الثورة المسكينة او (عن غياب الحسم الثوري)

 


 

 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

ما حدث من وحدة العمليات بجهاز الامن يجب ان يضع الحد الفاصل بين مرحلة الثورة المترددة التائهة المتسامحة، مع افراد ومؤسسات واجهزة نظام الانقاذ الاجرامي. ومرحلة الحسم والتخلص من كل مخلفات هذه المنظومة، ليست الفاسدة فحسب، وانما الاسوأ قابليتها لافساد كل طموحات الثورة وتضحيات الثوار. واذا كانت الاصوات المنادية بالحسم منذ وقت مبكر، تم التهوين من تحذيراتها والانشغال بقضايا انصرافية ومحاكمات سلحفائية؟ فهذا ما قاد لوصول طرف السوط الي قلب المكون العسكري والتلاعب بشرفه في عقر داره. وللغرابة هذا لم يتم بصورة مفاجئة، ولكن بصورة ممرحلة وعبر ادوات ووسائل مختلفة، وتنسيق تام بين عناصر داخل الجهاز ومؤسسات الدولة (دولة التمكين) وفلول النظام السابق، التي لم تخفِ حتي نواياها في التخريب واشاعة الفوضي. لتصوير حكومة الثورة بالضعف والعجز كمرحلة اولية، وصولا لاستلام السلطة كغاية وجودية. ومن ثم ممارسة هوايتهم في حكم بالبلاد بقوة الحديد والنار (الترهيب او الترهيب).
وعموما ما حدث يبين ان هنالك ثغرات كثيرة ونقاط ضعف كبيرة تهدد مسار الثورة، عبر السماح للفلول والاعداء والطامعين من التسلل خلالها بكل سهولة. والحال هذه، ليس مصادفة المدوامة علي احتقار رموز الفترة الانتقالبية والتشكيك في المدنيبن منهم بصفة خاصة، وكذلك الاستفزاز والاستهبال في التعامل مع العقبات والمشاكل التي تواجه حكومة الفترة الانتقالية، التي كانوا انفسهم من تسبب بها. ما يبرر تسمية هذه السلوكيات المريضة باخلاقيات الحاقدين، او الانحطاط الي سياسة التشفي كاسلوب حياة. خاصة والاسلامويون عودونا علي قلة حياء و(قوة عين) ليس لها مثيل! شأنهم شأن الطغاة والفاسدين علي مر العصور، وهذا ان لم يحتلوا مكانة فريدة، يصعب تصورها او ادراجها تحت اي معايير بشرية او تجربة تاريخية (عندما تكون رسالتك تدمير بلادك واذلال شعبك) .
وقد تعود اسباب تهاون مسؤولي الفترة الانتقالية في التعامل الحاسم مع افراد ومؤسسات النظام السابق، الي انه من ناحية، المكون العسكري هو نفسه احد افرازات هذا النظام، ومن ناحية اخري الي ان استيعابهم لحقيقة نظام الانقاذ تكاد تكون سطحية او لا مبالية. وتاليا تنسجم المعالجات او ردات الفعل مع ذلك التقدير! اي يتعاملون معهم كافراد ومؤسسات اخطأوا فقط، وليس كمسخ بشري في شكل افراد تربوا تربية مشوهة علي قيم فاسدة (تحت رعاية نبي دجال وصحابة مزيفيين واتباع مهوسين). وليس غريب والامر كذلك، ان يرتفعوا الي مرتبة وهمية اعلي من البشر! وتاليا يحتقرون شعب السودان وقيمه وتاريخه ومكوناته. وهذا ما برر لهم انتهاكات كافة حقوق المواطنين، وتجريدهم من ابسط الاساسيات، دون ان يطرف لهم جفن. اما الانقاذ كمنظومة فهي تعكس وعي الاسلامويين للسلطة، وهو وعي ليس مازوم فقط، ولكنه اقرب للوعي الشبقي او وعي المتعة اذا جاز التعبير! بمعني نظرتهم للسلطة هي نفسها نظرتهم الجنسية للمرأة، التي تشغل مساحة عريضة من تفكيرهم وهواجسهم. وهو ما يفسر تعاملهم الانتقائي مع مفهوم الدولة، التي آلت تحت تصرفهم الي مجرد آلية لمأسسة الفساد وتقنين الاجرام ونهب موارد الدولة علي طريقة السماسرة المرابين. وخطورة هذه السياسة المراهقة غير استهتارها بمنظومة الخدمة المدنية وتدمير مشاريع الانتاج، الا انها خلقت نوع من الازدواجية في ادارة الدولة (اتخاذ قرارات لا يصدف انها مصيرية ومكانة محتكرة للامتيازات دون ان تترتب عليها مسؤوليات، وخيال مآتة في الظاهر يتحمل كل العواقب) او ما شاع تسميته دولة الباطن والظاهر، وذلك منذ تدشين هذه المنظومة الانقلابية عبر خدعة السجن والقصر. وهذا النمط المراوغ استمر طوال العشرية الاولي التي تحكم فيها الترابي/علي عثمان، ليستمر بعدها مع البشير وزمرته من العواطلية والمشعوذين، الذين تحكموا في كل مفاصل الدولة الداخلية وعلاقاتها الخارجية! وما تبقي مجموعة تفاصيل هامشية او مصالح اقتصادية مغذية/محمية بهوامش سلطوية. وكل هذا ما جعل انحطاط الدولة كارثي، والازمة الوطنية مركبة التعقيد.
