التنازل عن الحقوق السياسية مقابل الحريات الشخصية
كانت تلك هي الخلاصة الابرز لتحقيق مجلة. ( الإكونوميست ) البريطانية الواسعة الانتشار وهي تجري تحقيقا عن انخفاض نسبة التدين الشعائري في المنطقة العربية. وتؤكد المجلة ان المنطقة العربية اصبحت اكثر ميلا وتبنيا للعلمانية بعد موجة من انتشار الراديكالية الاسلامية والتدين السلفي الذي ادي الي انفجار ثورات الربيع العربي و اتساع ظاهرة الاٍرهاب.
وتعضد المجلة من هذا التوجه مستدلة بالاصلاحات الجذرية في المملكة العربية السعودية وهي تعطي حرية اكبر للمرأة في الحقوق المدنية والثقافية والاجتماعية وحقها في قيادة السيارات ودخول الاستادات ودور الرياضة، مما يعد نبذا تلقائيا للنهج السلفي التاريخي وتبنيا للاسلام الحداثي الوسطي. وتشير المجلة الي انخفاض نسبة مرتادي المساجد في مصر من مختلف الفئات العمرية بنسبة تصل الي ٢٠٪ ،بين الأعوام ٢٠١١ الي ٢٠١٦. هذا فضلا عن القرارات والتوجهات الصادرة من السلطة السياسية في مصر ودوّل الخليج بمحاصرة الاسلام السياسي والقضاء عليه. وفي ذات الوقت تكشف قواعد بيانات الرصد الخاصة بتوجهات الشباب في المنطقة العربية عن تسارع وتيرة التوجهات الليبرالية والحريات الشخصية خاصة وسط النساء. و اكد بعض الباحثين ان إشباع تطلعات الشباب نحو الحياة الليبرالية المفتوحة في المنطقة تشير الي ان المعادلة اصبحت واضحة وهي التنازل عن الحقوق السياسية مقابل الحصول علي الحريات الشخصية.
وربما تكون هذه المقايضة التاريخية التي تجري وسط النخب في المنطقة العربية ، ويسعي النظام السياسي العربي لترسيخها وهي فتح الأبواب لاشباع الرغبات والتطلعات الليبرالية والتوجهات العلمانية مع صياغة منطلقات حداثوية للاسلام الوسطي مقابل التنازل عن الحقوق السياسية المنادية بالتحول الديمقراطي.
هل كان المشهد مختلفا في الخرطوم؟ لم يجد هذا السؤال اجابة منطقية مما توافر لدينا من معلومات حول مداولات اجتماعات مجلس شوري الحركة الاسلامية، التي استغرقتها الوظيفة الدعوية في خطابها العام لكنها ما تزال مؤرقة بسؤال السياسة و مستقبل الحكم في السودان.
ربما نجد مؤشرا اكثر وثوقية في استقراء التوجهات الراهنة وسط النخب المهتمة بالشأن العام من خلال فعاليات معرض الخرطوم الدولي للكتاب. ماذا تقرأ النخب في الخرطوم؟
اسوق ملاحظات ابتدائية من خلال زيارتي للمعرض وهي تحتاج الي التحقيق والتمحيص حتي تصبح حقائق مجردة. اذ انحصر التزاحم وطلب الجمهور لشراء الكتب في التراثيات وكلاسيكيات الاسلام، من المراجع والتفاسير والشروح وأمهات كتب الأصول وغيرها، ويعود أحدث هذه الكتب الي القرن السابع الهجري. الركن الاخر الاكثر جاذبية لرواد المعرض بعد أقسام التراث الاسلامي هي مطبوعات التنمية البشرية والتدريب ورفع القدرات ومن ثم أقسام المراجع الاكاديمية. وهذا يعني من ناحية عامة ان الثقافة الاسلامية المستمدة من كتب التراث الديني هي الاكثر رواجا وسط المهتمين والقراء من مرتادي المعرض. كما ان دور العرض التي قدمت عناونين جديدة مستدركة علي التراث عبر كتب شارحة او ناقدة او ذات رؤية حداثوية للمشهد الاسلامي الراهن، وجدت اقبالا اقل من المتوقع، مقابل اهتمام اكثر بكتب التنمية البشرية والمراجع الاكاديمية.
