الرئيس “مبيكى” ومسار حوار “الوثبة” الانقاذية بحاجة إلى فحص وإعادة نظر
اتفاق السلام الشامل الذى تم التوصل إليه فى نيفاشا فى يناير 2005 والذى كان للولايات المتحدة الأميركية النصيب الأوفر فى هندسته مضافا إليه بروتوكولات مشاكوس حول إقتسام السلطة والثروة الموقعة فى ديسمبر 2004 ؛ بين نظام الانقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان لا تزال آثاره السلبية ماثلة رغم إنفصال أو إستقلال جنوب السودان فى دولة سيادية جديدة برعاية اميركية. ونظرا لأن اتفاق السلام كان منقوصا إنسحبت نقائصه على حوارات السلام الحالى برعاية " الآلية الافريقة رفيعة المستوى" برئاسة رئيس جنوب أفريقيا السابق " تابو امبيكى" وفق قرارات مجلس السلم التابع للاتحاد الافريقى وفق قراري مجلس السلم والامن الافريقي رقمي (456) و(539). كان يحدو المرء تفاؤل ان مساهمة المعارضة في فعاليات او آليات الإعداد والتحضير للحوار الوطنى بهدف ضمان تفعليها وبلورتها لحد يبلغ بها بر الامان مما يؤدى إلى التوصل إلى خارطة طريق وطنية مشتركة لحشد الطاقات لتوحيد الرؤيا المستقبلية حيال القضايا الرئيسة والتحديات التى تطال البلاد حاليا؛ وتضمن بقاء ما تبقى من خارطة الوطن المنفتقة. إلا ان الحصيلة التى رأيناها عيانا وبيانا هى ان الانقاذ تريده حوارا احاديا يشارك فيه منخرطون ومخدوعون يسهمون فى ترسيخ سلطتها المترهلة. بدأ ت إحداثيات الخطأ الجسيم حينما إقتضت سياسة السلام الامريكية عزل الاطراف الشمالية التى كانت ناشطة تحت مظلة التجمع الوطنى الديمقراطى من مفاوضات السلام " الشامل" فى نيفاشا بحجة وضع الفريقين المحتربين وجها لوجه وإخضاعهما لأشد الضغوطات كيما يتم التوصل إلى اتفاق سلام . هذا الخطأ أثر على قضية السلام المستدام فى السودان وكأنها لا تهم سوى الطرفين المحتربين ؛ الحكومة والمعارضة الجنوبية المسلحة. فهل لعب الانقاذيون دورا فى هذه الخطة ام هى مجرد خطأ فى حسابات رعاة السلام وأصدقاء الايغاد؟ اما المعارضة الشمالية المعزولة من توزيعات ارباح " سلام المُكرَهين " لك تحصل سوى مشاركة إسمية فى البرلمان وعلاقة تصفو حينا مع النظام وتسوء فى غالب الاحيان لتنتهى بهم فى السجون . ولقد قام نظام الانقاذ بتوظيف التوجه المشار إليه بشكل وظيفى وحتى اليوم فى سياسة تقصد التفريق بين فرقاء المعارضة. لا زلت اذكر مقالة " آلان غولتى " سفير بريطانيا والمبعوث السابق للسودان المعادى للمعارضة والموجود حاليا بمركز ويلسون بالولايات المتحدة :" من اراد منكم الحصول على وظيفة او منصب فسوف يجده فى الخرطوم" ؛ قال ذلك فى إحدى قاعات البرلمان البريطانى فى عام 2005.
وشجع هذا الموقف حكومة الانقاذ التى جعلت منة ديدنا واستراتيجية "استسلام" مع مقهورين وليس مسالمة لمسالمين ؛ تستهدف بها المنظمات والفصائل المعارضة لا سيما حركات التحرير فى دارفور. إن الحوار المقصود منه طرح الاراء المتباينة والمتقاطعة حول القضايا الرئيسة سبب النزاع بهدف خلق نقاط التقاء ذهنية وجوهرية ؛ وهو الوسيلة الامثل لتغيير الاراء توطئة للتوصل إلى حل مشترك بين الفرقاء المتحاورين . مفاوضات السلام السودانى المتتالية التى اعقبت اتفاق السلام الشامل تكرس تعنت الموقف الحكومى مع تبدل الشخصيات التى تمثل الموقف الحكومى الرسمى مع ثبات الاسلوب. وهو اشبه بطريقة " لوبى السلاح الاميركى" الذى لا يبدل ولا يتنازل عن حماية صناعة السلاح والاتجار به بل يقبل بمراجعة المدى الامثل لتصويب ورماية قطعة السلاح فقط. النتيجة استمرار قتل الانفس لان السلاح متوفر وفى متناول كل شخص. وهذه الاستراتيجية الحكومية تتحدد السقف الذى يمكن ان تبلغة المعارضة فى مفاوضات السلام ؛ الحيلولة دون حدوث إختراق إيجابى فى قضية السلام ؛ المطلوب من المعارضة ان تختار مدى السلاح الذى تستخدمه الانقاذ للاجهاز عليها .
