الدفاع عن نظام الإنقاذ في خطاب عبد الله علي ابراهيم (1-3)
ushari@outlook.com
أولا،
أرجو أن يكف د. عبد الله علي إبراهيم عن إرهابنا بعقيدته في عبادةِ الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، نظام الإنقاذ. في مقاله الأخير أُرفِقُه في الملحق تحت (الزمن الجميل ... بتاع الساعة كم؟)، يوجه عبد الله لغته الفظيعة في عنفها الظاهر والمستتر ضد كُتاب لا يسميهم، لكن يمكن التعرف على هوياتهم عند النظر في خبايا النص الماكر.
يعيب عبد الله على هؤلاء الكتاب أنهم يكتبون تَحسُّرا على زمن في السودان مضى، زمان الديمقراطية في الخمسينات والستينات، زمان يكيفه عبد الله بأنه "ماض ذهبي مُتوَهَّم"، ويقول عبد الله إن رموز ذلك الماضي المتوهم جمالُه، من نوعية الشريف الهندي ومبارك زروق ومحمد أحمد المحجوب، كانوا عنصريين يستخدمون اللغة العربية لتحقير البرلمانيين غير العرب.
يوبخ عبد الله الكتابَ المعارضين بتاعين الحنين للماضي على جرأتهم أن قارنوا ذلك "الماضي الجميل"، جميل في أوهامهم، فوق كونه عنصري، أن قارنوه بنظام الإنقاذ، محل إعجاب عبد الله.
ثانيا،
هذا السادن
يقول عبد الله إن أكثر هؤلاء المتغنِّين بذلك "الزمن الجميل المزعوم" بل يريدون بخطابهم "النَّيل من الإنقاذ". والنيلُ من الإنقاذ هو مشكلة عبد الله، وسبب مناجزته بالمقال الذي نشره. فعبد الله لا يتحمل أي نقد ضد معبودته الإسلامية التي يشير إليها بأنها، آي، "الإنقاذ الحارسانا الجات كايسانا"، لسان حاله يردد كَيَّة كَيَّة فيكم يا سَدَنة الديمقراطية.
لكن الواضح من نص ذلك المقال، ومن نصوص أخرى منثورة في خطاب عبد الله السياسي، أن عبد الله أول من تصح تسميته "سدنة"، في هذا السياق. لأن معمارَ نظام الإنقاذ هو المعبد المتهالك الذي يحتاج للسدانة، لذا يخدم فيه عبد الله بالكتابة، أو هي المكاتبة. لا يقبل هذا السادن أن يتم النيل من معبودته الإسلامية، التي ما تناول كاتبٌ فسادَها وإجرامها بالنقد حتى انتفض عبد الله من سجدته وخشوعه بين رجليها، وهب مستعدا للمناجزة بمثل مقاله المتهافت.
لا يغير من أعلاه أن عبد الله يزلق أحيانا في خطابه السياسي، لأغراض المخارجة، كلمات وعبارات تطعن في جسد الإنقاذ، خفافي، فأنت تسمعه يهمس بَرَّاحة في أذن الإسلاميين، أنا والله زعلان منكم، على طريقة شد الأذن، أو القرصة، حقو تعملوا كدة وكدة، "ليه كدة يا عمر البشير؟"، أو هو ينادي يا شيخ حسن، كيفما يتفق الحال والزمان، أو شوفوا لينا مادة الردة دي، يعني، لما تقدروا، مافي استعجال، على راحتكم.
هكذا تسمع عبد الله يسامر باللطف والسماح دهاقنة الشر الفاسدين في نظام الإنقاذ، وهكذا يهامسهم ويكتب لهم، وهو أصلا برر في أكثر من مقال انقلابهم العسكري وممارساتهم وتشبثهم بالحكم، بنظرية مهببة لعبد الله عن العسكر يرددها. تماما كما برر عبد الله بتخريجات بالمغالطة وبالحجة الضعيفة دور حسن الترابي في حل الحزب الشيوعي، وفي حماس دفاعه عن الترابي أفتى عبد الله بأنه كان يجوز للحكومة حلُّ الحزب الشيوعي، مما سأعرض إليه في المقال الثاني.
