذي اتضح مؤخرا أنه لم يكن من بنات أفكار عرب دارفوروإنما كان مرتبطا بذلك التحرك والله أعلم. و قد كان ظهور التجمع العربي في اوائل أو منتصف الثمانينات ، فيما أعتقد أيام حكومة الصادق المهدي في الديمقراطية الثالثة. لكن من أزكي نيران الحرب بين المكونات القبلية في دارفور في منتصف تسعينات القرن الماضي هي حكومة الانقاذ . قامت الحكومة بتعيين ود الفضل كوالي لولاية غرب دارفور وأرسلت اللواء الدابي في مهمة خاصة الي الجنينة وقاما ، في إطار سياسة النظام الرامية الي خلخلة النظام القبلي وتكسيره الي وحدات صغيرة وبالتالي تتبيعه للحزب، قاما (انظر ايضا مقال عبدالله علي ابراهيم في سودانايل) بمحاولة تقسيم سلطنة المساليت المتوارث حكمها ابا عن جد لمئات السنين، وذلك بتقسيمها الي امارات، ضد رغبة سلطان المساليت (بالطبع) و ضد رغبة العرب انفسهم ، (الذين أكدوا أنهم يتبعون للسطان وليس لهم مشكلة في ذلك ، وقد سمعت ذلك شخصيا من عدد من قياداتهم عام2004)، بقصد أن تكون السلطنة بالانتخاب وليس بالتوارث، وهو قرار فوقي لا يناسب تطور المجتمع هناك ولم يحن أوانه بعد . وقتها تم منح القبائل العربية عدد من الامارات يمكنها أن تسقط السلطان وتزيحه من سلطنة آبائه واجداده، مما أدي لاحقا الي واحدة من أعنف حروب المساليت والقبائل العربية في 1995. كما أسهمت الانقاذ في حريق دارفور بعد مفاصلة الاسلاميين 1999 ، حين انقسمت الي مؤتمرين "الشعبي " الذي قام بتكوين "حركة العدل والمساواة" -فيما تواترمن أخبار-من أبناء دارفور أساسا ، و"الوطني" أي الحكومة ، التي قامت بتنفيذ توجيهاته بتكوين حرس الحدود (بواسطة عوض ابن عوف مدير الاستخبارات العسكرية حينها) من "منسوبي القبائل العربية المجاورة " لمجابهة الحركات المسلحة في دارفور بما فيها حركة العدل والمساواة . وفي تطور لاحق تم تكوين الدعم السريع، من نفس المكونات القبلية، ليحل محل حرس الحدود -بعد تمرد موسي هلال وتكوينه لتنظيم (الصحوة) المعارض- لدحر الحركات المسلحة، وقد نشطت وحدة أمن القبائل في جهاز الامن باشعال عدد من الحروب بين قبائل دارفور خاصة في جنوبها الذي تكثر فيه القبائل العربية.
إن دعوة البرهان للتعبئة العامة هي الحلقة الاخيرة في سياسة الحركة الاسلامية التي تري أن هذه الحرب هي حربها كما قال بعض منسوبيها مؤخرا، ولذا يجب ان تستمر مهما كانت تكلفتها في شكل دمار للمؤسسات العامة والخاصة ومهما كان عدد الضحايا من المدنيين، ومهما فقدوا من ممتلكات تمثل رأس المال المادي اللازم لإعادة البناء، كناية عن أنها إما تحكم السودان أو تراه يحترق ( كما عبر عن ذلك بعض قادتها - نصر شامل أو تدمير كامل). ولاشك في أن الحركة تعلم علم اليقين أن ذلك يعني تفكيك السودان الي دويلات ، وهوما يتوافق و استراتيجية بعض دول الغرب الكبري ، كما ورد في كثير من التقارير والمحاضرات منذ أمد بعيد.
