الجنجويد

 


 

 


 (3/3)
helhag@juno.com
د. حسين آدم الحاج
الولايات المتحدة الأمريكية
تمهيد:
حسناً فعل الدكتور حسن الترابى زعيم المؤتمر الشعبى بتأكيده على أنَّ الحكومة السودانية ضالعة فى تسليح بعض الأطراف بدارفور لجعل المواطنين يتقاتلون فيما بينهم, وجاء فى صحيفة الخليج الأماراتية أنَّ الترابى الذى كان يتحدث أمام المؤتمر الثاني لقطاع الطلاب بحزبه فى قاعة الصداقة صباح السبت 8/11/2003م قد: "إتهم الحكومة صراحة بتغذية الصراع الدائر في ولايات دارفور الثلاث، مشيرا إلى أن النظام الحاكم هو الذي يمد الميليشيات العسكرية هناك (الجنجويد) بالسلاح ليعتدوا على المواطنين حتى “يخلو له الجو” على حد تعبيره" (صحيفة الخليج الإماراتية، عدد الإثنين 10/11/2003م). ولا جديد فى ذلك فقد سبق أن تحدثنا عنه من قبل ودللنا عليه, لكن الجديد فيه أنَّه صدر عن الشيخ مما يعنى أنَّ مصدر الخبر موثوق به, فالرجل لا يزال لديه عيون وآذان داخل جهاز الدولة يحصون له فيها أنفاسها وسكناتها, مما يجعل من سياسات الحكومة ومؤامراتها كتاباً مفتوحاً أمامه, لكن وبالرغم من تصريحه الفاضح فإنَّ ذلك سوف لن يعفيه هو شخصياً عن مسئوليته المباشرة فيما حدث و يحدث أيضاً, إذ ظلَّ نافذاً وراء ذلك ومخططاً له منذ عهد الديمقراطية الثالثة, وعليه أن يجيب عن تساؤلات مهمة تتعلق بأسباب خروج قوى دارفورية شابَّة ومؤثرة من حزبه ودوره المباشر وراء ذلك, ومهما يكن من أمر فإنَّه, ومن خلال تصريحاته تلك, يمكن أن يكون "شاهد ملك" مهم ضد الحكومة فى حال وجود أى تحقيق دولى عن "جرائم ضد الإنسانية" تحدث فى دارفور, مثلما تم من قبل إزاء أحداث مماثلة جرت فى رواندا والبوسنة وكوسوفو بيوغسلافيا, ومعلوم أن عدداً من المتهمين فى تلك الأحداث إدينوا أمام محكمة العدل الدولية بلاهاى يقضون أحكاماً بالسجن مدى الحياة فى سجونها بهولندا. إنَّ الجرائم التى تحدث ضد الإنسانية, خاصة جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والإنتهاكات التى تتم بموافقة ضمنية أو مباشرة من الدولة, أصبحت اليوم من الجرائم العالمية الكبرى ولها محاكم خاصة وقوانين تعلوعلى سيادات الدول تشهد بسطوتها الضغوط والإغراءات التى تبذلها أقوى دولة فى العالم اليوم, وهى الولايات المتحدة الأمريكية, لإرغام الدول على التوقيع على محضر قانونى يستثنى تقديم جنودها لتلك المحاكم فى حال إتهامهم بإرتكاب تجاوزات بحق الإنسانية فى مغامراتها الحربية, وهى كثيرة على النحو الذى نشاهد.

وحقيقة فإنَّ الحكومة لم تقصر أبداً فى توفير شبهات تشى بضلوعها فى أشياء فعلتها بدارفور ولا تريد الكشف عنها, فمنع السفير البريطانى السيد وليم باتى من زيارة مدينة نيالا, حتى عقب حصوله على إذن بذلك وتوجهه للفاشر, ثم منع القائم بالأعمال الأمريكى في السودان السيد جيرارجالوتشي وممثلين آخرين في السفارة إضافة إلى ممثل لهيئة المعونة الامريكية من السفر إلى نيالا أيضاً, على الرغم من إصدار وزارة الخارجية السودانية تصريحا لهم بالسفر إلى هناك, لا تدل إلاَّ على شيئ واحد مفاده أنَّ الحكومة لا تريد تواجدهم فى تلك المنطقة, الشيئ الذى دفع القائم بالأعمال الأمريكى فى تصريح له لهيئة الإذاعة البريطانية إتهام بعض القبائل العربية بدارفور بتشريد المئات من الأسر بالإقليم (صحيفة الأزمنة 12/11/2003م), تبعه وصف أحد الدبلوماسيين المعنيين بالشأن السودانى للقتال فى دارفور بأنَّه: "تطهير عرقي (Genocide) يتمثل في تحطيم القرى تقوم به المليشيات العربية بدعم على ما يبدو من الحكومة" (الأضواء 14/11/2003م).

لقد عرضنا فى الحلقة الأولى من هذا المقال صوراً من جرائم الإبادة العرقية التى حدثت بدارفور خلال فترة الهدنة الأولى بين حركة تحرير السودان والحكومة السودانية, أوضحنا فيها كيف أنَّ الحكومة كفت أيدى الحركة عن القتال فى الوقت الذى أطلقت فيه أيدى الجنجويد تسرح وتمرح فى ديار القبائل كيفما شاءت, ثمَّ قمنا فى الحلقة الثانية بإلقاء الضؤ من قريب على مليشيات الجنجويد, أهدافها وتاريخها والظروف الجيوسياسية التى أدت إلى نشأتها, وخلصنا فيها إلى أنَّ هذه المجموعة تقوم اليوم بدور مزدوج: دعم الحكومة فى حربها ضد الحركة المسلحة بدارفور من ناحية ثم القيام بتنفيذ توصيات الأهداف السرية للتجمع العربى وبرنامج "قريش" بضرورة إبادة قبائل الزرقة سعياً لقيام دولة العرب فى العام 2020م من ناحية أخرى. وطالما أنَّ لكل مشكلة حل, مهما إستعصى, فيجدر بنا أن نتلمس مداخل حلول لهذه الفتنة التى ضربت دارفور فى أخطر مفصل فى وجودها ألا وهو محور العلاقات القبلية والتعايش السلمى بين مكونات وكيانات سكانها الذين عاشوا فى تناغم وإنسجام لأكثر من ألف عام قبل أن ينفلت شيطان الفتنة من عقاله فيحيل أرض دارفور الطاهرة بالإسلام والمزيَّنة بسبحة اللالوب وألوان الشرافة إلى دم وخراب ودمار.  

