الجذور التاريخية لأزمة دارفور

 


 

 


السمة الرئيسية التي ميزت إقليم دارفور عن باقي أقاليم السودان  الأخرى , النشأة المستقلة للسلطنة , بحيث يمكن القول أن تاريخ دارفور هو تاريخ الاستقلال والسيادة الوطنية فنلاحظ أن سلطنة دارفور لم يتم ضمها لبقية إنحاء السودان في العهد التركي إلا في عام 1874م , أي أنها عاشت حوالي عشر سنوات في ظل ذلك الاحتلال وبعدها اندلعت الثورة المهدية التي ضربت فيها قبائل دارفور بسهم وافر. وظلت دارفور مستقلة في عهد المهدية مع بقية أنحاء السودان لمدة 13عاماً . بعدها جاء الاحتلال الإنجليزي للسودان , ومرة أخرى استقلت السلطنة في عهد السلطان على دينار ولم يتم ضمها لبقية أنحاء السودان إلا في عام 1916م .
السمة الثانية لإقليم دارفور أن قبائل وشعوب دارفور شهدت قفزة في تطورها الاجتماعي وشقت طريقها من مجتمعات بدائية كانت تقوم على الصيد وجمع الثمار إلى مجتمعات زراعية رعوية تشكل الأرض فيها ركيزة العمل الأساسية كما أن إقليم دارفور كان موطنا لحضارات وممالك مثل : مملكة الداجو والتنجر , وسلطنة دارفور وإذا كان مقياس الحضارة هو بروز السلالات الحاكمة والزراعة والرعي والتجارة والصناعة . وقيام المدن والأسواق واللغة المكتوبة ...الخ , فتكون سلطنة دارفور قد دخلت الحضارة في العصور الوسطي من أوسع أبوابها .
وإذا تأملنا أهم ملامح مجتمع دار فور في العصور الوسطى نلاحظ انه :-
-    كان مجتمعا متربطا فأهل المنطقة استطاعوا توفير غذاءهم الأساسي من الزراعة وتربية الحيوانات والصيد . وكما وفروا ما يحتاجون إليه من أدوات من صناعات حرفية التي كانت مزدهرة في السلطنة , بل تقريبا كانت كل الواردات من السلع الكمالية التي تهم السلطان وحاشيته والمترفين من الأغنياء وأصحاب النفوذ مثل : المنسوجات الرفيعة , العطور الراقية , الأسلحة  النارية , ...الخ .
وإذا صح استخدام التعبير المعاصر , يمكن القول إن سلطنة دارفور عرفت الاكتفاء الذاتي .
- نظم سلاطين دارفور ملكية الأرض فقد اعتبر السلطان كل أراضي السلطنة ملكا خاصا له يقسمها في حواكير لإتباعه , يحدد الخراج أو الإعفاء منه في كل حالة على حده استنادا على الشريعة الإسلامية والأعراف (راجع وثائق الأرض التي نشرها د. محمد إبراهيم أبو سليم : الفور والأرض 1975م) .
- وكان قيام السلطنة نقطة تحول حرجة في تطور المجتمع من قبائل متنافرة إلى مجتمع بدأت تنصهر فيه القبائل على أساس اجتماعي وكانت الأرض هي التي توحد القبائل (الحواكير) . وكان مجتمع دارفور يتطور باطنيا شانه شان كل المجتمعات التي كانت معاصرة له في القرون الوسطي , ويشق طريقه نحو التطور الاجتماعي .
فنلاحظ تطور المدن والأسواق والحياة الاجتماعية(مدينة الفاشر,كبكابية..الخ), وبعد انتشار الثقافة الإسلامية تفاعل الإسلام مع الموروثات المحلية في المنطقة مما أدى إلى بروز الإسلام في دارفور بشكله المتميز والذي يتسم بالتسامح كما أصبحت اللغة العربية أداة التدوين بجانب لغة الفور التي ظلت لغة الحياة العامة .