ثالثا،
المخارجة من عنصرية العربسلاميين
ذهب عبد الله إلى ملفات البرلمان القديمة، وهناك تحصل في سياق ما أسماه "قراءة عابرة"، كدة يعني بين الونسات والرمضانيات، تحصل على براهين تدعم غرضه السياسي في مكايدة معارضي نظام الإنقاذ. أراد عبد الله أن يقدم البينة لإثبات ادعاءاته ضد الكتاب المعارضين الحالمين بالماضي. وعبد الله حريص دائما على تقديم بينته، مهما كانت بينتُه الصحيحةُ في ذاتها عديمةَ العلاقة بالموضوع، ومهما كانت بينةً متهافتة غير منتجة، لكنها بينته على كل حال يقحمها إقحاما في محاجته.
قدم عبد الله بينته لإثبات عنصرية أصحاب ذلك "الزمن الجميل المزعوم". واحتوى مقاله على نُتَف أشكالٍ لفظيع السلوكيات اللغوية العنصرية من أقوال الهندي وزروق والمحجوب قال إنها "أخجلته حقا". وقال عبد الله إنه أسف لتلك اللغة لأنها "نضحت باستعلاء صفوي وعربي مبين"، فوق كون أنها من "النَّضِم الزائد الخطر"، ومن "العيب"، ومن نوع "الهجوم بغير لطف"، وعن كيف أنها لغة من نوع "تلاعب باللغة"، ومن "العنف اللغوي" و"الزهو الثقافي".
هكذا، بالمبالغة في النَّضِم والردحي، اجتهد عبد الله في سبيل المخارجة من أية علاقة له بهؤلاء العربسلاميين العنصريين. ووجه كل اللوم ألصقه بالكتاب المعارضين الحالمين، قال ما معناه إن هؤلاء الكتاب المعارضين للإنقاذ في سذاجتهم وقلة معرفتهم بالتاريخ لم يدركوا حقيقة هذه العنصرية العربسلامية القديمة التي فهمها هو عبد الله، وإنهم الكتاب هم المغرمون بالعنصريين بتاعين زمان.
رابعا،
الوعظ بحركات اللغة
كعادته، اندرج عبد الله في الوعظ. فأفتى بخلاصة حجته على النحو التالي:
"أعوجُ ما في التغني بهذا الزمن الجميل المزعوم تعطيلُنا إعمال النقد في شغل ذلك الزمن ورجاله ونسائه. فمن شغفنا النفسي بذلك الزمن المتوهم تجدنا نتغاضى عن أخطاء أهله الكبيرة جداً. وأكثر أهله النافذين شماليون ممن ذاع وصفهم بـ "العربسلامي" عند ناقديهم. ومتى عطَّلْنا نقدَ هذه الرموز جزافاً غبَّشْنا الوعي بأزمة الوطن التي أصلُها في ذلك الزمن الجميل".
...
فلا تَخدعَنَّكَ أيها القارئ حركاتُ عبد الله اللغوية الصغيرة المزلقة بإهمال مدروس، استخدامه صيغة الجمع في الضمائر في "تعطيلنا إعمال النقد"، "شغفنا النفسي"، و"يجعلنا نتغاضى". نحن، أنا ذاتي عبد الله معاكم بتاع تعطيل نقد وشغف نفسي وتغاضي.
لا تنخدع، لأن عبد الله لا يعتمد نفسه بين الكتاب معطلي النقد أو الشغوفين المتغاضين. بل هو حفر في المقال خندقا معرفيا بين نفسه كالمدرِك الوحيد لخفايا عنصرية الزمن الجميل المزعوم، من جهة، والكتاب المعارضين كالجاهلين غير المدركين تلك العنصرية، من جهة أخرى.