الحلول الممكنة لإطفاء فتنة الجنجويد ودور الأطراف المختلفة فى ذلك:

نعتقد إبتداءاً أنَّ مشروع أى حل لفتنة الجنجويد خاصة, والنزاع القبلى بدارفور عامة, لا يقتصر على جهة واحدة بعينها وإنما تتعدد فى مستويات ذات أبعاد مختلفة, فهناك بعد دولى وبعد قومى وآخر محلى ولكل من هذه المستويات واجبات محددة فيما يختص بالسيطرة على الأمور بالإقليم, هذه السيطرة لا نعنى بها التحكم الأمنى فقط فذلك شيئ يظل مفعوله مثل مفعول حبة الأسبرين الذى يُسكِّن الألم لفترة ما والأطباء يعلمون أنَّ وراء ذلك الصداع ما وراءه من عطب آخر فى الجسد, لكن يجب أن تشمل الحلول الأبعاد الإستراتيجية والمتجددة المنافع والتنمية المستدامة فذلك ما يبقى أما الزبد فيذهب جفاء, وسنحاول فى النقاط التالية سبر دور كل جهة فى رفع هذا البلاء الذى تتعرض له دارفور.

(1) رئاسة الجمهورية:  

لا نحسب أنَّ الفريق البشير رئيس الجمهورية غير معنى تماماً بالأمور التى تحدث بدارفور, فهو كرئيس للجمهورية, يتعامل مع الأجهزة المؤسسية التى ترسم له المقترحات والسياسات المختلفة, وإذا كان هناك فساداً فى سياساته نحو دارفور فنعتقد أنها من صنع الحاشية التى تحيط به, وما أكثر فساد رجال الحاشية فى القصر الجمهورى فى تناولهم لقضية دارفور, فقد ذاق الأهالى هناك الأمرِّين منهم, خاصة خلال عهد النميرى, ويعانون منها الآن فى عهد البشير.

ولكى يكون الرئيس واثقاً من سداد الرؤى التى تقدم إليه بخصوص قضية دارفور, والجنجويد جزءاَ منها, يجب أن يكون لديه مستشار خاص بشئون دارفور, يكون من أبناء الإقليم عالماً ببواطن الأمور وشئون القبائل, مدركاً للأثر التاريخى للإدارة الأهلية فى تاريخ دارفور وثقافة القبائل فيها, يقدم إليه النصح السديد ولا يحرجه محلياً وقومياً وعالمياً مثلما يحدث الآن, ومع إقتراب الوصول إلى السلام يجدر بالرئيس أن يبتعد بقدر الإمكان عما يعكر مزاجه ويضعه فى مواقف التوتر, وهذا يتطلب التركيز بوعى وحكمة لمعالجة قضية دارفور وهى ليست بذات السهولة كما قد يتصور قصيرى النظر.

(2) الحكومة الإتحادية:
في عمود كلمتها اليومية بتاريخ الأثنين 10/11/2003م, أوردت صحيفة الأيام التعليق التالى عن أحداث زالنجي الأخيرة, وقالت: "إنَّ الموقف جد خطير في الإقليم وأنه يحتاج إلى علاج سريع تتولاه الحكومة المركزية بنفسها عن طريق القوات المسلحة لتضع حدا لنشاط هذه الجماعات المنفلتة التي تهدد حياة المواطنين وتقوض وجود الدولة في الإقليم. لا بد من أن تتولى القوات المسلحة زمام الأمور وتتعقب الجناة وتجردهم من سلاحهم لأن مجرد وجودهم بهذه الصورة يخلق منهم دولة داخل الدولة وهو وضع يجب أن ترفضه الحكومة تماما وتتخذ حياله الخطوات العاجلة والناجعة" (صحيفة الأيام 10/11/2003م). لكنَّ النائب الأول لرئيس الجمهورية على عثمان محمد طه فجع أهل دارفور ونوابهم بالمجلس الوطنى عندما خاطبهم أمسية الأحد 12/10/2003م, حين قال (يا أخواننا دعونا نكون صادقين ونواجه مسؤولياتنا فإن الأمن في دارفور ليس بقضية الحكومة الإتحادية!!... كفانا مزايدة وصياحا في الاعلام ورميا للاشباح وبحثا عن الشماعات, القضية ليس حلها في الخرطوم القضية حلها هناك في كل محلية وفي كل منتجع وفي كل مؤتمر قبيلة وفي كل مقر ومدينة)!! تباً لك يا إبن الخطاب و"والله لو عثرت بغلة بأرض العراق لسئل عنها عمر"! وهناك فى دارفور أبرياء يموتون بالآلاف ولا يسمح لهم حتى بالبكاء, أو حتى بمواراتهم الثرى كما فعل ذلك الغراب بجثة هابيل, إنَّ أقل ما يمكن أن يوصف به حديث النائب الأول هذا هو عبارة "رمتنى بدائها وإنسلت", وهى مداراة صريحة لواقع الحال ومخالفة للتقارير التى تترى كل يوم من داخل وخارج البلاد تؤكد تورط النظام مع مليشيات الجنجويد العربية فى حملات الإبادة البشرية المنظمة, هل النائب الأول ورهطه من جماعة الإنقاذ متورطين فى مؤامرة يستهدف دارفور وأهله؟ الناس هناك لا يؤمنون فقط بذلك بل وموقنون بحقيقتها ويؤكدون أنَّ النائب الأول أنما يواصل فقط ما قام به سلفه فى إشعال الفتنة!

هنا تتجلى دور الحكومة فى حل كارثة الجنجويد, فى أمرين لا ثالث لهما, ولا داعى للنكران والمداراة, إما أن تعلن مسئوليتها المباشرة عن هذه الفئات المارقة فتجمعهم وتنزع أسلحتهم وتجرى تحقيقاً لما قاموا به من تجاوزات وتعتذر للضحايا من الأهالى المسالمين مع تعويضات قانونية, وإما أن تعلن عن خروج الجنجويد عن طوعها فتشعلها حرباً عليهم وتطلق يد القوات المسلحة فيهم وتطبق عليهم عقوبة حدِّ الحرابة المنصوص عليها فى القرآن الكريم. ببساطة الكرة حول هذه المسألة فى ملعب الحكومة وعليها أن تتحرك الآن قبل الغد وإلاَّ فإنَّ أصحاب القبعات الزرقاء سوف ينزلون بطائراتهم فى مطارات الفاشر ونيالا والجنينة, وسيجوبون قرى وفيافى دارفور, وبيدى فعلت لا بيد عمرو.

