الحرب وصناعة الفقر والجوع من عدم!!

 


 

 

نشر في سودانايل بتاريخ 21 ديسمبر 2021م

من مؤشرات تخلف الشعوب، تفشي الحرب بدلا عن السلام. تعرف الحرب في القانون الدولي بأنها ظاهرة العنف الجماعي المنظم، التي تؤثر إما على العلاقات بين مجتمعين أو أكثر، أو تؤثر على علاقات القوة داخل المجتمع. وتستخدم في الحرب سبل عدة، منها المحاربة النفسية، ومنها المحاربة البدنية أو الأثنين على حد سواء. تبلغ الحرب عظمتها عندما تستخدم دولة أو مليشيات مسلحة، قوة السلاح، لقتل النفس المحرمة في كل الديانات السماوية، بعد أن يسبق القتل، سجن وتعذيب واغتصاب. الحرب من أجل نشر الفتنة بين أفراد مجتمع كان يعيش في سلام، لتغطي عليه سحب ظلم قاتمة السواد، يكون الضحايا في نهايتها أناس أبرياء، وفي مقدمتهم الأطفال والنساء وكبار السن. عصارة ضحايا الحرب هم المستضعفين في المجتمع، الذين ليس لهم ضراء يحتمون به، مؤذن لهم بكشف الحال. ولقساوة الحرب، فهي لا تعرف ذوي الإحتياجات الخاصة من بني البشر. ولنذكر هنا الأقسى والأمر منه في سطر واحد لا أكثر: في الحرب لا ينظر الجلادون إلى ما حولهم من بشر، فكل الناس أمامهم أعداء. لا يتساءلون "عما إذا كان فيهم طفل رضيع، أو صبي مراهق، عما إذا كانت بينهم بنت مراهقة، أم صبية حائض، عما إذا كانت هناك مرأة حامل أو أم مرضع". الشيء الذي ربما حرك في النفس، أحاسيس الرأفة وفي دواخل كل إنسان له شرف وله عرض، أو توجد بوجدانه قطرة من الرحمة أو ذرة من الإنسانية. وللأسف تغيب عن نفوس دعاة الحرب وجلادوها هذه الحقيقة "الإنسانية" تمام الغياب، أو تكون معدومة في ضمائرهم، منهم بسبب غسيل الدماغ الذي تعرض له أثناء فترة التدريب، ومنهم بفعل حصيلة القتلى الذين تم قتلهم بيد شخص واحد، ومنهم بفاعل مؤثر قوي، كتناول الخمر والمخدرات.

في الحرب يتبدل المحارب "من كان إنسان"، إلى كائن آخر لا يعرف نفسه. فيها يتفوق كمخلوق على الحيوان بعدوانيته تجاه الآخرين، ومن يتم وصفم بالأعداء. وللمقارنة وفي الحيز الضيق، نجد أن في قلوب كثير من المخلوقات، وافر من الرحمة فيما يخص نوعها. فإذا نظرنا على سبيل المثال للطيور في أعلى الأغصان، أو بحثنا عن الأسماك في أعماق البحار، أو تمعنا القرود في باطن الغابات، نجدها تختلف في تعاملها مع بعضها عن بنو الإنسان. نجدها تعادي بعضها، ولكنها تختلف في طريقة عداءها لبعضها. كلها تتفق على شيء واحد، يجمهعا حبها وودادها لبعضها البعض، بالرغم من وجود نظام يحكم بينها، نظام تدرج هرمي من الأقوى، إلى الأقل قوة في المجتمعات التي تعيش فيها. من هو صاحب الكلمة في مجتمعها، الذي يتمتع بكل الصلاحيات للتقرير في أمرها وأمر المجموعة، ويكون هدفها الأول والأخير أن تظل متماسكة، لتواجه غيرها من أعداء، من أنواع أخرى. نجد فيها "الحيوان-الألفا" فهو حيوان يتسم بالقوة والهيبة والمعرفة والخبرة، ويتمتع بحق القيادة؟ ومقارنة بالإنسان، نجد نظم أخرى، تبني على الولاء للأهل، الأصدقاء، والمقربين، والمحبوبين من بين أفراد المجتمع. نجد هنا تفشي الرشوة والمحسوبية، وغض الطرف عن مظالم الناس، بالرغم من توفر الدلائل التي تقود للتجريم. هذه هي صفات الإنسان الغير عادل باختصار، والتي ربما خجل لوجودها الحيوان، الذي يتقاسم محصول المجموعة بالتساوي، ولا يعرف الولاء ولا المحاصصات. وعلى هامش آخر: الكل منا مر بقصة من قصص "الإنسان-الألفا" في فصل من الفصول المدرسية، والذي توكل إليه مهام عدة، تبني على سبيل المثال، على حفظ النظام فيه، في وقت غياب مرشد الفصل، أو الأستاذ المدرس للحصة.