هكذا، بترداد خدعته اللغوية المايكروسكوبية في صيغة الجمع، وبتلاعبه بالعواطف اللغوية عن شعوره بالحزن على حال العنصرية والخجل من ذلك الحال، دس عبد الله نفسه، بالكِضِب، في صفوف الكتاب المعارضين، غرضه الحقيقي الهجوم على الكتاب المعارضين من الداخل، دائما لصالح نظام الإنقاذ. وهو قالها، إن "النيل من الإنقاذ" هو هم الكتاب المعارضين موضوع نقده. وإنت يا عبد الله مالك ومال الإنقاذ، لو أصلا هي ما كانت كاتباك؟
في انشغاله بما أسماه شغف معارضيه بالماضي المتوهم جماله، تناسى عبد الله شغفه النفسي الخاص، هو أيضا، شغفه بزمن ماض كذلك وهمي، ماض فيه الأستاذ عبد الخالق محجوب، خلال ذات فترة الديمقراطيتين في الخمسينات والستينات، ولم يكن عبد الخالق محجوب، وهو أجمل قادة السودان، بعيدا عن "أخطاء كبيرة جدا"، ربما من نوع آخر غير عنصري، وربما كذلك من نوع عنصري، وهنالك روايات شفاهية متواترة تُحكى عنه على سبيل التندر، فشيوعيو تلك الفترة كانوا كذلك متأثرين بحدود خطابهم وثقافتهم وتربيتهم السياسية، ولا يستبعد أن كان منهم من كان مثل زروق والهندي ومحمد أحمد محجوب يجد أيَّما متعة في النَّضِم باللغة العربية المشحونة جاهزة بركام العنصرية العربية.
خامسا،
تفكيك حركات عبد الله
تبقى الحركاتُ اللغويةُ في مقال عبد الله مشدودةً إلى الدفاع عن نظام الإنقاذ. النظام الذي يجسدن مشروع عبد الله العربسلامي. من أهم هذه الحركات لَغْوَنةُ عبد الله وضعية إجرام الدولة الإسلامية وفسادها بتكييفه هذه الوضعية على أنها "أزمة الوطن"، هكذا في عبارات عبد الله المشحونة بالمحمولات: "ومتى عطلنا نقد هذه الرموز جزافاً غبَّشْنا الوعيَ بأزمةِ الوطنِ التي أصلُها في ذلك الزمن الجميل".
جوهر مقال عبد الله هو أن "أزمة الوطن" يتجذر أصلها هناك، بعيد بعيد من الإنقاذ، في الماضي، في عنصرية تانية خالس، بتاعة ناس تانين، والله العظيم، عنصرية رموز الديمقراطيتين في الخمسينات والستينات، الهندي وزروق والمحجوب. هكذا بالحليفة المستترة لا بالحجة الواضحة يبرئ عبد الله نظام الإنقاذ من العنصرية ومن تحمل مسؤولية هذي "أزمة الوطن".
...
فلنُخضِع ادعاءات عبد الله للتفكيك، لنكشف البرنامج السري المدسوس تحت ظاهر لغة مقاله، ولنفلفل الخيوط التي نسجها عبد الله بدربة الحاذق للنسج في النص حين يتعلق الأمر بالدفاع عن ما يسميه هو "الإنقاذ"، هكذا مجردة. بينما لا تأتينا "الإنقاذ" إلا كالنظام الذي نعرفه، بإجرامه وفساده، وكذا بإسلاميته التي لا تقل شرا عن فساده وإجرامه، بل إن إسلاميةً "الإنقاذ" أصلُ الفساد والإجرام. ولا أحتاج مجددا للتمييز بين "الإسلامية" كأيديولوجية شريرة تعتمدها الحركة الإسلامية السودانية، وبين "المسلم" العادي ليس موضوع همي في هذا السياق إلا من حيث إن المسلم ضحية الحركة الإسلامية السودانية وهدف كامل تكنولوجيا إجرامها وفسادها.
(1)
"أزمة الوطن"
طرح عبد الله كارثة السودان التي أراها متمثلة في إجرام المثقفين الإسلاميين وفسادهم، مما هو مناط هم الكتاب المعارضين، طرحها عبد الله على أنها "أزمة الوطن". هكذا، ببراعة الكتابة، وبالتلاعب بالمعاني، وهو لعب يجيده عبد الله، غيَّر عبد الله الموضوع الأساس من حقيقته المتمثلة في ماديات إجرام المثقفين الإسلاميين في معية العسكر وفسادهم، في نظام الإنقاذ، ليكون الموضوع، فكرة مجردة ومغسولة من الدماء ومن الأرصدة والممتلكات المنهوبة، فكرة وهمية أسماها عبد الله "أزمة الوطن"، يا سلام!