 (3) الحكومات الولائية:

أستغرب كثيراً حينما أقرأ تصريحات حاكم جنوب دارفور الفريق آدم حامد موسى و تبجحه الفارغ دوماً عن إستقرار الحالة الأمنية فى ولايته مقارنة بولايات دارفورالأخرى, لكن واقع الحال يكشف زيف ذلك إلى الدرجة التى يمكن وصف تصريحاته حول الحالة فى ولايته بالمقولة المصرية "البرَّة هلاَّ هلاَّ والجوة يعلم الله"! والسبب جد بسيط فإذا كان الأمر كما يقول سعادته فلماذا تمنع الحكومة زيارة السفراء والأجانب لحاضرة ولايته؟ إنَّ فى الأمر لشيئ خطير ومدفون فلقد بلغنا مؤخراً أنَّ الأهالى هناك يتحدثون عن وجود قوات وعناصر عربية أجنبية جاءت من موريتانيا ومالى والنيجر وليبيا تمَّ تجميعها فى معسكرين كبيرين, أحدهما بالقرب من مدينة عد الغنم بدار بنى هلبة والأخرى غرب مدينة كبم على مقربة من الحدود التشادية, فما السر والغرض من إستجلاب تلك العناصر الأجنبية وتسكينهم فى معسكرات محمية بقوات الحكومة؟ هل لتوطينهم فى مشروع تعريب دارفور, أم لتهديد الرئيس التشادى إدريس ديبى إذا ما أراد اللعب بذيله؟ الإجابة عن ذلك متروك لسعادة الوالى, هذا بخلاف مجازر قوات الجنجويد التى أحالت المناطق المحيطة بنيالا ومناطق كاس وأطراف جبل مرة إلى بقع جرداء لا حياة فيها, ولذلك كان خوف الحكومة عظيماً أن ينكشف ذلك للإعلام الخارجى إلى الدرجة التى رفضت فيه للسفير البريطانى من الإستمرار فى زيارة للإقليم بدأها بمدينة الفاشر, ولمَّا همَّ بالمغادرة إلى نيالا القريبة تم منعه! ونتيجة لذلك أصدرت السفارة البريطانية بالخرطوم بياناً حول ملابسات الحادث, والظن أنَّ السفير البريطانى قد أبدى شكوكه حول الأمر للقائم بالأعمال (السفير) الأمريكى, فقرر الأخير هذا التأكد من ذلك وطعن الفيل مباشرة فى جسمه وليس ظله فطلب السفر مباشرة إلى نيالا (بالدرب العديل) فتم منعه أيضاً!

أما حاكم شمال دارفور السيد عثمان محمد يوسف كبر فقد ظلَّ يتحدث كثيراً بسبب وبدون سبب, وكلها أحاديث يجافى واقع الحال والناس, لكن عليه أن يكشف عن مضمون تقرير القاضى المستقل عن مجزرة كتم, فهو قد أمر بإعدادها وهو الذى إستلمها, وهو الذى ما زال يخفيها.

إنَّ أحد مشاكل حكام دارفور مع أهلهم هو أنهم معيَّنون من جانب رأس الدولة الفريق البشير, وأنَّه قد تم إختيارهم بحكم موالاتهم للنظام وقابليتهم لتنفيذ سياساتها حتى وإن تعارض ذلك مع مصالح أهلهم, ودائماً ما يصيبنى خاطرة كلما أتابع تصريحاتهم فى الصحف وأكاد أحس بأنَّ لديهم شعور يتقمصهم بأنَّهم مجرد موظفون يؤدون واجبات محددة لحكومة الخرطوم وليسوا حكاماً بالمعنى السائد لكلمة الحاكم, ويتساءل الكثيرون عن سبب تنكر هؤلاء الناس لمسئولياتهم الواجبة تجاه أهاليهم؟ ولماذ الإنكار المتكرر عن عدم حدوث مجازر, وأنَّ الأمور عال العال يافندم؟ هل يحس هؤلاء الحكام بمعاناة أهلهم الذين يرزحون تحت وطأة كذبهم المتكرر ومجاراتهم لمتسلطى الخرطوم؟ وهل يعلمون أنَّهم إنمَّا يمثلون هؤلاء الغلابة الذين يتحدثون بإسمهم؟ ولذلك نفر الناس منهم, فقد حدثنى أحد الإخوة أن والى شمال دارفور قال لأهل الفاشر "أنا عارف إنتو ما عايزنى, لكن أنا قاعد وما فى واحد منكم يقدر يشيلنى"!! ما النفع وراء حاكم كهذا؟

على العموم يجب على حكام دارفور أن يكونوا صادقين مع أخوانهم وأخواتهم من سكان الإقليم, فالرائد لا يكذب أهله, وكرسى الحكم مسئولية أمام الله قبل أن يكون أمام البشير, ولعلَّه من الأوجب للحكام أن ينزلوا إلى مستويات الشعب وأن يستمعوا إليهم ويتحسسوا آلامهم ويداووا أوجاعهم فتلك روح القيادة, ثمَّ إنَّ عليهم أن يقرأوا تاريخ دارفور جيداً ويحاولوا إستنباط الحلول من تراث الإدارة الأهلية الغنى التى حزمت أمر الإقليم لأكثر من خمس قرون قبل أن يأتى غرباء عنها يعبثون بها, كما إنَّ عليهم أيضاً أن يعوا بثقافة الإستقالة والتى صارت أندر من لبن الطير فى عهد الإنقاذ, فإذا شعروا بأنَّ هناك أموراً تفرض عليهم من علٍ فالرزق ليس محصوراً فى كرسى الحكم ونظام الإنقاذ, فهم قد عاشوا قبلها وسيعيشون بعدها, لكن بالشرف والكرامة بدون عقدة الضمير.

نعتقد أنَّ هناك مسألة أخلاقية تقع على عاتق حكام ولايات دارفور وأجهزتهم الحُكمية تتمثل أولها فى بسط الأمن على سائر أرجاء الإقليم وجعل الناس يشعرون أنَّ هنالك حكومة إسمها حكومة السودان, فما عاد ذلك ممكناً فى ظلِّ أوضاع القتل والنزوح اللتان تحدثان الآن, تلك أولى خطوات الحل وأهمَّها على الإطلاق, ويجب عليهم أن يضعوا خطة أمنية متكاملة يتقدمون بها إلى الحكومة الإتحادية بضرورة تفعيل القوات المسلحة للسيطرة على قوات الجنجويد. من ناحية ثانية عليهم تفعيل الإدارة الأهلية, وحسناً سمعنا بأنَّ هناك خطة لعقد مؤتمرلقيادات الإدارة الأهلية بالإقليم بمدينة نيالا بعد عيد الفطرالمبارك, لكننا نرجو, ونحذِّر, ثم نحذِّر, ثم نحذِّر من محاولة توجيه ذلك المؤتمر للبصم على سياسات الحكومة الجائرة على دارفور, أو توجيهه لإتخاذ مواقف معادية من الحركة المسلَّحة التى تناضل من أجل إنتزاع حقوق الإقليم, ونرجو من حاكم ولاية جنوب دارفور خاصةً أن يتحلى بالحكمة والموعظة الحسنة, فقد سبق وما زال لديه مواقف حادة ضد هؤلاء الإخوة حملة السلاح, وظلَّ يتحسس مسدسه كلما سمع بإسمهم, وليس فى ذلك شيئ من حكمة القيادة أو الحكم, هؤلاء الإخوة لم يعرف عنهم إرتكاب مجازر وتصفية عرقية, وحربهم ضد الحكومة ظلَّ على الدوام كتاباً مفتوحاً مقروءاً, وعليه نتمنى أن ينعقد ذلك المؤتمر فى إطار بيت دارفور الكبير الذى يجمع ولا يفرق, ويبنى ولا يهدم, ويجبر ولا يكسر, وقبل هذا وبعده يجب على هؤلاء الحكام وأجهزتهم أن يعوا بأنَّهم من أهل ذلك البيت الكبير, وإن إحتموا اليوم بسلطان الحكم وتوشحوا بردائه فإنَّ مآلهم غداً هو أن يكونوا بين ذات الناس الذين يحكمونهم الآن وسيأكلون الطعام مثلهم وسيمشون بين أسواقهم, وحينها تكبر وتعظم كلمات مثل "شكراً" و"بارك الله فيك" بدلاً عن لعنات أخريات مثل "الله يلعنك", وأهل دارفور يمكنهم أن يقولوا ذلك ب 29 لهجة مختلفة, فإحذروا!  