وانتشرت المساجد والخلاوي , بالإضافة لسفر أبناء دارفور إلى مراكز العلم في سلطنة سنار مثل : الدامر , الغبش , كترانج , إضافة للسفر إلى الأزهر طلبا للعلم , كما اشتهرت دارفور برواقها في الأزهر , والمحمل الشريف إلى مكة .
أما نظام القضاء فقد استند على الشريعة الإسلامية , والأعراف المحلية , وان سلاطين دارفور قننوا الأعراف في قانون أطلقوا عليه قانون دالي .
كما تميز مجتمع دارفور بالتنوع الثقافي واللغوي وغنى وخصوبة الحياة الفنية في مجتمع زراعي رعوي وما للأرض والحيوان من تأثير على حياة الإنسان .
هكذا كان مجتمع دارفور يتطور باطنيا وحسب ظروفه وخصائصه المحلية , ولكن من أين جاءت جذور التخلف أو التهميش ؟
جذور التهميش :-  
قطع الاحتلال التركي للسودان (1821-1885) التطور الطبيعي والباطني للمجتمع السوداني , وأصبح اقتصاد السودان متوجهاً للخارج أو لخدمة محمد علي باشا في مصر الذي كان يستنزف قدرات السودان الاقتصادية والبشرية لخدمة أهداف النظام في مصر .
وكان ذلك جذرا أساسيا من جذور تخلف السودان الحديث , رغم ارتباطه بالسوق الرأسمالي العالمي ورغم دخول بعض ثمرات الثورة الصناعية الأولى للسودان مثل : السكك الحديدية , النقل النهري , الزراعة الحديثة وإدخال المحاصيل النقدية , التعليم المدني , القضاء المدني , ...الخ .
وكان للحكم التركي آُثاره المدمرة علي البلاد حيث أرهق كاهل المواطنين بالضرائب والظلم والقهر .  امتدت آثار الحكم التركي إلى دارفور بعد ضمها عام 1874م , وكان للحكم التركي أثاره المدمرة على إقليم دارفور , وشهدت دارفور أسوا فتراتها , فقد تميزت تلك الفترة بالسلب والنهب والتي أطلق عليها المواطنون  (أم كواكية) التي تعني السلب والنهب والفوضى .
وبالتالي كانت شعوب دارفور ساخطة على سياسات الحكم التركي التي تميزت بالقهر والضرائب التي كانت فوق طاقة المواطنين كما تم تدمير النسيج الاجتماعي الذي كان متوازناً من عهود السلاطين . وخسر المواطنون في دارفور عالمهم القديم دون كسب لعالم جديد .
فترة المهدية ( 1885 – 1889 ) :-   
هكذا كانت دار فور تربة خصبة للثورة , وفي بداية الثورة المهدية ساندت قبائل دارفور الثورة وكانت من الأسباب الأساسية لانتصارها .
كما كانت هنالك حركات معارضة أو انفصالية ضد الخليفة عبد الله مثل ثورة السلطان يوسف إبراهيم في يناير 1888م و حركة أبي جميزة ضد الخليفة عبد الله والتي فشلت لقد تعرضت قبائل دارفور إلى القمع مثلما تعرضت القبائل الأخرى للقمع في الشمال مثل : الجعليين , الحمدة , الهبانية , والشكرية , ...الخ .
وكانت الصراعات التي اكتنفت الإقليم من أسباب عدم الاستقرار ومن أسباب تهميش الإقليم وعرقلة تطوره حتى تم الاحتلال الإنجليزي للسودان .
فترة الحكم الإنجليزي (1898-1956) :-  
في فترة الحكم الإنجليزي لم ينعم إقليم دارفور بالاستقرار والتنمية , ومنذ بداية ذلك الحكم استطاع السلطان على دينار إعادة السلطنة السابقة (1898-1916) وخوفاً من الصراعات على الحدود مع الفرنسيين , ومساندة السلطان علي دينار للأتراك في الحرب العالمية الأولى , أسرع الإنجليز بإسقاط السلطنة , وتم ضم دارفور عام 1916م .على أن مقاومة قبائل دارفور للحكم الاستعماري كانت مستمرة مثل مقاومة قبائل السودان الأخرى في الشمال والجنوب , وكان من ابرز الانتفاضات انتفاضة عبد الله السحيني 1921م , واستقلال سلطنة المساليت .