"أزمة الوطن"، هي ذاتها العبارة القارة في لغة كتاب السلطان مثل خالد موسى، وفي لغة كتاب مذكرة المبادرة. كلهم يكتبون اليوم بلغة استغفالية عن وَهَمٍ خلَّقوه تخليقا يسمونه "أزمة الوطن"، بأشكال لهذا الوهم من نوع "الأزمة الخانِقة" (فيصل محمد صالح)، و"البلد في أزمة حقيقية وهذه الأزمة رئيس الجمهورية نفسُه لا يخالفُنا في وجودها" (د. الطيب زين العابدين).
يعني، في فقه د. الطيب، المشكلة الكارثية في السودان قاعدة هناك، وكأنها خلقت نفسها، وأنا د. الطيب وعمر البشير شايفِنها، سوّا، هكذا معنى الكلام المعمم الذي يلغي أي دور في الإجرام والفساد لعمر البشير، ويلغي الكلامُ كلَّ دور لدكتور الطيب نفسه، في الماضي القريب، كعضو في ذات الحركة الإسلامية السودانية التي كانت دائما وتظل حركة ماسونية إجرامية فاسدة. ويكفي أن شهد حسن الترابي على إجرام هذه الحركة الإسلامية السودانية وفسادها، وهو صاحبها ورئيسها.
(2)
الجنيولوجيا الناقصة
يستغفلنا عبد الله فيرد ما يسميه هو "أزمة الوطن" إلى أصل للأزمة يدعيه في العنصرية في الديمقراطيتين في الخمسينات والستينات.
ليه ماشي بعيد هناك، يا عبد الله؟ العنصرية أمامك قريبة هنا حاضرة اليوم في ماديات سلوكيات أصحابك الإسلاميين في نظام الإنقاذ، في دارفور والمنطقتين.
وإذا أردت التأصيل، لماذا التوقف عند الخمسينات والستينات؟ فأنت تعرف أن أصل ما تسميه "أزمة الوطن" متمدد نسبُه عبر الجنيولوجيا حتى نموذج دولة المدينة ذاتها (اقرأ كتاب د. محمد محمود، الفصل الخامس والفصل السادس). وإن كنت لا تحب كتاب د. محمد محمود، فدونك الهفوات الفرويدية التي تفلتت خلال انفعالات الشيخ، حين نطق الترابي بعبارة "الخلافات التافهة"، في إشارته الصحيحة والدقيقة لتكييف جميع نظم الخلافة الإسلامية المتعاقبة عبر التاريخ على أنها كانت "خلافات تافهة"، كلها نزاع ومكر ودماء (شاهد على العصر، رقم 10، أو 11).
وعلى أقل تقدير، كان يمكنك الرجوع إلى زمن الكاتب المحتال عبد الله بن سعد بن أبي السرح، لتأصيل أزمة الوطن الراهنة في عنصرية أفواج العرب الإسلاميين الغزاة تحت قيادة الكاتب المحتال ودخولهم بدون دعوة أرض النوبة والبجا، وكان دخولهم عنصريا لأغراض النهب والبقط وللحصول على الرقيق ولاستعادة الرقيق الآبقين، بالإضافة إلى رغبتهم في قهر السكان الوطنيين ليدفعوا لهم الخراج.
كان عبد الله، وأقصد ابن سعد بن أبي السرح، كاتبا محتالا، قصته معروفة كان يُزوِّر كلام محمد فيكتب القرآن كما يشاء، فأهدر محمد دمه، وبالطبع انتهى به المطاف في مغامرة نهبية في مصر ومنها في غزوات نهبية في أرض السودان الفضاء المتاح للمغامرين وشذاذ الآفاق الإسلاميين الأعراب من كل نوع. كله مسجل في التاريخ، فلا يلغيه تزوير التاريخ العربي الإسلامي الرسمي الذي يحتفي به د. عبد الله. فأزمة الوطن من هناك، أيضا، منذ بدايات العشرين الهجرية.
(3)
همبول العنصرية
حين انتفض عبد الله لكتابة مقاله، كانت أجندة التشنيع بمعارضي نظام الإنقاذ جاهزة لديه. وهي ظلت المخطط الذهني في مجمل خطاب عبد الله السياسي المنشور. فاخترع عبد الله لتركيب مقاله همبولا من نوع هنابيل يخترعها، هذه المرة كان همبول عبد الله تلك العنصرية المنسوجة في اللغة العربية عند الهندي وزروق والمحجوب في برلماني 1955-1958 و1968.