 (4) أبناء دارفور بالحكومة الإتحادية:

قام الدكتور أحمد بابكر نهار وزير التربية والتعليم الإتحادى, والمهندس عبدالله على مسار حاكم ولاية نهر النيل, وكلاهما من أبناء الإقليم, بزيارة مواقع حركة تحرير السودان بمناطق شمال دارفور, وإمتدت زيارتهم بصحبة وفد كبير نحو شهر, فى محاولة للتوفيق بين الحركة المسلحة والحكومة السودانية نحسبها قد هيأت الظروف لإنعقاد مفاوضات أبَّشى الأولى للتوصل لهدنة وقف إطلاق النار بين الجانبين, كنَّا نتمنى, بل ونظل نرجو, أن لو قام السيد عبدالحميد موسى كاشا وزير التجارة الخارجية, والسيد يوسف تكنة وزير التعاون الدولى بصحبة وفد كبير من أبناء القبائل العربية بجنوب دارفور, بزيارة إلى مناطق أهليهم والتحدث إليهم ومناشدتهم بضرورة دعم مبادرات السلم وتعزيز سمات التعايش السلمى بين كل قبائل الإقليم, لو حدث ذلك وأخريات مشابهة لهدأت الخواطر قليلاً ولإنفتحت آفاق الحلول, ففى ساعة الغضب ونفور الدم يتوقف العقل وينشط الشيطان ولذلك كانت نصيحة الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بضرورة إطفاء نيران الغضب بالوضوء أو تغيير وضع الجسم, ولا ندرى إن كان فى نظريات علوم السيكولوجى اليوم مثل هذه الوصفة الطبية الهامة.

بعض أبناء دارفور المشاركين فى أجهزة الحكم المركزى وقيادة الحزب الحاكم متهمون ليس فقط بالتخلى عن قضايا أهاليهم الغلابة بل وبالعمل ضد تطلعاتهم فى حياة كريمة وعيش آمن, هؤلاء الإخوة يجب أن يعلموا ذلك, ويجب أن يعلموا أيضاً أنَّ "العرجا لى مراحها", وأن يعملوا وفق ذلك أيضاً, ومهما فشلوا فى محاولاتهم فإنَّ الناس سيقدرون ذلك لهم, فبالتأكيد أنَّ هناك سقوفاً محددة فوق رؤوسهم لا يستطيعون تجاوزها, لكن سعيهم على أى حال سيكون مشكوراً, إنَّ إنقاذ روحاً واحدةً بريئةً من قتل جائر لفيه حياة للناس جميعاً, كما ذكر خالق الأرواح فى محكم تنزيله, وطالما أنَّ هؤلاء الإخوة مشاركين فى الحكم بمستويات ومهام مختلفة فإنَّ لذلك مسئوليات أخلاقية كبيرة تستوجب مراعاتها, مثل تقديم النصح والمشورة لمتنفذى النظام الذين لم يعرفوا عن دارفور إلا ما روتها لهم جداتهم, بل من المفيد أيضاً أن يُكوِّنوا مجلساً إستشارياً خاصاً تكون مهمته تقديم الإقتراحات ومداخل الحلول المنبثق من, والمرتكزعلى, ثقافة أهل دارفور وتراثهم بدلاً من ترك قيادة الدولة تبغى فى هيجانها دون حكمة أو معرفة بواقع الأمور. على العموم هذا موضوع شائك قليلاً يتعلق بمدى فهم أبناء دارفور الذين يُشركون فى السلطة المركزية لدورهم تجاه دارفور وأهاليهم نتمنى أن نتناوله فى مناسبة أخرى.

(5) أبناء دارفور بالمجلس الوطنى:

بالرغم من حلكة الظلام تظل مبادرات نواب دارفور بالمجلس الوطنى علامات مضيئة, ومهما إختلفنا مع التوجه السياسى للكثير منهم إلاَّ أنَّهم ظلوا يتحركون على قدر المتاح لهم من المساحة, ولعلَّ إنسحابهم من إجتماع المجلس الوطنى فى الثانى والعشرين من شهر أكتوبر الماضى كان لافتاً و شكلَّ «لفت نظر» لتفاقم الأوضاع الأمنية بولايات دارفور و«احتجاجاً» على عدم تضمين موضوع دارفور ضمن أجندة البرلمان الطارئة, ولعلَّ لقاءهم مع رئيس الجمهورية بعد ذاك الحدث قد أعطتهم فرصة ليوصلوا همومهم وهموم أهلهم لأعلى قيادة الدولة بعد فجيعتهم قبلاً بحديث النائب الأول آنف الذكر.

كما يُثمِّن أهل دارفور أيضاً النشاط الإعلامى الواسع الذى يعكسه هؤلاء النواب فى تبصير العالم بحقيقة ما يجرى فى مناطقهم من أحداث, وحقيقة فهم الصوت المعبر عن هموم من يمثلونهم, ومن هذا المنطلق فواجب عليهم متابعة ذلك وأن يشاركوا بقوة فى رتق التمزق الذى ضرب جسد الإقليم, ويا ليت لو رأيناهم يجوبون أنحاء الإقليم فى وفود للمصالحة الإجتماعية ومخاطبة القواعد بخطاب توافقى وبنبرة أخوية وسيستمع إليهم أهل دارفور فهم أهل أمثال وحكم, ولعلَّهم بذلك سيتمكنون من إصلاح إعوجاج بيت دارفور المائل.