وبعد ثورة 1924م والانحسار العام الذي حدث في المد الوطني , تم إدخال نظام الإدارة الأهلية في السودان ومن ثم إلى دارفور .
وتم إدخال إقليم دارفور إلى المناطق المقفولة مثل الجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ... الخ , مما زاد وعمق من عزلتها وتخلفها , وفرض الإنجليز ضريبة الدقينة على قبائل وشعوب دارفور , تلك الضريبة المذلة للكرامة البشرية .
وفي فترة الحكم الاستعماري لم ينعم الإقليم بمشاريع للتنمية وكرس الاستعمار التنمية غير المتوازنة وحسب مصلحة الاستعمار الذي كان يهدف إلى تحويل السودان إلى مزرعة قطن كبيرة لمد مصانعه في لانكشبر بالقطن الخام وفق علاقة تبادل غير متكافئة , وبهذا الشكل ارتبط السودان بالنظام الرأسمالي العالمي , وقامت مشاريع القطن في الجزيرة والنيل الأبيض والفاشر وطوكر وجبال النوبا لخدمة ذلك الهدف الخارجي . وكانت سياسات الاستعمار البريطاني من الأسباب التي ساهمت في تهميش الإقليم .
بعد الاستقلال :-  
بعد الاستقلال وفي ظل الحكومات المدنية والعسكرية المتعاقبة لم يحدث تجديد في حياة الناس , وكان لذلك أثره على إقليم دارفور في اتجاه ضغوط الحركة الجماهيرية التي كانت تطالب بالتنمية والتعمير تم إدخال المدارس الثانوية في دارفور, وتم إدخال سكة حديد نيالا عام 1960م ، .... الخ .
وبعد ثورة أكتوبر 1964م , تم تأسيس جبهة تحرير دارفور في مواجهة حملات الإقصاء الذي تعرضت له المجموعات العرقية من غير العرب . وكان الهدف الأساسي للجبهة هو حماية مصالح سكان دارفور وسط عمليات الصراعات والتنافس السياسي الذي عانى منه مركز الحكم في الخرطوم . كما طالب أبناء إقليم دارفور بالتنمية : التعليم , الصحة , خدمات المياه       والكهرباء , العناية البيطرية للماشية , وحكم أبناء دارفور لأنفسهم وكانت الصدامات القبلية قبل وبعد الاستقلال تحل بطرق سلمية عن طريق مؤتمرات الصلح والأعراف التي توارثها أهل دارفور منذ عهود السلاطين .
ولكن التدهور ازداد بمتوالية هندسية بعد انقلاب مايو 1969م , بسبب الاضطراب في سياسات النظم الإدارية التي بدأت عام 1971م , بالحل المتسرع للإدارة  الأهلية , وتم تقسيم دارفور إلى ثلاثة مناطق : منطقة جنوب غرب   دارفور , ومنطقة شرق دارفور , ومنطقة شمال غرب دارفور , ولكن الإدارة الأهلية أطلت برأسها من جديد في هذه المجالس , واستمرت التنمية غير المتوازنة وضعف التعليم والخدمات البيطرية .
كما جاء قانون الحكم المحلي 1980م , الذي نص على إن إقليم دارفور يتكون من مديريتين شمال دارفور وجنوب دارفور .
وبعد انقلاب 30 يونيو 1989م , تفاقم الوضع في دارفور بسبب التقسيمات الإدارية التي كرست التنافر القبلي , وتم تقسيم إقليم دارفور إلى ثلاثة ولايات هي : شمال وجنوب وغرب دارفور( اضافة لاقتراح باستحداث ولايتين جديدتين لتكون خمسة ولايات)، وهذه التقسيمات الإدارية من أسباب تفاقم   المشكلة .
