الرئيس أزهري: مرحبا بالأستاذ إدريس حسن الذي حذرنا من الانقلاب وما صدقناه
abusamira85@gmail.com
ماذا تصنع لهفة الرحيل؟ يملأ السؤال الذهن بعد أن ظللت غمامة من الحزن النبيل سماء الركن الغربي الشمالي من مقابر فاروق في الخرطوم عصر الأحد الموافق السادس عشر من ديسمبر 2018م، حين تقاطرت جموع من المشيعين في جنازة الصحافي القدير إدريس حسن الذي لبت نفسه المرضية نداء ربها صباح اليوم نفسه.
أحزان متجددة
تكاد غمامة الحزن تبوح بأن أحزاننا متجددة ومـــــازلنا نبكي، لكننا حينما نبكي من وجع غير أن نبكي من جزع. لم أكن أعلم أن الحزن يتوغل فينا بهذا العمق حين شاهدت بين المشيعين أسماء لامعة وشخصيات مرموقة من حقيبة فن الحياة السودانية بألوانها المتعددة وأشكالها المختلفة. إذا بحثت عن الوزراء، تجدهم كثر، لكن يتعين عليك أن تقف إجلالا لوزيرين منهم أولهما: الفريق شرطة عبد الوهاب إبراهيم سليمان وزير الداخلية بين عامي 72 و1979. وثانيهما: العم ميرغني عبد الرحمن سليمان وزير التجارة والتموين بين عامي 88 و1989.
إذا سألت عن السفراء فيكفيك أن تقول بفخر كان بينهم السفير عبد الحميد إبراهيم جبريل.
أما السادة قبيلة الصحافيين فهم أجيال وأطياف يصعب عليك أن تحصيهم، ويستحيل أيضا أن تصفهم، لكن يتعين عليك أن تقول كان بينهم الصحافي المخضرم محمد حسن مهدي.
خلطة سحرية
الذين يعرفون الأستاذ إدريس حسن جيدا يعلمون تمام العلم أن اسمه وتاريخه وثقافته وسلوكه تشكل خلطة سحرية تبقى أكبر من أى كلمات وأبقى من أى رثاء، ويكفى أن يقال أنه عاشق للسودان ومؤمن به وبقدراته.
وفي أخر لقاء معه كان يقول لي بصوت عال: إن السودان يملك كثيرا من المفاتيح التى توفر لها صياغة استراتيجية عليا تضمن مصالحه الحيوية مثلما تضمن له هذه المفاتيح أن يكون بمنأى عن مخاطر الظروف المتغيرة. وحين باغته بسؤال (عم إدريس كلام المثقفين ده شنو). رد علي ضاحكا: أعمل شنو كرهتونا استراتيجية استراتيجية استراتيجية.
ينتمي الأستاذ إدريس حسن الخرطومي المولد والنشأة والوفاة، إلى جيل الصحفيين الذين شقوا طريقهم في مهنة النكد بأظافرهم، إذ أسهم التحاقه المبكر بخلوة الشيخ عبد الرحيم أبو القاسم في اشلاق البوليس بالسجانة وحفظه الربع الأخير من القرآن الكريم لاحقا في أن يصبح صحافيا مرموقا يكتب أو يملي مقالاته بـ (نغمة الشعراء الفصاح).
أزمنة مختلفة
هيأت ظروف العمل الصحفي للأستاذ إدريس حسن في أزمنة مختلفة أن يأخذ في سن مبكرة من الراحل عفان أحمد عمر صاحب مجلة (الشباب) عنفوانه الثوري، ومن الراحل رحمي محمد سليمان مؤسس جريدة (الأخبار) حميمته في التواصل مع القارئ والبساطة في الفكرة.
وحين التحق الأستاذ إدريس حسن بكبرى مدارس الصحافة السودانية (الأيام) كان له موعدا ثلاثيا بين عقلانية الراحل بشير محمد سعيد ونظره الراقي للأحداث، ثم دقة الأستاذ محجوب محمد صالح وانضباطه الشديد، وحيوية الراحل محجوب عثمان وحميمته في التعامل.
حبل الزمــن السياسي السوداني الوطني خلال الستين عاما الماضية أكثر من مرة بمـولود اسمـه الانقلاب العسكري. هـذا المـولـد استدعاه الصحافي المرموق الأستاذ إدريس حسن عبر 264 صفحة احتواها كتابه الجديد (قصتي مع الانقلابات العسكرية).
المؤكد أن مظهر الانقلاب العسكري لا يفصح عن كامل جوهره ومغزاه وحجمه، بل من الصعب جدا إجمال كل الجوانب الأساسية المتعلقة بالانقلاب العسكري في سطور قصيرة، لكن المهم هنا الإشارة إلى أن الأستاذ إدريس حسن قد كسر (تابو) تحريم الحديث حول هذا الموضوع وأطلق النقاش حوله وفتحه للحوار العام بإفادات جديدة بكونه أمرا لا مناص عنه. والثابت أن القطاع العسكري يشكل في السودان على مر الأنظمة العصب الحساس والعمود الفقري، والنقاش حوله يجب أن يتم بمسؤولية. لكن مهنية الأستاذ إدريس حسن مكنته بحرفية عالية من تقليب بعض الصحفات التي تناولت بصورة مباشرة قصته مع انقلابات السودان منذ أن التقط عندما كان صبيا دون السادسة عشرة من عمره خبر استيلاء طيب الذكر الفريق إبراهيم عبود على السلطة قبل يومين من حدوثه، إلى أن عرف بعد عشرة سنوات من أن الضابط عابدين الذي كان يحدثه هاتفيا في الأيام التي سبقت 30 يونيو 1989 عن خطورة الوضع واحتمال وقوع انقلاب عسكري، هو العميد عبد العزيز خالد.