(6) أبناء دارفور بالأحزاب السودانية:

أين دور أبناء دارفور المنضوين فى أحزابنا القومية فيما يحدث من مآسى بالإقليم؟ أين دكتور مادبو, دكتور عبدالنبى, دكتورعلى الحاج, دكتور الحاج آدم يوسف, أمين بنانى, دكتور على حسن تاج الدين؟ ... الخ, وأين هم من هموم دارفور؟ هل نسوا ولاءاتهم الحزبية ولو للحظة وإجتمعوا ليتشاوروا فى حلول لمشكلة أهاليهم بفيافى دارفور أم أنَّ صخب العاصمة السياسى قد أصمَّتهم سماع أنين القتلى والجوعى هناك؟ لا نعرف كيف نجيب نيابة عنهم لكن الشيئ الذى نفهمه هو أنَّ العمل السياسى تقوم على ركيزتين أساسيتين هما القاعدة الجماهيرية والبرنامج السياسى, وبالنسبة لهؤلاء السياسيين فإنَّ قواعدهم السياسية, وكشيئ طبيعى, يجب أن ترتكزعلى أهلهم هناك فى دارفور وبالطبع هناك تبعات لذلك أقلَّها الجلوس معهم والتصدى لمشاكلهم والإستماع لقضاياهم, فإذا أحسنوا فعل ذلك اليوم فسيحسن إليهم تلك القواعد غداً والأمر بيدهم.

ثمَّ أين حزب الأمة مما يحدث أيضاً؟ هل قنع قادتها من أى خير فى دارفور وهى التى ظلت تعطيهم أكثر من 90% من المقاعد البرلمانية المخصصة لتمثيلها فى كل دورة إنتخابية؟ ومن المعروف أنَّ كل شياطين الفتنة العرقية الحالية التى ضربت دارفور قد أطلَّت برؤوسها عندما كان رئيس هذا الحزب على قمة الجهاز التنفيذى فى الدولة, وإنقسمت دارفور حينها, فغضَّ رئيس الحزب الطرف عن ذلك حتى إنقضَّت عليه كواسر الجبهة الإسلامية فكان هذا الخراب.
ولقد سبق أن قلنا فى مقال مبكرأنَّ العلاقة بين المواطن والحزب هى علاقة عقدية تقوم على فقه المصالح المشتركة, فكل منهما يخدم الآخر من أجل منفعة متبادلة, واليوم حين يشكل حزب الأمة غياباً تاماً عن مشكلة دارفور فهل يأمل أن يظل ذلك الرصيد التاريخى الإنتخابى سليماً بلا نواقص؟ كلا, فالصديق وقت الضيق, وأهل دارفور اليوم فى ضيق بينما إنصرف حزب الأمة إلى خلافاته وتشققاته وتوهانه فى دهاليز السياسة السودانية الأمريكية. فعندما ضربت الفيضانات كسلا قبل نحو شهرين قام السادة الختمية المراغنة بتسيير 30 شاحنة محملة بكل أنواع الإغاثة مثل الخيام والبطاطين والملابس والأطعمة والأدوية, لماذا؟ لأنَّ كسلا هى معقل الختمية والمرغنية والقاعدة السياسية الحصينة لحزبهم الكبير, فأين حزب الأمة من ذلك إزاء مشكلة دارفور؟ أقسم بالله صادقاً لو أنَّ الصادق المهدى ترك حرده فى القاهرة وقفل راجعاً ليقضى أسبوعين فقط متنقلاً فى ديار قبائل البقارة لتمكن من إطفاء هذه الفتنة ولساعد فى إنقاذ أرواح الألوف من البشر ماتوا دون وجه حق فى هذه الحماقة اللئيمة, لكن كما تزرع سوف تحصد, والحساب ولد فى نهاية الأمر.

 (7) الإدارة الأهلية:

الإدارة الأهلية هى ملح التعايش السلمى بدارفور ولقرون مضت من الزمان, وبتحطيمها إنهارت سمات التعاون والتعاضد الذى عُرف عنه أهل دارفور على مرِّ العصور, وعليه فإننا نعتقد ضرورة وجود إستراتيجية طويلة المدى لإعادة بناء النسيج الإجتماعي بدارفور من خلال الإعتماد على إدارة أهلية قوية خاصة بعد الحروب التي جعلت القبائل تقتتل مع بعضها البعض, وكمدخل لا بد منه يجب مراجعة قانون الإدارة الأهلية الحالية التى وضعته نظام الإنقاذ, وإعادة تأهيل هياكل هذه الإدارة بما يضمن لها السيطرة على الخلافات القبلية كسابق عهدها لقرون فى ضبط حركة القبائل بدارفور وإقرار ممارسات الشورى والأعراف في حلها للمشاكل المستعصية.

إنَّ واحدة من الفتن الرئيسية التى زرعتها حكومة الإنقاذ فى دارفور هى إلغاء الهياكل التاريخية للإدارة الأهلية وإستبدالها بنظام الأمارات القبلية المصطنعة, والهدف كما هو معروف تفتيت ديار القبائل الكبرى وزرع بطون غريبة داخلها لتسهل السيطرة على كل الدار عبر قرارات فوقية, ولذلك فإنَّه من الحكمة بمكان إلغاء هذه الأمارات وتثبيت حواكير القبائل كما كانت يوم خروج المستعمر في عام 1956م, وإعطاء القبائل والبطون التى تم زرعها أو فرضها بالقوة وبضغط من الدولة, حقوق المواطنة الكاملة فى العيش والتنقل فى الديار التى إستوطنوا بها لكن دون سلطات قانونية وإدارية مستقلة عمَّا كان موجوداً قبل نزوحهم لتلك الديار. كما أنَّه سيكون مفيداً تكوين مجلس شورى قبلى يضم زعماء كل القبائل بدارفور بواقع ممثل واحد فقط لكل قبيلة هو زعيمها, ويكون هذا المجلس بمثابة برلمان أهلى لشئون القبائل, ولها صفة الإستشارية فقط, ويكون لها مقر دائم بمدينة الفاشر, العاصمة التاريخية لدارفور, ولها أمانة دائمة, وتتبع للوالى مباشرة, وتنعقد جلساتها مرتين على الأقل فى العام. مثل هذا المجلس سيكون له أثر إيجابى وسريع فى رفد التعايش السلمى بدارفور ودعم خيارات التعاون والتصالح. خلاصة القول هو ضرورة أن تعود الإدارة الأهلية قوية وفاعلة وتحديثها بآليات جديدة يمكن أن تزيد من مهمتها الأساسية فى حفظ النظام وضبط حركة القبائل.

(8) أبناء القبائل العربية:

إنَّ أكثر المتضررين من السُمعة الشائنة لمليشيات الجنجويد هم الشريحة الواعية من أبناء القبائل العربية بدارفور, ولعلَّ ذلك قد يمثل سبباً كافياً لهم كى يتحركوا ويبصروا المنفلتين من إخوانهم بضرورة الكف عن إرتكاب هذه الجرائم ومجازر القتل الجائر, ثمَّ إنَّ على طوائف التجمع العربى والمتبنين لبرامج قريش أن يعلموا أنَّ ما يفعلونه سوف لن تؤدى بهم إلاَّ إلى الهلاك وإلى مآسى لا يعلم بها إلاَّ الله, وهم إن ظنوا أنَّهم بإمكانهم إبادة قبائل الزرقة صاحبة الأرض لإنشاء دولة العرب على أشلائهم فإنَّهم واهمون, فيوم أن تذهب هذه الحكومة التى وفرت لهم الآيدلوجية والسلاح والتعتيم الإعلامى فسينكشفون أمام كل العالم وربما يدفعون ثمناً غالياً لم يتحسبوا له الآن.