استدعى عبد الله هذه العنصرية من أوراق البرلمان، ثم استخدمها للمحاحاة عن زرع الإنقاذ، يريد بالخدعة المركبة الدفاع باللفة عن نظام الإنقاذ ضد هجوم الطيور أولئك الكتاب المعارضين.
بخدعة هذا الهمبول المخترع، وظيفته إيهام الناظر بأن عنصرية قادة الخمسينات والستينات هي أصل "أزمة الوطن"، برأ عبد الله المثقفين الإسلاميين أعضاء الحركة الإسلامية صاحبة نظام الإنقاذ من جرائمهم الثابتة، بتغليف جرائمهم في لفائف عبارة "أزمة الوطن"، فلكأنا جميعنا مسؤولون عن جرائم الإسلاميين حتى وهم كانوا جاءونا بالسيخ والبنادق والتعذيب في بيوت الأشباح ومكاتب الأمن وبالسجانين والمليشيات والاحتيال.
بهذه الخدعة، "أزمة الوطن"، مسح عبد الله بجرة قلم ماضي الإسلاميين في تقتيل المدنيين في المناطق التي يكيفها عبد الله مناطق مَن ليست العربية لهم بلغة أم، يكيفها كذلك ليسهل عليه الفرز العرقي العنصري الضروري لمشروعه الشعوبي العروبي. بينما نعرف أن اللغة العربية هي اللغة الأم الأساس والأولى من حيث العدد والحضور في جميع المناطق التي يشير إليها عبد الله، بما في ذلك في جنوب السودان.
أتحدث عن ضحايا في الزمن القريب لم تجف دماؤهم بعد، لا عمن ظل يتم تقتيلهم واسترقاقهم على أيدي الإسلاميين العرب وغير العرب على مر التاريخ السوداني. فالإسلامية والعروبة ركيزتا مشروع عبد الله الفكري، ما أن يوظفهما عبد الله لخدمة معبودته الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة حتى يصبح من الضروري لنا أن نُخضع مشروع عروبة عبد الله وإسلاميته للانتقاد.
بذلك الهمبول الذي ركَّبه عبد الله تركيبا على أنه عبادة الكتاب المعارضين ديمقراطية الستينات، خلص عبد الله بفصاحة النضِم وبعنف اللغة العربية إلى النتيجة المرغوبة، هي أن تعطيل نقد رموز ذلك الزمن الجميل تسبب في "تغبيش الوعي بأزمة الوطن". ثم واصل عبد الله في نَفَسٍ واحد أن أصل ما يسميه هو "أزمة الوطن" متجذر في "ذلك الزمن الجميل"، زمن العنصرية، برموزها المعروفين من أهل الماضي، دائما قبل مجيء الإنقاذ الحارسانا الجات كايسانا.
(4)
يذهب عبد الله في مقاله إلى أن الكتاب المعارضين جهلاء سذج، فهم في تقديره عاجزون عن الفهم الذي توصل إليه عبد الله عن عنصرية الماضي، الماضي الذي يقول عبد الله إن هؤلاء الكتاب يحنون إليه، أي إن الكتاب المعارضين يحنون إلى ماض متوهم لا يفهمون طبيعته العنصرية، أصلا. ولا تحتاج مثل هذه الترهات لرد.
(5)
عاد عبد الله إلى نقطته الجوهرية مضيفا إليها في نهاية المقال أن "تلك رموز الزمن الجميل غاب عنا وجه قمرها الآخر"، ويقصد عبد الله أن الوجه العنصري لدى الرموز غاب عن فطنة الكتاب المعارضين، لكن ذلك الوجه العنصري لم يغب عنه هو عبد الله الحاشر نفسو بين الكتاب المعارضين.
فأنت وإن وجدت عبد الله يستخدم صيغة الجمع في عبارة "غاب عنا"، تجده في الحقيقة يخارج نفسه من بين من يسميهم أصحاب غباش الوعي، حين يميز بين معرفته بعنصرية الرموز في مقابل جهل بها يسبغه على الكتاب المعارضين.
...