بسبب تعريفات اكاديمية سطحية تعرِف اتفاق السلام الشامل بحسبانه امرا يهم فقط فرقاء النزاع الرئيسيين وقصر التفاوض على القضايا الحيوية موضع النزاع ؛ اخطأ الغرب خطأ جسيما تجاه " الشمال ". ولذلك لم يتم إعتبار المعارضة الشمالية والتى كانت متحالفة مع الحركة الشعبية فى إطار التجمع الوطنى الديمقراطى طرفا ذا صلة بأصل النزاع ! اى القضايا التى افضت إلى تأجيج الحرب الاهلية ؛ لم تكن الديمقراطية واحدة منها ! فالمطلوب وقف الحرب بطريقة ما يسمى ب " السلام السلبى" وتشكيل نظام حكم ثنائى بشراكة فدرالية مؤقتة ينتهى امدها بإقامة الاستفتاء الشعبى للجنوب وغايته الانفصال حيث بدا ان " السودان القديم " حالة ذهنية معطوبة غير قابلة للبرء والاصلاح ومطلب الانفصال حالة نفسية للجنوب غير قابلة للتسويف تحت وطأة الالحاح . وفى إحدى القراءات ان إنفصال الجنوب سيؤدى إلى بروز دولة جديدة برسالة فريدة تصبح مثالا اخاذا فى شرق افريقيا وترشح بتأثيرات " السودان الجديد" على " السودان القديم " فتشعل فيه خميرة التغيير عبر قوى جديدة إصطفاها الغرب لم يكن من بينها المعارضة الشمالية آنذاك وهى التى ظلت حليفة للحركة الشعبية حتى توقيع اتفاقات السلام. وفى ظل تأثيرات تلك السياسات بما فيها تعريف السلام الشامل المنقوص – وهو إخضاع فرقاء النزاع لاتفاق بوسائل سلمية يحفظ توازنا نسبيا وفترة تهدئة خلال حربين " ظلت مسيرة السلام السودانى تراوح مكانها يتحكم فيها الرئيس الجنوب افريقى السابق تابو امبيكى تحت رعاية الاتحاد الافريقى.
لقد حرمت اتفاقية السلام فرقاء السودانيين من توزيعات ارباح ما بعد الحرب ؛ بإهمالها العامد لقضايا الحوكمة الديمقراطية والمحاسبة والشفافية وإصلاح النظام القانونى والقضائى والعدلى . واكتفت بتمثيل وهمى للتجمع الوطنى الديمقراطى لم يسد مسدا ولم ينجز وعدا. كما حرمت المعارضة ان يكون لها دور فعال سوى القبول بتمثيل مختل النسب فى برلمان ما بعد اتفاق نيفاشا الذى يعرف الكل حصصه الناجمة من قسمة الحصحصة الضيزى. لقد امّن التطبيق الفعلى للاتفاق على التمثيل المنقوص للمعارضة الشمالية محولا نضالاتها الى معادلة صفرية – انخراط فى عطن الانقاذ . ولقد إقتصرت المحاصصة على الفريقين المحتربين فقط حتى وكأن المعارضة لا تمثل مصالح فئات وقطاعات عريضة من الشعب السودانى وانها لم تكن تحكم السودان يوما. اما عن تقسيم السلطة وتوزيع الثروة فقد إقتصرت على الطرفين المحتربين دون ذكر لبقية الشعب السودانى الذى بات مشلولا بوتيرة إقتصاد وآثار حرب قصمت ظهره واضرت بتماسك نسيجه الاجتماعى ؛ ويتقاطع ذلك مع سياسات الانقاذ التى ادت الى تأجيج الاقتتال بين القبائل بتسليح الموالى منها للحكومة ضمن وتيرة النزاع المسلح الدائر فى دارفور.
ان السودان يدفع ثمن ما اسماه الباحث الغربى " جون يونغ " تجاهل سماسرة السلام واصدقاء الايقاد تحت وطأة اتفاق السلام لمناقص " صناعة السلام - الليبرالى" فى السودان. إنه فشل يستهدف كافة السودانيين فى الشمال والجنوب ؛ فى دارفور والحركة الشعبية - قطاع الشمال والمقاتلين فى المنطقتين كما يستهدف نهوض السودان المستقبلى من داء الانقاذيين. لقد انهارت عملية سلام الوثبة – الشيطانية- الذى ابت الانقاذ إلا ان يكون جنينا يشبهها ؛ والحديث عن مبادرة سلام ؛ حفظ سلام ؛ صنع سلام اصبح ضربا من ضروب الاساطير والأحاجى الاعلامية الممجوجة. ان عملية السلام فى السودان بحاجة إلى إعادة تعريف وتخريج وتكييف ؛ فإى محاولة بحث عن السلام والانقاذ ترفل فى باحتها وبحبوبة عيشها سوف لن تجد قبولا منهم ؛ وسوف يماطلون طالما ضمنوا اربعا سوف لن تحدث خلال ما تبقى من فترة حكم الرئيس البشير وانتخاباته المزورة التى مولتها بعض المصارف القطرية. تجميد ملف المحكمة الجنائية الدولية ؛ إلغاء العقوبات الفردية الاميركية ؛ عدم تفعيل مبدأ " مسؤولية الحماية الدولية " إزاء جرائم الحرب فى دارفور ؛ وعدم التأثر من الازمة الاقتصادية طالما استمرت استثماراتهم واقتصادياتهم الخاصة فى ازدهار بالخارج واموالهم المودعة فى الحسابات السرية غير مكشوفة ولم تشر إليها " اوراق بنما " والتى كشفت مصادر انها تبلغ 13 مليار دولار مودعة فى مصارف ماليزيا وغيرها من آليات إخفاء الاموال المنهوبة ؛ فضلا عن دور الرافعتين داخل النظام الاقليمى العربى: السعودية وقطر- اللتان تلطفان من أثر الضوائق المالية لنظام الانقاذ كلما حزب الأمر.