إنَّ من حق التجمع العربى ومن حق كل جماعة أو فرد, أن تسعى وتناضل فى سبيل نيل حقوقها وتطوير قدراتها, تماماَ مثل الآخرين, لكن ذلك يجب ألاَّ يكون على حساب جماعة أخرى وبطريقة همجية تتخذ من القتل والإبادة أسلوباً لتحقيق الغايات, وإذا كان المطلوب هو تطوير دارفور فيجب أن يتكاتف الجميع, عرباً وزرقة, من أجل ذلك طالما أن الأرض واحد والثقافة واحدة والتاريخ مشترك والمصير هو نفس المصير, إنَّ التبعية العمياء لسياسات نظام الإنقاذ ليس فيه إلاَّ الهلاك, فهى قد أهلكت معظم السودانيين وأضرت بهم ضرراً لم يشهدوه من قبل, وها هم يواجهون من المآزق العصيبة التى لم تجلبها عليهم إلاَّ أفعالهم, ومن أقدار الله سبحانه وتعالى أنَّه قد يسلط على بعض عباده الظالمين من لا يتق الله فيهم وقد ينكل بهم بأضعاف ما إرتكبوه بحق الأبرياء والمساكين, فالظلم ظلمات.

نحن نعلم أنَّ هناك المئات من الروابط القبلية العربية منتشرة على طول البلاد وعرضها وكذلك حول العالم, هذه قدرات دارفورية يجب أن تتجه للبناء ولتطوير دارفور بدلاً عن غير ذلك, والتعايش السلمى والسلام الإجتماعى من أهمَّ مرتكزات البناء, لأنَّه من غير سلام فلن يكون هناك بناء, وعليه نتمنى أن يعى الإخوة أبناء العرب ذلك ويبشرون به فى أوساط أهلهم وكل أهل دارفور, وفى هذا المسعى يعجبنى بيان أبناء العرب الرحل من شمال دارفور بالخارج عقب حادثة كتم الأليمة فى السادس من شهر سبتمبر الماضى, ونشروه بموقع سودانيزأونلاين بالإنترنت, جاء فيه: "ان الاحداث كشفت عن طبيعة الخطة التي وضعها النظام للدفاع عن نفسه ومواجهة المعارضين له هناك, وقد ركز كالعادة لاستخدام البسطاء من اهلنا كدروع بشرية يتقي بها الضربات التي توجه له, يقوم بأشعال الفتنة القبلية بين ابناء الاقليم ليرتد رصاصهم الى صدورهم .. وفي هذا الصدد نرى ان يعي ابناء الاقليم هذا المخطط وان لايدعوا النظام الغاشم ان يحول الامور الى حرب قبلية لا تبقي ولا تذر والخاسر الوحيد فيها نحن شعب دارفور وشعب السودان قاطبة ...ونؤكد حرصنا على التضامن مع سكان الاقليم, ونرى ان ما يجمعنا هو التاريخ الطويل للتعايش السلمى والجغرافيا والمصالح المشتركة, ولا مصلحة لاهلنا في الدفاع عن اي سلطة في المركز, لاننا مثل كل بقية سكان الاقليم يعاني اهلنا من الاهمال, وغياب التنمية والامن, ويتفشى الجهل في اوساط قبائلنا مما جعل اصطيادهم سهلا عبر بعض الانتهازيين الذين يستغلون اهلنا من اجل الحصول على سلطة ما, او مال ...وندعوا كافة المثقفين والمهتمين بامر دارفور الى اعلان ميثاق عمل مشترك يوقف العنف المتبادل ويكون اساس للوحدة بين كل ابناء الاقليم بغض النظر عن قبائلهم او لونهم او منطقتهم .. ونحن اذ نعلن هذا لا يغيب عن بالنا المرارات التي تخلفها الحروب وفقدان الاهل,  لكن هذه دعوة للتسامي فوق الجراح الخاصة الى الهم العام,  وان يتحلى جميع ابناء دارفور بكل انتماءاتهم بروح التسامح وعلينا البحث عن طريق ثالث يفضي الى حل جزري لهذه المعضلة, وان ندرك ان الحرب القبلية ستحول الاقليم الى خراب في ظل نظام متوحش يغزي النعرات القبلية بعد ان سقطت كل وسائله لحشد مؤيدين له وفي الآخر لا بديل لنا الا العيش المشترك, واذا كان لابد من حدوث ذلك فليكن الان".

هذه هى اللغة التوافقية التى نريد أن نسمعها من أبناء كل قبيلة عربية أوغير عربية بدارفور, ولا شكَّ فى أنَّ ذلك البيان قد عبَّر بصدق عمَّا يجيش بنفس كل إنسان غيور على دارفور وأهلها, وشخصياً أشكر الموقعين على ذلك البيان ونثمن جهودهم ووعيهم العميق بضرورة رأب الصدع الذى أخلَّ بجبهة دارفور, ونتفاءل خيراً بالمستقبل طالما أنَّ مثل هذا الفهم قد أخذ يدب فى شرايين الوعى الإجتماعى بيننا.

(9) تجمعات أبناء دارفور ومنظمات المجتمع المدنى بداخل السودان:

بدأت جمعيات أبناء دارفور ومنظماتهم المدنية المختلفة الإهتمامات والأغراض تتكاثر فى السنين الأخيرة فى داخل السودان, مما يعد محاولة مطلوبة بشدة لرفد المجالات الإجتماعية والتنموية المختلفة بمزيد من الجهد والنشاط, وفى سياق ذلك فقد تشكلت فى نهاية شهر سبتمبر الماضى "شبكة دارفور للعمل الطوعي" تشتمل على أكثر من خمسين منظمة وأكملت تسجيلها رسمياً لتباشر عملها تحت إسم «دارفورنت», كما تكونت فى الفترة ذاتها "شبكة منظمات دارفور الطوعية للسلام والتنمية" وهى تهدف لخدمة إنسان دارفور في مجال درء الكوارث وإعادة التعمير والتنمية وتحقيق الأمن والإستقرار وإستقطاب الدعم الخارجي وتوفير المعلومات بالطرق العلمية, كما توجد أيضاً تجمع روابط دارفور بالجامعات والمعاهد العليا بالسودان, والذى يضم أكثر من أربعين رابطة جغرافية وإثنية وجامعية و يبلغ إجمالي عضويتها أكثر من سبعة وعشرون ألف طالب وطالبة بالجامعات والمعاهد العليا.

