هدف وغاية التنمية هو تلبية الحاجات الأساسية والمتنامية للمواطن، الشرط الذي لا بد منه لتحقيق التنمية المستدامة في البلاد، والبوصلة الهادية لتنفيذ كل المشاريع التنموية في كل أنحاء الوطن. ومع ذلك، شهدنا إحتجاجات الأهالي العنيفة ضد المشاريع التنموية في مناطقهم، فما السبب؟. قطعا، لا يمكن لأي عاقل الوقوف ضد مشاريع التنمية الضخمة، كمشاريع إقامة السدود أو التنقيب عن البترول أو الذهب، والتي من شأنها تلبية حاجات المواطن، وبث شرايين الحياة في الريف والحضر. ولكن، بالمقابل لا يمكن، ولا يعقل، تنفيذ هذه المشاريع بحد السيف، بالعنف والقتل ومصادرة الأراضي وترحيل السكان، وتجاهل نداءات الهوية والتراث ومكونات الوجدان. فمادام الناس يرفضون ويحتجون، إذن في الأمر «إنّ»، وإنهم يرون عكس ما تراه السلطة فيما يتعلق بالأهداف المعلنة لهذه المشاريع. ومادام هدف التنمية هو تلبية حاجات المواطن، فمن المفترض، بداهة، مشاورة الناس، أصحاب المصلحة، في تحديد أولوياتها، ولابد من المشاركة الشعبية في صنع القرار الخاص بالمشاريع التنموية، والشفافية في الصفقات الاقتصادية، وتمكين الرقابة الشعبية لكشف جوانب القصور وعدم الكفاءة في الأجهزة الحكومية، وكشف التجاوزات والممارسات الفاسدة.
الناس في السودان، يعرفون ماذا يريدون، ويدركون جيدا مصالحهم واحتياجاتهم. وأي سلطة، مهما تسلحت بالقدرة على ذبح الإنسان بدم بارد، لا تستطيع خنق احتجاجاتهم وسلبهم حقوقهم. وإذا كانت الحكومة تريد حقا تنفيذ مشاريع تنموية لتطوير حياة الناس، فلا بد أن يكون هؤلاء الناس طرفا أساسيا ومشاركا فاعلا في اتخاذ القرارات المتعلقة بهذه المشاريع. ونقطة البداية هي طرح فكرة المشروع عليهم، والحوار العلني الشفاف معهم حول أهميته بالنسبة للتنمية في البلاد، وحول المقابل الذي ستجنيه منطقتهم، وتوضيح الآثار الجانبية السالبة للمشروع، وكيفية درئها أو التعويض المناسب عنها، برضا الناس وقناعتهم، والاستماع إلى اعتراضاتهم واحتجاجاتهم والاستعداد لمناقشتها، ثم التوافق على اتخاذ القرار ديمقراطيا، ولو عبر الاستفتاء، إضافة إلى المشاركة الفاعلة للجان المواطنين في المنطقة لمراقبة سير تنفيذ المشروع وتنفيذ اتفاق السلطات معهم. أما طريقة التعامل مع الشعب ككيان قاصر لا يعرف مصلحته، ولا بد من تأديبه حتى يفهم، فهي طريقة معروفة ظلت تمارسها الديكتاتوريات على مر العصور، وهي في أغلب الأحيان تخفي أهدافا أخرى لا علاقة لها بتلبية حاجات الناس ونتيجتها دائما كارثية على التنمية. وكما ذكرنا، لا يمكن فرض المشاريع التنموية بالقوة وضد إرادة الناس، مثلما لا يعقل أن تقوم هذه المشاريع على حساب تقويض أحلام البسطاء.
