الحزب الشيوعي والحرية والتغيير

 


 

 

في مقال سابق لي بعنوان "الحرب العبثية بين الأدلجة ومعركة تكسير العظام"، تناولت بالنقد دور الحزب الشيوعي السوداني في إضعاف التجربة الديمقراطية الرابعة، واسقاط حكومة حمدوك، وقد كان نقدي قاسياً بقدر حجم المُنتَقَد، والدور التاريخي المؤثر الذي لعبه في توجيه دفة السياسة السودانية منذ تأسيسه في أربعينات القرن المنصرم حتى تاريخه، وهو دور ممهور بكثير من التضحيات، والجسارة، والفكر الإبداعي النضالي، لكن الحزب، ككافة الأحزاب الوطنية السودانية، لم يكن بمأمن من الاستهداف والاختراق، والتأثر بالحالة العامة للسودان من وهن وفقر ومرض وتخلف، لكن موقفه، خلال تجربة الدولة المدنية، تحت مظلة حكم حمدوك، كان لا يشبه الحزب، بأي حال من الأحوال، حتى وهو في أسوأ حالاته.
جاءتني بعض الملاحظات والعتاب، من أشخاص، أكن لهن ولهم، احترام عميق، بأنني لم أكن منصفاً في حق الحزب الشيوعي، وأن انسحاب الحزب من تحالف الحرية والتغيير كانت له مبرراته، وأن الحزب لم ينسحب، إلا بعد أن أوصدت في سبيله وسبيل الثورة الأبواب وسدت السبل، وكان قد أصدر عدة بيانات في أبريل ومايو 2019 موضحا فيها موقفه الرافض لأي انقلاب عسكري، أو إبقاء أي من رموز النظام البائد على سدة الحكم، أو أي شكل لإعادة انتاج الأزمة، بإنتاج النظام المندحر، كما طال الحزب بالحل الجذري للأزمة الوطنية، واجتثاث نظام الفساد والاستبداد والاقتصاد الطفيلي من جذوره، ومحاكمة كل من أجرم في حق الشعب السوداني، ورفضه لأي محاولة لتكريس الأمر الواقع، والاعتراف بأي سلطة عسكرية، والعمل على قيام حكومة مدنية مدتها أربع سنوات تكونها القوى الوطنية التي صنعت الثورة لتحقق حلم سودان الغد (سودان بكرة)، ودعت تلك البيانات الشباب على البقاء في الميدان حتى تحقيق النصر المؤزر. كما طرح الحزب الشيوعي برنامج التغيير الجذري الذي دعا فيه لتسريح كافة المليشيات المسلحة وتكوين جيش وطني مهني بعد إعادة هيكلته...إلخ.
لا شك في أن هذه المطالب ليست موضع خلاف بين مكونات الحركة الوطنية، ولا يتناطح فيها عنزان خرجا وبح صوتهما في هذه الثورة، لكنه برنامج ليس في حاجة لعمل سياسي بل إلى عصى موسى، لتحقيقه في تلك الظروف، فمن هو العسكري الذي بيدة السلاح والسلطة الذي يرمي سلاحه، ويتخلى عن الثروة، ويسلم نفسه إلى أقرب مركز بوليس ليحاكم ويسجن لو لم يعدم؟.
المثل يقول إذا أردت إن تطاع فأمر بالمستطاع، و(مد كرعيك على قدر لحافك)، حكم موجزة تلخص لنا كيف نقدر ونتصرف ونقرأ الواقع الذي حولنا.
عندما انتصرت الثورة السودانية في 11 أبريل 2019 كان الجميع يدرك ومتفق بأن ذلك النصر كان نصراً محدوداً، ولاستكماله كان لابد من مواصلة الثورة بصبر وتؤدة، حتى تحقق غاياتها، ولأن الثورة كانت سلمية، شباب عزل ضد خصم شرس، مؤدلج، مسلح، لايري الحقيقة إلا من خلال ما تصوره له آلته الإعلامية، خصم متمكن من كل مفاصل الدولة، والثروة، بيده أكثر من 80% من مداخيل الاقتصاد السوداني، كان لابد من الجلوس والتفاوض والحوار مع قيادة الجيش وربيبه الدعم السريع، ما يسمى باللجنة الأمنية التي كونها البشير في أواخر أيام حكمه، والتي آلت إليها أدوات السلطة من سلاح وسيطرة اقتصادية، وكان لابد للعب على أوتار التناقضات وتضارب المصالح، دراسة الواقع وتحليله، المحيط الإقليمي والمحيط العالمي ودول الجوار، والأهم من كل ذلك الاختلاف ما بين قيادة الدعم السريع ممثلة في الفريق محمد حمدان دقلو، وقيادة الجيش المؤدلجة ممثلة في عبد الفتاح البرهان وبقية عقده الفريد، وذلك لتحقيق مكاسب سياسية للثورة، وصون الدماء وتسكين الدهماء. وكانت قوى الثورة في تحالف الحرية والتغيير في أمس الحاجة لخبرات وتجارب الحزب الشيوعي، خاصة في تحليل الواقع وفن التفاوض، وذلك لما يملك من خبرات متراكمة من كوادر عركتها الحياة السياسية مثل عبد الخالق محجوب ومحمد إبراهيم نقد والخاتم عدلان ودكتور الشفيع خضر، وكان شخص بخبرات وكاريزما وحكمة المهندس صديق يوسف يمكن أن تسهم اسهاماً كبيرا في تسيير الأحداث وتغيرها وتحقيق المكاسب للثورة، وفعلا كان للمهندس صديق يوسف دور زعامي وقيادي في التحالف وحظي باحترام الجميع وكان من الممكن أن يسهم بدور أكثر فعالية في مجلس رأس الدولة المكون من قيادة الجيش والدعم السريع وستة من المدنيين، ولم يكن مجلساً شكلياً، كما هو في الأنظمة البرلمانية، بل لعب المجلس أدوار سياسية حاسمة في الفترة الانتقالية، وكان من أسباب انقلاب البرهان في أكتوبر 2021 هو تسليم رئاسته للمدنيين حسب ما جاء بالوثيقة الدستورية.
في خضم ذلك الصراع السياسي المحتدم بين اللجنة الأمنية الممثلة في القيادات العسكرية والمدنيين أصدر الحزب بيان بسحب ممثله المهندس صديق يوسف وانسحابه من تحالف الحرية والتغيير، رافضا ما أسماه بالهبوط الناعم، وطرح طريق آخر للمضي فيه وهو طريق التغيير الجذري... والآن لا عدنا نملك هبوطاً ناعماً أو خشناً، بعد أن خسرنا كل شيء وعدنا إلى مربع (ون) نبحث عن وطن يأوينا.

عاطف عبدالله

atifgassim@gmail.com

 

آراء