أنهى عبد الله المقال بالقول إن ذلك الوجه القمري الآخر، العنصري، هو "الوجه الذي يُرخي بسدوله على بلدنا هذه . . . في الزمن القبيح". لكن عبارته الغامضة عن "الزمن القبيح" حمالة أوجه أراد بها عبد الله متذاكيا المخارجة. أزلقها لكي يتخارج عبرها بالتبرع لنا برشوة صغيرة أن نظام الإنقاذ "قبيح"، لكن لا أحد يصدقه. فالعبارة المرائية عن "الزمن القبيح" بل تمكن عبد الله من القول لأصدقائه في الإنقاذ أنا ما قاصدكم إنتو بلفظة "قبيح"، ولغته الغامضة ستعينه في المحاجة معهم وفي الزوغان.
سادسا،
يدرك كل كاتب ليست له قضية حق أن موقفه الكتابي في مقاله قيد الكتابة ضعيف. ويجد مثل هذا الكاتب غصبا عنه أن منطق الكتابة السليمة يغالبه ويغلبه. وهو حال عبد الله حين قرر نسج حجة واهية ومعقدة في كتابة ماكرة لمكايدة الكتاب المعارضين، ليدعم قراره السبقي للنهوض بالدفاع عن نظام الإنقاذ.
لذا لجأ عبد الله إلى حركات المخارجة من مطبات كتابته التي ليست لها من قضية حق. من حركات عبد الله المعروفة الإلغاز، أي المواراة والحفر في عدة اتجاهات، الإلغاز بعدم إظهاره هوية من يتحدث عنهم. وهي حركة يستخدمها عبد الله ليتمكن من تشييد الأوهام عن خصومه، ثم ياخُد ساتر ويبُص من عين واحدة يسائل خصمه: أنا هسي جبتَ اسمك؟ فهو يبشع بك يعرف أنك تعرف أنه يقصدك أنت بالتحديد، لكنه يتخفى وراء حركة الإلغاز حين لا يذكر اسمك في مقال هجومه ضدك أنت شخصيا.
خذ إشارته الخفية الواضحة إلى كاتب معارض بينه وعبد الله مساجلات ساخنة في سودانايل: "تجد هذه العقيدة متمكنة من أبناء المدينة القديمة وبناتها في أم درمان وغيرها ممن صحوا ذات صباح ليجدوا أن مدينتهم الصغيرة قد انبعجت".
فالمقصود شوقي بدري. لكن عبد الله في تعمده تسبيب الألم لشوقي يحرِم شوقي من متعة الإشارة إليه باسمه، تحديدا لكي يمنع عبد الله بذلك الاستخفاء شوقيا من الرد على عبد الله، لأن عبد الله يمكنه إن رد عليه شوقي أن يلاسن حينئذ بالقول: "أنا ما قاصدك إنت، وما جبت اسمك". وسيدعم عبد الله إنكاره بإشارته الواردة عن "بنات أم درمان"، فهو حشرهن مع "أبناء المدينة القديمة" كحركة صغيرة أخرى للدغمسة ولتصعيب مهمة شوقي.
وفي حركة إضافية، يمتنع عبد الله عن ذكر مدينة أم درمان الشقية باسمها، بل يمد لسانه لشوقي بدري يقول له "مدينتك القديمة"، ويضيف نكاية أنها مدينة قديمة "انبعجت". بمعنى أنها اتسعت، أو انشقت بطنها. هكذا لَغْونة العنف عند الله.
...
قصدت أن أستغِلُّ حدث هذا المقال المتذاكي لتفكيك حجة عبد الله الذكية نُص نُص، ولتبيين المغالطة المنطقية والضعف الوقائعي في مقاله، وهو نموذج خطابه السياسي. فليس في مقال عبد الله ولا في خطابه السياسي غير ما اعتدناه من أشكال دفاعه الصريح أو المستتر عن معبودته الإسلامية المجرِمة الفاسدة، الإنقاذ.
...
أنتقل في المقال الثاني إلى تبيين إسهام محدد لعبد الله في صناعة الوهم عن شيخه حسن الترابي، وفي مقال ثالث أعرض لعدم أخلاقية دفاع عبد الله عن نظام الإنقاذ.
...
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com
ملحق (مقال د. عبد الله)
الزمن الجميل: بتاع الساعة كم! .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
أرجو أن يكف عبدة "الزمن الجميل" عن إرهابنا به. ويتفق سدنة هذا الزمن بأنه قد سبق الإنقاذ ثم يختلفون. فبعضهم قد يزج حتى المرحوم نميري فيه بينما يمتنع آخرون عن ذلك. وعليه فهو ماض ذهبي متوهم يريد أكثر دعاته منه النيل من الإنقاذ الحارسانا الجات كايسانا. وتجد هذه العقيدة متمكنة من أبناء المدينة القديمة وبناتها في أم درمان وغيرها ممن صحوا ذات صباح ليجدوا أن مدينتهم الصغيرة قد انبعجت.