إنَّ دور مثل هذه المنظمات سيكون حاسماً فى دعم جهود الدولة فى مختلف المجالات خاصة فى مجال إرساء قواعد السلام والتعايش السلمى, وطالما أنَّ منظمات المجتمع المدنى تنبع من قلب الشعب وتعيش بينهم وتتفاعل مع همومهم فهى تظل الأكثر وعياً بمشاكلهم وقضاياهم, وبالنسبة لدارفور فإنَّ متابعة فتنة الجنجويد تظل مجالاً حيوياً تحتاج لجهود المنظمات الطوعية لأبناء القبائل العربية لأنهم ببساطة الأقدر على فهم الدواعى الحسيَّة والعوامل السيكلوجية التى دفعت تلك المليشيات ومن وراءها فى خلق حمامات الدم بأرض دارفور الطاهرة, من ناحية أخرى لا بد لهذه الجمعيات والمنظمات من الإلتزام بالشفافية والتجرد والعمل المخلص فى تأدية واجباتها, كما يكون من المستحسن أن تتعاون فيما بينها وأن تعقد مؤتمرات سنوية على الأقل لتبادل المعرفة والمعلومات ولتقييم النجاحات وتقويم العثرات.

(10) تجمعات أبناء دارفور بالخارج:

ومثلما تكاثرت الجمعيات والمنظمات الطوعية لأبناء دارفور داخل السودان فقد تكاثروا أيضاً خارجها على مدار المعمورة, ويلاحظ فى الفترة الأخيرة كثرة البيانات الصادرة عن هذه المجموعات وعمق إلتزامها بقضايا دارفور, هذه المنظمات تتمثل أغلبها فى شكل روابط وجمعيات إجتماعية لكن بدأت بشارات بروز منظمات متخصصة, وإن كان أغلبها فى مجال الإغاثة وحقوق الإنسان, إلاَّ أننا نتوقع قيام منظمات جديدة تعنى بجوانب أخرى مثل الأدب والثقافة والتاريخ والتراث, ونعلم أيضاً أنَّ رابطة أبناء دارفور بأمريكا الشمالية تسعى لإنشاء أكبر موقع دارفورى على شبكة الإنترنت سيكون نبراساً عالمياً لعكس قضايا دارفور باللغتين الإنجليزية والعربية وسيوفر مجالاً رحباً لكل منظمات وروابط دارفور حول العالم للإستفادة من خدماتها.

وبينما تظلَّ نشاطات أبناء دارفور بالخارج محصوراً فى بعض جوانبها بتجمعاتهم حيث يقيمون إلاَّ أنَّ دارفور تكون دوماً حاضرة بينهم, فالضفر لا يخرج من اللحم كما يقولون, ونتوقع أن نرى إسهاماتهم تترى على الإقليم فى الفترة القادمة ولا يخفى حقيقة أنَّ الأحداث الأخيرة التى ضربت الإقليم قد وحَّد أبناء دارفور بالخارج بصورة أكثر من ذى قبل, إذ سرى بينهم فهم عام إنبنى على حقيقة أن الإلتزام بقضايا دارفور وأهله, وتحت هذه الظروف تحديدا, قد صارت قضية أخلاقية إلزامية قبل أن تكون أختيارية.

إنَّ الدور المتوقع لهذه المنظمات فى دعم دارفور هوأن تكون حاضرة بطريقة ما إزاء ما يجرى فيها, ويعجبنى فى هذا الصدد وجود سكرتارية كاملة فى اللجنة التنفيذية لرابطة أبناء دارفور بأمريكا الشمالية تحت مسمى سكرتير شئون إقليم دارفور, ولا شك فى أن ذلك سيتيح لكل أعضاء هذه الرابطة متابعة أمور إقليمهم من كوة هذه السكرتارية, كما سيمكنهم أيضاً من المشاركة بقوة فى دعم ملف التعايش السلمى بالإقليم جنباً لجنب مع جهود كل القوى المهتمة بشأن دارفور والسلطات المحلية وأبناء وقيادات القبائل نفسها وأى قوى مقدرة أخرى مثل السلطة المركزية السودانية ومنظمات المجتمع المدني والقوى السياسية والدولية, كل هذه الأطراف لها أدوار موازية لتدارك إفرازات الصراع وإنهيار التعايش السلمي بين القبائل المختلفة.

(11) الحركات المسلحة بالإقليم:

تظلُ الحركات المسلحة بدارفور مهمومة بكفاحها لرفع الظلم الواقع على أهل دارفور أجمعين بكل كياناتهم العرقية, وحقيقة فإنَّ هذه الحركات لم ترِد رفع السلاح فى وجه الحكومة البتة, فهم حقيقة إنما عبَّروا عن مطالب أهل دارفور باللغة التى تفهمها الحكومة, وقد كانت للحكومة فترة كافية طول 14 سنة الماضية كى تتفادى ما حصل ولكنَّها إستمرت فى غيِّها دون إحترام لأناس كانوا وحتى وقت قريب أهل عزٍّ وسلطنة, وعليه فنعتقد أنَّ لهؤلاء الإخوة قضية لها جوانبها السياسية والتنموية, لكنَّ الجدير بالذكرفى مسألة الجنجويد هو أنَّ هذه الحركات المسلحة ليست البادئة فى الصراع معها إذ أنَّ نشأة الجنجويد قد سبق قيامها بسنوات بعيدة, لكننا يمكن أن نقرر بإطمئنان أنَّ هذه الحركات, فى جانب منها, ما قامت إلاَّ كرد فعل لإعتداءات مليشيات الجنجويد, وفى ذلك فإنَّ اللوم الأساسى يقع على جانب الحكومة التى تساهلت إبتداءاً فى التعامل الحاسم مع تلك التجاوزات.

بالرغم من ذلك نعتقد أنَّ لهذه الحركات المسلحة دوراً إيجابياً يمكن أن تلعبه فى دعم السلام القبلى والتعايش السلمى وذلك من خلال دعوة المثقفين والواعين من أبناء القبائل العربية وغيرهم من أبناء الإقليم للحوار فيما يختص بدعم مبادرات التعايش السلمى, ورتق تشوهات النسيج الإجتماعى, وإشراكهم فى صنع القرار الدارفورى, ولا يجب أن يشكل أفعال قوات الجنجويت الضالة حاجزاً للتواصل مع العناصر العربية عموماً, وللحقيقة فإنَّه يكاد أن يكون كل أبناء  القبائل العربية مستنكرون لما يحدث بإسمهم, وتنادى معظمهم للعمل الجاد لإزالة الأحقاد والمرارات التى تولدت من موجات العنف والدمار, إنَّ القبائل العربية جزء لا يتجزأ من دارفور: سكانها وتاريخها وتراثها وثقافتها, ولا يمكن تجاوزهم بأى حال من الأحوال.