ومما لا شك فيه ان دوائر من قوى حزب المؤتمر الوطني الحاكم وهو بالطبع غير موحد الرؤية حيال قضية السلام وما تفرع عنها من حوار " وطنى" تعمل بجد لعرقلة اى تقدم فى هذا الشأن وقد لعبوا دورا كبيرا فى تعميق الفتوقات وتأجيج الخلافات . وهؤلاء يريدون التعامل مع المعارضة بصيغة استراتيجية السلام الاسرائيلية المطلوب الدخول فيها فرديا ؛ وهى تريد جر المعارضة الى خوض حوار غرائزى ونزال جنائزى فى " مضمار" اولمبى بهلوانى ؛ يكون حظهم فيه حظ الرياضى السودانى الذى نافس فى " اولمبياد ريو- دى جانيرو" بالبرازيل مؤخرا. إنها لعبة شطارة يشارك فيها المصارعون شريطة ان يقبلوا بمنظومة سلوك الانقاذ " الجبرى" بتسويق نمط الاستبداد الكليبتوغراطى. ان يخفضوا رؤوسهم ليكونوا ارقاء بلا حرية ومنخرطين بلا انتقاد وموالين بلا حساب . والانقاذ لم ولن تقر بأنها بحاجة إلى تعديل او تصحيح المسار او إقاله العثار ؛ والراكض فى هذا المضمار سيصاب بمتلازمة سقراط التى اسماها الفيلسوف الالمانى " فرديريك نيتشه " فى كتابه الموسوم " أفول الاصنام " بإعاقة النمو او التطور المنحرف الناجم من عملية الهجنة المنطوية على " أقبح المعايب وأسوأ الشهوات" . وهو داء وبيل ينجم من السفسفات الانقاذية والوثبات الشيطانية والتذليل العرقى والتليين السياسى حتى تبدو فى المشاركين اعراض المصابين بالسحر او الفودو. وهذا ليدخل الكافة فى طاعة " ملوك طوائف الانقاذ" المحروسة بكتائب وصواعق الجنجويد المريعة ومدافع وهجمات قوات الدعم السريعة. ثم يبصر المشارك حوله فلا يرى الا جمهرة راتعين فى بحبوبة العيش وبلهنية الملك تحوطهم فرق الامن ووحدات التفتيش. ثم يتركوه ليختار بين هذه وتلك ؛ فلا يمضى وقت إلا وقد انتهى امره وخبا ذكره وصار احاديث تتقاذفها الدوواين والمجالس ووسائط التواصل الاجتماعى. ان الانقاذ لا تقسم سلطة انتزعتها غدرا ولا ثروة استولت عليها جبرا ؛ بل ستقسم كل من يصبو الى منافستها على هذين المغنمين والامثال عديدة ووافرة. اما المصير الآخر فهو الموت غبنا فى مضمار سحرة الانقاذ الذين أضحوا لا يعدون المال عدا بل يحثونه حثا ؛ فقد امتلكوا الثعبان الاكبر الملقى فى حلبة السجال والنزال لتكون لهم دائما الغلبة ؛ وهذا لعمرى مضمار الراكض فيه مخبول او مفتون او مجنون. فما علينا إلا ان نودعه بسوناتا الشاعر الكبير الفيتوى " ايها العظيم ؛ يا ابن النيل ؛ الرحمة لروحك والسلام عليك " . الانقاذيون بالأساس ليسوا إلا تجار سياسة ومضاربين بارعين فى أسواق لا ينتظمها قانون ؛ و لا يدخلون إلا فى صفقات اتفاقات من شاكلة اتفاقيات " البقط " السياسى ؛ تملى هى شروطها لتضمن لهم الاستمرار النشط لسوق النخاسة السياسية الذى ابتكروه. إسحبوا بطارية الانقاذ السحرية المتمثلة فى امبيكى يصفو لكم وجه الانقاذ وتعود طائعة وصاغرة الى مائدة التفاوض العادل. وليعمل الجميع من اجل الانتفاضة الوطنية الكبرى .
faran.idriss5@gmail.com