أعوج ما في التغني بهذا الزمن الجميل المزعوم تعطيلنا إعمال النقد في شغل ذلك الزمن ورجاله ونسائه. فمن شغفنا النفسي بذلك الزمن المتوهم تجدنا نتغاضى عن أخطاء أهله الكبيرة جداً. وأكثر أهله النافذين شماليون ممن ذاع وصفهم بـ "العربسلامي" عند ناقديهم. ومتى عطلنا نقد هذه الرموز جزافاً غبشنا الوعي بأزمة الوطن التي أصلها في ذلك الزمن الجميل.
اكتشفت من قراءة عابرة لمضابط البرلمان أن البرلمان كان ميداناً قحاً للاستعلاء العرقي. وكان من أفصح الناطقين بهذا الاستعلاء "العربسمالي" رموز الزمن الجميل الذين ما ذكرنا النيابة البرلمانية حتى سجدنا لهم خاشعين: الشريف حسين الهندي ومبارك زروق وكبيرهم المحجوب. ووجدت أنهم كثيراً ما غطوا على مناطق ضعفهم السياسية بالعنف اللفظي الجاهلي حيال من العربية ليست لغة أم لهم .
لن أعيد سخرية الهندي من السيد أحمد إبراهيم دريج، زعيم المعارضة عن حزب الأمة جناح السيد الصادق المهدي في برلمان 1968، حين أخذ عليه نطقه "القروض" وكأنها "القرود". فقد كثرت إشارتي لها.
ووجدت لاحقاً أن زروق، الفتى الأنيق المعطر في وصف الدكتور منصور خالد، لم ينج من هذا العيب. وهجم بغير لطف على السيد إبراهيم أحمد، وزير المالية، في البرلمان الأول (1954-1958) الذي قال إنه لم يفهم أمراً ما قاله نائب دائرة مدني. وأضاف: "أنا مش شديد في العربي وخصوصاً الكلمات الغويصة." فنهض زروق وقال له إن كلمة "غويصة" ليست من العربية في شيء وصحيحها "عويصة". وواصل قائلاً إن الفرق نقطة واحدة. ثم تلاعب باللغة: "والسيد وزير المالية يخفض نقاط غلاء المعيشة ويزيد نقاط الحروف في كرم زائد لأن الأخيرة مجاناً لا تكلف شئيا أكثر من أنها تجعل عظام المرحوم سيبويه تهتز هلعاً". فأنظر أيها القارئ هذا النضم الزائد الخطر.
وبالطبع لا يتأخر المحجوب الخطيب المفوه عن ركب هذا العنف اللغوي. كنت أقلب قبل أيام كلمات له في محاضر الجمعية التأسيسية (19-6-1968) يرد فيها، المحجوب كرئيس للوزراء، على المعارضين "العجم". وقد أسفت لها لأنها نضحت باستعلاء صفوي وعربي مبين.
فمن الزهو الثقافي قوله لنائب معارض لم يرتح لاستشهاداته بالشعر إنه من جهلاء المعارضة "الذين لم تمنحهم الحياة فرصة التعليم لتذوقه (أي الشعر)". وقال نائب آخر إنه بحث عن كلمة عربية للبشكير فلم يجدها. فتصدى له المحجوب بقوله إنه لن يجدها "لأنه لا يعرف غير ثلاثمائة كلمة عربية". أما ما أخجلني حقاً فما قاله لدريج، زعيم المعارضة. فقد استنكر نقده للحكومة للتراخي في نصرة الحق العربي. وقال إن زعيم المعارضة ظل يتحدث ساعة ونصف الساعة فلم ينطق جملة عربية صحيحة. وزاد أنه لولا وجود نائب معارض ما (يبدو انه عربي اللسان) "لحسبت أن هذه المعارضة من بلد غير هذا البلد ولا تمت للعرب بأي صلة".
تلك رموز الزمن الجميل غاب عنا وجه قمرها الآخر. وهو الوجه الذي يرخي بسدوله على بلدنا هذه . . . في الزمن القبيح.