ومنذ عام 1970م , بدأت الصراعات القبلية تطل برأسها في الإقليم بشكل متواتر نتيجة لسياسات نظام مايو العشوائية في الزراعة الآلية على حساب المراعي وبالقطع الجائر للأشجار .    أدى ذلك إلى الجفاف والتصحر والمجاعة التي عمت البلاد وما أدت له من نزوح (1982م -1984م) , وما نتج عن ذلك من شح المراعي وموارد المياه والنزوح من الشمال إلي الجنوب , ادى ذلك إلى احتكاكات وصدامات بين بعض القبائل العربية والفور ومحاولات طرد الفور من أراضيهم الخصبة هذا إضافة للعامل الأجنبي مثل الحرب التشادية أو دخول بعض القبائل من تشاد والمتداخلة مع القبائل السودانية ودخولها بأسلحة متطورة زادت من فداحة الخسائر في الممتلكات   والمواشي .
وبعد انتفاضة مارس –ابريل 1985م , كانت الصراعات القبلية في دارفور قد وصلت إلى ذروتها وخاصة في الفترة : (1986-1989م) , مما أدى إلى قيام مؤتمر الصلح القبلي بين الفور وبعض القبائل العربية في الفترة : 15/4/1989م – 8/7/1989م . وتوصل إلى توصيات وقرارات سليمة ، وبعد 1989م ، عقدت مؤتمرات صلح لو نُفذ جزء من التوصيات والقرارات لما تدهور الوضع الأمني والسياسي والاجتماعي في دارفور وأدت إلى بروز  معارضة مسلحة إنفجرت من جبل مرة .
وجاء ملتقى الفاشر – فبراير2003م , بعد انفجار الأحداث وتوصل إلى توصيات وقرارات في مجملها سليمة مثل :
-    الإسراع بتكميل طريق الإنقاذ الغربي مع توفير تمويل أجنبي ومكون محلي له .
-    إنشاء مفوضية لتنمية ولايات دارفور .
-    تأهيل مرافق الصحة والمياه والتعليم وتأمين الحد الأدنى من الخدمات للمواطنين في دارفور ووضع خطة عاجلة لمعالجة التردي في الخدمات .
-    تقوية الأجهزة الإدارية للدولة حتى تستطيع التصدي للانفلات الأمني .
-    كما حمّل الملتقي الحكومة مسئولية خلق كيانات إدارية جديدة والاستغلال السياسي للقبيلة والاعتماد علي التوازنات القبلية في التعيينات السياسية .
وكان مدخل الملتقي سليماً في حل المشكلة سلمياً عن طريق التفاوض ، ولكن الوضع تفاقم بعد محاولات الحل العسكري ، ومما أدي إليه من خسائر في الأرواح والمعدات ونزوح الآلاف من المواطنين داخل وخارج البلاد وحدث التدخل الدولي وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن حول دارفور، اضافة لقرار المجكمة الجنائية حول جرائم الحرب، وتمت اتفاقات مختلفة لوقف اطلاق النار وحسن النوايا بين الحكومة والحركات، ولكنها لم تعالج جذور الأزمة، وبسبب اصرار الحكومة علي الحل العسكري ونقض العهود والمواثيق.
*لقد أكد تطور الأحداث ضرورة حل قضية دارفور في إطار داخلي قومي شامل، بعد فشل الحلول الثنائية(ابوجا، الدوحة..الخ)، وضرورة قيام مؤتمر جامع تشترك فيه كل الحركات والقوي السياسية ومنظمات المجتمع  المدني ، وبما يضمن تحقيق التحول الديمقراطي والتنمية المتوازنة والاقتسام العادل للسلطة والثروة، وتقسيم السودان الي 5 أقاليم (دارفور، كردفان، الشمالية، الشرق، الأوسط، الخرطوم)، وقيام حمهورية برلمانية علي رأسها مجلس سيادة تكون الرئاسة فيه دوريا من أقاليم السودان، هذا اضافة للتعويض العادل لضحايا الانتهاكات ، وعودة النازحين الي ديارهم، ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب.
alsir osman [alsirbabo@yahoo.co.uk]

 

آراء