إن الاصرار علي استمرار الحرب أو تطويل امدها هو سير في اتجاه تحويلها الي حرب أهلية شاملة يصعب لملمتها ، وهو للاسسف عين ما يريده إسلامي والانقاذ فما يبدو . ولا يحتاج الشخص الي ذكاء استثنائي ليري أن تلك سياسة خرقاء تجعل السودان فريسة سائغة لكل الراغبين في "قرم" أجزاء منه ، او تحويله الي دويلات يسهل علي الطامعين فيه من دول الجوار أو الدول الكبري ابتلاعها وتسييرها ونهب ثروات السودان في الاراضي التي تقع تحت سيطرتها الاسمية. إن الدعوة الي التعبئة العامة تحت هذه الظروف هي دعوة في باطنها شر مستطير للسودان والأجيال القادمة من بنيه، ودعوة تصدر من شخص يائس وتنظيم بائس ، لم تكن الوطنية أو الشعور بالوطن واهميته أبدا جزءا من ثقافته، كما عبر عن ذلك بعض منسوبيه الذين فارقوا التنظيم (أنظر عمار محمد ادم وأخرون).
أن شباب السودان ليس هو فقط لجان المقاومة في الخرطوم الكبري والمدن الكبري ، رغم أنها أي المدن ومواطنيها هم من يقع عليهم عبء ازاحة الحكومات الشمولية الباطشة والفاسدة. إن الريف ايضا له شبابه وقضاياه واسبقياته التي قد تختلف عن قضايا الحرية والديمقراطية ذات الاسبقية في اجندات شباب المدن وأحزابها القومية. ولذلك فإن تعبئة البرهان للشباب قد تكون موجهة لشباب الريف والفاقد التربوي وشباب القبائل الذين تسيطرعلي تفكيرهم القضايا المحلية الأكثر قربا منهم وبعضها قد يكون مهددا للحياة. بدلا عن هذا النداء الفتنة الذي لم يراع خيرا للوطن والمواطن ، لماذا لا يقف البرهان ومن هم من ورائه الموقف الأكرم أخلاقيا ويتخذ الخيار الافضل استراتيجيا ومتاح ، وهو إيقاف هذه الحرب اللعينة التي يصلاها المواطن ويكتوي بنارها كل يوم ويتأذى منها كل ساعة ويلعن من يخوضونها في سره وجهره كل لحظة، لأنها حرب لا مصلحة له فيها وليس للوطن فيها غير الدمار. لماذا إيقاف الحرب والتفاوض ليس خيارا للجيش والاسلاميين؟ لماذا؟
لقد استثمر اسلاميو الانقاذ الكثير من الجهد والمال (المنهوب من الدولة) في تأسيس دولة يتملكونها كحزب ويحكمونها لخمسمائة عام علي الاقل ولن يسلموها الا لعيسي (عليه السلام ) كما قال بعضهم وكأنها دامت لغيرهم . وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف فقد أنشأوا مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة هي مؤسسات الحزب، حتي قبل انقلابهم علي الحكومة الديمقراطية عام 1989. وما نعلمه منها هو الدفاع الشعبي، الشرطة الشعبية، الامن الشعبي والامن الطلابي وكتائب الظل. ثم تم بعد الانقلاب تكوين مئات المنظمات الخيرية التابعة للتنظيم لاستقطاب الموارد الخارجية، وتسكين عضوية التنظيم في قيادات أغلب مؤسسات الدولة، كما قال البشير نفسه، مما سهل عليهم عمليات النهب المنظم لموارد البلاد. التنظيم السياسي للحركة الاسلامية لا يري في الوطن ، بشهادة من كانوا جزءا منه يوما ما ، شيئا مقدسا تجب حمايته، برا وبحرا وجو. أقول ربما من الطبيعي لتنظيم سياسي مثل هذا أن يفضل أن يري الوطن يحترق كليا ، قبل أن يخسر ما يعتقد أنه ملكه ، ولذلك لا يري في الوجود شيئا جميلا غير الحرب التي تأتي علي الأخضر واليابس ، ولا باس إن كان ذلك هو الوطن نفسه. لكل ذلك أري أن تشمل حملات التوعية كل السودان ريفه وحضره وتحذير الشباب من تلبيةأو الاستجابة لهذا النداء. أقل هذا لأنه ليس من المستبعد أن تتبع دعوة التعبئة العامة هذه حملة للتجنيد الاجباري للشباب ليحاربوا جنبا الي جنب مع تنظيمات "الكيزان" التي شاركت في قتلهم في المظاهرات السلمية.
صديق امبده
3 يوليو2023

sumbadda@gmail.com

 

آراء