الحرب هي الوسيلة المثلى لصنع الفقر والجوع، ولخلق البؤس والشقاء. بسبب الحرب لا يتمكن الناس العيش بسلام في أريافهم وبواديهم بأمن وكرامة. وأحيانا تنتقل الحرب وتشب كالنار في الهشيم، لتصل العواصم، والمدن الكبيرة، على الرغم من وجود حاميات، مهمتها حماية هذه المدن ومنشآتها. هنا تأخذ الحرب شكل متغاير لحرب الأرياف والبوادي، والتي يمكن أن تظهر في شكل تفجيرات كبيرة، تصير ضحيتها مجموعات أكبر، تؤذن بانتقام أكبر. نرجع للحرب والفقر والجوع: يمكن أن ينتج الأثنان معا، عندما يحرم المزارعين والرعاة عن ممارسة أعمالهم بالحرية التي تتطلبها ممارسة كل نوع من العمل. بغياب الأمن للمزارع، لا يمكن له أن يزرع ويحصد ويسوق انتاجه. وبغياب الأمان للراعي، لا يمكن له أن يرعى ماشيته، يسمنها، ويسوقها أيضا. لقد ظهر هذا المهدد كالشبح مرة أخرى في السودان، وبعد غياب دام لعدة سنوات، بصرف النظر عن بعض مواقع إنتشار النهب المسلح للمزارعين والرعاة وثرواتهم في مواقع عملهم. ظهر شبح الهجوم المسلح لتشريد وتهجير المزارعين والرعاة، وفي أكثر من موقع في السودان. سلب ما يملكون من مال قليل، وسلب ما توفر لهم من سبل للإتصال "الهواتف الجوالة"، وسرقة ثرواتهم الزراعية والحيوانية بعد موسم حصاد أو رعي وفي وضح النهار. كل هذه المهددات، ما هي إلا الطريق المعبد لخلق الفقر والجوع في المجتمع وفي الدولة. ولنذكر هنا مرة أخرى، وكما سبق في مقالات قديمة، أن المزارع والراعي هما المغذين للشعوب. فإذا لم يتوفر لهما الأمن والأمان، فسوف يقبع مجتمع بأكمله في جوع وفقر. وهنا خصوصا عندما يحف الخطر الأثنين في بداية الموسم المطير، أو أثناء مواسم الحصاد والرعي. الطريق المؤدي إلى نشوب نزاعات أهليه، تتطور للحرب.من واجب الحكومة أن توفر للمزارعين والرعاة سبل الأمان، حتى يتم تجنب الفقر والجوع. أن تكون هناك حماية مباشرة لهم "للمزارع وللراعي"، بوجود قوات تحميهم، ولا تتربص بمنتجاتهم وتقوم بسرقتها في وقت الغفلة. أن تكون هناك حاميات قريبة من مواقع الإنتاج، وأن تكون سبل التواصل معها ميسرة. أن تشتري الدولة منتجات المزارع والراعي بأسعار مجزية، تشجعهم بها على العمل والإنتاج، والتوسع في أعمالهم. هذه هي العدالة الإجتماعية التي ينشدها المجتمع الدولي من الدولة تجاه شعبها، للنهوض بالفئات المهمشة إقتصاديا ولمكافحة الفقر والجوع من جذورهما. الشيء الذي تبرز أهميته في أهداف التنمية المستدامة حتى العام 2030، وفي أعلى القائمة الهدف الأول: القضاء على الفقر، والهدف الثاني: القضاء على الجوع، من بين مئة وتسعة وستون هدف جانبي، وسبعة عشر هدف أساسي، للوصول إليها في غضون التسعة سنوات القادمة. نعيد هنا أن من واجب الجيش هو حماية المدنيين، وليس تهديد حياتهم، ومن بين المدنيين، الفئات المنتجة، والتي تعتبر مهمشة أشد التهميش. ولا يمكن هنا أن تترك قوات الدعم السريع حرة طليقة، تجوب بثاتشراتها المدن من دون مهام. لنفكر فقط في هذه التسمية، وننسى الباقي "قوات الدعم السريع" أو "رابيت سبورت فورسيز". هنا تنتهي كثرة الكلام، وقبل أن نكون أضحوكة للعالم، يجب أن تكون هذه القوات على قدر تسميتها، وأن تعمل في مهام سامية، وهي حماية العزل في البوادي والأرياف، وفي القرى والفرقان. وأن تكون المسؤولة عن كل فشل يحصل في المناطق التي صارت أرض خصبة للنزاعات الأهلية، ووضع حجر أساس متين للحرب. هنا وهناك قرى تحرق الآن وبأيدي فاعل، ليشرد المزارعين والرعاة من مآويهم ومعاقلهم – أحداث جبل مون ومنطقة أبوجبيهة مثالا. علينا أن نفطن للأمر قبل أن يأتي يوم الحساب، ويتم البحث عن الشخص المسؤول، وتتوالى التهم في ارتكاب جرائم، وتنفيذ مجازر في الحقوق البشرية.
E-Mail: assan_humeida@yahoo.de

 

آراء