نحن نعيش عصر العولمة الجارفة والمتسارعة وتائرها. لذلك، فإن أي محاولة لبناء الأسس الاقتصادية لتحقيق المشروع التنموي في البلد المعين، لا يمكن أن تتم بمعزل عن الاقتصاد العالمي، وتتطلب تطوير قدرات البلاد وربطها بقوة العصر وتوسيع التعاون الاقتصادي العلمي والتقني مع البلدان الأخرى، بما في ذلك الإقدام الجريء على جذب رؤوس الأموال ومصادر التمويل الأجنبي والمنجزات في مجالات التكنولوجيا والتحديث وغيرها. لكن، في نفس الوقت من الضروري استيعاب العملية التنموية كمسألة داخلية ووطنية، إذ لا يمكن ان يقوم بها إلا ابناء البلد انفسهم، لأنهم أكثر قدرة على معرفة احتياجات البلد، وعلى إدراك الخصائص النفسية والاجتماعية والثقافية لبني وطنهم. وهذا يتطلب، وفي إطار مناهضة سياسات العولمة الرأسمالية المتوحشة، توفير الظروف السياسية والاجتماعية التي تستطيع في ظلها البلدان النامية من أن تعلى الأولويات الوطنية، وأن تكون سيدة مواردها، وأن تستخدم هذه الموارد لصالح شعوبها لا لصالح الآخرين، وأن تبذل جهودا كبيرة لمواجهة الاحتكارات والشركات العالمية الضخمة، من خلال رسم استراتيجية وطنية للتنمية الاقتصادية ووضع برامج حكومية متكاملة للضبط غير المباشر للاقتصاد عن طريق تأمين رقابة اجتماعية وحكومية على التقيد بالقوانين وضبط علاقات السوق، وأيضا عن طريق طلبات الدولة، وإشباع السوق، وسياسات الأسعار، والتعويضات، والضرائب، وفوائد القروض، والجمارك…الخ. وكذلك مواجهة شروط المؤسسات المالية العالمية، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بما يحقق التوازن الدقيق بين الإمكانات الاقتصادية والمكتسبات الاجتماعية، بما في ذلك التزام الدولة الحازم صوب حماية الحقوق المكتسبة للمواطنين خاصة في مجالات العلاج، السكن، التعليم، الثقافة، الترفيه، وكل الخدمات الضرورية الأخرى المتعلقة بتحسين حياة الإنسان.
وبقدر ما تتاح للإنسان الفرص للارتقاء بمعارفه ومهاراته وتطوير القدرات الكامنة فيه، واختيار العمل الذي يجد فيه ذاته ويحقق له دخلا يكفل له حياة كريمة، وينمّي لديه الإحساس بالمسؤولية تجاهه، وبقدر ما تتوفر له الحوافز لتوظيف هذه الطاقات في الأوجه الصحيحة المنتجة…، بقدر ما يتمكن من استخدام الموارد المتاحة لتحقيق تنمية حقيقية وذات أبعاد إنسانية، وبقدر ما يتعزز اقتناعه بالاعتماد على الحوار والتواصل في التعامل مع القضايا العامة، الأمر الذي يخلق مناخا ملائما لمعالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية بالطرق السلمية. ومن هنا تأتي أهمية الديمقراطية. فهي، بإفساحها المجال أمام المواطنين للمشاركة في صنع القرار الخاص بتحديد أولويات العملية التنموية، تُمكّن من وضع الحاجات الإنسانية في مقدمة هذه الأولويات. ولعله من البديهي القول بأنّ تلبية هذه الحاجات من شأنها تطوير قدرات المواطن وتوسيع الخيارات أمامه على نحو يساعده على تحقيق ذاته، وإطلاق طاقات الخلق والإبداع الكامنة فيه. إنّ إدراك المواطن بأنّ فرص التقدم مفتوحة أمامه، وأنّ تقدمه مرهون بعمله وكفاءته دون أي اعتبار آخر، وثقته بأنّ ثمار عمله ستعود عليه، سوف يدفعه إلى السعي الجدي لاكتساب المزيد من المعارف والمهارات، ولبذل المزيد من الجهد في العمل.
أخيرا، فإن الإدارة العقلانية للموارد الاقتصادية والبشرية، هي بوابة تحقيق التنمية المتوازنة والمستدامة، مما يعني الانتصار لمبدأ التوزيع العادل للموارد والثروة، المدخل لتحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا المبدأ، مقرونا مع مبدأ المشاركة العادلة في السلطة، يمثلان المدخل الوحيد لحل الأزمات والتوترات وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي في بلادنا.
٭ نقلا عن القدس العربي