الحكومة المفصومة: أوهام القادة ومصائر الشعوب
بسم الله الرحمن الرحيم
من اقدار بعض الشعوب أن يتسلط عليهم قادة تعشعش في مخيلاتهم أوهام بعيدة عن الواقع, ويسعون الباسها لبوس الحق والواقع, وهي ليست كذلك, فيجرون علي أنفسهم وعلى شعوبهم الويلات والمهالك. انظر كيف أن النازي هتلر - بما كان يعشعش في خياله من أوهام النقاء العنصري- جر بلاده الي حرب انتهت باحتلال المانيا ولازالت, أما هو فقد مات منتحرا". هذا مثال للعنة التى تحل بالبلاد والشعوب التي ترميها اقدارها في قبضة حكام مهووسين بأوهام النقاء العنصري, أو التفوق الثقافي أو التميز الطبقي أو غيرها من الأوهام التي تجر وبالأ علي الحكام والحكومين.
يقع السودان وشعبه ضمن هذا الصنف من الشعوب التي عانت من تسلط قيادة موهومة بأوهام شاطحة تتبدى نتائجها فيما هو ماثل أمامنا اليوم من تفتت البلاد والاحتراب وسفك الدماء وحالة الفقر المدفع بين الناس والبؤس والتراجع المريع في كل وجه من أوجه الحياة حتي صار السودان بحق هو "رجل افريقيا المريض", ونظام حكم معزول داخليا واقليميا ودوليا تطارد قياداته مؤسسات العدالة الدولية ومنظمات حقوق الانسان, يقف في مواجهة المجتمع الدولي والضمير الانساني ممثلة في الامم المتحدة, لا بل يقف فى مواجهة شعبه ويجوز ويظلم ويبطش ويأكل أموال الناس بالباطل. هذه القيادة المتسلطة بأوهامها كان يمكن أن تجر حربا علي البلاد – مثلما كان الحال مع صدام حسين حطم بلده وأهلك نفسه؛ لولا لطف الله باهل السودان.
*ابدبولوجية الانقاذ الواهمة:
انتهجت حكومة الانقاذ نهجا عروبيا – اسلامويا, عروبيا أكثرمن العرب, واسلاميا اذ رفعت حكومة الخرطوم راية "الجهاد" ضد الكفر والألحاد في العالم, حاملة الراية, فوضعت السودان وشعب السودان في مواجهة مع الغرب و الصهيونية العالمية والمؤسسات الكنيسة والولايات المتحدة واسرائيل والمعسكر الشيوعي والاشتراكي وكل القوي القوية في العالم. ولم يسأل قادة الانقاذ انفسهم هل بمقدورهم مواجهة كل هذه القوي العالمية الجبارة بمفردهم دون اصطفاف بقية الدول الاسلامية تحت الراية. ولم يستوثق قادة الانقاذ أن الدول الاسلامية وبقية المسلمين فى كل أنحاء العالم سوف يقفون معهم فى هذه الحرب المقدسة. ولم يستشيروا الشعب السوداني هل سيحتمل عبء هذه المواجهة الجهادية العالمية. ولم يحسبوا التكلفة التي يجرها مثل هذا التفكير عليهم وعلي البلاد والعباد. فوجهت حكومة الانقاذ الاقتصاد السودانى الى "اقتصاد حرب" خصصت- ولازالت تخصص- مايقرب من 80% من ميزانية الدولة للأمن والجيش والعتاد الحربى, وتركت 20% للشعب السودانى لقوته وتعليم أبنائه ومسكنه وصحته. ضحت حكومة الانقاذ بالشعب السودانى بأكمله فى سبيل تحقيق "مشروع حضارى" زائف ظل يعشعش فى مخيلة الواهمين من قادة الانقاذ. الاهازيج الجهادية الحماسية التى سارت بها ألوية "سيف العبور" بأن "امريكا قد دنا عذابها" واعتقاد المجاهدين المغرر بهم الجازم بأن جحافلهم سوف تدك حصون البيت الأبيض ماهى الا أوهام فى أوهام. فلم نر اموال الشعب السودانى التى اخذت منه قسرا لشراء السلاح انها أصابت "كافرا" واحدا, بل صوبت رصاصاتها القاتلة الى صدور الشباب من بنى الوطن, فى ظاهرة لم يشهد لها العالم مثيلا فى تاريخه الطويل أن أمة من الأمم "تستثمر" مواردها الاقتصادية الجمة الوفيرة فى تقتيل ابنائها وتحطيم بلدها, ما أطلقت عليه مدرسة "الاستثمار فى الخراب".