ان مزاج الخرطوم للقراءة او سؤال ماذا تقرأ الخرطوم من خلال الملاحظات الشخصية لرواد وفعاليات معرض الخرطوم الدولي للكتاب يقدم إشارات تصلح لصياغة رؤية تحليلة لتوجهات الواقع الراهن. هناك إقبال اقل علي كتب الإنسانيات والادب والروايات خاصة الكتب السياسية. لكن في المقابل وجدت مذكرات وزير الخارجية المصري الأسبق والامين العام للجامعة العربية عمرو موسي اهتماما كبيرا وسط القرّاء حيث نفدت النسخ المعروضة بسرعة البرق. ولعل مرد ذلك يعود ربما لتطلع القرّاء لمعرفة اسرار فترة تقلده رئاسة الدبلوماسية المصرية والجامعة العربية. و يكاد يشدني الجزم قبل الحزم ان معظم المثقفين السودانيين لا يحفلون كثيرا بكتب المذكرات والسيرة الذاتية ومن فعل منهم انتهج اُسلوب القراءة الانتقائية المبتسرة لتأكيد حقائق او معاني رسخت في ذهنه واصبح يبحث لها عن دليل بين الكتب. ولعل اشهر هذه المذكرات عي ( حياتي) لبابكر بدري التي اضرها التخريج والقراءة الانتقائية لمهجوس بالتنابذ لبقايا الدولة المهدية القديمة. وقد أصيب بعض المثقفين بالاحباط بعد ان نشر وزير الخارجية المصري الأسبق احمد ابو الغيط مذكراته التي افتقدت السلاسة والعمق المتوقع من شخصية مؤثرة في صنع قرارات السياسة الخارجية في وقت دقيق من تاريخ مصر الحديث. لكن عمرو موسي في مقدمة مذكراته الصادرة باسم ( كتابيه) و هي اقتباس قرآني بليغ يقول انه اصبح ( سابق ) بأمتياز، اذ ظل الذين يقدمونه في المؤتمرات والمنابر الدولية يقولون عنه انه ( السفير السابق والوزير السابق والامين العام السابق و مرشح رئيس الجمهورية السابق) لكنه يقاوم هذه الصفة ويقول إنني مهموم بمستقبل المنطقة العربية والعلاقات الدولية. وسنستعرض مذكرات عمرو موسي في مقال قادم انشاء الله.
تفتح سيرة معرض الخرطوم الدولي للكتاب وكذلك تحقيق (الاكونومست) عن انخفاض معدلات التدين في العالم العربي الباب واسعا لمناقشة العلاقة بين الثقافة والاقتصاد. وهذا يقود الي السؤال التالي: هل الوضع الاقتصادي الراهن يمكن الشباب والباحثين عن المعرفة من شراء واقتناء الكتب و مصادر الثقافة المطبوعة؟
رغم الصعوبات التي تكتنف الاقتصاد السوداني الا الإقبال علي شراء الكتب من المعرض يعد وسطا ومقبولا بالمعدلات الإقليمية .
ولعل الروائي والأديب البريطاني الشهير ( جورج أوريل)الذي ينحدر من أصول هندية وصاحب روايتي (مزرعة الحيوان و ١٩٨٤) يعد من أذكي من تحدث في هذا الجانب من خلال كتابه. ( السجائر مقابل الكتب ). واجه جورج أوريل هذا السؤال وعمال المناجم يقولون ان قراءة الكتب هواية مكلفة بالنظر الي دخولهم الشهرية. وللإجابة علي هذا السؤال اجري جورج أوريل عملية حسابية بسيطة حيث حصر كل الكتب التي بحوزته وقيّم سعرها المادي واكد انه احصي ٩٠٠ كتاب في حوزته جمعها خلال خمسة عشر عاما وخلص الي انه يدفع ٢٥ جنيها إسترلينيا لشراء الكتب وإرضاء نهم القراءة في العام. في المقابل فإنه يصرف ٤٠ جنيها استرلينيا لتدخين السجائر في العام. ولعل المقاربة التي ارادها الأديب الشهير جورج أوريل واضحة وهي ان الكتب اقل كلفة وأكثر فائدة من عادات وهويات اخري داعما قوله بما يدخنه الرجل الانجليزي من سجائر في العام.
لعل المثقف السوداني وهو يقبل علي شراء الكتاب في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة لن يستمع الي منطق الأديب جورج أوريل لانه لن يجعل مقابل السجائر ( سفة تمباك) بل قطعة خبز لأسرته.
ان ما اثارته مجلة ( الاكونومست) في تحقيقها عن تراجع معدلات التدين في المنطقة العربية وارتفاع معدلات التوجهات الليبرالية والعلمانية لا يمكن فصله من سياقه السياسي الخاص لتوجهات السلطة السياسية في المنطقة العربية التي اصبحت تدعم التوجهات الليبرالية والعلمانية لمحاربة التطرّف الاسلامي ومحاصرة الاسلام السياسي بتوجهات شعبية واجتماعية رافضة لشعاراته الأيدلوجية ، وإيجاد نسخة بديلة من الاسلام الوسطي لا تعارض السلطة السياسية وهي تؤمن قطعا بالانفتاح والتوجه الليبرالي والمسلك العلماني. وتصبح المقايضة واضحة هي التنازل عن الحقوق السياسبة اي السكوت عن التحولات الديمقراطية مقابل الحريات الشخصية.