لكل ذلك اي تغيير لا يبدأ بوعي الازمة والاحاطة الشاملة بتفاصيلها، يصعب عليه طرح الحلول والبدائل المناسبة. وكنموذج جهاز الامن، فهو جهاز مكون بغرض حماية المنظومة السالف ذكرها، وتاليا هو اكثرها تعبيرا عن وجهها الكالح. اي عقيدته ليست فاسدة كفساد منظومته المؤسسة، ولكن الاسوأ انها تفترض الخيانة في كل عمل سياسي والعمالة في كل معارض والريبة في كل مواطن حتي يثبت العكس. وبكلمة محددة هو جهاز تحركه غرائز الخوف وسوء الظن، وتاليا هو مكرس لارهاب المواطنين باستخدام ادوات الدولة. ولذلك اي تغيير لا يستهدف تحويله من جهاز ترويع (هدم الطمأنينة) الي جهاز استشعار لحماية الدولة من الاخطار المحدقة ومصالح المواطنين من المكروه (رعاية الاستقرار). ستتكرر مثل هذه الممارسات المنفلتة من عقالها، وستتكاثر زعزعة امن المواطنين، مهما كان شكل الهيكلة او تغيير المسميات والقيادات. اي ببساطة، العقيدة الصحيحة هي ما يساعد علي تصميم هيكلة مناسبة تلبي الطموحات.
وفي ذات الاطار هنالك فوضي تعدد الاجهزة والاجسام التي تقوم بذات الاغراض، مما يخلق حالة من التضارب والترهل والتكسب الطفيلي الذي يهدر موارد البلاد. اي كأن دولة الفرد خلقت نوع من المزاج او النهج الفردي في الادارة او شخصنة الوظائف العامة. ليصبح الفرد المُنظم مقدم علي الوظيفة، او الوظيفة ما هي إلا مكافاة علي الطاعة والخدمات القذرة المقدمة. ولا نقصد بذلك الاجهزة الامنية والعسكرية فقط، ولكن ايضا المؤسسات والهيئات المدنية الهلامية، كادارة السدود وشركات الكهرباء والنفط، التي تستفيد من اعفاءات الدولة، وليس لها مردود ملموس علي ترقية خدمات المواطنين! وهذا غير تغولها علي مهام وزارات هي من صميم اختصاصها. وكأن الدولة استنساخ لهرجلة (مهرج) الرئاسة، فلكل وزارة او مؤسسة او هيئة بشيرها او ترابيها، وحوله بطانة فاسدة يطيعونه ما امرهم، كما انها لها وجه بارز غير فاعل، ومكون حقيقي نافذ وغير ظاهر.
لكل ذلك اذا تم التعامل مع ما حدث داخل مباني الاجهزة الامنية، كحالة معزولة، وتم معاقبة الفاعلين وترك الحال كما هو. فهذا يعني عدم التعلم من الدرس، وانتظار ضربة اكبر لا يعلم حجم اضرارها. خصوصا ان ما حدث هو انعكاس لكارثة اكبر، عنوانها الاعرض ذهاب رموز النظام، وبقاء المنظومة وشخوصها غير البارزين، مع تطعيم الصورة او تجميلها بحكومة حمدوك وطاقمه، ليتحملوا منفردين عواقب الفشل. وكل هذا ما لن يتعالج إلا بعمل حل جذري، يبدأ بتغيير المفاهيم (الدولة ومؤسساتها) والعلاقات (بين المؤسسات والمواطنين). واسهل طريق لاحداث التغيير يبدأ بميلاد برنامج واضح القسمات لحكومة حمدوك، وعلي ضوءه تحدد المواعين والاطر التي تقوم بتنفيذه في الفترة الانتقالية. بمعني آخر، ماذا نقصد باعادة الهيكلة من دون معرفة المطلوب من الهيكلة؟ وكذلك ما هي الحدود المتاحة في ظل الوثيقة الدستورية لتحديد طبيعة الهيكلة؟ وكيف نواءم بين البرنامج المطلوب (الطموحات) والامكانات المتاحة (العقبات) وتقليل حجم المخاطر المحيطة بالثورة. ولكن هذا لا يمنع ان هنالك ثوابت في ما يتعلق بتحديد دور كل وظيفة او مؤسسة وكيفية عملها ومردودها وآلية تقييمها ومؤهلات شغلها. وبكلمة واضحة، ليست الصعوبة في بناء دولة عصرية تلبي مطالب، بل ورفاهية المواطنين. ولكن في الرؤية الواضحة والادارة الخلاقة والارادة الصلبة وقبلها الايمان اليقيني بحق المواطنين في العيش الكريم. ودمتم في رعاية الله.

 

آراء