كما لم يحسبوا أن مثل هذا النهج يقضي بطبيعة الحال الي انفراط عقد المجتمع لاستثنائه مجموعات كبيرة وكثيرة من المواطنين الذين لا هم عرب ولا هم مسلمون. إذ شعرت هذه المجموعات أنهم مواطنون من الدرجة الثانية والثالثة في بلدهم , وبحسب فقه الجماعة - يجوز استغلال هذه الجماعات – كيفما اتفق – لتحقيق المشروع الحضاري . فكانت النتيجة الحتمية هي انفراط العقد الاجتماعي ونشوب الحروب الأهلية في الجنوب والغرب والشرق , ونهوض المجموعات النوبية في الشمال النيلي. كل هذا بسبب توهم القادة لهوية عربية قحة, سعت إلى استثناء وتهميش وإقصاء غير العرب في المجتمع. هذا بالطبع وهم زائف , لأن الهوية السودانية هي مزيج من العرب الساميين والنوبيين الكوشيين والمجموعات الأفريقية النيلية والصحراوية . تبني هوية عربية في السودان –عند الكثيرين –ليسس إلا نوهما زائفا يجر في أذياله كثيرا من المصاعب والمتاعب على كل البلد. وهو بعد على المستوى الشخصي نوع من فصام الشخصية اذ يعيش الكثيرون على وهم هوية عربية لا يتفق معهم فى هذا الادعاء العرب وغير العرب .
حكومة الخرطوم والانتماء الوجداني للجزيرة العربية:
ينظر متنفذوا وقادة الحكومة في الخرطوم – وكذا حجم مقدر من سكان وسط السودان – إلى انتمائهم العروبي بكل فخر واعتزاز. ففي المخيلة الجمعية " collective conciousness" لهذه المجموعات المستعربة أنهم عرب أقحاح ينتسبون فخرا لبني العباس وجهينة وفزارة وغيرها من القبائل العربية القديمة . فهم لهم ارتباط وحداني عميق بالإرث العربي في بوادي نجد وتهامة ويطاح الحجاز وشعاب مكة المكرمة. ويحنون إلى ذلك الماضي التليد وتلك القبائل التي ضربت خيامها في تكلم التخوم. هذه المجموعات تندب حظها العاثر الذي أخرجها من "جنات" نجد وتهامة وساقها إلى ضفاف النيل وغابات الجنوب وشلالات جبل مرة , مثل الطيب مصطفى الذي ندب حظه قائلا إذا فاز ياسر عرمان بمنصب الرئاسة – وهو يمثل الجنوبيين الأفارقة – فباطن الأرض أولى بالعيش من على ظاهرها. في إشارة على أنه يفضل الموت على أن يحيا ليرى مواطنا أفريقيا يحكمه. فهذه عقلية تختزل كل أطر الدولة والعقد الاجتماعي الضروري للتعايش السلمي بين المجموعات فى الدولة الحديثة تختزله في السطوة القبلية والعنصرية. لاغضاضه أن يستشرف الناس ما ضيهم التليد, يستوحون منه الدروس والعبر, وللقوم أن يتفاخروا بأنسابهم ما شاءوا, لكن الغضاضة كل الغضاضة أن تفرض هذا المزاج الواهم على أمة متعددة الأعراق والثقافات والأديان والتاريخ. الغضاضة في أن يتوهم القوم بأنهم عربا أكثر من العرب, بينما الحقيقة هي غير ذلك وأن العرب وغير العرب لهم رأيهم الخاص حول هذه الدعاوي التي تثير السخرية والتهكم عند كثير من الشعوب. بل الأدهى أن تعتبر مثل هذه الأوهام أسسا تبنى عليها سياسات الدولة وبرامجها وعلاقاتها فتسيء لمواطنيها وتدخل البلاد في دوامة من الاقتتال والتناحر المؤدي إلى التفكك والزوال.