احتل كتاب البروفيسور وائل حلاق عن ( الدولة المستحيلة) مكانا بارزا في قسم (المركز العربي للابحاث ودراسات السياسات) في معرض الخرطوم الدولي للكتاب. ورغم ان الكتاب مترجم للعربية من نصه الانجليزي قبل فترة إلا انه يوافق ذات الاطروحة التي نشرتها مجلة ( الاكونومست) ليس من باب الجدل حوال انخفاض نسبة التدين بل بإحداث مقاربة فكرية تجاه الدولة الاسلامية . اذ يقرر البروفيسور وائل حلاق بوثوقية عالية ان " الدولة الاسلامية مستحيلة التحقق وتنطوي علي تناقض داخلي كبير وذلك مقابل الدولة الحديثة".
رغم ان ما أقره وائل حلاق اشار اليه باحثون كثر منهم علي عبدالرزاق في مصر في كتابه الشهير " الاسلام واصول الحكم"، انتهاءً بكتاب الدكتور عبدالوهاب الافندي " من يريد الدولة الاسلامية؟".
و مع بروز هذه المقاربات الفكرية التي احتفي بها معرض الخرطوم الدولي للكتاب تتوطن مقاربة اخري تجد الصيت والجمهور والشرعية وهي مدرسة التراث الاسلامي التي لا تأبه كثيرا لعصرانية وائل حلاق او عبد الوهاب الافندي ما دامت مجلدات بن تيمة حية ترزق.
لعل العنوان الفرعي لكتاب وائل حلاق هو " الاسلام والسياسة ومأزق الحداثة الاخلاقي" ، يشير ضمن مقاربته الفكرية الي ان أطروحة الاسلام السياسي الذي يتبني إقامة دولة إسلامية حديثة تؤمن بالديمقراطية والانتخاب الحر واقتصاد السوق وحقوق الانسان هي فكرة مستحيلة وتقع في تناقض اخلاقي مع مقتضيات الدولة الحديثة. لكن في المقابل يجد الدكتور التجاني عبدالقادر مخرجا مقبولا وهو يجهر بتسميتها ( دولة المسلمين) وليس ( الدولة الاسلامية) لأنها تخضع لتصورات المسلمين لما يجب ان يكون عليه شكل الدولة التي تتبني قيم الاسلام في الحياة العامة.
ولعل هذا يعيد السؤال التأسيسي في مدخل هذا المقال والذي اعادت طرحه حيثيات تحقيق مجلة. ( الاكونومست) وهي ان المقايضة الراهنة تشي بالتصالح علي عقد اجتماعي جديد في المنطقة العربية وهي ( التنازل عن الحقوق السياسية مقابل الحريات الشخصية) اي دعم التوجهات الليبرالية والعلمانية، مقابل عدم اشتغال النخب بالسياسة والمطالبات الديمقراطية.
في السودان تبدو المعادلة متناقضة تماما اذ ان توجهات اسلمة الحياة العامة ما تزال هي ديدن السلطان والقوي المؤثرة في المجتمع، كما ان دعم التوجهات الليبرالية والعلمانية وفتح أبواب الحريات الشخصية كما هو التوجه في المنطقة العربية يبدو مرفوضا تماما في السودان، اذ ان قانون النظام العام و تطبيق حد الردة في القانون الجنائي وتطبيق الحدود الشرعية تمثل ركيزة أساسية للنظام القانوني والعقيدة السياسية السائدة.
ولعل المفارقة تمكن في المقاربة التالية اذ اختار النظام العربي الراهن عبر تمظهرات السلطة السياسية في الدول العربية المختلفة ان يفتح تدريجيا باب الحريات الشخصية ضمن دعم ومساندة التوجهات الليبرالية والعلمانية مقابل تنازل النخب عن حقوقها السياسية. في السودان لا توجد اي تنازلات لفتح باب التوجهات الليبرالية و الحريات الشخصية . لذا لم يتبق للسلطان والنخبة الحاكمة الا المضي قدما في إعطاء الحقوق السياسية والاحتكام لصندوق الاقتراع فقط لتقرر الأغلبية فقط حينها خيارها التاريخي. اذ ان المقايضة العربية الراهنة مرفوضة تماما في العقل السياسي الحاكم لانه ينزع عنها الشرعية السياسية القائمة علي تطبيق الشريعة. لذا لا بديل لصندوق الاقتراع لممارسة الحقوق السياسية كاملة.
khaliddafalla@gmail.com
/////////////////////
//////////////////////////////////////////////////
//////////////////
///////////////////