وقد سبق أن إقترحنا على الحركات المسلحة ضرورة العمل على إنشاء مكاتب إعلامية ونقاط إتصال داخل وخارج السودان وضرورة التواصل مع المثقفين من أبناء الإقليم المنتشرين حول العالم, وإنتهاز أية مناسبة لتوحيد كل الفصائل العسكرية فى حركة واحدة تحت قيادة عسكرية وميدانية موحدة, ثمَّ تشكيل قياد سياسية ومكتب سياسى لتولى العمل السياسى والإعلامى للحركة المسلحة, ومن ثمَّ الترتيب لعملية التفاوض مع الجانب الحكومى وهذه مهمة لا تحتمل التأجيل أو التردد أو المزايدة, وأخيراً التفكير فى خلق تنظيم سياسى قومى جامع لأهل دارفور يتجاوزون بها التمثيل السياسى الفطير مثلما كانت فى العهود السابقة.

(12) القوى الدولية:

دخلت قضية دارفور المحور الدولى شاءت الحكومة أم أبت, ولا شك فى أنَّ تجاوزات الجنجويد قد ساهم بشكل مباشر فى ذلك التدخل, وقد لاحظنا أنَّ بعض الدبلوماسيين صاروا يشيرون صراحة فى ضلوع الحكومة فى مجازر تصفية عرقية ووقوفها بجانب المليشيات العربية, وكما أسلفنا فقد إرتكبت الحكومة خطأً فادحاً بمنع السفيرين البريطانى والأمريكى من زيارة جنوب دارفور, ومهما تعللت الحكومة بأسباب إلاَّ أنَّ المثل الذى يقول "الحرامى فى راسه ريشة" ينطبق عليها, وقد ورد فى الأخبار إستعدادات مجلس الأمن الدولى لمناقشة إرسال قوات أمنية لدارفور بطلب قدمه السفير البريطانى بالأمم المتحدة, ولا شكَّ فى أنَّ لمثل هذا الخبر تداعياته الخطيرة والضغوط التى يمكن أن تمثله للسودان وهى مقبلة على مفاوضات سلام حاسمة مطلع الشهر القادم بنيفاشا.

القوى الدولية ستتولى قضية دارفور مقلما تولت مناطق جبال النوبة وأبيى, كما ستتولى مراقبة وقف إطلاق النار فى جنوب السودان بعد إقرار التسوية السلمية بعد المفاوضات القادمة, فوكالة التنمية الأمريكية قد نفذت عدداً من الزيارات لدارفور وعلى مستوى أعلى مسئول فيها هو مديرها العام, ومن قبله نائبه, وهم ينوون تطبيق تجربة ناجحة طبقوها فى منطقة أبيى للتعايش السلمى, ويبقى لنرى كيف ستتعامل الحكومة مع هذه الظروف المستجدة, والخطيرة فى آن واحد.

حلول عاجلة:

نعتقد أنَّه لابد من وقف حمامات الدم الذى يجرى على أرض دارفور, فحتى ومع هذا الشهر الكريم, شهر التوبة والغفران, إستمرت المذابح وكأن شيئاً لم يحدث, ولذلك نختتم هذا المقال بإقتراحات بسيطة تمثل حلاً عاجلاً لمسألة الجنجويد, نضمنها فى التالى:

(1) إعلان أسبوع للسلام بدارفور يتم فيه وقف كل أبناء دارفور بالحكومة والمجلس الوطنى, "الوزراء والنواب وكبار الموظفين", وبقية كبار السياسيين بالأحزاب الأخرى, من العمل وتنظيم أنفسهم فى شكل فرق تجوب أرجاء دارفور, كل منطقة من أبناءها, وتجتمع بشيوخ الإدارة الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى وعامة الناس, وتلتقى بهم فى أسواقهم ومراعيهم وموارد المياه وأماكن تجمعاتهم, ليطرحوا رسالة السلام والمحبة والتعاون وإرجاع دارفور إلى سابق عهدها من الرخاء والعزة والكرامة.
(2) على الحكومة أن تدرك أنَّه قد آن الأوان لوقف الفتن بين قبائل الإقليم, وعدم فعالية سياسة فرق تسد التى ظلت تطبقها فى الفترة الماضية, وأنَّه لكى يتحقق السلام فى كل ربوع السودان فإنَّ دارفور تشكل حجر الزاوية فى ذلك, كما يجب عليها أن تدرك حقيقة أنَّها قد أخطأت فى حق أهل الإقليم بإصرارها على فرض سياسات شاذة عن ثقافة أهل دارفور وتراثهم, وعليها أن تصلح خطأها فى مسألة الإدارة الأهلية, وترك أهل دارفور وشأنهم فى إصلاح ما أفسدته فهم أعلم بحالهم.
(3) إعادة النازحين إلى مناطقهم الأصلية بأسرع طريقة ممكنة, فآخر إحصائية عن العدد الكلى لهؤلاء إنَّها قد بلغت أكثر من  700 ألف, منهم أكثر من 100 ألف يتعرضون للموت ويعيشون منذ شهور على الحدود السودلنية التشادية.
(4) وضع برامج عاجلة لتوفير المساعدات الإنسانية العاجلة للذين تعرضت قراهم ومزارعهم للحرق والتدمير.
(5)  إنشاء صندوق قومى عاجل لتوفير مبالغ نقدية وهبات عينية للعائدين لمناطقهم لمساعدتهم فى إسترداد أنماط حياتهم العادية, هذا الصندوق يجب أن يتم تمويله من الخزينة المركزية مباشرة مع إستقطاب العون الدولي وإستنفار منظمات المجتمع المدني لدعمه.
(6) وقف إعتداءات مليشيات الجنجويت على الناس فى قراهم الآمنة سواء بسيطرة الحكومة عليهم أو تصفيتهم عسكرياً إذا لزم الأمر, مع محاولة إدماج التائبين منهم فى المجرى العام للمجتمع.
(7) إعادة بناء المدارس وتأهيل المستشفيات وإقامة مشاريع المياه وتأمين الطرق وتنظيم الأسواق وتهيئة البنية التحتية لدعم التعايش السلمى, و تنظيم مسارات القبائل الرحل وفتح ممرات أمنة لهم ولحيواناتهم ووضع التدابير الكفيلة بمنع الإحتكاكات والتعدى على حقوق الغير.
(8) تعديل الحكومة لخطابها نحو دارفور بصورة تحترم مشاعر الناس وتعترف بآدميتهم ومشروعية حقهم فى الحياة كغيرهم من عباد الله.
(9) العمل على بناء القدرات بكل مناطق دارفور وإنشاء آلية فنية مختصة بالتعاون مع برنامج وكالة التنمية الأمريكية التى إقترحت تطبيق مبادرة أبيى للتعايش السلمى فى دارفور.
(10) إنشاء مفوضية مستقلة لتنمية دارفور تكون تابعة مباشرة لرئيس الجمهورية ولها ميزانية مقدرة تتناسب مع الظروف التى مرت وتمر بها الإقليم.

 

آراء