التوهم الزائف لدى كثير من السودانيين المستعربين حول هويتهم العربية أفقدهم انتماءهم الأفريقي ولم يكسبهم اعتراف الغير. كما قال المعلمو نيريري تنزانيا: "كان يمكن للسودانيين أن يكونوا أفضل الأفارقة, لكنهم اختاروا أن يكونوا أسوأ العرب". هذه النوستالجيا والحنين إلى أيام العرب في بوادي نجد والحجاز قد جعل من النخبة السودانية المستعربة الحاكمة - أقرب وحدانيا – إلى بني عمومتهم في الجزيرة العربية منهم إلى مواطنيهم السودانيين داخل الوطن من غير الأعراق العربية. حقيقة الأمر أن النخبة السودانية المستعربة الحاكمة ظلت تستعلي على مواطنيهم وتستهجنهم وتسومهم الخسف والأمثلة على ذلك كثيرة جدا . وكل ما في الأمر هو وهم زائف بالتفوق العرقي ونقاء العنصر, كانت تجلياته السعي الدائم إلى إقصاء العناصر الأخرى والاستئثار بالسلطة والمال والجاه. ثمة حقيقة يجب الاشارة اليها بوضوح هنا الا وهى أن هناك مجموعات كبيرة وكثيرة فى السودان لازالت تحتفظ بكل سماتها العربية. هذه هى المجموعات التى يمكن ان يطلق عليها حقا أنها عربية. لكن هذه المجموعات العربية المحافظة– فى بوادى كردفان والبطانة وعلى ضفاف النيل الأبيض وفى تخوم مصر وبعض أجزاء من دار فور– هى فى حقيقة الآمر من أكثر المجموعات تهميشا فى السودان. والنتيجة أن حملت المجموعات المهمشة المغبونة السلاح في وجه الحكام الواهمين. وضمن من حملوا السلاح بعضا من العرب المهمشين. يتضح من ذلك ان استخدام الايدولوجية العروبية-السلاموية ماهى الا غطاء تستخدمه النخبة الحاكمة المستعربة للاستتار والتمويه من اجل أقصاء الآخرين والاستئثار بالمال والسلطة والجاه. من الواضح أن مثل هذه العقلية لا يمكن أن تحكم شعبا كثير التنوع والتداخل مثل السودان. ولذلك كان لا بد من مدارة هذا الوجه القبيح بالتلفع بالإسلام.
التلفع بالإسلام:
صار الإسلام شعارا يستتر به ذوي الأوهام العنصرية وإخفاء حقيقتهم الكريهة. وبهذا تمكن القوم من بسط حكمهم على شعوب السودان, وقبل السودانيون الانضواء تحت الراية الإسلامية. ولما طالب المسلمون من غير العرب في دار فور والشرق والجنوب بحقوقهم التي كفلها لهم الإسلام والقانون, لم يشأ المتسلطون ممن استمرأوا السلطان والمال والجاه آن يعطوا كل ذوي حق حقه, بل غلب طبعهم الجاهلي على تطبعهم بطبائع أهل ملة الإسلام, وكأنهم يرددون قول الشاعر الجاهلي:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا
فأوسعوا الناس ضربا وتقتيلا وسالت حمامات دم المسلمين في دارفور. لم يشفع لأهل دارفور إسلامهم, وأن سلاطينهم الأوائل كانوا من خيرة حماة حمى الإسلام وكساه الكعبة. ضرب الحكام المستعربون في الخرطوم أهل دارفور ضرب غرائب الإبل وكأنهم كفار غازون وليسوا مواطنين ومسلمين. ولما هب العالم أجمع مستنكرا الفظائع الشنيعة التي يقترفها النظام السوداني ضد مواطنيه في دارفور, كان رد حكام الخرطوم البائس أن إسرائيل تفعل أسوأ من ذلك بعرب فلسطين. فبالنسبة لحكام السودان أن عرب فلسطين أقرب إليهم وأحق بنصرتهم وبرهم من مواطنيهم من أهل دارفور. حكومة الخرطوم مصابة بوهم الفصام – فهي تعيش وجدانيا في زمان سحيق ومكان بعيد عن واقع الحياة في السودان بكل تنوع ارثه ودينه وتاريخه وثقافاته وكياناته وعناصره وتنوعه الكبير. فلا يمكن أن يحكم هذا البلد إلا بقيادة تؤمن إيمانا عميقا بواقعها المتنوع المتقاطع وتتفاعل معه وتنفعل به.
فعلى النخبة الحاكمة في الخرطوم الأخذ بأحد ثلاثة خيارات:
1_ القبول بالواقع وتقبل الآخر صدقا لإشعارات زائفة, وإقامة دولة المواطنة وحكم القانون.
2_العودة إلى الجذور في البادية العربية حيث يصيرون فيها "النعاج السود Black sheep" (بالمعنى الحرفى لا المجازى لتميز لون القوم بالسواد) في الوهاد والنجاد والتهائم التي ظلوا يحنون إليها كما تحن النوق إلى معاطنها.
3_ القتال في حرب لا انتصار فيها:
وقد اختار حكام الخرطوم الخيار الثالث فعلا. فنرى هذه الحروب المستعرة في كل ركن من البلاد بسبب الأوهام الخادعة التي تعشعش في أخيلة القوم بتفوق العنصر ونقاء العرق. لكن واقع البشرية اليوم لا يسمح بعودة الجاهلية الأولى وحروب البسوس وداحس والغبراء ويوم ذي غار التي لا تنتهي إلا بفناء القوم جميعا – المعتدي والمعتدى عليه. فسيقف العالم حائلا منيعا دون أن تطل الجاهلية بوجهها القبيح على عالم القرن الحادي والعشرين. فلا يظنن القوم أنهم يعيشون في كوكب آخر غير الذي يعيش عليه سائر بني البشر.
د. احمد حموده حامد
fadl8alla@yahoo.com
الجمعة 23/04/2010
09 Jumad ‘Ula 1431 Hj