قصة واقعية
غير أن المهم هنا أن قصة الأستاذ إدريس حسن الواقعية مع الانقلابات بدأت بانقلاب 25 مايو 1969. ويلفت نظرك هنا السرد المشوق الذي يمسك بتلابيب القارئ من السطر الأول لهاجس تخيل الانقلاب بشخوصه ورموزه وهتافاته أمام عيني الأستاذ إدريس حسن الذي لم يصدقه أحد إلى أن أنصفه الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري داخل سجن كوبر، عندما رأه معتقلا (مرحبا بالأستاذ إدريس حسن الذي حذرنا من الانقلاب وما صدقناه).
إذا بدا لك أن كتاب (قصتي مع الانقلابات العسكرية) صحوة استثنائية غير مسبوقة في تاريخنا المعاصر، فذلك صحيح من جهة أن الأستاذ إدريس حسن، استطاع أن ينفض ينفض قليلا من التاريخ الذي يحمله على ظهره من حوادث وتجارب ومواقف كان هو شاهدها الأول على مر الأنظمة التي حكمت البلاد.
ما يستحق الانتباه، أن الأستاذ إدريس حسن استطاع أن ينفض قليلا من التاريخ الذي يحمله على ظهره من حوادث وتجارب ومواقف كان هو شاهدها الأول على مر الأنظمة التي حكمت البلاد، فإدريس حسن حسب معرفتي له وتجاربه الشخصية أكثر الناس إلماما بصراع الأخوة الأعداء في دهاليز الحركة الاتحادية، وخير من يروي لك من حكاياتنا مايو وحتى تجربته المحدودة (المريرة) في عصر الإنقاذ الحالي، تؤكد فلسفته الخاصة في المشاركة في كل ما من شأنه أن ينفع الناس.
حزمة ضوء
تكمل قصص الأستاذ إدريس حسن حبّات العقد مع الانقلابات العسكرية. وتدلّ على أنه بين أولئك الذين يظنون أن الذاكرة هي حافظة الفرد والناس معا، لذلك حيثما يحلق ساردا لقصصه، يشعر القارئ، أن حزمةً من الضوء تتلاشى في حزم أكبر تملأ الفضاء السياسي بالإفادات والشهادات المترعة بقصص البطولة وحكايات الخيانة.
وبهذه القصص يضيء الأستاذ إدريس حسن منطقة معتمة تتعلق بالانقلاب العسكري، وهذا باب نحن شحيحون جدا في الحديث عنه، ولعل المفارقة هنا أن مدبري الانقلاب العسكري قد يدخلون القصر ثوارا يحكمون البلاد والعباد أو يذهبون إلى مكان تنفيذ أحكام الإعدام لا عاصم لهم سوى رحمة رب العالمين.
حسب تعريف فيليب لوجون للسيرة الذاتية فإنها (حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص)، لكن الجديد هنا أن الأستاذ إدريس حسن يركز على سيرته الصحفية وعلى تاريخ شخصيته، حيث أصبح السارد هو البطل ومصدر الأحداث والمعلومات في رؤيته للحياة ومواقفه من قضايا المجتمع وتقلبات السياسة.
صناعة التاريخ
عندما تدخل الصحافة في صراع الأحداث ومواجهات السياسة تصبح من صناع التاريخ حيث لا تقف عند مستوى المشاهدة بل تكون جزءا من مسيرة الأوضاع وتلك خاصية تنقل مكانة الصحافي إلى أستاذية المؤرخ الذي شارك وكتب وأصبح مرحلة من الزمن لا يمكن تجاوزها عند مراجعة سجل العلاقة بين الصحافة والتاريخ. وهذه المقدمة مناسبة جدا لقصة الأستاذ إدريس حسن مع انقلاب 19 يوليو 1971، فقد قادته الصدفة إلى حضور محاكمة الأستاذ عبد الخالق محجوب التى كانت أشبه بالمسرحية الدرامية التى تنهمر فيها الدموع، حيث كان عبد الخالق فيها أكثر ثباتا من الذين حاكموه. وفي ثنايا القصة إفادات عن هذا الانقلاب تتطابق إفادات قدمها الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه (زيارة جديدة للتاريخ)، خلاصتها أن تداعيات انقلاب 19 يوليو 1971 كانت واحدة من عشرة أسباب أدت لتدهور العلاقات العربية السوفيتية، وهذا مدخل جديد ومفيد لنقل أحداث الانقلاب من يومية التحري إلى رحاب التاريخ.
حامية الديمقراطية
الصحافة كما يعرّفها الأستاذ إدريس حسن حامية للديمقراطية، ومن دون صحافة حرة لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية، وبهذا الفهم تمضي فصول قصته مع انقلابات السودان في ملحمة اهتم فيها بتدوين تجاربه الثرة وفتوحاته الكثر في دهاليز الانقلابات العسكرية، وكأني به قد افترش مساحة واسعة من حوش منزل الأسرة القديم في ديوم الخرطوم التي ما برحت تقاوم الحياة.
في آخر السطر، يتعين علينا الإقرار أن الراحل الأستاذ إدريس حسن قد انحاز إلى جيل من الصحافيين الذين كسروا الحواجز وصنعوا مجد مهنة الصحافة السودانية التي أصبحت في عصرهم المقياس الذي تقاس به المهنة، إما لجهة حريتها ومهنيتها أو لجهة ريادتها، وربنا يجزيه عن هذا الجهد كل خير ويرحمه ويجعل البركة في ذريته.
/////////////////////
//////////////////